الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلو قِيل لرجُلٍ: نُريد أن تُصلِحَ هذه السَّاعَة الخَرِبَة قال: أعطني إيَّاها، وهو لا يَعْرِف أبدًا وما دَرَسَ، وعنده آلاتٌ لإِصْلاحِها وعنده قُوَّةٌ بَدَنِيَّة، فهل يَقْدِرُ أن يُصْلِحَها؟
والجواب: لا؛ لأنَّه ليس عنده عِلْمٌ، فلا يقدر أن يُصْلِحَها بل يُمْكِن أن يُفْسِدَها أكْثَرَ.
ورجل آخر: عنده عِلمٌ وقد درس عِلْمَ تَصْليحِ السَّاعاتِ مثلًا، لكن ليس عنده قُدْرَةٌ بَدَنِيَّة وهو مشلول، فهل يُمْكِن أن يُصْلِحَها؟
الجواب: لا يُمْكِن؛ لِعَدَمِ القُدْرَة.
إذن: انتفاء عجْزِ الله عز وجل لكمالِ عِلْمِهِ وكمال قُدْرَتِهِ، وبهذا نعرف أنَّه لا يوجَدُ نَفْيٌ مَحْضٌ في صفاتِ الله، بل كُلُّ نَفْيٍ في صفاتِ الله فهو مُتَضَمِّنٌ لِثُبوتِ كمالِهِ، ولا يُمْكِن أن يوجد نفيٌ مَحْضٌ؛ ولهذا لما نفى العَجْزَ بيَّن السَّبَب؛ قال تعالى:{إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} .
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّنا يَنْبَغي أن نَنْظُرَ إلى عاقِبَةِ السَّابِقين نَظَرَ اعْتِبارٍ بِمآلهِم حين كَذَّبوا رُسُلَهُم وليس اعتبارًا بقُوَّتِهم وصناعَتِهِم وطِرازِهِم وما أشبه ذلك، وإذا طبَّقْنا هذا على واقِعِ النَّاسِ اليوم الذين يَذْهَبون إلى ديارِ ثَمودَ؛ وجدنا أنَّهم يَذْهَبون إليها لا لِيَعْتَبِروا بما صَنَعَ الله بهم من العُقُوبَةِ لتَكْذيبِهِمُ الرُّسُلَ، ولكن لِيَنْظُروا كيف كانت قُوَّتُهم وصِناعَتُهم وزخارِفُهم وما أشبهه، وهذا حرامٌ، فلا يجوز أن يذهب الإِنْسَان إلى ديار هؤلاءِ المُكَذِّبينِ لهذا الغَرَضِ؛ لِقَوْل الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام: "لا تَدْخُلوا على
هَؤُلاءِ المُعَذَّبينَ إِلَّا أَنْ تَكُونوا بَاكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُوُنوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ"
(1)
.
مَسْأَلَة: السَّيْرُ في الأَرْض لِلإعْتِبَارِ لَا بَأْسَ بِهِ، وإذا كانت مَصْلَحَتُه أكثر من نقصه كان مَحْمُودًا، وإن كان نَقْصُه أَكْثَرَ من مَصْلَحَتِه فإنَّه لا يَنْبَغي، فمثلًا لو ذهب ينظر في آياتِ الله تعالى في الجبالِ الشَّاهِقَة وفي الأَنْهار وفي البِحارِ وما أشبه ذلك، فهذا حسنٌ مَحْمودٌ، لكن إذا كان يُكَلَّفُ من النَّفَقَة أكثر مِمَّا يَنْتَفِعُ به الإِنْسَان فإنَّه يُنْهَى عنه؛ لأنَّ في ذلك إِضاعَةَ المالِ، أمَّا إذا كانت النَّفَقَة قَليلَةً أو كان هذا الرَّجُلُ ذا مالٍ كثيرٍ لا يَتَضَرَّر به، ولَكِنَّه يَنْتَفِع به من النَّاحِيَة الإيمانِيَّةِ فلا بأس به.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ في التاريخ عِبَرًا يَعْتَبِرُ بها العاقِلُ؛ لِقَوْله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتِعْمالُ قياسِ الْأَوْلَى؛ لِقَوْله تعالى: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} فإذا كان الله تعالى أَهْلَكَهُم مع كَوْنِهِم أَشَدَّ منهم قُوَّة، فإنَّ إهلاكَ هؤلاء من باب أولى.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن قُوَّة البَشَرِ مهما عَظُمَتْ لا تمنع من الله شيئًا؛ لِقَوْله تعالى: {فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ولذلك لما قالت عادٌ: مَنْ أَشَدُّ منا قُوَّةً، قيل لهم:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ في السَّيْرِ في الأَرْض قَلْبًا أو قَدَمًا عِبْرَةً لا للمُرْسَلِ إليهم، بل وللرُّسُلِ أيضًا؛ فإنَّ إِهْلاكَ المُكَذِّبينَ للرُّسُلِ انتصارٌ للرُّسُل، فمَعْلومٌ أنَّ الله إذا أَهْلَكَ عَدُوَّكَ فإنَّه انتصارٌ لك بلا شَكٍّ.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، رقم (433)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، رقم (2980)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: نَفْيُ العَجْزِ عن الله عز وجل؛ لِقَوْله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} فإنَّ فيها نَفْيَ العَجْزِ عنه لِكَمالِ عِلْمِه وقُدْرَتِهِ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ من صفاتِ الله تعالى ما يكون سَلْبِيًّا - أي مَنْفِيًّا عن الله - والقاعِدَة العامَّة: أنَّ كلَّ صِفَةِ نَقْصٍ فهي مَنْفِيَّةٌ عن الله عز وجل، كما أنَّ كلَّ صِفَةِ كَمالٍ فهي ثابتَةٌ له، ولكنَّ التَّفْصيلَ لا بُدَّ فيه من دليلٍ؛ لأنَّ هذه قاعِدَة عامَّة؛ لِقَوْله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، ولِقَوْله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] لكِنَّ التَّفْصيلَ بأنَّ هذه الصِّفَة المُعَيَّنة ثابِتَةٌ لله أو مُنْتَفِيَةٌ عنه لا بُدَّ فيها من دليلٍ.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ الله عز وجل لا ينفي شيئًا عن نَفْسِه إلا لِثُبُوتِ كَمالِ ضِدِّه؛ لأنَّه لما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ} قال: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} فيُسْتَفادُ من ذلك: أنَّ كُلَّ صِفَةٍ مَنْفِيَّةٍ عن الله لا يرادُ منها مُجَرَّدُ النَّفْي؛ لأنَّ مُجَرَّدَ النَّفْيِ المَحْضِ ليس فيه فائِدَةٌ؛ إذ إنَّ النَّفْي المحض عدمٌ مَحْضٌ، والعَدَمُ ليس بشَيْءٍ، فضلًا عن أن يكون كَمَالًا؛ ولأنَّ النَّفْيَ قد يكون سَبَبُه العَجْز، كما في قَوْلِ الشَّاعِرِ:
قُبَيِّلةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ
…
وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
(1)
هذا ذَمٌّ؛ لأنَّهم لعَجْزِهِم لا يَسْتَطِيعون، فلا يَظْلِمونَ النَّاسَ ولا يَغْدِرونَ بالذِّمَم.
وقد يكون سَبَبُه عَدَمَ القابِلِيَّة لا لِلْكَمالِ، ولكن لأنَّه غَيْرُ قابِلٍ لهذه الصِّفَة، كما لو قلتَ: إنَّ جدارَ بَيْتِنا لا يَظْلِمُ، فهو صحيح أنَّه لا يَظْلِمُ أَحَدًا، لكن لا لأنَّه كامِلُ
(1)
البيت ينسب للنجاشي الحارثي قيس بن عمرو، انظر: الحماسة الصغرى لأبي تمام (ص 215 - 216)، والشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 319)، وخزانة الأدب للبغدادي (1/ 232).
العَدْلِ، ولكن لأنَّه لا يَقْبَلُ كَلِمَةَ ظُلْمٍ، فنَفْيُها عنه كثُبُوتِها له، حتى لو قلتَ: جِدارُنا يَظْلِمُ، فلا أَحَد يُصَدِّقُكَ.
إذن: فصِفاتُ الله المَنْفِيَّة التي يُسَمِّيها العُلَماءُ رحمهم الله السَّلْبِيَّةَ تَتَضَمَّنُ كمال الضِّدِّ، يعني لكمال عِلْمِه وقُدْرَتِهِ، فلا يُعْجِزُه شَيْءٌ في السَّمَوات ولا في الأَرْضِ.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: إِثْباتُ أنَّ السَّمَواتِ أَكْثَرُ من واحِدَةٍ؛ لأنَّها جاءت بصيغة الجَمْعِ: السَّمَوات، وهي سَبْعٌ بنَصِّ القُرْآنِ والسُّنَّة؛ قال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [نوح: 15]، والسُّنَّةُ كذلك ظاهِرةٌ في أنَّ السَّمَواتِ سَبْعٌ، كقول النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:"اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَواتِ السَّبْعِ ومَا أَظْلَلْنَ"
(1)
.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: إِثْباتُ اثنينِ مِنْ أَسْماءِ اللهِ؛ وهما العليم والقديرُ، وما تَضَمَّناه من صِفَةٍ أو حُكمٍ من صِفةٍ وهي العِلم والقُدْرَةُ، أو صِفَةٌ أو حُكمٌ وهو: أنَّه يَعْلم وَيقْدِرُ على كُلِّ شَيْء.
* * *
(1)
أخرجه النسائي في الكبرى رقم (8776)، وابن خزيمة في صحيحه رقم (2565)، وابن حبان في صحيحه رقم (2709)، وابن السني في عمل اليوم والليلة (ص 472)، والحاكم (2/ 100)، من حديث صهيب رضي الله عنه.