الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (45)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45].
* * *
(لو) هذه شَرْطِيَّةٌ، و (لو) تأتي شَرْطِيَّةً كما هنا، وتأتي للتَّمَنِّي مثل قَوْله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]، وتقول مثلًا: لو كان لي مِثْلَ مالِ فلانٍ، يعني أتمنى أن يكون لي مثل مال فلان، فتأتي شَرْطِيَّة وتأتي للتَّمَنِّي، وتأتي أيضًا مَصْدَرِيَّة بمَعْنى (أنْ).
فهنا هي شَرْطِيَّة، وإذا كانت شَرْطِيَّةً، فإما أن يكون جوابُها مثبتًا وإمَّا أن يكون مَنْفِيًّا، فإن كان مُثْبَتًا فالأكْثَرُ فيه إثباتُ اللَّام، وإن كان مَنْفِيًّا فالأكْثَرُ فيه حذف اللام.
مثال ذلك في الإثبات: قَوْله عز وجل: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقِعة: 65] الجواب: {لَجَعَلْنَاهُ} وفيه اللامُ، وقال تعالى في نفس السُّورَة:{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقِعة: 70] الجواب: {جَعَلْنَاهُ} وحُذِفَتْ منها اللام.
أما إذا كان جوابُها منفيًّا بـ (ما) فإنَّ الأكثر عدم اقتران (ما) باللَّامِ فتقول مثلًا: لو جاءني ما أَهَنْتُه، وهنا قال الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا
تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ}.
وقد تقترن اللَّام بـ (ما) لَكِنَّها قليلةٌ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَو نُعْطَى الْخِيَارَ لمَا افْتَرَقْنَا
(1)
…
...........................
والأَكْثَرُ (ما افْتَرَقْنا).
يقول الله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} .
قَوْله تعالى: {يُؤَاخِذُ} أي يعاقِبُ، والمؤاخَذَةُ بالذَّنْبِ العُقوبَةُ عليه.
وَقَوْله تعالى: {النَّاسَ} عامٌّ يَشْمَلُ الكُفَّارَ ويَشْمَلُ العُصاةَ من المُؤْمِنين.
وَقَوْله تعالى: {بِمَا كَسَبُوا} : (ما) يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّةً؛ أي بِكَسْبِهم، ويجوز أن تكون مَوْصولةً، فإذا كانت مَوْصولَةً فلا بُدَّ من تَقْدير العائِدِ، وتَقْديره: بما كَسَبوهُ.
وَقَوْله تعالى: {بِمَا كَسَبُوا} أي: بما اكْتَسَبوا من المعاصي، وسَمَّى الله تعالى المعاصيَ كَسْبًا؛ لأنَّ العامِلَ ينالُ جَزاءَها، فكأنَّه كَسَبَ هذا الجزاء، مع أنَّه كَسْبٌ خاسِرٌ؛ ولهذا إذا اقْتَرَنَ مع العَمَلِ الصَّالِحِ أتى بغير هذا اللَّفْظِ؛ قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] ففرَّقَ بينهما.
أما إذا أُفْرِد أحدهما عن الآخَرِ فيصِحُّ الكَسْبُ في الخَيْراتِ وفي السَّيِّئاتِ.
(1)
صدر بيت وعجزه: ولكن لا خيار مع الليالي. غير منسوب، وانظره في: مغني اللبيب (ص 358)، وشرح التصريح (2/ 424)، وهمع الهوامع (2/ 572)، وخزانة الأدب (10/ 82).
وَقَوْله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا} أي الأَرْضِ؛ قال المُفَسِّر رحمه الله: [أي الأَرْضِ] وأعاد الضَّميرَ على غَيْر مذكورٍ، قال بعضهم: إنَّه أعاده على مذكورٍ، وهو قَوْله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} ، والكَلَام كُلُّه في سياق واحِدٍ، في سياق العاصينَ ومآلهِم وعُقُوبَتِهِم، فالكَلَامُ نَسَقٌ واحِدٌ فالأَرْض إذن: مذكورة.
وقال بعضهم: هي غَيْر مذكورة، لَكِنَّها معلومَةٌ من السِّيَاقِ لأنَّ الدَّوابَّ إنَّما هم على ظَهْرِ الأَرْضِ، فمَعْلومَةٌ من السِّيَاق، وما عُلِمَ من السِّيَاقِ فإنَّه لا يَحْتاجُ إلى مَرْجِعٍ مذكورٍ؛ ألم تَرَ إلى قَوْله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] فَقَوْله تعالى: {تَوَارَتْ} أي: الشَّمْسُ، مع أنَّه لم يَسْبِقْ لها ذِكر، لَكِنَّها معلومَةٌ فإنَّها هي التي تتوارى بالحِجابِ.
وَقَوْله رحمه الله: [{مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} نَسَمَة تَدِبُّ عليها]{مِنْ} حرف جَرٍّ (زائدٍ زائد)؛ لأنَّها جاءَتْ بعدَ النَّفْي: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} أي: ما ترك عليها دابَّةً لَكِنَّها دخلت عليها {مِنْ} لتُؤَكِّدَ العُمومَ؛ وقال المُفَسِّر رحمه الله: [نَسَمَةً تَدِبُّ عليها] النَّسَمَة هي كل ذاتٍ تَتَنفَّسُ، لأنَّها مَأْخوذة من النَّسَم وهو التَّنَفُّس وكل شَيْء فيه رُوحٌ فإنَّه يتَنَفَّس.
والمَعْنى: لَهَلَكَ كُلُّ شَيْءٍ على الأَرْض؛ أمَّا البَشَرُ العاصون فهَلاكُهُم واضِحٌ، وأمَّا غَيْرُهُم فبِشُؤْمِ الأَوْساط تَمُوتُ هذه الدَّوابُّ، إمَّا بأن يَمْنَعَ اللهُ عز وجل المَطَرَ والنَّباتَ فتموتُ هذه الدَّوابُّ؛ لأنَّها لا تجد عَيْشًا أو أنَّها تموت بأوْبِئَةٍ تَجْتاحُها بسبب أعمالِ النَّاسِ.
وقال رحمه الله: [{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: يَوْم القِيامَةِ].
{وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ} أي: النَّاسَ، والفاعِلُ هو الله، {إِلَى أَجَلٍ} أي: مُدَّةٍ {مُسَمًّى} مُعَيَّنٍ، وهو يومُ القِيامَة، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة هود:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} [هود: 103 - 104] أي: أَجَلٍ مُسَمًّى مُعَيَّنٍ عند الله تبارك وتعالى، ولا يَعْلَمُ هذا الأَجَلَ إلا اللهُ؛ فإنَّ عِلْمَ السَّاعَةِ لا يكون إلا لله سبحانه وتعالى؛ وقد حجز عنه أَعْلَمَ البَشَرِ وأَعْلَم المَلائِكَة حين سأل جبريلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن السَّاعَةِ قال:"مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ"
(1)
.
والأَجَلُ المُسَمَّى لا بُدَّ أن يَجيءَ، فكُلُّ شَيْءٍ مُسَمَّى فهو قريبٌ، لكنَّ الأَجَلَ المُبْهَم هو الذي يَنْتَظِرُه الإِنْسَانُ إلى أن يَحْصُل، أمَّا المُسَمَّى فلا بُدَّ أن يُوصَلَ إليه.
وَقَوْله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} يعني: انْتَهَتِ المُدَّة وصار يومُ القِيامَة، سواء كانَتِ القِيامَةُ الكُبْرَى أو القِيامَة الصغرى، فالقِيامَةُ الكُبْرَى العامَّةُ لجميعِ النَّاسِ، والصُّغْرى مَوْتُ كُلِّ إِنْسَانٍ.
وَقَوْله رحمه الله: [{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} فيجازيهم على أَعْمالهِم بإثابَةِ المُؤْمِنينَ وعِقابِ الكافرينَ].
جُمْلَة {فَإِنَّ اللَّهَ} جوابُ شَرْطِ قَوْله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} .
فإذا قال قائِلٌ: ما وَجْهُ ارتباطِ الجوابِ بالشَّرْطِ في قَوْله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} يعني قد تَتَوَقَّعُ: فإذا جاء أجلهم عاقَبَهُم الله؟
فيقال: إنَّ قَوْله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أَبْلَغُ من: (فإذا جاء
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، رقم (50)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة الإيمان، رقم (9)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.