الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (5)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].
* * *
النِّداءُ هنا مُوَجَّهٌ لعمومِ النَّاسِ؛ لكُلِّ النَّاسِ المُؤْمِنِ والكافِرِ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} بالبَعْثِ وغَيْرِه] وصَدَقَ، فكُلُّ ما وَعَدَ الله به فإنَّه حَقٌّ، سواءٌ البَعْثُ، أو العِقابُ، أو الثَّواب، أو النَّصْر، أو الخِذْلان، أو غَيْر ذلك مِمَّا وَعَدَ الله به، فإنَّه حقٌّ.
و{حَقٌّ} هنا بمَعْنى صِدْق وثابِت، فهو باعتبارِ الإِخْبارِ به صِدْقٌ، وأنَّه سيكونُ، وباعْتِبارِ وُقوعِهِ ثابِتٌ، ولا بُدَّ؛ فالحَقُّ هنا بمَعْنى الصَّادِق من حيثُ الخَبَرُ به، الواقِع من حيثُ ثُبوتُه، وأنَّه أمرٌ كائِنٌ لا محالَةَ، فليس وَعْدُ الله عز وجل كوَعْدِ غَيْرِهِ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} عن الإيمان بذلك]{تَغُرَّنَّكُمُ} والنَّهْيُ هنا مؤكَّدٌ بالنُّونِ: {تَغُرَّنَّكُمُ} ، بدون النون:(تَغُرَّكُمْ)؛ أي: تَخْدَعَنَّكم، وهذا مُفَرَّعٌ على ما قبله؛ لأنَّ الإِنْسَانَ الذي تَخْدَعُه الدُّنْيا يكون إيمانُه بِوَعْدِ الله تعالى ضعيفًا؛ إذ إنَّ الدُّنْيا تُلْهيه وتَخْدَعُه حتى يَنْجَرِف وراءها.
وَقَوْله تعالى: {الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} لا شَكَّ أنَّنا في حياةٍ، وضِدُّها المَوْتُ، و (دنيا): اسْمُ تَفْضيلٍ، مذكَّرُه (أَدْنى) مثل: عُلْيا وأَعْلى، سُمِّيَتْ دُنْيا من وَجْهَيْنِ:
الأَوَّلُ: أنَّها مُتَقَدِّمَة عن الآخِرَة، فهي أَدْنى إلى النَّاسِ مِنَ الآخِرَة؛ ولهذا تُسَمَّى الحالَ الأُولى.
الثاني: وسُمِّيَتْ دنيا أيضًا من دُنُوِّ مَرْتَبَتِها.
فهي دانيةٌ بمَعْنى قَريبةٍ؛ لأنَّها هي الأُولى، وهي دانيةٌ بمَعْنى دُنُوِّ المَرْتَبَة؛ لأنَّ ما فيها من النَّعيمِ - إنْ قُدِّرَ - فإنَّه مُنَغَّصٌ تَنْغِيصًا مُسْتَقْبَلًا أو تَنْغِيصًا حاضِرًا؛ تَنْغيصًا حاضِرًا؛ لأنَّ نَفْسَ النَّعيمِ الذي تُنَعَّمُ به في الدُّنْيا لا بُدَّ أن يُشابَ بِكَدَرٍ؛ كما قال الشاعر:
فَيَوْمٌ عَلَيْنَا وَيَوْمٌ لنَا
…
وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَّرْ
(1)
وهذا لو تَأَمَّلْتَه لوَجَدْتَه كذلك، كلَّ يومٍ في أُسْبوعٍ ناظِرْ نَفْسَكَ؛ يومٌ تكونُ فَرِحًا مسرورًا، وَيوْمٌ تَغْتَمُّ، ويوم تأتيكَ أَشْياءُ خارِجِيَّة تُفْرِحُك، ويوم آخَرُ بالعَكْس، ثم لو قُدِّرَ أنَّ صَفْوَها خلا من ذلك؛ يعني: لم يُشَبْ بأذًى، فإنَّ المُسْتَقْبَل يُنَغِّصُ عليك هذا الصَّفاءَ؛ كما قال الشاعر:
لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً
…
لَذَّاتُهُ بِادِّكَارِ المَوْتِ وَالهَرَمِ
(2)
فلا بُدَّ من أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا مَوْتٌ عاجِلٌ، وإمَّا هَرَمٌ مُذْهِبٌ.
فالإِنْسَانُ إذا قُدِّرَ أنَّ الله تعالى مَدَّ له في العُمُر فإنَّه يَرْجِعُ إلى حاله الأولى؛ كما قال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] يَرْجِع إلى حاله الأولى يَسْقُط
(1)
البيت للنمر بن تولب، انظر: الكتاب لسيبويه (1/ 86)، وشرح الكافية الشافية لابن مالك (1/ 346).
(2)
غير منسوب، وانظره في: أوضح المسالك (1/ 239)، شرح ابن عقيل (1/ 274)، همع الهوامع (1/ 428).
تَمْييزُه، ويكون أشَدَّ من الصَّبِيِّ؛ يعني: كونه عالَةً على غَيْره أَشَدُّ من كَوْنِ الصَّبِيِّ عالَةً على غَيْرِهِ؛ لأنَّ الصَّبِيَّ ليس عنده عَقْلٌ وتَمْييزٌ، غايَةُ ما هنالِكَ أنَّه يصيحُ، وإن أُعْطِيَ شيئًا لَعِبَ به وسَكَتَ، لكنَّ هذا الهَرِمَ عنده شَيْءٌ من التَّمْييزِ.
تَجِدُه يصيحُ على أهْلِه، ويَرْفَعُ صَوْتَه عليهم، ويقول: كيف تَنْسَوْن حاجتي، حينما كُنْتُ شابًّا كنت أعْمَلُ وأُنْفِقُ عليكم، وأُحْضِرُ لكم الطَّعام والشَّراب، واليومَ تَنْسَوْن، فهو يُفْزِعُهُم أكْثَرَ، ثم هو أيضًا ثَقيلٌ، أمَّا الصَّبِيُّ فيَسْتَطِيع الواحِدُ أن يَحْمِلَه على يَدِه ويَمْشي به يمينًا ويَسارًا؛ حتى يَسْكُت، لكنَّ هذا الهَرِمَ هو الإِشْكالُ؛ لذلك إذا تذَكَّرَ الإِنْسَانُ أنَّه إمَّا أن يموتَ أو أن يَصِلَ إلى هذه الحالِ، فمهما كان عَيْشُه فسوف يَتَنَغَّصُ؛ ولهذا نقول: هذه الحياةُ دُنْيا، وهي مَأْخوذَةٌ من دُنُوِّ الزَّمَنِ ودُنُوِّ المَرْتَبَةِ والقَدْر.
قَوْله: [عن الإيمانِ بذلك]؛ أي: بِوَعْدِ الله، وما أَكْثَرَ الذين غَفَلوا عن وَعْدِ الله! وما أكْثَرَ الذين اعْتَمَدوا على الأَسْبابِ الظَّاهِرَة فَنَسُوا الأَسبَاب التي وراءها!
فكَثيرٌ من النَّاسِ يقول في قَوْلِه تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: 40] كيفَ يَنْصُرُ الله المُسْلِمينَ وهم على هذه القِلَّة على أعدائِهِم الكُفَّارِ وهم بهذه الكَثْرَة وبهذه القُوَّة، كيف يكون هذا؟ !
فيعْتَمِدُ على الحياة الدُّنْيا وعلى الأَسْبابِ المادِّيَّة دون ما وراءها، والواجِبُ علينا أن نُؤْمِنَ بِوَعْدِ الله، فالله تعالى وَعَدَ أن يَنْصُرَ من يَنْصُرُه كما قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النُّور: 55].
يقول قائل: كيفَ يَسْتَخْلِفُنا الله في الأَرْضِ وعندنا الأُمَم القَوِيَّة الكَثيرَةِ ما الجواب على ذلك؟
الجواب: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} لا تَغُرَّكَ الدُّنْيا حتى في النَّصْر، أَسْبَابُ النَّصْرِ ليست هي المادَّة فقط، بل هناك شَيْءٌ وراءها وهي قُوَّة العزيز عز وجل؛ كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} في حِلْمِه وإِمْهالِهِ {الْغَرُورُ} الشَّيْطانُ]؛ يعني: لا يَخْدَعْكُم أيضًا مَن وَصْفُه الخِداعُ؛ ولهذا جاء وَصْفُ {الْغَرُورُ} و (غَرورٌ): فَعولٌ، صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ؛ لأنَّ غُرورَهُ كان وصفًا لازِمًا له لُزُومَ الوُجُوبِ.
و(الغَرورُ) غَيْرُ (الغُرُور) بالضَّمِّ؛ (الغُرورُ) بالضَّمِّ مَصْدَرٌ، و (الغَرورُ) صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ دالَّةٌ على المَعْنى ومن قام به المَعْنى، (فالغَرورُ) إِذَن هو الشَّيْطانُ، سواء كان إنسِيًّا أم جِنِّيًّا؛ فمن شَياطِينِ الجِنِّ من يَغُرُّ، وهو معروف، وهو الشَّيْطانُ الذي يُلْقِي في قلبِكَ ما يَخْدَعُك، ومن شياطينِ الإِنْسِ أيضًا من يَغُرُّ، وهم جُلَساءُ السُّوءِ الذين يأتون الإِنْسَانَ فيَدْخُلونَ فيه كما يَدْخُلُ الماء في المَدَر، أو النَّار في الفَحْم، يدخلون له دخولًا بحيث يكون كالنَّائِمِ أو كالمَيِّت بين يَدَيِ الغاسِل، فالله عز وجل حَذَّرَنا من هؤلاء.
وَقَوْل المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ} في حِلْمِه وإمهاله {الْغَرُورُ} الشَّيْطانُ].
[في حِلْمِه وإِمْهالِهِ]، صحيح أَنَّ الإِنْسَانَ قد يَغْتَرُّ بالله في حِلْمِه وإِمْهالِهِ فيقول لنفسه: لو كُنْتُ على خَطَأٍ لعاقَبَني الله، وما دام الله عز وجل يَرْزُقُني ويُعافِيني فهذا دليلٌ على أنِّي على حقٍّ، لكنَّ هذا من الأَمانِيِّ الباطِلَة التي حذَّرَ عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: