الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البَعيدَةِ إلا بواسطَةِ هذه البواخِرِ التي تَحْمِلُ الشَّيْء الكَثيرَ، هذا من فَضْلِ الله عز وجل، لأنَّه قال:{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} .
وثانيًا: قَوْله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فإنَّ (لَعَلَّ) هنا حتى نَسْتَعْرِضَ المعاني التي تأتي لها (لعل) فـ (لعل) تأتي للتَّرَجِّي، وتأتي للتَّوَقُّع، وتأتي للإشْفاقِ، وتأتي للتَّعْليلِ، فلأيِّ المعاني كانت في هذه الآيَةِ؟
الجواب: للتَّعْليلِ؛ لأنَّها لأَجْلِ أن تذكروا الله عز وجل، إذا رَأَيْتم هذه البواخِرَ تَمْخُر الماءَ وتأتي بالأَرْزاقِ من ناحيةٍ إلى ناحِيَةٍ، فإن هذا يَسْتَوْجِبُ أن تشكروا الله سبحانه وتعالى على هذه النِّعْمَةِ.
والشُّكْرُ قال العُلَماءُ رحمهم الله في تَفْسيره: هو القِيامُ بطاعَةِ المُنْعِمِ؛ اعترافًا بالقَلْبِ، وتَحَدُّثًا باللِّسانِ، وطاعةً بالأَرْكانِ، فمَواضِعُه ثلاثة: القَلْب، واللِّسانُ، والجوارِحُ؛ ولهذا قال الشَّاعِرُ:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً
…
يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ المُحَجَّبَا
(1)
فهذا الشُّكْرُ يكون بهذه المواضِعِ الثَّلاثَةِ، والحَمْدُ يكون باللِّسانِ، فمُتَعَلَّقُ الشُّكْر أعَمُّ وسَبَبُه أخَصُّ، ومُتَعَلَّقُ الحَمْدِ أَخَصُّ وسَبَبُه أَعَمُّ؛ لأنَّ الحَمْدَ يكون في مُقابَلَةِ النِّعْمَةِ، ويكون في مُقابَلَةِ كَمالِ المَحْمودِ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ الأَشْياءَ المُتَّفِقَة لا يُمْكِن أن تكون مُتَساوِيَةً؛ لِقَوْله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} .
(1)
غير منسوب، وانظره في غريب الحديث للخطابي (1/ 346)، والفائق للزمخشري (1/ 314).
يَتَفَرَّعُ من هذه الفائِدَة: أَنَّه لا يُمْكِنُ التَّسْوِيَة بين الرَّجُلِ والمَرْأَة في الحُقُوقِ ولا في غَيْرها؛ لأنَّ تَكْوينَ خِلْقَةِ المَرْأَة مُخْتَلِف عن تكوينِ خِلْقَة الرَّجُلِ؛ ولهذا جعل الله للمَرْأَةِ أعمالًا تليقُ بها وللرَّجُلِ أَعْمالًا تليقُ به.
فقد سألَتْ عائِشَةُ النَّبِيَّ عليه الصلاة والسلام: هَلْ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ جِهَادٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لَا قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ وَالعُمْرَةُ"
(1)
.
وقال النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام: "لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأةً"
(2)
، ونهى النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام عن تَزْويجِ المَرْأَةِ نفسها
(3)
، وفي الميراثِ جَعَلَ للمَرْأَةِ نِصْفَ الرَّجُل إذا كان من جِنْسِها كالإِخْوَة والأَوْلادِ، وهل الأعمامُ كذلك؟
الجواب: لا؛ لأنَّ العَمَّةُ لا تَرِثُ، فلو هلك هالِكٌ عن عَمِّه وعَمَّتِهِ، فإنَّ العَمَّةَ لا تَرِثُ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيَانُ قُدْرةِ الله سبحانه وتعالى؛ حَيْثُ جعل من هذا الماءِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ المُتَباعِدَيْنِ هما بَحْرانِ من الماء؛ أَحَدُهُما: عذبٌ فراتٌ سائغٌ شَرابُه، والثاني: مِلْحٌ أُجاجٌ، فهما شَيْءٌ واحِدٌ، ومع ذلك يَخْتَلِفانِ هذا الإختلافَ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ الماءَ العَذْبَ يكون سائِغَ الشُّرْبِ، وعَكْسُه الماءُ المالِحُ.
ويتفَرَّعُ على ذلك: أنَّه لا يَنْبَغي للإِنْسَانِ أن يَشْرَبَ ما لا يَسْتَسيغُه؛ لأنَّ ذلك
(1)
أخرجه الامام أحمد (6/ 165)، وابن ماجه: كتاب المناسك، باب الحج جهاد النساء، رقم (2901)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر، رقم (4425)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه ابن ماجه: كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، رقم (1882)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
يؤثِّرُ عليه ويَضُرُّه، كما أنَّه لا مانِعَ من أن يتناولَ ما تَشْتَهيهِ نَفْسُه وإن كان في بَعْضِ الحالات ضَرَرًا عليه.
وقد ذكر ابنُ القَيِّمِ رحمه الله في (زادِ المعادِ)
(1)
أنَّ في طَلَبِ النَّفْسِ الشَّيْءَ أثرًا كبيرًا في انتفاءِ مَضَرَّتِه، وضرب لذلك مَثَلًا كما أظُنُّ (المَيْتَة خَبيثَة مُضِرَّة) فإذا اضْطُرَّ الإِنْسَانُ إليها واشْتَدَّتْ حاجَتُه وضَرُورَتُه صارَتِ النَّفْسُ تَقْبَلُها وتَسْتَسيغُها، ثم تَهْضِمُها فلا تَضُرُّها؛ لأن المَيْتَة لو كانت تَضُرُّ المُضْطَرَّ ضَرَرَ غَيْرِ المُضْطَرِّ، لكان حِلُّها له يَتَضَمَّنُ قَتْلَ نَفْسِه؛ ولذلك لو اضْطُرَّ إلى أكلٍ وليس عِنْدَه إلا سُمٌّ لم يَحِلَّ له أن يأكُلَ السُّمَّ.
وضرب مثلًا لذلك أيضًا بقِصَّةِ صُهَيْبٍ الرُّومِيِّ كان أَرْمَدَ؛ أي: تُؤْلِمُه عَيْنُه من رمدٍ كان بها، فَجِيءَ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ، فأكَلَ منه النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام وذهب صُهَيْبٌ لِيَأْكُلَ، فقال له النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام:"إنَّكَ أَرْمَدُ"؛ ومَعْروفٌ أنَّ الذي في عَيْنِهِ رَمَدٌ لا يأكلُ التَّمْرَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ أَمْضُغُهُ من الجانِبِ الآخَرِ، فمثلًا إذا كان في عَيْنِه اليُمْنَى فيها رَمَدٌ يَمْضُغُه من الجانِبِ الأَيْسَرِ، فضَحِكَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام، وقال له:"كُل"
(2)
لأن نَفْسَه الآن كانت تَطْلُبه طلَبًا قويًّا، وهذا الطَّلَبُ يُزيلُ الضَّرَر.
فالمُهِمُّ أنَّ الشَّيْء الذي لا يُسْتَساغُ لا يَنْبَغي للإِنْسَانِ أن يَتَناوَلَه ويُكْرِه نَفْسَه عليه؛ ولهذا قيل: (كُلْ ما يَشْتَهي بَطْنُك، ولا تَأْكُلْ ما يَشْتَهي فمُك)، وهل هذا يَصِحُّ أو لا يَصِحُّ؟
الجواب: يَصِحُّ؛ لأن بعضَ النَّاسِ يَتَلَذَّذُ بنوعٍ من الطَّعامِ لكن باطِنُه لا يَقْبَلُه،
(1)
زاد المعاد (4/ 97).
(2)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 61)، وابن ماجه: كتاب الطب، باب الحمية، رقم (3443).
تَجِدُه إذا أكَلَه يُقْرِقُر بَطْنُه، نقول: لا تَأْكُل هذا، ولوِ اشْتَهَيْتَ الأَكْلَ؛ لأنَّ هذا ضَرَرٌ عليك.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بَيانُ نِعْمَةِ الله سبحانه وتعالى على عِبادِهِ بما يَسْتَفيدونَه من هذه البِحارِ من اللُّحومِ؛ لِقَوْله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} بدون مَشَقَّة وبدون تَعَبٍ، ومع ذلك فإنَّ لُحُوم السَّمَك من أَحْسَنِ اللُّحومِ، وكذلك نِعْمَةُ الله عز وجل لمِا نَسْتَخْرِجه من هذه البِحارِ من الحِلْيَة التي نَلْبَسُها.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: بَيانُ الفرق بين تَناوُلِ اللُّحومِ من هذه البحارِ وتناوُلِ الحُلِيِّ؛ لأنَّه قال في اللحوم: {تَأْكُلُونَ} ولم يَذْكُرِ العلاجَ الذي نتوصَّلُ به إلى هذا الأكل؛ لأنَّه سَهْلٌ هَيِّنٌ لا يُذْكَر، لكنْ في الحِلْيَة قال:{وَتَسْتَخْرِجُونَ} لأنَّها تَحْتاجُ إلى مَشَقَّة ومُعاناة.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: بَيانُ قُدْرَة الله عز وجل بِحَمْل هذا الفُلْك الثَّقيلِ المَمْلوء بالبَضائِعِ على مَتْنِ الماء، ومع ذلك يَسْتَطيعُ أن يَدْفَعَ الماءَ ويَمْخُرُه؛ لِقَوْله تعالى:{وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} وإلا فإنَّ الماءَ ثَقيلٌ، وليس بالهَيِّنِ؛ ولهذا عندما يسبح الإِنْسَانُ في الماء يَحْتاجُ إلى قُوَّةٍ حتى يَدْفَعَ الماء، لكنَّ هذه السُّفُن تَمْخُر الماء، ويَظْهَرُ أَثَرُ هذه النِّعْمَةِ إذا تذكَّرَ الإِنْسَانُ السُّفُن القديمةَ التي تجري بالرِّياحِ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: بَيَانُ نِعْمَة الله علينا بِنَيْلِ ما نَطْلُبه من فَضْلِه بواسِطَةِ هذه البواخِرِ؛ لِقَوْله تعالى: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أَنَّه يَنْبَغي للإِنْسَانِ أن يَفْعَلَ الأَسبابَ التي يَتَوَصَّلُ بها إلى المَقْصودِ؛ لِقَوْله تعالى: {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أمَّا أن يقول: (أَبْقى في بَيْتي ورِزْقي يَأْتِيني)، ويقول:(إنَّه مُتَوَكِّلٌ على الله)، هل نوافِقُه على قَوْله؟
الجواب: لا، نقول له: لو كُنْتَ مُتَوَكِّلًا على الله لا تكونُ مُتَواكلًا، ففَرْقٌ بين التَّواكُل والتَّوَكُّل، افْعَلِ الأَسبابَ، هذا النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام سَيِّدُ المُتَوَكِّلينَ، ومع ذلك كان يَفْعَلُ الأَسْباب الجاذِبَة للخَيْرِ الدَّافِعَةَ للشَّرِّ.
إذن: ابتغوا فَضْلَ الله، وافْعَلوا السَّبَب؛ فإنَّ السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذهبًا ولا فِضَّة، وإنَّما يأتي الرِّزْقُ بِطَلَبِ الإِنْسَانِ، والأَمْرُ أَظْهَرُ من أن يَحْتاج إلى أمثلة، وإلا لمَثَّلْنا بِمِثالٍ من أقْرَبِ ما يكون.
فإن قال قائِلٌ: إذا كان اللهُ قد قَدَّرَ لي ولدًا فَسَيأْتِيني، ولم يَتَزَوَّجْ، نقول: هذا كَلَامُ رَجُلٍ مَجْنونٍ؛ إذ كيف يُمْكِنُ أن يَأْتِيَك الوَلَدُ وأنت لم تَتَزَوَّجْ؟ ! ما علمنا أنَّ الأولادَ تَنْبُتُ من الصلائِبِ أبدًا، ولكن تأتي بفعل أَسْبَابِها كالزَّواجِ مثلًا، وهكذا أيضًا الرِّزْقُ يَحْتاجُ إلى طَلَبِه؛ ولهذا قال:{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: وُجُوبُ شُكْرِ نِعْمَةِ الله سبحانه وتعالى؛ لِقَوْله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} فإنَّ الله جعل هذه النِّعَم وسَخَّرَها تَسْخيرًا لَنا لِنَقُومَ بِشُكْرِه سبحانه وتعالى، وقد تَقَدَّم أنَّ الشُّكْرَ مَوْضِعُه اللِّسانُ والقَلْبُ والجَوارِحُ.
* * *