الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لمِا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ"
(1)
؛ أي: الأمانِيَّ، وهذا الحديث وإن كان فيه ما فيه من حيثُ الصِّحَّة، لكنَّ معناه صحيحٌ بلا شَكٍّ، فإنَّ الكَيِّسَ الحازِمَ هو الذي يَعْمَل لمِا بعد المَوْت.
فَقَوْله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: ولا يَخْدَعَنَّكُم بالله في حِلْمِه وإمهاله، وغير ذلك مِمَّا يَتَعَلَّقُ بأَفعالِهِ وأحكامِهِ.
وَقَوْله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: الخادِعُ وهو الشَّيْطانُ؛ قَوْل المُفَسِّر رحمه الله: [الشَّيْطانُ] هذا اسْمٌ للشَّيْطان (إِبْليسُ) وهو مُشْتَقٌّ من شاطَ يَشِيطُ إذا غَضِبَ، أو من شَطَنَ يَشْطِنُ إذا بَعُدَ، والوَصْفان ثابتانِ للشَّيْطانِ؛ لأن عِنْدَه طَيْشًا وسُوءَ تَصَرُّفٍ، كالذي يَشيطُ غضبًا، وهو أيضًا شاطِنٌ؛ أي: بعيدٌ عن رَحْمَةِ الله عز وجل، فإنَّ الله عز وجل لَعَنَه فقال:{وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 78].
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أَهَمِّيَّة التَّصْديقِ بِوَعْدِ الله عز وجل، وَجْهُ ذلك أنَّه صَدَّرَه بالنِّداء، فقال:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الكُفَّارَ مخُاطَبونَ بالفُروعِ؛ لأنَّ الخِطابَ هنا عامٌّ، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ وَعْدَ الله لا بُدَّ أن يَقَعَ؛ لأَنَّه خَبَرٌ من صادِقٍ قادِرٍ؛ لِقَوْله تعالى: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: صِدْقٌ في حال الخَبَرِ عنه، واقِعٌ في حال إيقاعِهِ.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 124)، والترمذي: كتاب صفة القيامة، رقم (2459)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الموت، رقم (4260)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّه يَجِبُ على الإِنْسَان ألَّا يَرْتَبِطَ بالدُّنْيا مهما حَصَلَ له من زَهْرَتِها ونَعيمِها؛ لِقَوْله تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ من اغَتَرَّ بالدُّنْيا فإنَّه مَخْدوعٌ؛ لِقَوْله تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ} أي: تَخْدَعَنَّكم؛ لأنَّ العاقِلَ لا يَنْخَدِعُ بذلك.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: الإشارَةُ إلى وجوبِ العِنايَةِ بالآخِرَة؟ لِقَوْله تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فإذا نُهينا عن الحَياةِ الدُّنْيا، فمعناه أنَّنا نُلْزَمُ أو نُؤْمَرُ بالعنايَةِ بالآخِرَة؛ لأنَّها في الحَقيقَةِ هي المُنْتَهى، أمَّا هذه الدُّنْيا فإنَّ الإِنْسَانَ يَمُرُّها عابرًا فقط، حتى القُبُور التي يبقى فيها الإِنْسَانُ مِنَ السَّنَواتِ لا يَعْلَمُها إلا اللهُ هي مَحلُّ عُبُورٍ، قال الله تعالى:{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2] سَمِعَ أعرابِيٌّ فتًى يَقْرَأُ هذه الآيَةَ، فقال:(والله ما الزَّائِرُ بِمُقيمٍ) أو (إنَّ الزَّائِرَ لظاعِنٌ)؛ لأَنَّه قال: {حَتَّى زُرْتُمُ} والمعروف أنَّ الزَّائِرَ يَبْقى مُدَّةً ثم يَنْصَرِف.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: دُنُوُّ الدُّنْيا مَرْتَبَةً ودناءتُها؛ لِقَوْله تعالى: {الدُّنْيَا} فهي وإن كانت حياةً لكنها دُنْيا، ويَسْتَلْزِمُ ذلك الثَّناءَ على الآخِرَة؛ لأنَّ وَصْفَ الضَّرَّة بالعَيْبِ يدلُّ على وَصْفِ ضَرَّتِها بالكَمالِ، قال الله تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17].
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: جوازُ تَنَعُّمِ الإِنْسَانِ بالدُّنْيا على وجهٍ لا تَغُرُّه؛ لِقَوْله تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ} ولم يَقُلْ: (فلا تَتَنَعَّمُوا في الدُّنْيا بشَيْءٍ)، بل قال:{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: عِظَمُ الخَطَرِ من كثرة المالِ ويُسْرِ العَيْشِ؛ لأنَّ هذا قد يَخْدَعُ المَرْءَ، قال النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: "فَوَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكَنِّي أَخْشَى أَنْ
تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ"
(1)
.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: وُجُوبُ الحَذَرِ من الشَّيْطانِ ووَساوِسِه؛ لِقَوْله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وسواءٌ كان الشَّيْطانُ إنسيًّا أم جنيًّا؛ لأنَّ الشَّيْطانَ الإنْسِيَّ يَغُرُّ الإِنْسَانَ كما يَغُرُّه شيطانُ الجِنِّ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الحَذَرُ الشَّديدُ من هذا الذي يَغُرُّنا؛ من شياطينِ الإِنْسِ والجِنِّ؛ لأنَّه وَصَفَه بِقَوْله تعالى: {الْغَرُورُ} والغَرورُ - كما سبق - إمَّا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وإمَّا صيغَةُ مُبالَغَةٍ.
* * *
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، رقم (6425)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، رقم (2961)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه.