الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (18)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [فاطر: 18].
* * *
لما بيَّنَ سبحانه وتعالى ما يَؤُولُ إليه أَمْرُ هؤلاء الكُفَّارِ، وهدَّدَ من خرج عن طاعَتِه بأنَّه قادِرٌ على أن يُذْهِبَهم ويأتِيَ بِخَلْقٍ جديد ذكر بَراءَةَ غَيْر الوازِرينَ من الوازِرِينَ؛ يعني أنَّ شِرْكَ هؤلاء المُشْرِكينَ لا يُؤَثِّر على أولئكَ المُؤْمِنينَ المُوَحِّدين، قال:{وَلَا تَزِرُ} .
قال المُفَسِّر رحمه الله: [نَفْسٌ {وَازِرَةٌ} آثِمَةٌ]، أفاد المُفَسِّر رحمه الله بتَقْديرِ (نَفْس) أن (وازِرَة) صِفَةٌ لمَوْصوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْديرُهُ:(نفس)، وَقَوْله:(وازرة؛ أي: آثِمَة) وهل المُرَاد أنَّها آثِمَةٌ بالفِعْل أو أنَّها من ذواتِ الوِزْرِ والإِثْم وهو المُكَلَّف؛ أي: البالِغُ العاقِلُ؛ يعني أنَّ من يكونُ أَهْلًا لِأَنْ يَأْثَمُ إذا فعل لا يَتَحَمَّلُ إثْمَ غَيْرِهِ، وتكونُ الفائِدَةُ مِن ذِكْرِ وازِرَة أنَّ الصَّغيرَ مثلًا لا يَتَحَمَّل إثمًا لا له ولا لغيره، بخلاف الكبيِر الذي يتحَمَّلُ الإِثْمَ، فهل يتَحَمَّل إثم غَيْره؟
يقول الله عز وجل: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [آثِمَةٌ؛ أي: لا تَحْمِلُ] على كَلِمَةِ {تَزِرُ} فسَّرها المُفَسِّر رحمه الله بِقَوْله: [أي: لا تَحْمِل] وهذا تَفْسيرٌ بالمُرَادِ
لا بالمَعْنى المُطابِقِ للَّفْظ؛ لأنَّ المَعْنى المطابِقَ للَّفْظِ في {تَزِرُ} أي: تَأْثَم؛ إذ إنَّ الوِزْر هو الإِثْم، ولكن تقدَّم كثيرًا أن تَفْسيرَ القُرْآن قد يُرادُ به التَّفْسيرُ المُطابِقُ للَّفْظِ، وقد يُرادُ به التَّفْسيرُ بالمَعْنى المُرَادُ لا المُطابِق للَّفْظ؛ أي:[لا تَحْمِلُ وِزْر نَفْسٍ أخرى].
أفادنا أيضًا بِقَوْله: [{وَازِرَةٌ} نَفْسٍ] أنَّ {وِزْرَ} صِفَةٌ لمِوْصوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْديره: (نَفْس)؛ أي إنَّ زيدًا لا يَحْمِلُ إثْمَ عَمْرو، وهندًا لا تَحْمِلُ وِزْر فاطمة مثلًا، فكلٌّ يَحْمِل وِزْرَه، قال الله تعالى مُبَيِّنًا ذلك في جُمْلَة تُعْتَبَرُ قاعِدَة:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21].
وأمَّا من لم يَكْسِبْ شيئًا فليس عليه مِنْ إِثْمِ الآخَرِ شَيْءٌ، ولا يعارِضُ هذا قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"
(1)
؛ لأنَّ سَنَّه إيَّاها يُعْتَبَر وِزْرًا؛ لأنَّه هو الذي شَقَّ الطَّريقَ لها، ومَهَّدَ السُّبُل؛ فلهذا كان عليه وِزْرُها وَوِزْرُ مَن عَمِلَ بها إلى يَوْمِ القِيامَة، فالآيَةُ هنا لا تُنافي الحديث.
قال: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} .
[{وَإِنْ تَدْعُ} نَفْسٌ {مُثْقَلَةٌ} بالوِزْرِ {إِلَى حِمْلِهَا} منه أَحَدًا لِيَحْمِل بَعْضَه {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ}].
{وَإِنْ تَدْعُ} أي: تَطْلُب {مُثْقَلَةٌ} بالأَوْزارِ {إِلَى حِمْلِهَا} لِيُحْمَل عنها بَعْضُه {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وجُمْلَةُ {لَا يُحْمَلْ} جوابُ الشَّرْطِ، والشَّرْطُ قَوْله تعالى:{وَإِنْ تَدْعُ} وهو مَجْزومٌ بِحَذْفِ الواو، والضَّمَّةُ قَبْلَه دليلٌ عليه و {لَا يُحْمَلْ} هذا هو
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة، رقم (1017)، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
جوابُ الشَّرْط، و {شَيْءٌ}: نائِبُ الفاعلِ؛ يعني اعْلَموا كما أنَّ الغَيْرَ لا يَحْمِلُ عن الغَيْر وِزْرَه فإنَّه حتى وإن دُعِيَ واستنجد لِيَحْمِل أو يُخَفَّف عن الوازِرِ شيئًا لم يَكُنْ ذلك، في الدُّنْيا ربَّما يُؤْخَذُ الإِنْسَانُ بِجَريرَةِ غَيْره، في الدّنْيا أيضًا إذا استغاثَ بك إِنْسَانٌ قد حَمَل شيئًا ثقيلًا خاصَّةً من كِبارِ السِّنِّ، إذا قابَلْتَ إِنْسَانًا حَمَلَ شيئًا ثقيلًا فإنَّك تُنْجِدُه، لكِنْ في الآخِرَة لو دَعَتْ نَفْسٌ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِها أن يَحْمِلَ أَحَدٌ منه شيئًا فإنَّها لا تُجَابُ إلىَ ذلك، {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وَقَوْله تعالى:{شَيْءٌ} نكرة في سياق النَّفْيِ فَتَعُمُّ القَليلَ والكَثيرَ.
وَقَوْله تعالى: {مُثْقَلَةٌ} هي أيضًا نَكِرَةٌ في سياق النَّفْي فَتَعُمُّ، أيُّ مُثْقَلةٍ، مهما كانت هذه المُثْقَلَة، فإنَّها إذا دَعَت أَحَدًا من النَّاس أن يَحْمِلَ عنها من أَثْقالهِا لا يُحْمَل منه شَيْءٌ.
قَوْله تعالى: {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وقال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَوْ كَانَ} المَدْعُوُّ {ذَا قُرْبَى} قَرَابَةٍ كالأبِ والابْنِ].
قَوْله: [{وَلَوْ كَانَ} المَدْعُوُّ] ألا يُمْكِن أن نقول: (ولو كان الدَّاعي)؟
الجواب: يُمْكِن؛ لأنَّهما مُتلازِمانِ؛ لأنَّ المَدْعُوَّ إذا كان قريبًا للدَّاعي كان الدَّاعي قَريبًا له، لكنْ أيُّهما أَنْسَبُ من حيث السِّيَاقُ:{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} نقول: (المَدْعُوُّ) أَقْرَبُ؛ لأنَّه لو كان المُرَادُ الداعي لكان - والله أعلم - الأَنْسَبُ أن يقول: (ولو كانت ذا قُربَى)؛ لأنه قال: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ومعلومٌ أنَّ ضَميرَ المُؤَنَّث ولو كان مَجازًا يكون مُؤَنَّثًا؛ قال ابن مالك رحمه الله:
وَإِنَّما تَلْزَمُ فِعْلَ مُضْمَرِ
…
مُتَّصِلٍ أَوْ مُفْهِمٍ ذَاتَ حِرِ
(1)
(1)
الألفية (ص 25).
إذن: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} ولو كانت ذا قُربَى، هذا صحيح؛ أي: ولو كانت الدَّاعِيَة، لكن قال:{وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} بالمُذَكَّر، عُلم أنَّ الفاعل غَيْرُ الدَّاعِيَة كما قال المُفَسِّر رحمه الله.
وَقَوْله: [{قُرْبَى} أي: قَرابَةٍ] ومنه قَوْله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]؛ أي: القرابة، وَقَوْله تعالى:{قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، فالقُرْبى هنا بمَعْنى القَرَابَة، لو أنَّ الأَبَ اسْتَنْجَدَ بابنه يَوْمَ القِيامَة أن يَحْمِلَ عنه من أَوْزارِه لم يُجِبْه، بل {يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] لماذا؟
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37].
قال المُفَسِّر رحمه الله: [وعَدَمُ الحَمْل في الشِّقَّينِ حُكْمٌ من الله] أين الشِّقَّانِ؟ قَوْله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تَحْمِلُ {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} وإذا كان من الله، فإنَّه لا يُمكن لأَحَدٍ أن يَحْمِلَ عن أَحَدٍ شيئًا، فلو أنَّ أَحَدًا قال لشَخْصٍ:(آثامُكَ عَلَيَّ) فلا يَصِحُّ هذا، لأنَّ الذي لا يحمل هو الله، فالحُكْمُ من الله عز وجل، لو أنَّ أَحَدًا اسْتَنْجَد بأَحَدٍ أن يَحْمِل عنه، ووافق على نَجْدَتِه، فليس له ذلك؛ لأنَّ هذا حُكْمٌ من الله عز وجل.
هذا الفائِدَة من قَوْلِه: [وَعَدَمُ الحَمْل في الشِّقَّينِ حكمٌ من الله] أي: فليس لأَحَدٍ أن يتجاوَزَ الحُكْمَ؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12]؛ يعني: يقولون ذلك، لَكِنَّهم ليسوا بصادقين على هذا الحَمْل وإنَّهم لكاذبون؛ ثم قال:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] لا بالتْزِامِهِم
ولكن لأنَّهم هم الأُسْوَةُ والقُدْوَة فكانوا يَحْمِلون أَثْقالَهُم وأثقالَ من أَضَلُّوه.
قال الله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} .
{إِنَّمَا تُنْذِرُ} هذه جُمْلَةٌ فيها حَصْرٌ طريقُه {إِنَّمَا} والحَصْرُ هو إثباتُ الحكم في المذكورِ فيه ونَفْيُه عمَّا سواه.
كأنَّك تقول: (ما تُنْذِرُ إلا الذين يَخْشَوْنَ ربَّهم) و {تُنْذِرُ} من الإنذارِ، وهو الإِعْلامُ المَقْرونُ بالتَّخْويفِ، وإن شِئْتَ فقل:(الإِعْلام المُرَاد به التَّخويفُ)؛ لأنَّه قد لا يُقْرَن، لكن يُعْرَف من هَيْئَةِ الكَلَام والصِّياحِ مثلًا أَنَّه للتَّخويفِ، فمُنْذِرُ الجيش يقول:(واصَبَاحاه)، فيَعْرِف النَّاس أنَّ هذا إنذارٌ للجَيْشِ.
إِذَن: الإنذارُ معناه: الإِعْلامُ المُرَادُ به التَّخْويفُ، فالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يقول الله له:{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} .
وَقَوْله تعالى: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الخَشْيَة هي الخَوْفُ النَّابِعُ عن تعْظيمِ المَخُوفِ والعِلْمِ به، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] وَقَوْلنا: إنَّه الخَوْفُ النَّابِعُ عن تعْظيمِ المَخُوفِ؛ لِيَشْمَل من كان خائِفًا ولو كان هو قويًّا؛ معناه القَوِيُّ قد يخاف من الأَقْوى منه فتكون هذه خَشْيَة، فإن خاف الضَّعيفُ مِنَ القَوِيِّ فهو خَوْفٌ؛ ولهذا نقول: إنَّ الخَشْيَة أَعْظَمُ من الخَوْفِ، قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
وَقَوْله تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي: يَخافونَه خَوْفًا نابعًا من تعْظيمهم له مع عِلْمِهم بأنَّه مستحِقٌّ للتعْظيمِ.
وَقَوْله تعالى: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} الغَيْبُ ضد الشَّاهِدِ والمَعْلومِ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: يخافونَه وما رَأَوْه] أفادنا المُفَسِّر رحمه الله أنَّ قَوْله تعالى: {بِالْغَيْبِ} حالٌ من المفعول به؛ أي: يَخْشَوْن ربَّهم حال كَوْنِه غائبًا عنهم لم يَرَوْه، وهذا أَحَد الوَجْهَيْنِ في الآيَةِ.
الوجه الثاني: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} حالَ كَوْنِهم غائبينَ عن غَيْره فيكونُ الجارُّ والمَجْرورُ حالًا من الفاعِل؛ لأنَّ من النَّاسِ من يُظْهِرُ خَشْيَة الله أمام النَّاس، لَكِنَّه إذا غاب عن النَّاسِ لم يَخْشَ الله، هل يُمْدَح هذا على خَشْيَتِه؟
الجواب: لا؛ لأنَّه مُرَاءٍ، لكنْ من يَخْشَى ربَّه بالغَيْبِ هذا هو الذي يُمْدَح.
فإن قُلْتَ: هل يُمْكِن أن تُحْمَلَ الآيَةُ على المَعْنَيينِ، ويكون هؤلاء الذين مَدَحَهُم الله يَخْشَوْن الله؛ مع أنَّهم لم يَرَوْه يَخْشَون الله في حالِ الغَيْبَة عن النَّاس؟
فالجواب: نعم، وهذا من بَلاغَةِ القُرْآن أن يُعَبِّرَ بتعبيرٍ صَالِحٍ لمَعْنَيَيْنِ لا يتنافيانِ، فهؤلاء القوم يَخْشَوْنَ الله تعالى وهم لم يَرَوْه، ولَكِنَّهم يَخْشَوْنَه كأنَّهم يَرَوْنَه؛ لأنَّهم يَخْشَوْنه بالغيب والشَّهادَة، وقد قال النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"الإحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"
(1)
.
وَقَوْله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} لا ينافي أنَّه مُنْذِرٌ لجميع النَّاسِ، قال الله تعالى:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة: 119] وقال تعالى: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر: 23]، وما أشبه ذلك من الآياتِ الدَّالَّة على عموم ذلك؛ لأنَّ المُرادَ بالإِنْذارِ هنا الإنذارُ النَّافِع؛ أي: إنَّما يُؤَثِّرُ إنذارُك في الذين يَخْشَوْن ربَّهُم بالغَيْبِ، أمَّا من لا يَخْشَى الله بالغَيْبِ فإنَّه وإن أُنْذِرَ فإنَّه لا يَنْتَفِعُ بالإنذار.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، رقم (50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، رقم (9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ولهذا قال المُفَسِّر رحمه الله مُشيرًا إلى ذلك بِقَوْله: [لأنَّهُمُ المُنْتَفِعون بالإنذار][لأنَّهم]؛ أي: الذين يخْشَوْن رَبَّهم بالغَيبِ المُنْتَفِعون بالإِنْذار، فلهذا خَصَّ الإنذارَ بهم.
إذن: حَصْرُ الإنذارِ في الذين يخْشَوْنَ ربَّهم بالغَيْبِ المُرَادُ به حَصرُ الإنْتِفاعِ به، أو حَصْرُ نَفْعِه إنَّما يكون للذين يخْشَوْن ربَّهم بالغيب، أمَّا من لا يخشى الله فإنَّ هذا لا يَنْفَعُه؛ كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97].
قَوْله تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} فـ {وَأَقَامُوا} معطوفَةٌ على {يَخْشَوْنَ} أي: على صِلَةِ الموصول، وهنا قال:(يخْشَوْنَ وأَقاموا الصَّلاةَ) فعَطَفَ الماضِيَ على المُضارعِ؛ لأنَّ الخَشْيَة مُسْتَمِرَّةٌ في الأعمال كُلِّها؛ في إقامَةِ الصَّلاة وغَيْرِها.
وَقَوْله تعالى: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [أَداموها] والحَقيقَةُ أنَّ إِقامَة الصَّلاة أَعَمُّ مِمَّا قال، ففي تَفْسيره قُصُور؛ لأنَّ إقامَةَ الصَّلاةِ تَشْمَلُ إِتمْامَها، وإكْمَالها، والمحُافَظَة عليها، والمُداوَمَة عليها، قال الله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المُؤْمِنون: 1 - 2] فالخشوع فيها من إقامَتِها، ثم قال:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] هذا أيضًا من إِقامَتِها أن يحافِظَ عليها ويَحْرِص عليها؛ على واجِباتِها، ومُكَمِّلاتِها، وأَوْقاتِها.
وقال في سورة (سأل): {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] وفي آخرها قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]، فإقامَةُ الصَّلاةِ تَشْمَلُ كل ما فيه إِكْمالهُا وإِتمْامُها وإِدامَتُها؛ فهو أَعَمُّ مِمَّا قال المُفَسِّر رحمه الله.
وَقَوْله تعالى: {الصَّلَاةَ} يَشْمَلُ الفَرْضَ والنَّفْل؛ لأن (أل) تفيدُ العُمُوم؛ أي:
أقاموا كُلَّ صلاةٍ، والصَّلاةُ مَعْروفَةٌ، وهي في اللُّغَة: الدُّعَاءُ، وفي الشَّرْع: التَّعَبُّد لله سبحانه وتعالى بأَقْوَالٍ وأَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ، مُفْتَتَحَةٌ بالتَّكْبيرِ مُخْتتَمَةٌ بالتَّسْليمِ.
قال: {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} هذه الجُمْلَة شَرْطِيَّةٌ، وفِعْلُ الشَّرْط فيها {تَزَكَّى} وجوابُه:{فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} .
قال المُفَسِّر رحمه الله: {وَمَنْ تَزَكَّى} تطَهَّرَ من الشِّرْك وغيره] لأنَّ الزَّكاةَ تُفيدُ مَعْنى الطُّهْر، والمُرَادُ بالتَّزَكِّي هنا هو ما دَلَّ عليه قَوْله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] وَقَوْله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9]؛ أي: من زَكَّى نَفْسَه؛ أي: طَهَّرَها من الشِّرْك.
وَقَوْل المُفَسِّر رحمه الله: [وغيره] كإِرادَةِ السُّوء مثلًا، والمعاصي، وإِرادَة الإِسَاءَةِ إلى الخَلْق، وغير هذا مِمَّا يَجِبُ على الإِنْسَانِ أن يُطَهِّرَ نَفْسَه منه، فهي إِذَن عامَّةٌ، وهل يَدْخُل في ذلك أداءُ الزكاة؟
الجوابُ: نعم، يَدْخُل في ذلك؛ لأنَّ أدَاءَ الزَّكاةِ يُطَهِّرُ من البُخْلِ؛ ومِنَ الواجِبِ، فهي داخِلَةٌ في قَوْله تعالى:{وَمَنْ تَزَكَّى} .
قَوْله عز وجل: {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} المُرَاد بهذا الحَثُّ على التَّزكِّي؛ لأنَّك إذا تَزَكَّيْتَ فإنَّما تَنْفَعُ نَفْسَك، ومن لم يَتَزَكَّ فَضَرَرُه على نفسه، فأنت إذا تَزَكَّيْتَ فالذي يَنْتَفِع بِتَزَكِّيكَ أنت نَفْسُك؛ والله عز وجل لا يَنْتَفِعُ بطاعَتِكَ، أمَّا غَيْرُ الله فقد يَنْتَفِعُ بطاعَتِكَ لا لأنَّ حَسَناتِكَ له ولكن قد يَنْتَفِعُ بطاعَتِكَ: بالقُدْوَة بك، وبما يَحْصُل من عِلْم، أو غَيْرِ ذلك مِمَّا هو داخِلٌ في التَّزْكِيَة.
وَقَوْله تعالى: {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي: فَعَلَيْه أن يَحرِص على التَّزَكِّي.