الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (28)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28].
* * *
جُمْلَة {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} جُمْلَة خَبَرِيَّةٌ قُدِّمَ فيها الخَبَر على المُبْتَدَأ، و {أَلْوَانُهُ}: فاعِلُ {مُخْتَلِفٌ} لأن {مُخْتَلِفٌ} هو اسْم فاعل، واسْم الفاعل يَعمَلُ عَمَلَ فِعْله.
وَقَوْله تعالى: {كَذَلِكَ} صِفَةٌ لِقَوْله تعالى: {مُخْتَلِفٌ} يعني: مختلفٌ كاختلافِ ما ذُكِر.
قَوْله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} هي جُمْلَةٌ أيضا مُكَوَّنَة من فعلٍ وفاعلٍ ومفعولٍ به، وفيها حَصْرٌ، وطريقُه:{إِنَّمَا} وجُمْلَة: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} كالتَّعْليلِ لمِا قبلها، كما سيأتي إن شاء الله.
قَوْله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ} النَّاسُ هُمُ البَشَر، وأصلها (أُناسٌ) ولكن حُذِفَت الهْمزَةُ تَخْفيفًا لكثرة الإسْتِعْمال كما حُذِفَتْ من (شَرٍّ) و (خَيْر)، وأصلهما:(أشَرُّ) و (أَخْيَرُ)، وحُذِفَت أيضًا من (الله) على قَوْلِ كثيرٍ من عُلَماء اللُّغَة، وأَصْلُها:(الإله) والمُرَادُ بالنَّاس: بنو آدم، وسُمُّوا بذلك؛ لأنَّهم يَأْنَسُ بعضُهم إلى بعض.
قَوْله تعالى: {وَالدَّوَابِّ} جمع دابَّة، وتُطْلَقُ على عِدَّة معانٍ، تُطْلَقُ على كلِّ ما دَبَّ على الأَرض كما في قَوْله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النُّور: 45]، وكما في قَوْلِه تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ} [هود: 6] يَشْمَل كُلَّ ما دَبَّ على الأَرْض من إِنْسَان وحيوانٍ وحشرات، وغير ذلك.
وتُطْلَقُ الدَّابَّةُ على ما يَدبُّ على بطنه؛ مثل: الحيَّات، وتُطْلَقُ الدَّابَّة على ذوات الأَرْبَعِ كالحِمارِ، فما المُرَاد بها في هذه الآيَة؟
نقول: المُرَاد بها ما عدا النَّاسَ والأَنْعامَ، فتَشْمَلُ كُلَّ ما دَبَّ على الأَرْض إلا النَّاسَ والأَنْعامَ.
فإن قلت: لماذا لا تَجْعَلُها شامِلَةً وتجعل هذا من بابِ عَطْفِ العامِّ على الخاصِّ بالنِّسْبَة للنَّاسِ، ومن بابِ عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ بالنِّسْبَة للأنعام؟
يعني: لو قال قائِلٌ: المُرَاد بالدَّوابِّ: كُلُّ ما دَبَّ على الأَرض، لَكِنَّها عُطِفَت على النَّاسِ مِن باب عَطْفِ العامِّ على الخاصِّ، وعُطِفَتِ الأَنعامُ عليها من باب عَطْفِ الخاصِّ على العامِّ؟
قلنا: هذا مُمْكِنٌ، لكِنَّ التَّقْسيمَ يُبعِدُه، فيكون المُرَادُ بالدَّوَابِّ ما عدا النَّاسَ والأَنْعامَ، والمُرَادُ بالأنعام ما يَنْتَفِعُ النَّاس به؛ كما قال الله تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 71 - 73].
فيكون المُرَادُ بالأَنْعامِ هنا ما يَنْتَفِعُ النَّاس به كالإِبِل، والغَنَم، والبَقَر، والطيور الحلال، وغير ذلك.
قَوْله تعالى: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} هل المُرَادُ باللَّوْنِ الشَّكْلُ أو الصِّنْف أيضًا؟
الجواب: يَشْمَل؛ فالنَّاسُ مثلًا تَخْتَلِفُ ألَوْانُهم؛ هذا أبيضُ، وهذا أسود، وهذا أَحْمَر، وهذا بين ذلك، واختلافُ اللَّوْنِ ظاهِرٌ، وقد تَخْتَلِف أجْناسُهُم أيضًا؛ هذا ذَكَر وهذه أنثى، هذا عالِم وهذا جاهِل، هذا أَحْمَق وهذا حَليمٌ، وعلى هذا فَقِسْ.
الدَّوابُّ كذلك تَخْتَلِفُ ألَوْانُها بالشَّكْل، وتَخْتَلِفُ أَصنافُها وأَنْواعُها، منها المؤْذي، ومنها الضَّارُّ، ومنها النَّافِع، ومنها ما ليس بضَارٍّ ولا نافِعٍ ولا مُؤْذٍ، فهي أربعة أَصْنافٍ.
مثالُ النَّافِعِ: الأَنْعام، ومثال الضارِّ: الحيَّات والعقارِب والسِّباع وما أشبهها، ومثال المُؤْذي: الصَّراصِير، والخُنْفُساء، والجُعْلان، وما أشبه ذلك، ومثال ما ليس بِمُؤذٍ ولا ضارٍّ: النَّمْل، وغيره أيضًا من الدَّوابِّ الكثيرة التي نراها؛ نرى مثلا طيورًا تَطيرُ في الجوِّ ليست حلالًا مثلًا ولَكِنَّها لا تَضُرُّ.
وَقَوْله تعالى: {كَذَلِكَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [كاخْتلافِ الثِّمارِ والجبالِ] فصار الإختلافُ في مَخْلوقاتِ الله تعالى شاملًا للحيوانِ ولمِا يَنْتَفِع به الحيوانُ من الثِّمار وغيرها ولِطَبَقاتِ الأَرْضِ كالجِبالِ.
قَوْله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} لمَّا ذَكَرَ هذه الأصنافَ وفيها ما يدلُّ على كَمالِ الله عز وجل في صِفاتِهِ التي تَتَضَمَّنها هذه الأَصْنافُ المَذْكورَة بيَّن أنَّ العالِمَ بذلك هو الذي يَخْشى الله، فقال:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يعني: لا يخشى الله إلا العُلَماءُ.
والخَشْيَةُ هي أعلى الخَوْف، أو إن شِئْتَ فقل: هي الخَوْف المَبْنِيُّ على العِلْم،
وبَعْضُهم قال: هي الخَوْفُ المَبْنِي على عِظَم المَخُوفِ، ولا يَمْتَنِع أن تكون الخَشْيَةُ هي الخوف بِكُلِّ الأَنْواعِ الثَّلاثَةِ؛ يعني: هي أعلى أَنْواعِ الخَوْفِ، أو الخَوْف المَبْنِي على العِلْم، أو الخَوْفُ المَبْنِيُّ على عِظَمِ المَخُوف.
أمَّا الخَوْف المُجَرَّدُ عن الخَشْيَة فقد يكون عن جَهْل، يخاف الإِنْسَانُ من شَيْء؛ لأنَّه جاهِلٌ به وإلا فليس أَهْلًا لأن يُخافَ منه.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} بخلاف الجُهَّال ككُفَّار مَكَّة]، وصَدَقَ المُفَسِّر رحمه الله في قَوْلِه:[بِخِلاف الجُهَّال] وأمَّا التَّمْثيل بكُفَّار مَكَّة فليس على سَبيلِ الحَصْرِ، بل هو على سبيل المِثالِ، فكل كافِرٍ فهو في الحَقيقَةِ جاهِلٌ.
وهل هذه الجَهالَةُ جَهالَةُ عِلْمٍ أو جَهالَةُ تَصَرُّفٍ؟
الجوابُ: هي جَهالَةُ تَصَرُّف في الغالِبِ، وإلا فإنَّ الكافر يكون عنده عِلْمٌ؛ لَكِنَّه - والعياذ بالله - يَسْتَمِرُّ على طغيانه ولا يُؤْمِنُ.
قَوْله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} .
{عَزِيزٌ} أي: ذو عِزَّةٍ، قال العُلَماء رحمهم الله: والعِزَّةُ ثلاثَةُ أَنْواع؛ عِزَّة القَدْرِ، وعِزَّة القَهْر، وعِزَّة الإمْتِناع.
فأما عِزَّة القَدْرِ فمعناها أنَّ الله تعالى ذو قَدْرٍ عزيز، والقَدْرُ معناه المكانَة والشَّرَف والسُّؤْدُد ونحو ذلك.
عِزَّة القهر؛ أي أنَّ الله تعالى غالِبٌ غَيْرُ مَغْلوبٍ، ومنه قَوْله تعالى:{فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أي: غَلَبَني.
وعِزَّة الإمتناعِ؛ أي إنَّ الله تعالى يَمْتَنِع عليه النَّقْصُ في ذاته، أو في صِفاته، ومنه قَوْلهم:(أَرْضٌ عَزَازٌ)؛ أي: شديدةٌ صُلْبَة، لا يتجاوَزُها شَيْء لِصلابَتِها، ولا يُؤَثِّر فيها شَيْء، لِقُوَّتِها وشِدَّتِها.
فالعِزَّةُ إذن لها ثلاثةُ معانٍ عِزَّةُ القَدْر، وعِزَّة القَهْر، وعِزَّة الإمْتِناعِ.
قَوْله تعالى: {غَفُورٌ} أي: ذو مَغْفِرَة كما قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]، والمَغْفِرَةُ سِتْرُ الذَّنْب والتَّجاوُز عنه، يدلُّ لذلك اشْتِقاقُها؛ فإنَّها مُشْتَقَّةٌ من المِغْفَرِ وهو ما يُغَطَّى به الرَّأْسُ وتُتَّقى به السِّهامِ، وفي المِغْفَر سِتْرٌ ووِقايَة، وعلى هذا فنقول:(الغفور) ذو المَغْفِرَة، وهي: سِتْر الذَّنْب والتَّجاوُز عنه.
ويدل لهذا المَعْنى - زيادةً على دَلالَةِ الإشتقاق - ما ثَبَتَ في الحديث الصَّحِيحِ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الله يُدْنِي المُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُوُل: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُوُل: نَعَم أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُها عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ"
(1)
؛ يعني: أَتَجاوَزُ عنها، وفي الدُّنْيا سَتَرَها الله على العَبْد.
ومُناسَبَة ذكر العِزَّة والمَغْفِرَةِ هنا بعد ذِكْرِ الخَشْيَةِ: الإشارَةُ إلى أنَّ الله عز وجل أَهْلٌ لأن يُخْشَى؛ لأنَّه عزيزٌ؛ وأنَّه إذا نَقَصَ شَيْءٌ من الخَشْيَة فإنَّه يُقابَل بالمَغْفِرَة، فهو عزيزٌ فلذلك كان أَهْلًا للخَشْيَة، وهو غفورٌ إذا نَقَصَ شَيْءٌ مِمَّا يَجِبُ له من خَشْيَتِه عز وجل.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب قول الله تعالى:{أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ، رقم (2441)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل، رقم (2768)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.