الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُؤَكَّدَة بِمُؤَكِّدَيْنِ؛ بـ (إن) واللام، فهم أَكَّدُوا بالثَّنَاء هذا على الله أنَّه سبحانه وتعالى غَفُورٌ للذُّنُوب شكورٌ للطَّاعَةِ.
فالغَفُور هنا هل هي صِيغَةُ مُبالَغَة أم صِفَةٌ مُشَبَّهَة؟
هي تشمل الأَمْرَيْنِ جميعًا، هي صيغة مُبالَغَة لِكَثْرِةِ غُفْرانِ الله تعالى للذنوب وكَثْرَة من يَغْفِرُ لهم؛ فهو كثير المَغْفِرَة للذُّنوب؛ إذ إنَّ الذنوب تتَكَرَّر من الإِنْسَان عِدَّةَ مَرَّاتٍ فَيَغْفِرُها الله، والذين يَغْفِرُ الله لهم كثيرون أو قَليلون؟ كثيرونَ، ومن جهةٍ أخرى باعتبار أنَّ الله تعالى لم يَزَلْ غفورًا نقول هي صِفَةٌ مُشَبَّهَة.
وَقَوْله تعالى: {شَكُورٌ} نقول فيها كما قلنا في {لَغَفُورٌ} بأنَّه عز وجل لم يزل شكورًا على طاعَةِ عِبادِهِ وامْتِثالهِم أَمْرَه، ومِنْ شُكْرِهِ أنَّه يعطي العامِلَ الحَسَنَةَ بِعَشْرِ أمثالِها إلى سبعِ مِئَة ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرة.
وهو أيضًا شكورٌ باعتبارها صيغَةَ مُبالَغَة؛ لأنَّه كلَّما كَثُر العَمَل كَثُر الشُّكْر.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: فَضيلَة أَهْلِ الجَنَّة بِثَنائِهِم على ربِّهم؛ لِقَوْله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن حَمْدَ الله تعالى يكون على إنعامِهِ وإِفْضالِهِ وعلى كمال صِفاتِهِ وهنا قالوا: {الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فحَمِدوا الله على إنعامِهِ عليهم وعلى كَوْنِهِ غفورًا شكورًا.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: كمال الفرح والسُّرورِ لأَهْلِ الجَنَّةِ؛ لِقَوْله تعالى: {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} فإن هذه الصِّفَة السَّلْبِيَّة تدلُّ على كمال ضِدِّها فإذا كان الحَزَنُ مَنْفِيًّا عنهم
كان ذلك دليلًا على كمالِ سُرُورِهِم وأنَّه سرورٌ لا يُشابُ بِحَزَنٍ أبدًا بخلاف سرورِ الدُّنْيا؛ فإنَّ سرور الدُّنْيا مهما عَظُمَ مَشُوبٌ بالكَدَرِ ولهذا يقول الشَّاعِرُ الحكيمُ:
لَا طِيبَ لِلْعَيْشِ مَا دَامَتْ مُنَغَّصَةً
…
لَذَّاتُهُ بادِّكَارِ المَوْتِ والهَرَمِ
(1)
فالإِنْسَانُ مهما كان في الدُّنْيا من النَّعِيم، فإنَّه إذا تذَكَّرَ أنَّ أمامه شَيْئَيْنِ لا بُدَّ منهما؛ لا بُدَّ من أَحَدِهِما قطعًا، فإن طالَتْ به الحياة فلا بُدَّ من الأَمْرَيْنِ جَميعًا، وهو الهَرَمُ والمَوْتُ، وحينئذٍ تَتَنَغَّصُ عليه حياتُه، وهو حينئذٍ يَعْرِفُ أنَّه كُلُّ يومٍ يَمْضي عليه فإنَّه يُبْعِدُه من الدُّنْيا ويُقَرِّبُه من الآخِرَة، وهذا تنغيصٌ آخَرَ؛ ولهذا قال الشاعر:
والمَرْءُ يَفْرَحُ بِالأَيَّامِ يَقْطَعُهَا
…
وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الْأَجَلِ
(2)
على كُلِّ حالٍ: في الآخِرَة نعيمٌ لا كَدَرَ فيه؛ لِقَوْله تعالى: {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن نعيمَ الآخِرَة يُؤْسِي كلَّ ما سبقه من حَزَنٍ؛ لِقَوْله تعالى: {أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وذَهَابُ الحَزَنِ هنا ذَهَابٌ لمِا قد وُجِدَ، ولما يُتَوَقَّعُ وُجُوده فلا يُمْكِن أن يَمَسَّه فيها حَزَنٌ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إِثْباتُ اسْمَيْنِ من أَسْماء الله وهما: الغفور والشكور، فالغَفور في جانب المعاصي، والشَّكور في جانِبِ الطَّاعاتِ، أمَّا في المعاصي فإنَّه عز وجل قال في الحديث القُدُسِيِّ: "يا ابْنَ آدمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي
(1)
غير منسوب، وانظره في: أوضح المسالك (1/ 239)، شرح ابن عقيل (1/ 274)، همع الهوامع (1/ 428).
(2)
ذكره الأصمعي في قصة له مع أعرابي، انظر: نثر الدر في المحاضرات (6/ 37)، وزهر الآداب (2/ 456). وقريب منه بيت أبي العتاهية:
تظلّ تفرح بالأيام تقطعها
…
وكلّ يوم مضى يدني من الأجل
انظر: محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (2/ 396).
شَيْئًا لَغَفَرْتُ لَكَ"
(1)
. وأمَّا في الطَّاعاتِ فإنَّ الله يقول: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقال النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"إنَّ فَاعِلَ الحَسَنَةِ تُكْتَبُ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثيرَةٍ"
(2)
.
* * *
(1)
أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات، رقم (3540)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، رقم (6491)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت، رقم (131)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.