الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (8)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8].
* * *
قال المُفَسِّر رحمه الله: [ونزَل في أبي جهلٍ
(1)
وغيره: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} بالتَّمْويهِ] أبو جَهْلٍ كان يُسَمَّى في الجاهِلِيَّة أبا الحكم؛ يعني: أنَّه ذو حِكْمَة وعَقْل ورَوِيَّة، لكنَّه سُمِّيَ في الإِسْلام أبا جَهْلٍ؛ لأنَّ أعْظَمَ الجَهْلِ أن يَبْقَى على كفره، ولا يُؤْمِنُ بالله، نزل فيه {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}:{أَفَمَنْ} الهَمْزَةُ هنا للإسْتِفْهام، والفاء: حَرْفُ عطف، والمعطوف عليه مخُتلَفٌ فيه؛ فمنهم من قال: إنَّه مقدَّرٌ بين الهَمْزَة وحَرْفِ العَطْف فيكون بحَسَبِ السِّياقِ، ومنهم من قال: إنَّ المعطوفَ عليه ما سَبَقَ، فعلى الأَوَّل نُقَدِّرُ المَحْذوفَ بما يناسِبُ المقامَ، فمثلًا قَوْله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [يوسف: 109] التَّقْديرُ: أغَفَلُوا فلم يَسِيروا في الأَرْض، وهنا نقول:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} نُقَدِّرُها بما يناسِبُ، فنقول: التَّقْديرُ: أَتُدْرِكونَ هذا الشَّيْءَ فمن زُيِّنَ له سوءُ عَمَلِه، أو نقول: أَيَسْتَوي المؤْمِنُ والكافِرُ فمن زُيِّنَ له سوء عَمَلِه.
ولكن القَوْل الثاني في المَسْأَلة أنَّه معطوفٌ على ما سبق أحسن؛ لأنَّ الأَصْلَ
(1)
انظر: زاد المسير (3/ 506).
عدمُ التَّقْديرِ، ولأنَّه في بعضِ الأحيانِ يَصْعُبُ على الإِنْسَانِ أن يقدِّر المَحْذوفَ، وعلى هذا القَوْلِ يقولون: إنَّ حَرْفَ العَطْفِ (الفاء) يُقَدَّرُ سابقًا للهَمْزَة، فيكون فيه تقديمٌ وتَأْخيرٌ، والتَّقْديرُ على هذا:(فَأَمَنْ زُيِّنَ له سُوءُ عَمَلِه).
وَقَوْله تعالى: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} مَن المُزَيِّنُ؟
ذكر الله عز وجل أنَّ المُزَيِّنَ الشَّيْطانُ، وذكر أنَّ المُزَيِّنَ هو الله {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل: 4]، وقال تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [النمل: 24]، وفي بعض الآيات يكون المُزَيِّنُ مُبْهَمًا كما في هذه الآيَة، وكما في قَوْله تعالى:{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
فالمُزَيِّنُ الله، والمُزَيِّن الشَّيْطان، فإذا قلْتَ: كيف تَجْمَعُ بين هذا وهذا؟
فالجواب: أنَّ المُزَيِّنَ المُباشِرَ هو الشَّيْطان، أمَّا الله عز وجل فهو مُزَيِّنٌ بالتَّقْديرِ؛ يعني: هو الذي قدَّر على الشَّيْطان أن يُزَيِّنَ لهم، ومعلومٌ أنَّ الله تعالى خالِقُ الشَّيْطانِ، وما نتج من أعماله فهو مضافٌ إلى الله؛ كما نقول في الإِنْسَانِ: إنَّه مَخْلوقٌ لله، وما نتج من أعماله فهو مَخْلوقٌ لله عز وجل، فيكون تَزْيينُ الله تعالى حَسَب التَّقْديرِ؛ يعني: هو الذي قدَّر أن يُزَيِّنَ الشَّيْطانُ لهم أَعْمالَهُم.
قَوْله تعالى: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} : (عمل) مفردٌ مضافٌ، فيَشْمَلُ كُلَّ الأعمال، سواء كانت شِرْكًا أو عُدْوانًا على الغَيْر، أو سوءَ السُّلوكِ وفَسادَ الأخلاقِ، أو غَيْر ذلك.
المُهِمُّ: أنَّه شامِلٌ لكُلِّ الأَعْمالِ.
وَقَوْله رحمه الله: [بالتَّمْوِيهِ]؛ أي: أنَّه يُمَوِّهُ على النَّاس أنَّ هذا العَمَلَ الذي يقوم به عملٌ حَسَنٌ.
قَوْله تعالى: {فَرَآهُ حَسَنًا} أي: رأى سُوءَ عمَلِه حَسَنًا، وهذا أشَدُّ ما يكون؛ أن يكون الإِنْسَانُ على خَطَأٍ ويرى أنَّه على صوابٍ؛ لأنَّ مِثْلَ هذا لا يكاد يظهر عن غَيِّهِ؛ حيث إنَّه يَعْتَبِرُه صوابًا، ومن ذلك مَثَلًا أصحابُ الحِيَل (المخادعون)، فالمُنافِقُ مثلًا زُيِّنَ له سُوءُ عَمَلِه؛ لأنَّه يرى أنَّه ذَكِيٌّ {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] وهذا من سوء العَمَلِ.
وكذلك المُتَحَيِّلون على الرِّبا بأَنْواعِ الحِيَلِ هؤلاء أيضًا زُيِّنَ لهم سُوءُ أعمالهم؛ ولهذا لا تكاد تَجِدُهم مُقْلِعينَ عمَّا هم عليه؛ لأنَّه قد زُيِّنَ ذلك في نُفُوسِهم فلا يُقْلِعونَ عنه؛ المُهِمُّ أنَّ هذا له أمْثِلَة كثيرةٌ.
بقي علينا أن نقول: (من) مُبْتَدَأ فأين خَبَرُه؟ قال المُفَسِّر رحمه الله: [مَنْ: مُبْتَدَأ، خَبَره: كمن هداه اللهُ، لا؛ دَلَّ عليه {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}].
قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} يعني: (كَمَنْ لم يُزَيَّنْ له سُوءُ عَمَلِه ورأى سوءَ عَمَلِه سَيِّئًا)؛ لأنَّ الذي زُيِّن له سوءُ عَمَلِه سيسْتَمِرُّ عليه، والذي رآه سيئًا سوف يَتَجَنَّبُه، وهذا ما يقَوْلُه المُفَسِّر رحمه الله:[كمن هداه الله]، ومِثْلُ هذا التَّعْبيرِ يأتي في القُرْآن كثيرًا؛ كما في قَوْلِه تعالى:{أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] فالخَبَرُ مَحْذوفٌ؛ أي: كمن ليس كذلك.
فَقَوْله: [لا]؛ يعني: ليس هذا كهذا، قال: بينهما فَرْقٌ؛ فإنَّ من زُيِّنَ له سوء عَمَلِه فسوف يبقى على ضَلالِهِ، ومن لم يُزَيَّنْ له سُوء عَمَلِه ورآه سيئًا فَسَيَتَجَنَّبُه ولا يقع فيه.
وَقَوْله: [دلَّ عليه: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}]، وعلى هذا، فالفاء هنا ليست واقِعَة في خَبَرِ المُبْتَدَأ، بل خَبَرُ المُبْتَدَأ مَحْذُوفٌ، لكنها عَطْفٌ على ذلك الخَبَر؛ أي: فإنَّ الله يُضِلُّ من يشاء عن الحَقِّ فلا يهتدي إليه، ويهدي من يشاء إلى الحَقِّ فَيَلْتَزِمُه، وهنا يقول:{يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} تقدَّمَ كثيرًا تعليقُ الأشياءِ بالمَشيئَة، ولكنَّنا قلنا ونقول: إنَّ هذه المَشِيئَةَ مَقْرُونَةٌ بالحِكْمَةِ؛ من اقْتَضَتْ حِكْمَةُ الله عز وجل أن يُضِلَّه أَضَلَّه، ومن اقتَضَتْ حِكْمَتُه أن يَهْدِيَه هداه، من الذي تَقْتَضي حِكْمَة الله عز وجل أن يُضِلَّه؟
هو الذي أراد الضَّلال؛ كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
فإذن: إضْلالُ الله تعالى للعَبْدِ في مَحَلِّه، وذلك بأن يكون هذا الرَّجُل لا يريد الخَيْر، وإنَّما يريد الشَّرَّ.
واعلم أنَّ الهِدايَةَ والضَّلالَ إمَّا عَدْلٌ وإمَّا فَضْلٌ، فالضَّلالُ عَدْلٌ؛ لأنَّه جُوزِيَ بحَسَب ما أراد، لمَّا أراد الضَّلالَ - والعياذ بالله - وزاغ قَلْبُه أُزيغَ، وأمَّا الهِدايَة فإنَّها فَضْل من الله عز وجل يَتَفَضَّلُ بها على من يشاء من عباده.
ولهذا لو قال قائِلٌ: كيف يَجْعَلُ الله تعالى هذا مُهْتَدِيًا وهذا ضالًّا، أليس هذا ظُلْمًا؟
والجواب: لا؛ لأنَّ مَنْعَ الهِدايَة من هذا الضَّالِّ إنَّما هو لمُقْتَضَى عَدْلِه، أمَّا هِدايَة المهتدي فبِفَضْله.
فنقول: إنْ مَنَعَكَ ما هو لك فقد ظَلَمَك، وإن مَنَعَك فَضْلَه فَفَضْلُ الله يؤتيه من يشاءُ، ولولا أنَّك لَسْتَ أَهْلًا للهِدايَة ما منعك الله هدايته.
قَوْله تعالى: {وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} المُرَاد بالهِدايَة هِدايَةُ التَّوفيقِ، وربَّما نقول: هِدايَة التَّوفيق والدَّلالَة، ولكنَّ الأَهَمَّ هو هِدايَة التَّوْفيقِ، ولَعَلَّ هذا هو المُرَادُ هنا؛ لأنَّ الذين أضَلَّهُم الله قد هداهم الله هِدايَةَ الدَّلالَةِ؛ كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] وهذا عامٌّ، ولكنَّ الهِدايَة أن يهدي من يشاء إلى صراطٍ مُسْتقيمٍ.
وَقَوْله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} هل هذا النَّهْيُ نَهْيٌ عما كان أو نَهْيٌ عما لم يَكُنْ؟ الظَّاهِرُ أنَّه نَهْيٌ عما كان، وأنَّ الرَّسُول عليه الصلاة والسلام يتَحَسَّر على هؤلاء المُكَذِّبين الذين كانوا يُكَذِّبونَه ويَضيقُ صَدْرُه، ويقول عز وجل:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، فـ {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ} أي: مُهْلِكٌ نَفْسَك، {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
فالرَّسُول عليه الصلاة والسلام تَحَسَّر لهؤلاء لعَدَمِ إيمانِهِم، والنَّهْي عن الشَّيْء قد يكون نَهْيًا عما كان وقد يكون نَهْيًا عمَّا لم يكن؛ فَقَوْله للنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 213 - 214] هذا نهيٌ عما لم يكن؛ لأنَّ الرَّسُول لم يَدْعُ.
قَوْله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} يعني: لا تذهب نَفْسُك من أجْلِهم، كما يقال:(بكيت عليكَ الدَّهْرَ) أي: من أجْلِكَ، فالمَعْنى: لا تَذْهَبْ نَفْسُك من أجلهم حَسَرَاتٍ.
قَوْله تعالى: {حَسَرَاتٍ} قيل: إنَّها حالٌ على أنَّها مَصْدَرٌ أريد به اسْمُ الفاعِلِ؛ أي: حاسِرَةً، والحَسْرَة هي الهَمُّ الشَّديدُ والغَمُّ على ما فات، وكلُّ من فاته شَيْء يُحِبُّه