الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقولون: إنَّه سبحانه وتعالى إذا كان فِعْلُ العبد في غَيْر مَشيئَتِه فإنَّه غَيْر قادرٍ عليه؛ لأنَّ اللهَ قادرٌ على ما يشاء فقط.
فلأَجْلِ هذا نقول: إنَّ هذه العِبارَة لا تَنْبَغي، وإن كان صاحِبُها يريد بها معنًى صحيحًا، فقد يُريدُ بها معنًى صحيحًا كما هو ظاهِرُ عبارَةِ كَثيرٍ من المُسْلمينَ الذين يَنْطِقونَ بهذا الشَّيْءِ، ونقول: إنَّ الأكْمَل أن تقول: "إنَّ الله على كُلِّ شَيْء قديرٌ".
فإن قلت: إنَّه ورد في قِصَّةِ آخِرِ من يُدْخِلُه اللهُ الجَنَّة فيقول اللهُ له: لمَّا قال هذا لكَ وعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، قال الله له:"إِنِّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ"
(1)
هذا حديثٌ قدسيٌّ؟
فالجواب: أنَّ هذا في قَضِيَّة مُعَيَّنَة؛ يعني: لو وَقَعَ شَيْء يَسْتَغْرِب الإِنْسَانُ وُقوعَهُ وَيسْتَبْعِدُه، فلنا أن نقول: إنَّ الله تعالى إذا شاء شيئًا فهو قادرٌ عليه؛ بمَعْنى أنَّه فاعِلُه كقَوْله تعالى: {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27] بخلاف القُدْرَة المُجَرَّدَة عن الفِعْل، فإنَّ هذه لا تُقَيَّد بالمَشيئَة.
وظاهِرُ الآيَةِ الكَريمَةِ أنَّ جميعَ المَلائِكَة رسلٌ، فهل هذا الظَّاهِرُ مُرادٌ؟
الجواب: غَيْرُ مُرَادٍ بدليلِ قَوْله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: 75].
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: بَيانُ كَمالِ الله عز وجل؛ حيْثُ أَثْنى على نَفْسِه بالحَمْدِ، وقال:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب آخر أهل النار خروجًا، رقم (186)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ الله عز وجل رحيمٌ بعبادِهِ يُعَلِّمُهم كيف يَحْمَدونَه؛ لأنَّ قَوْله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} خَبَرٌ، لكن معناها الإرشادُ والتَّوجيه؛ كما قال الله تعالى في آيَة أخرى:{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111].
ولهذا ذَهَبَ بعضُ العُلَماء رحمهم الله إلى أنَّه كلَّما جاءت {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فهي على تَقْدير: (قل) حتى قالوا في قَوْله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] المَعْنى: (قل: الحَمْدُ لله).
ولكنَّ الصَّوابَ خلافُ ذلك، وأنَّ هذا خَبَرٌ من الله ونَحْنُ نَتْلوه نُثْنِي به على الله، ولا حاجَةَ إلى أنْ يَأْمُرَنا الله بذلك.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إِثْباتُ اسْمِ (الله) للرَّبِّ عز وجل، وهذا الإسْمُ خاصٌّ به، لا يقال لغيره، وهو أَصْلُ الأَسْماءِ؛ ولذلك تأتي الأَسْماء بعده في الغالِبِ صِفَةً له، ولا تأتي سابِقَةً عليه إلا نادِرًا كما في قَوْلِه تعالى:{إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} [إبراهيم: 1 - 2] وإلا فإنَّ الغالِبَ أنَّ الأَسْماء تأتي تابِعَةً له، فهو أصل الأَسْماءِ؛ ولهذا لا يُسَمَّى به غَيْره أبدًا لا عَلَمًا ولا صِفَةً بأيِّ حالٍ مِنَ الأَحْوالِ.
وهل هو مُشْتَقٌّ أو اسمٌ جامِدٌ؟
الصَّحِيح بلا شَكٍّ: أنَّه مُشْتَقٌّ؛ لأنَّ جَميعَ أَسْماء الله تعالى مُشْتَقَّة؛ بمَعْنى أنَّها دالَّةٌ على المعاني التي أُخِذَتْ منها؛ فهو مُشْتَقٌّ من الأُلُوهِيَّةِ؛ لأنَّ الإشتقاقاتِ تكونُ من المَصْدَرِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ الله عز وجل هو فاطِرُ السَّمَواتِ والأَرْضِ لم يُشارِكْه أحدٌ في ذلك لِقَوْله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: كَمالُ قُدْرَته وحِكْمَتِه؛ حيث ابتدأ خَلْقَ هذه السَّمَواتِ العَظيمَةِ وهذه الأَرْضِ على هذا النِّظامِ البَديعِ من غَيْر أن يَسْبِقَ مثالٌ يَحْتذيهُ وَيقْتَدي به، ومعلومٌ أنَّ مُبْدِعَ الصَّنْعَة يُشْهَدُ له بالخِبْرَة والقُدْرَة؛ لأنَّه أَنْشَأَ شيئًا جديدًا وصارَ هذا الشَّيْءُ الجَديدُ مُنْتَظِمًا على تمَامِ الإنْتِظامِ وغايَةِ الإِحْكامِ فإنَّه يُشْهَد له بالكمالِ والخِبْرَة، ففي كَوْنِه فاطِرَ السَّمَواتِ والأَرْضِ دليلٌ على القُدْرَةِ وعلى الحِكْمَةِ؛ لأنَّه خَلَقَهُما على غَيْر مثالٍ سَبَقَ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ السَّمَواتِ مُتَعَدِّدةٌ، وقد بيَّنها الله تعالى في آيَةٍ أخرى أنَّها سَبْعٌ، وقال:{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المُؤْمِنون: 86]، وأمَّا الأَرْض فذُكِرَت مفْرَدَةً باعتبارِ الجِنْسِ، وهي سَبْعُ أَرَضينَ، والدليلُ من القُرْآنِ قَوْله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، ومن السُّنَّة:"مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ إيَّاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ"
(1)
.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثبات المَلائِكَةِ؛ لِقَوْله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ من المَلائِكَة مَنِ اصْطَفاهُم الله تعالى رُسُلًا إلى الخَلْقِ بالوَحْيِ وغَيْرِ الوَحْيِ؛ لِقَوْله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} .
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّ هؤلاء الرُّسُلَ لهم أجْنِحَة مُتَعَدِّدَةُ الأَصْنافِ ومُتَعَدِّدَةُ الأَعْيان، يعني أنَّها مُتَعَدِّدَةٌ كمِّيَّةً وكَيْفِيَّةً؛ لِقَوْله تعالى:{أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} .
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ فيها إِشَارَةً إلى سُرْعَةِ تَنَقُّلِ المَلائِكَةِ لِقُوَّةِ أجْنِحَتِهم؛ لِقَوْله
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المظالم، باب إثم من ظلم شيئًا من الأرض، رقم (2452)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، رقم (1610)، من حديث سعيد ابن زيد رضي الله عنه.
تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ} وإنَّما قُلْتُ: (لِقُوَّةِ أَجْنِحَتِهم)؛ لأنَّه لولا أنَّ لهذه الأجنحة مَزِيَّة عظيمَةً اسْتَحَقَّتْ أن يُنَصَّ عليها لذُكِرَ غَيْرُ الأَجْنِحَة كالرُّؤوسِ مثلًا، ولكنْ ذَكَرَ الأجنِحَةَ لما فيها من القُوَّة لحَمْلِها هؤلاء المَلائِكَةَ؛ ولأنَّها تكون عند الإرْسالِ أَسْرَعَ، وقد ذكرنا مثالًا لذلك يدُلُّ على أنَّ المَلائِكَة أسْرَعُ من غَيْرها في الطَّيَران في قِصَّة عَرْشِ بِلْقِيسَ.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الله عز وجل يزيدُ على الإثنين والثَّلاثة والأَرْبَعة بما شاء؛ لِقَوْله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الله تعالى فضَّلَ المخلوقاتِ بَعْضَها على بعضٍ؛ لِقَوْله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ} والزِّيادَةُ مُقابِلُها نَقْصٌ.
إذن: فهناك مُفاضَلَةٌ بين المَخْلوقاتِ بعضِها مع بعضٍ، ولكن هل المُرَادُ القُوَّةُ أو كِبَرُ الجِسْمِ أو العقل أو العِلْم أو غَيْر ذلك؟
الجوابُ: العُمومٌ؛ لأنَّه قال: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} فهذا يزيدُهُ قوةً في الجِسْم، وهذا يزيدُهُ قوَّةً في العَقْلِ، وهذا يَزيدُهُ قُوَّةً في الطُّولِ، وهذا يزيده قوةً في العِلْم
…
إلخ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّك إذا وَجَدْتَ من نَفْسِك نَقْصًا في خَلْقِكَ فاطْلُبْ إِكمالَهُ من الله؛ لأنَّ قَوْله تعالى: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} معناه: لا تَسْأَلِ الزِّيادَةَ في خَلْقٍ ولا خُلُقٍ إلا من الله عز وجل؛ لأنَّه هو المانُّ بما يزيد به سبحانه وتعالى.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إِثْباتُ المَشيئَةِ؛ لِقَوْله تعالى: {مَا يَشَاءُ} وقد تَقَدَّمَ أنَّ المَشيئَةَ كلَّما ورَدَتْ وَرَدَتْ معلَّقَةً بالحِكْمَةِ، واسْتَدْلَلْنا لذلك بِقَوْله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإِنْسَان: 30].
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: إِثْباتُ القُدْرَةِ العامَّةِ؛ لِقَوْله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فهو قادِرٌ على أن يَزيدَ في الخَلْقِ ما يشاء وقادِرٌ على الإيجادِ والإِعْدامِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الرَّدُّ على القَدَرِيَّة الذين يزعمون أنَّ أفعالَ العَبْدِ غَيْرُ مَخْلوقةٍ ولا مقدورَةٍ لله؛ لِعُمومِ قَوْلِه تعالى: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وأَفْعالُ العَبْدِ من الأَشياءِ.
* * *