الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويَطْلُبه فاهْتَمَّ لذلك واغْتَمَّ يقال: (تَحَسَّر)، وقيل: إن {حَسَرَاتٍ} مَصْدَرٌ وأنَّه مفعولٌ من أجله، والمَعْنى: فلا تذهب نَفْسُك؛ أي: تَهْلِكْ؛ من أجل الحَسَراتِ عليهم.
قال المُفَسِّر رحمه الله: [{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} على المُزَيَّنِ لهم {حَسَرَاتٍ} باغْتِمامِكَ ألَّا يُؤْمنوا {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فيُجازيهِمْ عليه] في هذه الجُمْلَةِ تَهْديدٌ وتَسْلِيَة؛ تَهْديدٌ لهؤلاء المُخالِفينَ، وتَسْلِيَة للرَّسولِ عليه الصلاة والسلام؛ يعني: لا يُهِمَّنَّكَ أَمْرُهم؛ فإنَّك سائِرٌ مع الله وسوف يُجازيهِم.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أنَّ من النَّاس من يَعْمَى قَلْبُه حتى يرى السَّيِّئَ حَسَنًا، وفي مقابِلِ ذلك يرى الحَسَنَ سَيِّئًا؛ لِقَوْله تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إبهامُ الفاعِلِ لِيَشْمَلَ كلَّ ما يُمْكِن أن يقع منه هذا الفِعْل؛ لِقَوْله تعالى: {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} وقد سبق أنَّ المُزَيِّنُ هو الله عز وجل في الأَصْلِ، والشَّياطينُ في المُباشَرَة.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: انْقِسامُ الأَعمالِ إلى سَيِّئ وصَالِح؛ لِقَوْله تعالى: {سُوءُ عَمَلِهِ} .
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فيها الرَّدُّ على الجَبْرِيَّة؛ لِقَوْله تعالى: {سُوءُ عَمَلِهِ} فأضافَ العَمَل إليه، وهم يقولون: إنَّ الأَعْمالَ لا تُضافُ إلى الإِنْسَان؛ لأنَّه مُجْبَرٍ عليها.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّ مَن هذه حالُهُ لا يستوي مع من ليس كذلك، بحيث يرى السَّيِّئ سيِّئًا والحَسَنَ حَسَنًا، ونأخذها من أنَّ المَحْذُوف يكون مُقابِلًا للمَذْكور؛ لأنَّ الهَمْزَةَ هنا للتَّسْوِيَة؛ يعني:(أَيَسْتَوي هذا وهذا؟ ) والجواب: لا يستويانِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ الِهدايَة والإِضْلالَ بِيَدِ الله، لِقَوْله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: وهي تَتَفَرَّع على هذه الفائِدَة، أنَّنا إذا عَلِمْنا ذلك فإنَّنا نسأل الهِدايَةَ من الله، ونَسْتَعيذُ من الضَّلالِ بالله عز وجل؛ لِقَوْله تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: إِثْباتُ مَشيئَةِ الله عز وجل؛ لِقَوْله تعالى: {مَنْ يَشَاءُ} وقد تَقَدَّمَ أنَّ كلَّ فعلٍ علَّقَه الله بِمَشيئَته فإنَّه مَقْرُونٌ بالحِكْمَةِ، ودليلُ هذا قَوْله تعالى:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30].
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: الرَّدُّ على القَدَرِيَّة؛ لِقَوْله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
فإنَّ القَدَرِيَّة يقولون: إنَّ أفْعالَ العَبْدِ من ضَلَالةٍ أو هِدايَة لا تَتَعَلَّقُ بها مَشيئةُ الله؛ لأنَّ مَذْهَبَ القَدَرِيَّة أنَّ الإِنْسَانَ مُسْتَقِلٌّ بِعَمَلِه، ليس لله تعالى فيه تعلُّقٌ إطلاقًا حتى إنَّ غُلاتَهُم يزعمون أنَّ الله لا يَعْلَمُ عَمَلَ العَبْدِ حتى يقع، ويقولون: إنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ؛ أي: مُسْتَأْنَفٌ؛ أي: إِنَّ عِلْمَ الله عز وجل يحدث بعد أنْ لم يَكُنْ.
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعزَّ مَن أرسلَه كان يَحْزَنُ حزنًا عظيمًا تكادُ تَذْهَبُ نَفْسُه من شِدَّتِه؛ لِقَوْله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} وَجْهُ ذلك أنَّ الأصل في النَّهْي أن يكون عمَّا وقع، وقد يكون عمَّا لم يقع، وهو كثيرٌ أيضًا، ويدلُّ على أنَّ هذا أمرٌ واقِع قَوْلَه تعالى:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: شَفَقَة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على أُمَّتِه.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: أنَّ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لا يَحْزَنُ لِعَدَمِ إيمانهم أو طاعَتَهِم لمصلحته هو ولَكِنْ لمِصْلَحَتِهم؛ لِقَوْله تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَشَرٌ يتأثَّر بما يتأثَّرُ به البشر من أَسْبَاب الفَرَحِ وأَسْبَاب الحُزْن، وهذا أمرٌ واقِعٌ، وقد قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ مَسْرُورٌ، فَقَالَ:"يَا عَائِشَةُ، أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا المُدْلجِيَّ دَخَلَ عَلَيَّ فَرَأَى أُسَامَةَ وَزَيْدًا وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُؤُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ"
(1)
.
ففَرِحَ صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك على وَجْهِه؛ فالأَعْراضُ البَشَرِيَّة من الفَرَح والحُزْن، والغَمِّ والإسْتِبْشارِ، والنِّسيان وعَدَمِ العِلْم، وغير ذلك تطرأ على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كغيره من البَشَر؛ لأنَّه لا يتمَيَّز عن البَشَرِ إلا بشَيْء واحد وهو الوَحْيُ، قال الله عز وجل:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110] وكَلِمَة {بَشَرٌ} تُغْنِي عن {مِثْلُكُمْ} لكن هذا من باب التَّأْكيدِ؛ لئلَّا يَذْهَبَ ذاهِبٌ إلى أنَّه بَشَرٌ قد خُصِّصَ بشَيْءٍ، فقال:{بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ثم ذكَرَ المَيْزَة فقال: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وفي هذا ردٌّ واضِحٌ على أولئك القَوْمِ الذين يدَّعُون أنَّ للنبي صلى الله عليه وسلم تأْثيرًا في الخَلْقِ كتأثير رُبوبِيَّةِ الله عز وجل؛ لأنَّه لو كان كذلك ما ذَهَبَتْ نَفْسُه عليهم حَسَراتٍ، ولهداهم وسَلِمَ من هذه الحَسَراتِ التي تكون على نَفْسِه.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إثبات عِلْمِ الله عز وجل لِكُلِّ ما نَعْمَلُ؛ لِقَوْله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} .
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (3555)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، رقم (1459).
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: عناية الله برسوله صلى الله عليه وسلم في مِثْلِ هذه الجُمْلَة التي تفيد تَسْلِيَتَه وتَهْوينَ الأَمْرِ عليه وأنَّه ما من حسابِ هؤلاء عليه مِنْ شَيْء كما أنَّه ليس من حِسابِهِ هو عليهم من شَيْءٍ.
* * *