الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَفْظِيَّةٍ وهي مراعاةُ الفواصِلِ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [تُرْجَعُ الأُمُورُ في الآخِرَة فيُجازِي المُكَذِّبين ويَنْصُرُ المُرْسَلينَ] وهذا أيضًا من القُصُور؛ لأنَّ الأُمُورَ تُرْجَعُ إليه في الآخِرَة وفي الدُّنْيا أيضًا، فإنَّ الله يَنْصُرُ المُرْسَلين في الدُّنْيا ويُعاقِبُ المُكَذِّبين؛ كما قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
إِذَن: قَوْله تعالى: {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} هذا عامٌّ في أُمُور الدُّنْيا والآخِرَة، وأُمُورِ الشَّرْع وأُمُورِ القَدَر، فكلُّ الأُمُورِ تُرجَع إلى الله عز وجل، هو الأوَّلُ والآخِرُ، منه المُبْتَدَى وإليه المُنْتَهَى، قال الله تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، قال ابْنُ عمر رضي الله عنهما:"مَنْ كَانَ لَهُ شَيءٌ فَلْيَأْتِ بِهِ؛ لأَنَّ اللهَ يَقُولُ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} " وماذا يبقى؟ إذا كان الخلق - وهو الإيجاد - لله، والأمر في التَّصَرُّف والتَّصَرُّف لله ماذا بقي لنا؟ ما بَقِيَ شَيْءٌ.
ولهذا لم يبقَ شَيْءٌ في الدُّنْيا والآخِرَة لأَحَدٍ أبدًا، فالأُمُورُ كُلُّها لله.
والأُمُورُ هنا جَمْعُ (أَمْر) بمَعْنى الشَّأْن؛ أي: شُؤُونُ الدُّنْيا والآخِرَة والشُّؤون القَدَرِيَّة والشَّرْعِيَّة؛ كلُّها تُرْجَع إلى الله سبحانه وتعالى، إذا كانت تُرْجَع إلى الله وقد كُذِّبَت الرُّسُلُ، فما مصيرُ الرُّسُلِ والمُكَذِّبينَ؟
الجواب: مصيرُ الرُّسُلِ النَّصْرُ في الدُّنْيا والآخِرَة، ومَصيرُ المُكَذِّبينَ الخِذْلانُ والخِزْيُ والعارُ في الدُّنْيا وفي الآخِرَة.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ تَكْذيبَ الرَّسُولِ عليه الصلاة والسلام ليس ببِدْعٍ؛ فالرُّسُلُ قد كُذِّبَتْ من قبله، وهذا واضِحٌ من اللَّفْظ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيانُ عِنايَةِ الله عز وجل بِرَسولِه صلى الله عليه وسلم، وهذا مَأْخوذٌ من أنَّ الله سبحانه وتعالى سلَّى رسولَهُ بِذِكْر من كُذِّبَ مِن قَبْلِه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ سُنَنَ الله تعالى في خَلْقِه واحِدَةٌ؛ لأَنَّه أَهْلَكَ من كَذَّبوا الرُّسُل وهَدَّد من كذَّبوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ مُحَمَّدًا رسولُ الله؛ لأنَّه قال: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} يعني: أنت رسولٌ وهم رُسُلٌ، ولولا ذلك لم يكن لِقَوْله تعالى:{فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} فائِدَةٌ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ مرْجِعَ الأُمُور والشُّؤونِ كُلِّها إلى الله سبحانه وتعالى؛ لِقَوْلِه تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} ووجه اختصاصِ هذا بالله تقديمُ المعمول؛ فتَقْديمُ المَعْمولِ يُفيدُ الحَصْرَ، إِذَن: إلى الله لا إلى غَيْره تُرْجَع الأُمُور.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّه يَنْبَغي للإِنْسَان إذا أصابَتْه الضَّرَّاء أن يَرْجِعَ إلى رَبِّه وأن يتعَلَّقَ به فإذا كانت الأُمُور تُرْجَعُ إلى الله فليَكُنْ طَلَبُ إزالَةِ الضَّرَر من الله.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: وجوبُ تَحْكيمِ الكِتابِ والسُّنَّة، وأنَّه لا يَجوزُ العُدولُ عمَّا دَلَّ عليه الكِتابُ والسُّنَّة؛ لِقَوْله تعالى:{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} لأنَّ الأُمُورَ والشُّؤونَ تُرجَع إلى الله، ومنها الحُكْمُ بين النَّاس، فيجب أن يكونَ مَرْجِعُه إلى الله.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ من حَكَّمَ غَيْرَ الكِتَاب والسُّنَّة فقد اعْتَدَى على حَقِّ الله؛ لأنَّ الله قال: {وَإِلَى اللَّهِ} أي: إليه وَحْدَه {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّه لا يجوز للإِنْسَان أن يُسْنِدَ ما رَزَقَه الله مِن رِزْق، سواءٌ كان علمًا أم مالًا أم جاهًا أم ولدًا أم زَوْجَة، إلى نَفْسِه، فيقول: إنَّما أوتِيتُه على عِلْمٍ عندي؛ لِقَوْله تعالى: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: إِثْباتُ نِعْمَةِ الله عز وجل على العبادِ بإِرْسالِ الرُّسُلِ؛ لِقَوْله تعالى: {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} وإِرْسالُ الرُّسُلِ من أكْبَرِ النِّعَمِ؛ لأنَّنا لا نَسْتَطيعُ أن نَعْرِف كيف نَعْبُدُ الله إلا عن طريق الرُّسُلِ، فالإِنْسَانُ يَعْرِف مثلًا بِفِطْرَتِه أنَّ الله تعالى موجودٌ، وأنَّ له ربًّا خالِقًا مدبِّرًا، لكن لا يَعْرِف كيف يَصِلُ إلى هذا الرَّبِّ إلا من طريق الرُّسُلِ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِثْباتُ حِكْمَةِ الله سبحانه وتعالى؛ حيث جعل للرُّسُل من يُكَذِّبُهم؛ لأنَّه لولا تَكْذيبُهُم ما حصل الإمْتِحانُ، فهذه من الحِكَم العَظيمَة؛ أن يَجْعَل الله للرُّسُلِ من يُكَذِّبُهم، فلولا تَكْذيبُهُم لم يَحْصُلِ الإمتحان؛ إذ لو كان النَّاسُ كُلُّهُم على الطَّاعَة ما تَميَّز الخَبيثُ من الطَّيِّب ولا تَبَيَّن المُؤْمِنُ من الكافِرِ، ولا قامَتِ سوقُ الجهادِ، ولا الأَمْرُ بالمعروفِ، ولا النَّهْيُ عن المُنْكَر؛ ولهذا قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]، وقال تعالى:{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [مُحَمَّد: 4].
فهذه من الحِكْمَة في وجودِ المُكَذِّبين للرُّسُلِ، وهناك حِكَمٌ كثيرة؛ منها أيضًا: أنَّه لا يَتَبَيَّنُ الحَقُّ حتى يُعْرَفَ الباطِلُ كما قيل
(1)
:
....................
…
وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الأَشْيَاءُ
فلولا الباطِلُ الذي يُنازِعُ الحَقَّ ما عَرَفوا الحَقَّ، ولكان الكُلُّ سواءً، ولا نَعْرِفُ حقًّا من باطِلٍ.
* * *
(1)
انظر: ديوان المتنبي (ص 127).