الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في هذه الآيَة يُبَيِّنُ الله أنَّ هذه الأَصْنَامَ لا تَمْلِكُ نَفْعًا لعابديها، هذا واحد.
ثانيًا: وتزيد عابديها ذُلًّا وخِذْلانًا في المَوْضِع الذي يكونون فيه أَحْوَجَ ما يكونون إلى العِزِّ والنَّصْر {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} .
قَوْله تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} : {وَلَا يُنَبِّئُكَ} أي: يُخْبِرُك. قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَلَا يُنَبِّئُكَ} بأَحْوالِ الدَّارَيْنِ {مِثْلُ خَبِيرٍ} عالِمٍ، وهو الله تعالى]. {وَلَا يُنَبِّئُكَ} هذه جُمْلَة خَبَرِيَّة مَنْفِيَّة؛ يعني لا يُنَبِّئُكَ أَحَدٌ بأَخْبارِ هؤلاء سواءٌ في الدُّنْيا أو في الآخِرَة.
وَقَوْل المُفَسِّر رحمه الله: [بأَحْوالِ الدَّارَيْنِ] هذا واضح، فهو فَسَّرَها على ما هي عليه؛ يعني: لا يُنَبِّئُكَ بأَحْوالِ الدُّنْيا والآخِرَةِ وما يكون لهؤلاء العابدينَ من هذه الأَصْنَامِ لا يُنَبِّئُكَ أَحَدٌ مِثْل من هو خَبيرٌ بالأَحْوالِ، وسُئِلْنَا من الخَبِيرُ بالأَحْوالِ؟
الجواب: الخَبيرُ الله، وهذه الجُمْلَةُ سارَتْ مَسْرَى المَثَل عند العَرَبِ، إذا أرادوا أن يُؤَكِّدوا الشَّيْءَ قالوا:(لا يُنَبِّئُكَ مثل خبير)، أو أحيانًا يقولون:(على الخَبيرِ سَقَطْتَ) يعني: وَصَلْتَ إلى العِلْم اليَقينِيِّ الذي يَصْدُر عن خِبْرَة، إذا كانوا لا يُنَبِّئونَ مِثْل خبير وهو الله وقد أنْبَأَنَا بِحالِ هذه الأَصْنَامِ مع عابديها فهل يليقُ بنا عبادتها ونحن عقلاء؟ !
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَة الأُولَى: بَيانُ قُدْرَةِ الله عز وجل في إيلاجِ اللَّيْلِ في النَّهَار والعَكْس، وذلك لأنَّ أَحَدًا من الخَلْق لا يَسْتَطِيعُ أن يَفْعَلَ ذلك مهما عَظُمَت قُوَّتُه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: بَيَانُ رَحْمَتِه بعِبادِهِ؛ لأنَّ في هذا الإيلاجِ مِنَ المصَالِحِ والمَنافِعِ ما
لا يَحْصُل مع عَدَمِه، وقد ضَرَبْنا مثلًا - فيما سبق - بالذينَ على خَطِّ الإسْتِواء الذين لا يزيد عندهم النَّهَار واللَّيْل، ماذا يكونُ عِنْدَهم من الأمراض والفُتُور في الأجسام وعَدِمِ النَّشَاطِ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: نِعْمَةُ الله عز وجل في تَسْخيرِه الشَّمْسَ والقَمَر لمصَالِحِ العِبادِ؛ لِقَوْلِه تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بَيانُ هاتينِ الآيَتَيْنِ العَظيمَتَيْنِ وهما الشَّمْسُ والقَمَرُ، واللَّيْلُ والنَّهَارُ أيضًا، قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37]، وظُهُورُ الآياتِ فيهما واضِحٌ لمِا فيه من تمَامِ الحِكْمَة والقُدْرَة والرَّحْمَةِ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ يَجْريان؛ أي: يسيران، ففيها ردٌّ على أربابِ الهَيْئَة الجديدَةِ الذين يدَّعون أنَّ الشَّمْسَ والقَمَر لا يَجْريانِ على الأَرْض ولا يَدورانِ عليها.
ونحن قلنا: إنَّه يَجِبُ علينا أن نتَمَسَّك بالظَّاهِرِ ما لم نَجِدْ دليلًا يَقينِيًّا يدلُّ على أنَّ هذا الظَّاهِرِ غَيْرُ مُرادٍ، وحينئذٍ لنا مَساغٌ في مخُالَفَةِ هذا الظَّاهِرِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَضْبوطٌ ومُحْكَمٌ ومُقَدَّر في أجَلٍ مَحدودٍ لا يزيد عليه ولا يتأَخَّر؛ لِقَوْله تعالى: {لِأَجَلٍ مُسَمًّى} وهذا الأَجَل الذي تَسيرُ عليه الشَّمْسُ والقَمَرُ، يقول المُفَسِّر رحمه الله:[إنَّه يومُ القِيامَة] ويُمْكِنُ أن نقول: يَسيرانِ إلى أجَلٍ مُسَمًّى حتى في الفَلَكِ، فمثلًا الشَّمْسُ تَنْزِلُ على مدارِ الجَدْيِ في أيَّامِ الشِّتاءِ، ثم تَتَنَقَّل شيئًا فشيئًا إلى أن تَصِلَ إلى مدار السَّرَطانِ، لا يُمْكِنُ أن تَتَجاوَزَ هذا ولا هذا؛ لأنَّها تسيرُ إلى أَجَلٍ مُعَيَّنِ، فكُلُّ يَوْمٍ محدَّدٌ مكانُ الطُّلوعِ وزَمانُ الطُّلوعِ، وهذا لا شَكَّ أنَّه سَيرٌ إلى أجَلٍ مُسَمًّى.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ فاعِلَ هذه الأشياء هو الله؛ لِقَوْله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} ولا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أن يَفْعَلَه إطلاقًا، ففيه إبطالٌ لِقَوْلِ أَهْلِ الطَّبيعَةِ الذين يقولون: إنَّ اخْتلافَ اللَّيْلِ والنَّهَارِ والشَّمْسِ والقَمَرِ كان بمُقْتَضَى طبيعَةِ الأَفْلاكِ، فيُرَدُّ عليهم بِقَوْله تعالى:{ذَلِكُمُ} أي: فاعِلُ هذا {اللَّهُ رَبُّكُمْ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: عموم مُلْكِ الله لِكُلِّ شَيْء؛ لِقَوْله تعالى: {الْمُلْكُ} و (أل) هنا للعُمُوم، وضابِطُ (أل) التي للعُمُومِ أن يَحُلَّ مَحَلَّها (كُلٌّ)، فإذا صَحَّ أن يَحُلَّ مَحَلَّها (كُلٌّ) فهي للعموم، كما في قَوْلِه تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] فإذا جُعِلْتَ بَدَلَ (أل) كُلٌّ تصيرُ (إنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَفِي خُسْر)، وكقَوْله تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، إذا جُعِلَتْ بَدَلَها (كُلٌّ) تصير (خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ ضعيفًا)، وهنا {لَهُ الْمُلْكُ} هل يَصِحُّ أن يَحُلَّ مَحَلَّها (كل)؟
الجواب: نعم، نقول:(له كُلُّ مُلْك).
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: اختصاص الله تعالى بالمُلْكِ؛ لِقَوْله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ} حيثُ قَدَّم الخبَرَ، وحَقُّه التَّأْخيرُ، وقد تقدَّم في أثناء التَّفْسيرِ الجَمْعُ بين هذه الآيَة وبين إثباتِ المُلْك لغير الله وبَيَّنَّا أنَّه لا تعارُضَ بينهما؛ لأنَّ المُلك الذي لله له شأنٌ والمُلْك الذي للآدَمِيِّينَ له شأنٌ آخَرُ.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ ما يُدْعَى من دون الله لا يَجْلِبُ خيرًا لداعيه بأيِّ وَجْهٍ من الوُجُوهِ؛ لأنَّ الله نفى عنه كلَّ طريقٍ يُمْكِنُ أن يَصِلَ به الخَيْر أو يَنْدَفِعَ به الضَّرَر، فقال:{لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} هذا في انتفاء الخَيْرِ وعَدَمِ إزالَةِ الضَّرَر والشَّرِّ، زِدْ على ذلك أنَّه يومَ القِيامَة يكفرونَ بِشِرْكِ هؤلاء، وهذا ضررٌ أَعْظَمُ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: النِّداء الواضِحُ على سَفَهِ هؤلاء المُشْرِكينَ، وَجْهُه: أنَّهم يَدْعُون ما لا يسمع دُعَاءَهُم، يدعون ما لو سَمِعَ دُعَاءهم - على فَرْضِ التَّقْديرِ - لم يَسْتَجِبْ لهم، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5]، فَقَوْله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ} يعني: لا أَحَدَ أَضَلُّ، وقال تعالى:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] وما هي مِلَّةُ إبراهيم؟ قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] هذه مِلَّة إِبْراهيمَ؛ التَّوْحيدُ وعَدَمُ الشِّرْكِ، فهؤلاء السُّفهاءُ يَدْعُون ما لا يَسْتَجيبُ ولا يَنْفَعُ بل يَضُرُّ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ من تَعَلَّقَ بِغَيْر الله خابَ أَمَلُه؛ لأنَّ هذه الأَصْنَام لا تَنْفَعُهُم في الدُّنْيا ولا تَنْفَعُهُم يوم القِيامَة، إذن خاب أَمَلُهم، هم يقولون:(إنَّما نَعْبُدُهم ليقرِّبونا إلى الله زُلْفَى) ولكن ما قَرَّبوهُم، بل هذه ما زادَتْهُم إلا بُعْدًا، فأَمَلُهم قد خاب، والعياذ بالله، وخَسِروا الدُّنْيا والآخِرَة.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: في قَوْلِه تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} نوعُ هذا الكُفْر هو التَّبَرُّؤُ، فيُسْتَفادُ منه: أنَّ هذه الأَصْنَامَ المَعْبودَة تَتَبَرَّأ من عابديها يومَ القِيامَة، بل إنَّ الله عز وجل يَجْمَعُ الأَصْنَامَ وعابديها ويُلْقيهِم في جَهَنَّم {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} [الأنبياء: 98 - 99] ولَكِنَّها ليسَتْ آلِهَةً، فلا تَنْفَعُ.
فإن قلْتَ: قد يُبْتَلى داعي هذه الأَصْنَامِ فَتَسْتَجيبُ له ظَاهِرًا؛ بمَعْنى أن يَدْعُوَ الصَّنَمَ أن يَشْفِيَه من المَرَضِ الفُلانِيِّ فيُشْفَى، أو أن يَجْلِبَ له الخَيْر الفُلانِيَّ فَيَجْلِبُه، فما هو الجَوابُ؟
نقول: الدُّعَاءُ ما أفاد، لكنَّ الله عز وجل جَعَلَ هذا الشَّيْء يقعُ عند دعائِهِ امتحانًا لهؤلاء العابدينَ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إثباتُ البَعْثِ؛ لِقَوْله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إثباتُ رُبوبِيَّةِ الله سبحانه وتعالى؛ لِقَوْلِه تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: إثباتُ علم الله وإحاطَتِه بِكُلِّ شَيْءٍ، لِقَوْله تعالى:{وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وهل نَأْخُذ منها الرَّدَّ على الجَبْرِيَّة؟
الجواب: نَعَمْ، فهذا مَأْخوذ من قَوْله تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ} .
وهل نأخذ منها أنَّ هذه الأَصْنَام من العُقَلاء؟
الجواب: لا، لَكِنَّها ذُكِرَت على سبيلِ التَّنَزُّل وعلى ذكرها بأكْمَلِ أوصافِها عندهم وهو العَقْل.
* * *