الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (11)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11].
* * *
لمَّا بيَّن سبحانه وتعالى ما سبق من الآياتِ الدالَّة على قُدْرَتِهِ من إِرْسالِ الرِّياحِ، وإِثارَةِ السَّحَابِ، وسَوْقِه إلى الأَرْض المَيِّتَة، وإحياءِ الأَرْضِ بعد مَوْتِها، وأنَّ الأعمالَ من أَقْوَالٍ وأفعالٍ تُرْفَعُ إلى الله عز وجل.
قال هنا: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وهذا باعتبارِ الأَصْلِ الذي هو آدَمُ؛ ولهذا قال المُفَسِّر رحمه الله: [بِخَلْقِ أبيكُم آدَمَ منه] أي: إِنَّ الله تعالى خَلَقَه من ترابٍ، وهذه الآيَةُ فيها أنَّ الله خَلَقَه من تراب، وفي آيَةٍ أخرى أنَّه خَلَقَه من طينٍ، وفي آيَةٍ ثالثة أنَّه خَلَقَه من صَلْصَالٍ من فَخَّارٍ، وفي آيَةٍ رابِعَة: من حَمَأٍ مَسْنونٍ، فما هو الجوابُ عن هذا التَّغَيُّر؟
الجواب: أنَّ هذا تَغَيُّر أوصافٍ، وليس تَغَيُّرَ ذواتٍ وحينئذٍ فلا تناقُضَ؛ إذ يَجوزُ أن تَتَعَدَّدَ الأَوْصافُ على مَوْصوفٍ واحِدٍ، قال الله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 1 - 4] مع أنَّه واحِدٌ.
الحاصِلُ: أن يقال في هذا التَّغَيُّر: إنَّ هذا تَغَيُّرُ أَوْصافٍ وليس تَغَيُّرَ ذواتٍ
وأعيانٍ، فالعَيْنُ واحِدَة، لكنَّ أَوَّلَها التراب، فإذا أُضيفَ إليها الماءُ صارت طينًا، فإذا أُطْرِي وأَخَذَ مُدَّةً صارت حَمَأً مَسْنُونًا مُتَغَيِّرًا؛ يعني الطِّينُ إذا أَكْثَرْتَ فيه الماءَ تَجِدُه يَسْوَدُّ وتكون له رائِحَة، والرَّابِعُ من صلصالٍ كالفَخَّارِ هذا بعد أن كان حَمَأً مَسْنُونًا يَبِسَ وصار صَلْصالًا كالفَخَّار، ثم نَفَخَ الله فيه الرُّوحَ، فيكون هنا التَّغَيُّر تَغَيُّرَ أوصافٍ، والأَصْلُ فيه التُّرابُ.
قَوْله تعالى: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أتى بـ (ثم) الدالَّةِ على التَّراخي والتَّرْتيب؛ لأن (ثم) تدلُّ على التَّراخي والتَّرْتيب، و (الفاءُ) تَدُلُّ على التَّرْتيبِ بدون تراخٍ، هنا قال:{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} لأنَّه لمَّا خَلَقَ سبحانه وتعالى آدَمَ وخَلَقَ ذُرِّيَّتَه تَناسَلَتْ هذه الذُّرِّيَّة بواسِطَةِ هذا الماء الذي هو النُّطْفة، والنُّطْفة هي الماء القَليلُ.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: مَنِيٍّ بِخَلْقٍ ذُرِّيَّتِه منها]؛ أي: من هذه النُّطْفَة، والغَريبُ أنَّ هذه النُّطْفَة القَليلَةَ يَذْكُر عُلَماءُ الطِّبِّ أنَّها تَشْتَمِل على ملايينَ من الحيواناتِ المَنَوِيَّةِ، وهذه النُّطْفَة التي يَزْعُمونَ أنَّها ملايينُ - وهم أعلم منا بذلك - لا يَصْلُح منها إلا واحِدٌ في الغالِبِ، أو اثنان، أو ثلاثة، أو أربعة، هذا أنْهى ما سَمِعْت، أنَّه يُولَدُ للمَرْأَةِ أَرْبَعَةُ أولادٍ في بطنٍ واحِدَة، واللهُ على كل شَيْءٍ قَديرٌ، قد يَزيدُ في الخَلْقِ ما يشاء.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} ذكورًا وإناثًا].
قَوْله تعالى: {أَزْوَاجًا} فسَّر المُفَسِّر رحمه الله هنا الأَزْواجَ بالذُّكورَةِ والأُنُوثَةِ بِقَرينَةِ قَوْله تعالى: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} الأَزْواجُ هنا باعْتِبارِ الجِنْسَيْنِ: الذَّكَرِ والأنثى، ويؤيِّدُ تَخْصيصَ الأَزْواجِ هنا بالذُّكُورَةِ والأُنُوثَةِ قَوْله تعالى:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} أمَّا إذا نَظَرْنا إلى لَفْظِ أَزْواجٍ فإنَّ الأَزْواجَ بِمَعْناها
الأَصْناف، والأَصْنافُ أَعَمُّ من الذُّكورَةِ والأُنوثَةِ، فإنَّه يَشْمَلُ الشَّقِيَّ والسَّعيدَ، والأَسْوَدَ والأَبْيَضَ، والطَّويلَ والقَصيرَ، وغير ذلك، لكِنَّ الذي جعل المُفَسِّر رحمه الله يَحْمِلُ الكَلَامَ على الذُّكورَةِ والأُنُوثَةِ فقط قَوْله تعالى:{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} .
فاللهُ عز وجل بقُدْرَتِه وحِكْمَتِه جَعَلَ هذه الذرِّيَّة التي خرجت من هذا الرَّجُل الواحِد جعلها ذكورًا وإناثًا لبقاءِ النَّسْل؛ لأنَّه لا يُمْكِن بقاءُ النَّسْل إلا بهذا، وإن كان الله سبحانه وتعالى قادرًا على أن يُبْقِيَ النَّسْل بدون هذا، فإنَّه يقال: إنَّ البَشَرِيَّة منها ما خُلِقَ بلا أمٍّ وأبٍ، ومنها ما خلق من أبٍ بلا أمٍّ، ومنها ما خُلِقَ من أمٍّ بلا أبٍ، ومنها ما خُلِقَ من أبوين؛ فالذي خُلِقَ بلا أمٍّ ولا أبٍ آدمُ، ومن أبٍ بلا أمٍّ حواءُ، ومن أمٍّ بلا أبٍ عيسى، وسائِرُ النَّاس بين أبوينِ من ذكرٍ وأنثى.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} حالٌ؛ أي: مَعْلومةً له].
(ما) هذه شَرْطِيَّة، هنا {مِنْ} حرف جَرٍّ زائِدٌ {أُنْثَى} فاعِلُ {تَحْمِلُ} مرفوعٌ بضَمَّة مُقَدَّرَة على آخره منع من ظهورها التَّعَذُّر، لكنه في الواقِع من حيث اللَّفْظُ مَجْرورٌ لفظًا.
قَوْله: [{أُنْثَى وَلَا تَضَعُ} أي: أنثى {إِلَّا بِعِلْمِهِ} حال؛ أي: معلومةً له] أيْ أُنْثَى تَحْمِل من بني آدم، أو مِنْه ومن غَيْره؟
الجواب: منه ومن غَيْره، ما تَحْمِلُ ولا تضع إلا بعلمه، وهذا كقَوْله تعالى:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59]، فالله عز وجل يعلَمُ ما تحمل كل أنثى في ابتداء الحَمْل وتَطَوُّر الحمْل، ومآلِ الحملِ، وكل ما يَتَعَلَّقُ به؛ ولا تَضَعُ إلا بعلمه،
فأوَّلُ ما ينشأ الحَمْل في الرَّحِم معلومٌ عند الله، وإذا وَضَعَت فهو معلومٌ عند الله عز وجل.
وَقَوْل المُفَسّر رحمه الله: [حال] يعني أنَّ الجارَّ والمَجْرور في مَوْضِعِ نصبٍ على الحال، فمَعْنى {إِلَّا بِعِلْمِهِ} قال: إلا مَعْلومَةً له، ويُمْكِن أن نقول: لا حاجة إلى هذا التأويلِ، بل نقول: إنَّ الباءَ هنا للمُصاحَبَة والمقارَنَة؛ أي: لا يَحْصُل الحَمْل ولا الوَضْع إلا مقرونًا بعِلْم الله عز وجل.
ونضيف إلى ذلك أيضًا أنَّه بعلمه وإرادته، لكنْ سَنَأْخُذ - إن شاء الله - من الفوائِدِ هنا أنَّ فيها دليلًا على أنَّ من أَثْبَتَ العِلْمَ لزم أن يُثْبِتَ الإِرادَة؛ ولهذا قال أَهْل السُّنَّة - الشافعي وغيره - بالنِّسْبَة للقَدَرِيَّة:"ناظِرُوهُم بالعِلْم، فإن أنكروه كَفَروا، وإن أَقَرُّوا به خُصِمُوا"
(1)
إن قالوا: (الله لا يَعْلمُ عن عباده) كفروا، وإن قالوا: يعلم خُصِمُوا؛ لأنَّه إذا عَلِمَ ذلك، فإما أن يَقَعَ الشَّيْءُ على خلاف مَعْلُومِهِ أو على وِفاقِهِ، فإن كان على وِفاقِهِ فبإرادَتِه، وإن كان على خِلافِهِ فقد أنكروا العِلْمَ؛ أي: إنَّهم بهذا يُنْكِرون العِلْمَ.
قَوْله رحمه الله: [{وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّر} أي: ما يُزادُ في عُمُرِ طَويلِ العُمُرِ {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي: ذلك المُعَمَّر أو مُعَمَّر آخَر {إِلَّا فِي كِتَابٍ} هو اللَّوْحُ المَحْفوظُ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هَيِّنٌ].
{وَمَا} هذه نافِيَةٌ أيضًا بدليل قَوْله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} ودليلٌ آخر؛ قَطْعُ الفِعْل عنها، قَوْله تعالى:{يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} مَعْنى التَّعْميرِ: الزِّيادَةُ في العُمُر؛ أي: لا يُزادُ في عُمُرِ أحدٍ ولا يُنْقَصُ من عُمُرِه إلا في كِتَاب.
(1)
انظر: شرح العقيدة الطحاوية (ص 247).
فَقَوْله تعالى: {مِنْ مُعَمَّرٍ} : {مِنْ} هذه زائِدَةٌ داخِلَةٌ على نائب الفاعِلِ، فنقول في {مُعَمَّرٍ}: نائبُ فاعلٍ مرفوعٌ بضَمَّة مُقَدَّرَة على آخِرِه منع من ظهورها اشْتِغالُ المَحَلِّ بِحَرَكةِ حرف الجَرِّ الزَّائِدِ.
وَقَوْله تعالى: {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} هنا يقول: {مِنْ عُمُرِهِ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [أي: ذلك المُعَمَّر أو مُعَمَّر آخر] أمَّا كَوْنُ الضَّميرِ في قَوْله تعالى: {عُمُرِهِ} يعود على مُعَمَّرٍ آخَرَ فهذا لا إشكال فيه؛ لأنَّه يكون مُعَمَّرًا فيكون الثاني ناقِصًا، لكنَّ الإشكال إذا قلنا: إنَّ الضَّميرَ يعود على المُعَمَّر نَفْسِه فكيف يكون معمَّرًا وهو في الوقت نَفْسِه منقوصٌ من عمره؟
الجواب: هذا مَحَلُّ إشكالٍ فيما يظهر؛ قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} لِنَفْرِضْ أنَّه زَيْدٌ، {وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} إذا قلنا: الضَّميرُ يعود على ذلك المُعَمَّر صار يعود على (زَيْد) فيكون زيدٌ مُعَمَّرًا مَنْقُوصًا من عُمُرِه، إذا قلنا: إنَّه عائِدٌ على مُعَمَّرٍ آخر {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} أي: من عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ، لا يلزم الأوَّلُ؛ صار النَّقْصُ يعود على شَخْصٍ آخر، فعِنْدنا زيدٌ مُعَمَّرٌ، وعَمْرٌو مَنْقُوصٌ من عُمُره، فهذا لا إشكال فيه.
لكنَّ الإِشْكالَ الأوَّلَ: اختلف المُفَسِّرون رحمهم الله في تَوْجِيهِه؛ فقال بعضهم: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} إنَّ النَّقْص هنا في مُقابِلِ الزِّيادَة؛ لأنَّ الإِنْسَان كلَّما تقدَّم يومًا في الدُّنْيا نَقَصَ عُمُره باعتبارِ آخِرِ عُمُره؛ مثلًا الذي له عَشْرُ سَنواتٍ فإذا صار له إحْدَى عَشْرَةَ، وقُدِّرَ أَنَّه سيموت في عِشرينَ سَنَة، فهذا نَقْصٌ، لأنَّه كُلَّما زاد من وَجْهٍ نَقَصَ من وجهٍ آخر.
فالمَعْنى: أنَّه يُكْتَبُ نَقْصُه كما تُكْتَبُ زيادَتُه؛ فيُكْتَب مثلًا: (فلانٌ بَلَغَ من العُمُر
عَشْرَ سنين، ونَقَصَ من عُمُرِه؛ يعني: من آخِرِ عُمُرِه عشر سنين؛ بلغ إحدى عَشْرَةَ، ونَقَصَ من عمره إحدى عَشْرَة، فبقِيَ تِسْعٌ وهكذا، وإلى هذا ذهب بعضُ التَّابعينَ رحمهم الله.
ولكِنَّ آخرينَ من أَهْل العِلْم من المُفَسِّرينَ رحمهم الله قالوا: إن هذا حينَ أَخْبَرَ به النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام بقَوْله: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"
(1)
وبيَّنَ أنًّ الإِنْسَان يُنْقَصُ عُمُرُه ويُزادُ بحَسَب صِلَة الرَّحِم؛ مثلما يُنْقَص من عُمُره إذا لم يَصِلْ رَحِمَه، ويُزادُ في عُمُره إذا وَصَله.
والمَعْنى على هذا التَّفْسيرِ: أنَّ زيادَةَ العُمُر أو نَقْصَه مكتوبٌ عند الله عز وجل، فمن قُدِّر له أن عُمُرَه يطولُ بِصِلَة الرَّحِم فسوف يُقَدَّر له أن يَصِلَ رَحِمَه، ومن قُدِّرَ له أن يُنْقَصَ عُمُره بقطيعة الرَّحِم فسوف يكون قاطعًا لِرَحِمِه؛ لأنَّ المُسَبَّباتِ مَرْبوطةٌ بأسْبابِها، معلومةٌ عند الله.
وهذا يُزيلُ عنا الإشكالَ الذي أُشْكِل، أورده بعضُ العُلَماءِ رحمهم الله في هذا الحديث، وحاولوا أن يُفَسِّروا زيادَةَ العُمُرِ بالبَرَكَةِ في عُمُرِ الإِنْسَان، بأنَّ الله إذا أنزل بَرَكةً في العُمُر وإن كان قَصيرًا صار خَيْرًا من عُمُرٍ طويلٍ بلا بَرَكَةٍ، ولكن تقدَّم لنا أنَّ هذا لا يُخْرِجُهم من الإشكال؛ لأنَّ البَرَكَة أيضًا مكتوبةٌ، وكذلك مَحْقُها مكتوبٌ، فلا يُخْرِجُهم ذلك من الإشكال، لا يَخْرُجون من الإشكالِ إلا أن نقول: إنَّ عُمُرَ الإِنْسَان المُطَوَّل بسبب صِلَةِ الرَّحِم قد كُتب، وقد كُتِب أن يَصِلَ رَحِمَه، إِذَن ما الفائِدَة من قَوْل الرَّسُولِ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ
…
؟ ".
(1)
أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق، رقم (2067)، ومسلم: كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم، رقم (2557)، من حديث أنس رضي الله عنه.
الجواب: الفائِدَة من ذلك: الحَثُّ على صِلَةِ الرَّحِم، كما أنَّنا نقول:(من أَحَبَّ أنْ يَدخُلَ الجَنَّة فَلْيَعْمَلْ عملًا صَالِحًا) فلا يقول قائل: إذا كانت الجَنَّة مَكْتوبةً فكيف يَدْخُلُها ولم يَعْمَل؟ كيف إذا عَمِلَ كُتِبَتْ له الجنَّة؟
ونقول: هي مَكْتوبَةٌ من قَبْلِ أن يَعْمَل، لكِنْ قد كُتِبَتْ له الجنَّة وكُتِبَ أن يَعْمَلَ لها عَمَلَها، وعلى هذا كُلُّ ما حصل من تَقْديراتِ الله عز وجل؛ فإنَّ هذا لا يَخْتَصُّ بالعُمُر، الإشكالُ وارِدٌ على الجميع، ولكنَّ الجواب عنه بسيط: وهو أن يقال: إن هذا مكتوبٌ نَتيجةً لهذا السَّبَب، وهو معلومٌ عند الله، أمَّا عندنا فليس بِمَعلومٍ.
إِذَن: يكون أَحْسَنُ ما يشار إليه في الآيَة أنَّ المُرَادَ {مِنْ عُمُرِهِ} أَيُّ مُعَمَّرٍ، وأنَّ الإِنْسَان قد يُزادُ في عمره لسببٍ من الأَسْبَاب، وقد يُنْقَص من عمره لسببٍ آخر.
قَوْله تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ} : {كِتَابٍ} فِعالٍ بمَعْنى مفعولٍ؛ فِفِراشٍ بمَعْنى مفروشٍ، وغِراسٍ بمَعْنى مَغْروسٍ، وبناءٍ بِمَعْنى مَبْنِيٍّ، فكِتَاب بمَعْنى مكتوب، فما هو هذا الكِتَاب؟ قال المُفَسِّر رحمه الله:[هو اللَّوْح المَحْفوظ] وهذا في السَّماءِ، وهو محفوظٌ من عِدَّةِ أَوْجُهٍ:
محفوظ أن ينالَهُ أَحَدٌ؛ لأنَّه خاصٌّ بتَقْديرِ الله عز وجل.
محفوظٌ من أن يُغَيَّر؛ أي: يُبَدَّلَ؛ ولهذا ما كُتِبَ في اللَّوْح المَحْفوظِ فإنَّه سيكون؛ كما قال الله تعالى للقَلَمِ: "اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ"
(1)
.
(1)
أخرجه أحمد (5/ 317)، وأبو داود: كتاب السنة، باب في القدر، رقم (4700)، والترمذي: كتاب القدر، رقم (2155)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.