الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} بالشّدَّةِ والضَّعْفِ] هنا فسَّر المُفَسِّر رحمه الله الألَوْان بالماهِيَّة وليس بالأَشْكالِ؛ لأنَّه قال: [بالشِّدَّةِ والضَّعْف] ولم يقل: [باللَّون الأَحْمَر أو الأَبْيَض].
على كُلِّ حالٍ: (الألَوْان) كما سبق تُطْلَقُ على الأَنْواع أحيانًا.
وهذا الإختلاف في ألَوْانِ أَحْجارِ الجبال كالإخْتِلاف في ألَوْانِ الثِّمار.
قَوْله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [عطفٌ على جُدَد؛ أي: صخورٌ شديدَةُ السَّوادِ، يقال كثيرًا: أَسْوَدُ غِربيبٌ، ويقال قليلًا: غربيبٌ أَسْوَدُ]، فالغَرابيبُ جَمْع غِرْبيِبٍ، والغِربيِبُ: شديدُ السَّوادِ.
وكان مُقْتَضَى التَّرْكيبِ أن يقال: (وسُودٌ غَرابِيبُ)، ولكنَّ الله تعالى قدَّم فقال (وَغَرَابِيبُ سُودٌ) فعلى هذا زَعَمَ بَعْضُهم أنَّ في الكَلَام تقديمًا وتَأْخيرًا، وقال بعضهم: بل هو على تَرْتيبِهِ، ليس فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى بيَّن الأَسْوَدَ الشَّديدَ السَّوادِ قبل بيان مُطْلَقِ السَّوادِ، هذا أيضًا مُشاهدٌ؛ نجد في الجبال طُرُقًا يعني كالطَّريقِ أو كالخَطِّ أَسْوَد خالصًا، وإلى جانبه طريقٌ أَبْيَضُ، أو أَحْمَر، أو ما أشبه ذلك، كل هذا دليلٌ على قُدْرَةِ الله عز وجل.
فنجد نحن أنَّ هذا الإخْتِلافَ في الجبال هو كالإخْتِلافِ في الثَّمَرات.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: التَّنْبيهُ على أنَّه يَنْبَغي للإِنْسَانِ أن يَتَفكَّر في خَلْقِ الله عز وجل؛ لِقَوْله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ} فإنَّ هذا تقريرٌ، والتَّقْريرُ لا يكون إلا بعد أن يَنْظُرَ المُقَرَّر فيما قُرِّرَ به حتى يُقِرَّ به ويَعْتَرِفَ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيانُ قُدْرَة الله عز وجل وحِكْمَتِه ورَحْمَتِه، وذلك بإنزالِ الماءِ من السَّماء، ففيه قُدْرَةٌ عَظيمَة؛ أن يَنْزِلَ هذا الماء الذي يكون بِحارًا أحيانًا يُدَمِّر ما مرَّ عليه من البناء ويَجْتَرِف الأراضِيَ مع أنَّه يَنْزِلَ من هذا السَّحابِ الرَّقيقِ الذي تَخْتَرِقُه الطَّائِرة كما نُشاهِدُ، ويَتَمَزَّق عندما يَمُرُّ بالجبالِ وبالبِناءِ وما أشبه ذلك؛ تَنْزِلُ منه هذه المياه العَظيمَة، هذا تمامُ القُدْرَة.
وتمامُ الرَّحْمَةِ: ما يَحْصُل من هذا المَطَرِ من الآثار النَّافِعَة للعبادِ.
وتمَامُ الحِكْمَة؛ لأنَّ هذا المَطَرَ يَنْزِلُ من أعلى حتى يَشْمَل المُرْتَفِعَ والمُنْخَفِضَ من الأَرْض، ولو كان يَمْشي مَشْيًا كالأَنْهار لكان الأَسْفَلُ من الأَرْض يَرْوَى بالماء بل يَغْرِق، أمَّا الأعلى فلا يُصيبُه شَيْءٌ، وهذا من تمام حِكْمَة الله عز وجل؛ أنَّه يَنْزِل من فوق.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثباتُ الأَسْبابِ؛ لِقَوْله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} فإنَّ الباءَ هنا للسَّبَبِيَّة، ففي الآيَة إثباتُ الأَسْبابِ وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد قَرَنَ الأشياء بأَسْبَابِها، وهذا من تمَامِ حِكْمَتِه؛ أن تكون الأَسْبابُ والمُسَبَّباتُ مُتلازِماتٍ، فمِنَ المَعْلومِ أنَّ الله قادِرٌ على أن يُخْرِجَ هذه الثَّمَراتِ بدون ماءٍ، ولكن قد جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سببًا.
إذن: في الآيَة إثباتُ الأَسْبَابِ؛ ولذلك لَزِمَ علينا القَوْلُ بِوُجوبِ الفِعْلِ؛ لأنَّ السَّبَبَ يَسْتَلْزِمُ وجود المُسَبَّب، وهذا يقتضي أن نُوجِبَ على الله عز وجل وُجودَ المُسَبَّب لوجود السَّبَب.
فعُلَماءُ الكَلَام كالجَبْرِيَّة مثلًا أَنْكَروا حِكْمَةَ الله، يقولون: لأنَّنا لو قلنا بِثُبوتِ الحِكْمَةِ والسَّبَبِيَّة لزم من ذلك أن نُوجِبَ على الله تعالى أن يَفْعَل كما قال ذلك خُصُومُهم من المُعْتَزِلَة، فالمُعْتَزِلَة يقولون بِوُجوبِ الأَصْلَح، بعضهم يقول بوجوبِ
الصَّلاحِ على الله عز وجل؛ لأنَّ هذا مُقْتَضَى الحِكْمَةِ، وأولئك الجَبْرِيَّةِ بالعَكْس، يقولون: إنَّ الله عز وجل يَخْلُق الشَّيْء بدون سَبَبٍ وبدون حِكْمَةٍ؛ لأنَّك لو أَثْبَتَّ السَّبَب والحِكْمَةَ لزم إيجاد المسبَّبِ أو الفِعل الذي يكون مسبَّبًا لهذا السَّبَب، وهذا يقتضي أن نوجب على الله عز وجل فِعْل الشَّيْء، فما الجواب؟
نقول: إنَّ إثباتَ الحِكْمَةِ أو السَّبَبِ لا يَسْتَلْزِم أن نُوجِبَ على الله، ولكن مُقْتَضَى كَوْنِه حكيمًا أن يَفْعَل وأن يُوجِدَ المسبَّبَ عند وجودِ السَّبَب، ونحن لا نُوجِبُه، ولكن الذي أوجبه على نَفْسِه هو الله بمُقْتَضَى اسْمِه (الحكيم) ووَصْفِه بالحِكْمَة، وإيجابُ الله على نَفْسِه ليس بِمُمْتَنِع كما أن تَحْريمَه على نَفْسِه ليس بِمُمْتَنِع، وقد قال الله تعالى:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقال تعالى في الحديث القدسي:"يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي"
(1)
.
فلِلَّهِ أن يُحَرِّمَ على نفسه وأن يوجِبَ على نفسه ما شاء، أمَّا نحن فلا، فإذا قيل مثلًا: هذا مَصْلَحَةٌ فإننا نقول: نعم، ونَلْتَزِم بهذا، ولكن هل نحن الذين أَوْجَبْناه على الله؟
الجواب: لا، بل الله هو الذي أَوْجَبَه على نفسه، وهذا لا ينافي كَمالَه، بل هو من مُقْتَضَى كَمالِهِ، إلا أنَّ المَحْذورَ هنا في هذا الباب أن نَظُنَّ أنَّ المَصْلَحَةَ في كذا، وحَقيقَةُ الأَمْرِ أنَّ المَصْلَحَة في عَدَمِه، هذا هو الذي يُخْشَى منه، وحينئذٍ نَعْتَقِدُ أنَّ هذا واجِبٌ على الله وهو لم يَجِبْ، نعتقد أنَّه واجبٌ على الله بمُقْتَضَى فَهْمِنا أنَّ هذا مَصْلَحَةٌ وخَيْر ثم نوجِبُه على الله، هذا هو المَحْذورُ.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم (2577)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
أمَّا إذا تحَقَّقَت المَصْلَحَةُ فلا مانع من أن نقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى أوجب على نفسه أن تكون المَصْلَحَةُ؛ لأنَّ هذا هو مُقْتَضَى اسْم الله (الحكيم)، وفي هذه الحالِ لم يَحْصُلْ منَّا أيُّ عُدْوانٍ أو ظلم، بل قلنا بمُقْتَضَى حِكْمَةِ الله سبحانه وتعالى.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بَيانُ قُدْرَة الله عز وجل بإخْراجِ هذه الثَّمَراتِ المُخْتَلِفَةِ الألَوْانِ مع أنَّها في أَرْضٍ واحِدَة وتُسْقَى بماءٍ واحِدٍ، ويظهر ذلك لك جليًّا إذا نظَرْتَ إلى الزُّهور كيف تَجِدُ هذا الإختلافَ العَجيبَ بَيْنها مع أنَّها تُسْقى بماءٍ واحِدٍ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: الحِكْمَةُ في اختلاف هذه الثَّمَرات؛ لأنَّه لو كانَتْ هذه الثَّمَراتُ طَبيعَتُها واحِدَةٌ لمَلَّ النَّاسُ منها ولم يَحْصُلْ لهم كَمالُ اللَّذَة، فإذا اخْتَلَفَتْ حَصَلَ كمالُ اللَّذَة وعدم المَلَل والسَّآمة.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: بَيانُ قُدْرَةِ الله عز وجل ورَحْمَتِه وحِكْمَتِه فيما نرى في الجبال من الجُدَدِ المُخْتَلِفَة؛ لأنَّ هذا دليلٌ على القُدْرَة؛ حيث جعل هذا بين هذا، ودليل على الحِكْمَة؛ لأنَّ الغالِبَ أنَّ ما في بطون هذه الجبالِ يكون مَعادِنَ مُفيدَةً للإِنْسَان، كذلك بيانُ الرَّحْمَةِ بالخَلْقِ لِإيداعِ هذه الأَشْياءِ في بطون هذه الجِبالِ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: بَيانُ قُدْرَةِ الله عز وجل؛ حيثُ إنَّه يَجْعَلُ بَعْضَ الجبالِ فيها السَّوادُ الخالِصُ، وقد يكون الجَبَلُ كُلُّه أَسْوَدَ، وأحيانًا نرى جبلًا أَسْوَدَ وإلى جانبه جبلًا أَبْيَضَ، فهذا كُلُّه من تمَامِ قُدْرَة الله عز وجل.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: ما يَتَرَتَّب على النَّظَر في هذه المَخْلوقاتِ من الإعْتِبارِ والإسْتِدْلالِ بها على ما تَتَضَمَّنُه من صفاتِ الله سبحانه وتعالى.
* * *