المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الآية (32) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا - تفسير العثيمين: فاطر

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (16)

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة (19 - 22):

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌(الآية: 31)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (32)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (34)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (35)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (42)

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (44)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

الفصل: ‌ ‌الآية (32) * * *   * قَالَ اللهُ عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا

‌الآية (32)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: 32].

* * *

كَلِمَة (أَوْرَثَ) هنا نَصَبت مَفْعولَينِ ليس أَصْلُهما المُبْتَدَأَ والخَبَر، وعلى هذا فهي من باب (كسا وأعطى)، والمَفْعولُ الأَوَّل هو {الَّذِينَ} والثاني هو {الْكِتَابَ} فليس الكِتَابُ وارثًا لـ {الَّذِينَ} بل {الَّذِينَ} هم الذين وَرِثُوا الكِتَاب، يعني: أَوْرَثْنا الذين اصطفينا من عبادنا الكِتَابَ، ومَعْنى أورثناهم إياه؛ أي: جَعَلْناهم يَرِثُونَه؛ فالذين اصطفاهم الله أَوْرَثَهُم الله الكِتَاب؛ أي: جَعَلَهُم يَرِثونه.

وكَلِمَة {الْكِتَابَ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [القُرْآن] ويَنْبَغي أن نجعله أَعَمَّ؛ لأنَّنا لو قلنا: (إنَّ الكِتَاب هو القُرْآن)، وقلنا: إنَّه مَوْروثٌ عمَّن سَبَقَنا لكان القُرْآن قد نزل على من سَبَقَنا، وليس الأَمْر كذلك؛ فالمُرَادُ بالكِتَاب هنا الجِنْس، لا خصوصُ القُرْآنِ؛ يعني أنَّ الكُتُب السَّابِقَة كُلُّ ما فيها من الخَيْرِ موجودٌ في القُرْآن، فنحن وَرِثْنا عمَّن سبقنا كلَّ ما أُوتوه من خَيْرٍ، فالأُصُولُ التي تجب على كل مُسْلِمٍ في أيِّ مكانٍ وزمان موجودَةٌ في القُرْآن، والشَّرائِعُ التي تَخْتَلِف باختلافِ الأُمَم وباخْتِلافِ الزَّمانِ والمَكانِ هذه تَخْتَلِفُ عمَّن سبق؛ قد يَجِبُ علينا ما لا يَجِبُ عليهم، وقد يُحَرَّم علينا

ص: 223

ما لا يُحَرَّمُ عليه؛ قال الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، أمَّا الأُصُولُ فقد وَرِثْناها عنهم، فالأصول التي هي أمُّ الدِّينِ قد وَرِثْناها عمَّن سَبَقَنا.

قَوْله تعالى: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} .

{الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} أي: اخْتَرْنا، وهو مَأْخوذٌ من الصَّفْوَة، وأصله (اصْتَفَيْنا) لكن لِعِلَّةٍ تَصْرِيفِيَّةٍ قُلِبَتِ التاءُ طاءً، فقيل:(اصطفينا من عبادنا)؛ أي: اخْتَرْناهم.

وَقَوْله تعالى: {مِنْ عِبَادِنَا} هل المُرَادُ بذلك العُبُودِيَّةُ العامَّةُ أو الخاصَّة؟ يعني الذين اصْطَفَيْناهم من المُؤْمِنينَ، أو اصْطَفَيْناهُم مِنْ جَميعِ العباد؟

الذي يظهر أنَّها من العُبُودِيَّة العامَّة؛ يعني: الذين اختارهم الله تعالى من عباده الذين يَخْضَعون له كَوْنًا، والمُرَاد بهم هذه الأُمَّة، بدليل قَوْله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] فالذين اصْطَفَاهم الله من عباده هم هذه الأُمَّةِ للآيَةِ التي سُقناها وهي في آل عمران، ولدليلٍ آخَرَ من هذه الآيَةِ نَفْسِها؛ لأنَّ هذه الأُمَّةَ هي آخِرُ الأُمَم، إذن فلا يُمْكِن أن يُورَثَ ما عندها من الكِتَاب، فهي وارِثَةٌ غَيْر موروثة، وإذا كانت وارِثَةً غَيْر مَوْروثة فهي التي اصْطُفِيَت.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} بالتَّقْصيرِ في العَمَلِ به]؛ أي: بالكِتَابِ {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} يَعْمَلُ به أَغْلَبَ الأَوْقاتِ {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} يَضُمُّ إلى العَمَل التَّعْليمَ والإِرْشادَ إلى العَمَلِ {بِإِذْنِ اللَّهِ} بإرادته].

قسَّم الله تعالى هذه الأُمَّة التي أورثها الكِتَابَ إلى ثلاثة أقسام، وبدأ بالأقل في المَرْتَبَة فالأَقَلِّ، فقال تعالى:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} .

ص: 224

فالظَّالِم لِنَفْسِه هو الذي ترك شيئًا من الواجِباتِ أو فَعَلَ شيئًا من المُحَرَّمات؛ ترك صلاةَ الجَماعَةِ مع وُجُوبِها عليه، تَرَكَ بَعْضَ الزَّكاة لم يُخْرِجْه، ترك الحَجَّ على الفَوْر مع وُجُوبه عليه على الفَوْرِ، هذا نقول: إنَّه ظالِمٌ لِنَفْسِه؛ فَعَلَ المُحَرَّماتِ، شَرِبَ الخَمْرَ، زنا، سَرَقَ، نظر نَظَرًا مُحَرَّمًا، هذا نقول: إنَّه ظالِمٌ لنفسه.

ومَعْنى الظَّالِم في الأَصْل هو النَّاقِصُ؛ لأنَّ الظُّلْمَ هو النَّقْص، قال الله تعالى:{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33]؛ يعني: لم تَنْقُص، وكلُّ من أساء فقد نقص فيما يَجِبُ عليه؛ ولهذا كل عَمَلٍ سَيِّئ يُعْتَبَرُ نقصًا فيما يَجِبُ عليك؛ لأنَّ الواجِبَ عليك لِنَفْسِك أن ترعاها حَقَّ رِعايَتِها، فأنت مَسْؤُولٌ أَوَّلَ ما تُسْأَلُ عن نَفْسِكَ، قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ لِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لأَهْلِك عليك حقًّا"

(1)

، فبدأ بالنَّفْس، فكما يَجِبُ عليك أن ترعى مصَالِحَ وَلَدِك، ومالِك، وأَهْلِك، يَجِبُ عليك أن ترعى مَصْلَحَة نَفْسِك، بل هو الواجِبُ الأَوَّل من حقوق المَخْلوقينَ بعد حَقِّ الله ورسوله.

إذن: مَن فَعَل مُحَرَّمًا فقد ظَلَمَ نفسه؛ لأنَّه نَقَصَها حَقَّها في الأَمانَةِ، أنت مُؤْتَمَنٌ عليها يَجِبُ أن ترعاها حَقَّ رعايتها، ومن ترك واجِبًا فقد ظلم نَفْسَه؛ لأنَّ الواجِبَ عليه أن يفعل الواجِبَ ليقوم بحَقِّ الأَمانَة فيما يَتَعَلَّق في نفسه، هذا الظَّالِم لِنَفْسِه.

{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد} المُقْتَصِدُ هو الذي لم يَقَعْ منه ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ ولا تَقَدُّمٌ في الخَيْرِ؛ أي: قائمٌ بالواجِباتِ تارِكٌ للمُحَرَّماتِ، لَكِنَّه لا يُكْثِرُ من النَّوافِلِ، ولا يَحْرِصُ على

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع، رقم (1968)، من حديث أبى جحيفة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري: كتاب التهجد، رقم (1153)، ومسلم: كتاب الصيام، باب النهي عن صيام الدهر، رقم (1159)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 225

إِكمالِ الواجِباتِ على الوَجْهِ الأَكْمَل، ولا يتَجنَّبُ المَكْروهاتِ، فهو مُقْتَصِدٌ، لا نَقَصَ ولا زَادَ.

يُصَلِّي مع الجماعَةِ، ويُزَكِّي بدون نَقْصٍ، لكن لا يأتي بالنَّوافِل ولا بِصَدَقَةِ التَّطَوُّع، يؤَدِّي فريضة الحَجِّ لكن لا يعود، يَصومُ رَمَضانَ لكن لا يصوم نَفْلًا، وهكذا، يؤدي ما عليه من المُعامَلاتِ بين النَّاسِ على الوَجْهِ الواجِبِ فقط، لا يتسامَحُ عن فقيرٍ، ولا يُنْزِلُ من قِيمَةٍ أو ثَمَن، لَكِنَّه ماشٍ على ما يَجِبُ عليه، نقول: هذا مُقْتَصِدٌ، هذا لا له ولا عَلَيْه؛ يعني: ليس له ثَوابٌ إلا ثوابُ فِعْلِ الواجِبِ فقط.

{سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} هذا يأتي بالواجِباتِ ويَزيدُ ما شاء الله تعالى من الخَيراتِ، ويأتي بالواجباتِ أيضًا على الوجه الأَكْمَلِ الأَتَمِّ؛ فالصَّلاة مثلًا لا يَقْتَصِرُ فيها على تَسبيحَةٍ واحِدَة بل يزيدُ، لا يَقْتَصِرُ على الفاتِحَة بل يزيد، لا يَقْتَصِرُ على أن يضع يديه مثلًا مُطْلَقَةً هكذا، بل يضعها في مَوْضِعِها في حالِ القيامِ، وفي حالِ الرُّكوعِ، وفي حالِ السُّجود، وهكذا.

نقول: هذا سابقٌ بالخَيْرات، يؤدِّي الزَّكاةَ ويتَصَدَّق، يَحُجُّ الواجِبَ ويَتَطَوَّع، يَصومُ رَمَضانَ ويَتَنَفَّل بِغَيْره من الصِّيامِ، هذا نقول: إنَّه سابِقٌ بالخَيْراتِ.

أما قَوْلُ المُفَسِّر رحمه الله إنَّ مَعْنى [{سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} يَضُمُّ إلى العَمَل التَّعْليمَ والإِرْشادَ إلى العَمَل] ففي هذا نَظَرٌ ظاهِر؛ لأنَّ التعليم قد يكون واجِبًا، وإذا قام بالتَّعْليمِ الواجِبِ صار من المُقْتَصِد، وإن تركه صار من الظَّالِم لِنَفْسِه، وكذلك نقول في الإرشادِ: الإِرْشادُ الواجِبُ إذا قام به صار مُقْتَصِدًا، وإن تركه صار ظالِمًا لِنَفْسِه، ولكن ما قلنا هو الصَّوابُ.

واختلفَ المُفَسِّرون في هذه الآيَةِ؛ فمنهم من يقول: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}

ص: 226

كالمانِعِ للزَّكاةِ {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} كالمُقْتَصِر عليها {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} كالزَّائِد عليها.

وآخَرُ يقول: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} مُؤَخِّرٌ للصَّلاةِ عن وَقْتِها {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد} فاعِلٌ لَها في وَقْتِها، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} فاعِلُها في أوَّلِ وَقْتِها؛ أي: في الوقت الذي يُسْتَحَبُّ أن تقام فيه، فهل بين القَوْلَيْنِ خِلافٍ؟

الجواب: لا، ليس بينهما خلاف، هذا يُسَمَّى اختلافَ تَنَوُّعٍ؛ يعني أنَّ كل واحدٍ من القائلِينَ ذَكَرَ نَوْعًا، فيكون هذا على سبيل التَّمْثيلِ، ولا يُعَدُّ هذا خلافًا في الواقِعِ، ولَكِنَّه تَمْثيلٍ، هذا مَثَّل بالزَّكاة، وهذا مَثَّل بالصَّلاة.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{بِإِذْنِ اللَّهِ} بإرادَتِهِ] لكن هل المُرَاد الكَوْنِيَّةُ أو الشَّرْعِيَّةُ؟

الظَّاهِر أنَّنا نُغَلِّبُ هنا الكَوْنِيَّة؛ يعني أنَّ هذه الأَقْسامَ الثلاثة: الظالِم، والمُقْتَصِد، والسَّابِق، كُلُّهم يفعلون هذا بإذن الله، فالله تعالى هو الذي أَذِنَ للظَّالم نَفْسَه أن يَظْلِمَ نَفسَه، وللمُقْتَصِد أن يَقْتَصِر على ما يَجِبُ، وللسَّابق أن يزيد.

وتقييدُ هذا بإذن الله؛ لئلَّا يَفْتَخِرَ مفتخرٌ بكونه سابقًا بالخَيْراتِ، فيُضيفَ الشَّيْءَ إلى نَفْسِه، ويَمُنَّ به على رَبِّه، كما قال الله تعالى عن بعض بني آدم:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].

فأنت إذا منَّ اللهُ عليك بِسَبْقٍ في الخَيْراتِ لا تَظُنَّ أنَّ هذا من نَفْسِك، لو وُكِلْتَ إلى نَفْسِك لكُنْتَ ظالِمًا لِنَفْسِك؛ لِقَوْلِه تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}

ص: 227

[الأحزاب: 72] هذه حَقيقَةُ الإِنْسَانِ: الظُّلم والجهالَة، لكن مَنْ مَنَّ الله عليه وهَداه فهو مِن فَضْلِه سبحانه وتعالى.

قَوْله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} قال المُفَسِّر رحمه الله: [{ذَلِكَ} أي: إِرْثُهُم الكِتَابَ {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِير}].

صدق الله، الفَضْلُ الكبيرُ الذي لا يُدانيهِ فَضْلٌ هو مِنَّةُ الله على عبده بالعِلْم بهذا الكِتَابِ، هذا هو الفَضْلُ الكَبيرُ، ليس الفَضْلُ الكبير بأن يُعطَى الإِنْسَانُ قُصُورًا أو مَراكِبَ فَخْمَةً أو زوجاتٍ حِسَانٍ أو أبناءً كثيرين، لا، الفَضْلُ الكبير أن يُورَثَ هذا الكِتَابَ، كُلُّ من وَرِثَ هذا الكِتَاب علمًا وعَمَلًا ودَعْوَةً فهو الذي حاز الفَضْلَ الكَبيرَ، قال الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

وفي قَوْله تعالى: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ} فيها أداةُ حَصْر، وهو ضميرُ الفَصْل، وضميرُ الفَصْلِ هو ضميرٌ يأتِي مطابقًا للسِّياقِ، يأتي بِصورَة الغائِبِ كـ (هو)، وبِصورَةِ المُخاطَب كـ (أنت)، وبصورة المُتَكَلِّمِ كـ (أنا)، قال الله تعالى:{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} [الحجر: 89] هذا أتى بصيغة المُتَكَلِّم، وتقول لمن تخاطبه:(إنَّك أنت القائِلُ) ومنه قَوْله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49] هذا في صِيغَة المخاطب، وفي صيغة الغائِب كثير، منه هذه الآيَة:{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} .

إذن: فضميرُ الفَصْل ضميرٌ يؤتَى به مطابقًا للسِّياقِ من حيث التَّكَلُّمُ والخِطابُ والغَيْبَةُ، وهو من حيثُ الإِعْرابُ لا مَحَلَّ له.

ص: 228

أمَّا من حيث المَعْنى فيفيد ثلاثة أُمُور: يفيد التَّوْكيدَ، والحَصْرَ، والتَّمْييزَ بين الخَبَرِ والصِّفَة.

فتقول مثلًا: (زيدٌ الفاضِلُ) ليس فيها ضميرُ فَصْل، فهنا يُحْتَمَل أن تكون (الفاضِلُ) خبرًا، ويُحْتَمَل أن تكون صِفَةً والخبرُ لم يأتِ، ويُمْكِن أن نقول: تَقْدير الكَلَام: زيدٌ الفاضِلُ قائمٌ، فتكون الفاضِلُ صِفَةً، فإذا قلتَ:(زيدٌ هو الفاضِلُ) تعيَّنَ أن تكون الفاضِلُ هنا خبرًا، ولا يُمْكِنُ أن تكون صِفَةً، إذن فهو يُمَيِّز بين الصِّفَة والخَبَرِ، فيكون ما بعده خَبَرًا لا صِفَةً، ولولاه لكان مُحْتَمَلًا أن يكون خَبَرًا أو صِفَةً؛ هذا شَرْح قَوْلنا:(التَّمْييزُ بين الخَبَرِ والصِّفَةِ).

فيفيد الحَصْر؛ فإذا قُلْتَ: زيدٌ فاضلٌ، هل يَمْنَعُ أن يكون غَيْرُه فاضِلًا؟ لا يمنع.

فإذا قلت: زيدٌ هو فاضِلٌ، أو زيدٌ هو الفاضِلُ؛ نَعَم، تعني أن يكون (زيدٌ) وَحْدَه هو الفاضِلُ.

أما التَّوْكيدُ فلا شَكَّ أنَّ قَوْلك: (زيدٌ الفاضل) تريد المُبْتَدَأ والخبَرَ، لا شَكَّ أنَّها جُمْلَةٌ تامَّةٌ ومعناها واضِحٌ، لكن إذا قلت: زيدٌ هو الفاضِلُ كأنَّك اتَّكَأْتَ عليه وزِدْتَها توكيدًا.

فـ {الْفَضْلُ} بمَعْنى العطاء من الله، {الْكَبِيرُ} حيث الحَجْمُ فهو كبيرٌ في كَيْفِيَّتِه، ونحن نَعْلَم من جهةٍ أخرى أنَّه كثيرٌ في كَمِّيَّتِه فيجتمع في هذا العطاء الكَمِّيَّة والكَيْفِيَّة، فهو فضلٌ كبيرٌ في ذاتِهِ وكَيْفِيَّته، وفضلٌ كثير أيضًا في عَدَدِهِ وكَمِّيَّته:{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} .

ص: 229