المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيتان (13، 14) - تفسير العثيمين: فاطر

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌الآية (1)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (2)

- ‌الآية (3)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (9)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآيتان (13، 14)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (16)

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌الآية (21)

- ‌الآية (22)

- ‌من فوائد الآيات الكريمة (19 - 22):

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (26)

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (30)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌(الآية: 31)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (32)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (33)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (34)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (35)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (36)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (37)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (38)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (39)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (41)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (42)

- ‌الآية (43)

- ‌من فوائد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (44)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

- ‌الآية (45)

- ‌من فوائد الآية الكريمة:

الفصل: ‌الآيتان (13، 14)

‌الآيتان (13، 14)

* * *

* قَالَ اللهُ عز وجل: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13 - 14].

* * *

ثم قال الله سبحانه وتعالى مُبَيِّنًا تمَامَ قُدْرَته ونِعْمَتِه أيضًا، قال:{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13].

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{يُولِجُ} يُدْخِلُ الله {اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} فيزيدُ {وَيُولِجُ النَّهَارَ} يُدْخِلُه {فِي اللَّيْلِ} فيزيدُ] انتبه لكَلَام المُفَسِّر رحمه الله هل يوافق الظَّاهِرَ أو لا؟ قال: [{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} فيزيدُ] ما الذي يزيدُ؟

الجواب: لا شَكَّ أنَّ اللَّيلَ إذا دخل على النَّهارِ زاد اللَّيلُ، وإن كان يعود على أَقْرَبِ مذكور وهو {النَّهَارَ} فيزيدُ، فهذا فيه نَظَرٌ، لكن تَوْجيهُ {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} أنَّ شيئًا من اللَّيْل يكون جزءًا من النَّهَار هذا تَوْجِيهُه، فإذا كان شَيْءٌ من

ص: 112

اللَّيْلِ جزءًا من النَّهَارِ معناه زادَ النَّهَار؛ يعني: كأنَّه يقول مثلًا: (دَخَلَ اللَّيْلُ في النَّهَار فصار نَهارًا) وحيئذٍ يزيدُ النَّهَارُ، والعَكْسُ بالعَكْسِ، لكن الظَّاهِر من الآيَة الكَريمَةِ أنَّه يَدْخُل اللَّيْل في النَّهَار فيكون جزءٌ من النَّهَارِ ليلًا، الآن لو قُلْتَ:(أَدْخَلْتُ هذه السَّاقِيَة في هذه الأَرْضِ) الجُزْءُ الذي دخل من السَّاقِيَة جَعَلَ الأَرْضَ ساقِيةً.

إذن: (أدخلتُ اللَّيْلَ في النَّهَارِ) جَعَلْتُ جزءًا من النَّهَارِ ليلًا، وحينئذٍ يكون اللَّيْلُ هو الذي يطول.

إيلاجُ اللَّيْلِ في النَّهَارِ وإيلاجُ النَّهَارِ في اللَّيْلِ لا شَكَّ أنَّه دالٌّ على كمال قُدْرَةِ الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الخَلْقَ لو اجْتَمَعوا كُلُّهم على أن يُولجِوا جُزءًا يسيرًا من اللَّيْل في النَّهَارِ أو بالعَكْسِ ما اسْتَطاعوا أبدًا، ثم هذا الإيلاجُ أيضًا إيلاجٌ بِنِظامٍ؛ أي: إنَّه يأتي شَيْئًا فَشَيْئًا حتى تَتَكَيَّفَ طِباعُ البَشَرِ لهذا الإيلاجِ.

ما ظَنُّكُم لو أنَّ اللَّيْلَ جاء بِنِهايَتِهِ دَفْعَةً واحِدَةً؛ يعني مثلًا: اليوم صارَ اللَّيْلُ ثمانيَ ساعاتٍ وخَمْسًا وثلاثينَ دقيقةً، في اللَّيْلةِ القادِمَةِ صار اثْنَتَيْ عَشْرَةَ ساعَةً وخَمْسَ دقائِقَ، ماذا تكون حالُ النَّاس؟

الجواب: تَضْطَرِبُ، لَكِنَّه عز وجل يُولِجُه شيئًا فشيئًا، هذا من جهة الإضْطِرابِ، ومن جهةٍ أخرى لو أَوْلَجَه هكذا دَفْعَةً، ومعلومٌ أنَّ سَبَبَ طُولِ النَّهَارِ قُرْبُ الشَّمْسِ من مُسامَكة الرُّؤوسِ، وإذا قارَبَتِ الشَّمْسُ من مُسامَكة الرُّؤوسِ فلا بُدَّ أن تكون شديدةَ الحَرارةِ؛ مَعْنى ذلك أن يكون هذا اليَوْمُ هذا في عِزِّ الشِّتاء، واليوم الذي يَلِيهِ في عِزِّ الصَّيْفِ، وهذا ضَرَرٌ عَظيمٌ، لَكِنَّه سبحانه وتعالى يُولِجُه شيئًا فشيئًا، وهذا من تمَامِ القُدْرةِ والحِكْمَةِ والرَّحْمَة.

أيضًا إيلاجُ اللَّيْلِ في النَّهَارِ وبالعَكْسِ له تأثيرٌ عظيمٌ على الجَوِّ؛ لأن الجَوَّ يَنْقَلِبُ

ص: 113

من باردٍ شديدٍ على طول الزَّمَنِ إلى حارٍّ شديدٍ على طول الزَّمَنِ أيضًا، مَعْلومٌ أنَّ هذه الحَرارَةَ الشَّديدةَ تَقْتُلُ من الجراثيمِ الضَّارَّة ما لا يَعْلَمُ به إلا الله عز وجل؛ ولهذا نَضْرِبُ مثلًا بسيطًا كُلُّنا نُشاهِدُه: البَعُوضُ إذا اشْتَدَّ الحَرُّ مات لم يَبْقَ له أَثَرٌ؛ ولهذا أَكْثَرُ ما يَكْثُر في الزَّمَن الذي بين الحَرِّ والبرودة الشِّتاء، كذلك شِدَّة البُرودَةِ تَقْتُلُ الجراثيمَ التي تعيش على الحَرارَةِ، ولا يَعْلَمُ بها إلا الله عز وجل؛ ومن ثَمَّ قال العُلَماء رحمهم الله: إنَّ أكْثَرَ أَهْلِ الأَرْضِ أَمْراضًا هم الذين على خَطِّ الإسْتِواء وما قارَبَه؛ إذ ليس عندهم شتاءٌ يَقْتُلُ أو صيفٌ حارٌّ يقتل أيضًا، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ أيضًا.

إذن: إِيلاجُ اللَّيْلِ في النَّهَارِ فيه عِدَّةُ حِكَمٍ؛ ولهذا بَيَّنَهُ عز وجل فقال: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} .

قَوْله عز وجل: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} الشَّمْسُ مَعْروفَةٌ، والقَمَرُ مَعْروفٌ، سَخَرَهُما؛ أي: ذلَّلَهُما لمصَالِحِ العبادِ؛ فإنَّ في الشَّمْسِ والقَمَرِ من المصَالِحِ العَظيمَةِ للعبادِ ما يَعْرِفُه أَهْلُ العِلْم رحمهم الله بهذا الشَّأْنِ، وهذه الشَّمْسُ والقَمَرُ ما بيَّنَ الله لنا ثِقَلَهُما ولا حَجْمَهُما؛ لأنَّ ذلك ليس بالعِلْمِ النَّافِعِ الكثيرِ لنا، فالجَهْلُ به لا يَضُرُّ، والعِلْمُ به من فُضُولِ العِلْمِ، إن لم يَشْغَلْكَ عما هو أَهَمُّ منه فاشْتَغِلْ به، إنَّما بين المصَالِحِ التي تَتَرَتَّب على تَسخيرِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، فقال:{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر} فبالشَّمْسِ يكونُ النَّهَارُ واللَّيْلُ، ويكون أيضًا نُضْجُ الثِّمارِ، وتكون الأَنْوارُ العَظيمَةُ، ما رَأْيُكم مثلًا ماذا يتوفَّر للعالَمِ من الطَّاقَةِ بعد خُرُوجِ الشَّمْسِ؟

الجواب: كثيرٌ لا يُحْصى؛ لأنَّها تُوَفِّرُ الكَهْرُباء، وتُوَفِّرُ أيضًا تَلْيينَ الأَشْياء التي تحتاجُ إلى تَلْيينٍ وحَرارَةٍ، ثم إنَّهم في الأَزْمِنَة الأَخيرَة صاروا يُنْتِجُون مِن حرارَةِ الشَّمْسِ طاقَةً كَبيرَةً عَظيمَةً، أمَّا القَمَرُ فَسُخِّر لنا أيضًا بما يحصل من نُورِه في اللَّيْلِ،

ص: 114

وبما يَحْصُل منه من العِلْم بالحِسابِ وعَدَدِ السنينَ، وما إلى ذلك.

وإن شئتم مزيدًا من هذا فراجِعوا كِتَاب (مِفتاح دارِ السَّعادَةِ)

(1)

لابن القَيِّم رحمه الله؛ حيث ذكر من فوائِدِ الشَّمْسِ والقَمَرِ أَشْياءَ عَظيمَةً كبيرةً، وذكر غَيْرُهُ أيضًا ذلك، لكنْ يَجِدُ الإِنْسَانُ الفَرْقَ بين بَحْثِ ابْنِ القَيِّم مثلًا وبَحْثِ عُلَماءِ الطَّبيعَة؛ لأن عُلَماءَ الطَّبيعَةِ يَنْظُرونَ إلى هذه الأشياء من زاوِيَة مُظْلِمَة حالِكَة مادِّيَّةٍ مَحْضَةٍ لا يتربَّى فيها الإِنْسَان تربيةً دِينيَّة ولا يَعْرِفُ بها قُدْرَةَ الله ونِعْمَتَه، لكن إذا تكَلَّمَ ابْنُ القَيِّم رحمه الله في ذلك يَعْقِل أنَّ هذا دائمًا برَحْمَةِ الله وقُدْرَتِه وحِكْمَتِه، فيجد الإِنْسَانُ مع عِلْمِه بهذا الفَنِّ والعُلُوم، يَجِدُ مع ذلك خشيةً لله عز وجل، وتَعْظيمًا له، ومَحَبَّةً له.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ} منهما {يَجْرِي} في فَلَكِه {لِأَجَلٍ مُسَمًّى} يومِ القيامَةِ] كلٌّ؛ أي: كُلٌّ من الشَّمْسِ والقَمَرِ يجري؛ يعني: يسير في فَلَكِه لأَجَلٍ مسمًّى، الفَلَكُ شَبَّهَه ابْنُ عَبَّاس رضي الله عنهما: بِفَلَكَةِ المِغْزَل

(2)

، وفَلَكَةُ المِغْزَل عِبارَة عن قُرصٍ في أعلاه، وفي أَسْفَلِه عودٌ يَنْطوي عليه الحَبْل الذي يَغْزَل، هذه تدورُ؛ لأنَّ المرأة التي تَغْزِل تَبْرمه هكذا حتى يدورَ ويَحْكُم الحبل، فالفَلَك هذا؛ للشَّمْس فلكٌ تدور به، وللقَمَرِ فَلَكٌ يدور به.

وفي إسناد الجَرَيانِ إلى كلٍّ منهما دليلٌ على أنَّهما يَسيرانِ بِذاتِهِما، ويدوران على الأَرْضِ، وهذا شَيْءٌ مُشاهَد أنَّ الشَّمْسَ تدور على الأَرْض وكذلك القَمَرُ، وما ادَّعاه عُلَماءُ الهَيْئَة من أنَّ الأَرْضَ هي التي تدور، والشَّمْسُ لا تدورُ نحو الأَرْض فإنَّنا نُكَذِّبه حتى يقومَ لنا دليلٌ حِسِّيٌّ يكون لنا حُجَّةً أمام الله عز وجل في الخُروجِ عن ظاهِرِ كَلَامه.

(1)

مفتاح دار السعادة (1/ 207 - 211).

(2)

أخرجه الطبري في تفسيره (19/ 440 - 441)، وانظر: تفسير ابن كثير (6/ 515).

ص: 115

وإلَّا فالواجب علينا نحو هذه الأُمُور ألَّا نَخْرُجَ عن ظاهِرِ كَلَام الله؛ لأنَّ الله تعالى هو الخالِقُ، والخالِقُ أَعْلَمُ بما خلق من غَيْرِهِ، وهذا مسلَّم، ولأنَّ كَلَام الله عز وجل أَوْضَحُ الكَلَامِ وأَبْيَنُه، فلا يُمْكِن أن يكون فيه شَيْءٌ من التَّعْقيدِ لا اللَّفْظِيِّ ولا المَعْنَوِيِّ، فهو واضحٌ في معناه وظاهِرٌ؛ ولأنَّ كَلَام الله عز وجل أَصْدَقُ الكَلَام، فلا يُمْكِنُ أن يُخْبِرَنا الله عز وجل بأمرٍ لم يَكُن، أو بأمرٍ يكونُ الواقِعُ على خلافه؛ ولأنَّ الله عز وجل أَحَبُّ أَحَدٍ يكونُ البيانُ إليه؛ يعني أَنَّه يُحِبُّ البيانَ لعباده أكْثَرَ من أي أَحَد، واقرأ قَوْله تعالى:{يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، وما أَشْبَهَها من الآيات الدالَّةِ على أنَّ الله عز وجل يريدُ أن يُبَيِّن لعِبادِهِ ما يَهْتَدون به، فإذا كان سبحانه وتعالى هو أَحَبُّ من تَكَلَّم بالبيان، أو هو أَحَبُّ مَن يكون البيانُ إليه أَحَبَّ، وهو الله عز وجل، فإنَّ الله تعالى لا يُمْكِن أن يقول في كَلَامِهِ ما ليس فيه بيانٌ لنا.

إذن: فنحن نُكَذِّبُهم ونقول: كَذَبْتُم أن يكون تعاقُبُ اللَّيْلِ والنَّهَار من أجل دَوَرانِ الأَرْضِ، بل تَعَاقُب اللَّيْل والنَّهَار من أجل دَوَرانِ الشَّمْسِ على الأَرْض، ولا غَرَابَةَ بذلك، هم يقولون: كيف أنَّ الكَبيرَ يَدورُ على الصَّغيرِ، نقول: ليس هناك مانِعٌ، نحن معكم أنَّ الشَّمْسَ أَكْبَرُ من الأَرْض، لكن ما المانِعُ من أن يكون الجِرْمُ الكَبيرُ هو الذي يدورُ على الصغير؟ !

ونحن إذا نَظَرْنا إلى القُرْآنِ وَجَدْنا أنَّ الله سبحانه وتعالى يُضيفُ هذه الحَرَكَة إلى الشَّمْسِ نَفْسِها، وكذلك إذا نَظَرْنا إلى السُّنَّة، ففي القُرْآن يقول الله تعالى:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 17]، وفي القُرْآن يقول الله تعالى:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] أي: الشَّمْسُ، وفي القُرْآن يقول: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ

ص: 116

يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}، وَقَوْله تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} مثل قَوْله تعالى: {كُلٌ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} فهذه خمسة مواضِعَ كُلُّها تدُلُّ على أنَّ هذه الأفعال تَقَعُ من الشَّمْس.

لو كان هذا يأتي بِدَوَرانِ الأَرْضِ لقال: (وترى الشَّمْسَ إذا طَلَعوا عليها)؛ لأنَّه إذا دارَتِ الأَرْضُ، فنحن الذين نَطْلُع على الشَّمْس، وليست الشَّمْس هي التي تَطْلُع علينا.

وأمَّا قَوْلهم: إنَّ هذا خِطابٌ إلى النَّاس بما يُشاهِدونَه بِأَعْيُنِهم والأمر على خلافه، يعني: إذا طَلَعَتْ حَسَبَ رُؤْيَةِ العَيْنِ، وفي الواقِع أنَّنا نحن الذين نَطْلُع عليها فبماذا نُجيبُهُم؟

نقول: هذا خِلافُ ظاهِرِ اللَّفْظِ، ولا يُمْكِن أن نَحيدَ عن هذا الظَّاهِرِ إلا بِدَليلٍ مَحْسوسٍ يُمْكِننا أن نَحْتَجَّ به أمامَ الله عز وجل؛ لأنَّ الله سَيُحاسِبُنا يقول: لماذا عَدَلْتُم عن كَلَامي إلى كَلَامِ غَيْري؟ والخطابُ من الله سبحانه وتعالى.

قال تعالى: {إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِم} [الكهف: 17] تَزاوَرُ؛ أي: تمَيلُ، ولو كان ذلك بدورانِ الأَرْضِ لكانت الأَرْضُ هي التي تميلُ {وَإِذَا غَرَبَتْ} لو كان هذا بِدَوَرانِ الأَرْض لكانَتِ الأَرْض هي التي تَغْرُب عن الشَّمْس.

أمَّا في السُّنَّة فقد قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي ذَرٍّ حين غَرَبَتِ الشَّمْس: "أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟ "

(1)

، فأَسْنَدَ الذَّهابَ إليها عندما غَرَبَتْ، ولو كانت الأَرْضُ هي التي دارت حتى اخْتَفَتِ الشَّمْسُ لكان يقول: أتدري أين تَذْهَبُ الأَرْض مثلًا.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر بحسبان، رقم (3199)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (159/ 250).

ص: 117

والحاصِلُ: أنَّه يَجِبُ علينا وجوبًا أن نأَخُذَ بظاهِر القُرْآن وأنَّ الشَّمْسَ هي التي تدورُ على الأَرْض وأنَّه بِدَوَرانِها يَحْصُل اختلافُ اللَّيْل والنَّهَارِ، هذا الواجِبُ، ولا يجوز أن نَحيدَ عن هذا أبدًا إلا إذا قام الدَّليلُ الحِسِّيُّ على خلاف ذلك؛ فإنَّه حينئذٍ يتَعَيَّنُ التَّأويلُ وصَرْفُ الكَلَامِ عن ظاهِره؛ لأنَّنا نَعْلَمُ عِلْمَ اليقينِ أنَّ القُرْآن لا يُخالِفُ الواقِع، أمَّا شَيْءٌ يقولونه بأوهامِهِم ويُقَدِّرونَه، فإننا لا نُوافِقُهم على ذلك، ولا يَسَعُ المُؤْمِنَ أن يَحيدَ عن ظاهِرِ كَلَام الله لمُجَرَّدِ قَوْلهم أَبَدًا.

أمَّا مَسْأَلةُ الأَرْضِ هل تدور أو لا تدور؟

فنحن نقول: لا نُصَدِّقُ ولا نُكَذِّبُ؛ فيُمْكِن أن يكون لها دَوْرَة، ومع ذلك للشَّمْس دَوْرَة، هم يقولون: إذا أَقْرَرْتُم بِدَوَرانِ الأَرْضِ لَزِمَكُم أن تقولوا: إنَّ الشَّمْسَ ثابِتَةٌ، فنقول ليس ذلك بلازِمٍ، يُمْكِن أن يكونَ للشَّمْسِ دَوْرَةٌ، وللأَرْض دَوْرَةٌ أخرى، ولا مانِعَ من ذلك، ولكن مع هذا نقول: إنَّ الكَلَام في دَوَرانِ الأَرْضِ من فُضُولِ العِلْمِ الذي لا يَنْبَغي للإِنْسَان أن يُضَيِّعَ وَقْتَه به إلا رَجُلًا يَحتاجُ إلى معرفة ذلك؛ كما يُذْكَر أنَّهم يَحْتاجون إليه في الصَّواريخِ المُوَجَّهَة وما أشبه ذلك مِمَّا هو مَعْروفٌ عندَ أَهْلِه، فحينئذٍ إذا احتاج إليه فلا حَرَجَ أن يَبْحَث فيه.

أمَّا إذا لم يَحْتَجْ إليه فنقول: هذا من ضَياعِ الوَقْتِ، وما الفائِدَةُ أن تَعْلَم أنَّها تدور؟ أو لا تدورُ، احْمَدِ الله أنْ جَعَلَها قَرَارًا سواءٌ كانت تدورُ أو لا تدور.

قَوْله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} يُحتَمَل أن تكون لامَ العاقِبَة؛ أي: كلٌّ يَجْري حتى يَنْتَهِيَ إلى هذا الأَجَلِ، ويُحْتَمَل أن تكون اللَّام بمَعْنى (إلى) كما جاءت به في موضعٍ آخر:{كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} .

وعلى كُلِّ حالٍ: فهي تدلُّ على أنَّ لهذا الجَرَيانِ غايَتَيْنِ، وهو كذلك، هذه الغايَةُ

ص: 118

فَسَّرَها المُفَسِّر رحمه الله بِقَوْله: [يَوْمِ القِيامَة]، وَقَوْله تعالى:{لِأَجَلٍ مُسَمًّى} أي: مُعَيَّنٍ عندَ الله سبحانه وتعالى، وهو مَعْلومٌ عنده وليس معلومًا عندنا.

إِذَن: فهذه الشَّمْسُ وهذا القَمَر ليسا أَبَدِيَّينِ، لَكِنَّهما دائبانِ؛ كما قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] أي: مُسْتَمِرَّيْنِ، لكن لهما أجَلٌ.

قَوْله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} .

{ذَلِكُمُ} هل الإشارَةُ تَعودُ إلى ما ذُكِرَ من التَّسْخير والجَرَيان، أو تعود إلى الفاعِلِ في قَوْله تعالى:{وَسَخَّرَ} ؟

الجواب: الثاني، إذن ذلكم المُسَخِّرُ اللهُ، فالمُشارُ إليه الآن مُفْرَدٌ مذكَّر، والمخاطَبُ جَماعَةُ ذُكورٍ، لكن: ماذا يُراعَى في اسْمِ الإِشَارَةِ وكاف الخطابِ؟ هل يُراعَى المخاطَبُ أو المُشارُ إليه؟

نقول: أمَّا اسْمُ الإشارَةِ فيُراعَى فيها المشارُ إليه، وأمَّا الكافُ فيراعى فيها المخاطَبُ، فإذا أَشَرْتَ إلى رَجُلَيْنِ مخُاطِبًا جماعَةَ إناثٍ فإنَّك تقول:(ذانكُنَّ)، فـ (ذان) تخاطِبُ ذَكَرَينِ، و (كُنَّ) تُخاطِبُ جماعَةَ إناثٍ، وفي القُرْآن قالَتْ:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] لكن هنا في الآيَة المشارُ إليه مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ، وإذا خاطَبْتَ جماعَةَ ذُكورٍ مُشيرًا إلى جماعَةِ إناثٍ فإنَّك تقول:(تِلْكُم) أو (أولئكم).

وهلِ الأَفْصَحُ في المخاطَبِ أن يكون الضَّميرُ على حَسَبِ المخاطَبِ؛ يعني: جَماعَة ذُكورٍ إذا كان المُخاطَبُ جَماعَةَ ذُكُور، وجَماعَة إناثٍ إذا كان المخاطَبُ جَماعَةَ إناثٍ، مُثَنًّى إذا كان المخاطَبُ مُثَنًّى، مُفْرَدٌ مفتوح إذا كان المخاطَبُ مُذَكَّرًا، مُفْرَدٌ مَكْسورٌ إذا كان المخاطَبُ مُؤَنثًا، أو الأَفْصَحُ أن يكون بِلَفْظِ الإِفرادِ دائمًا؟

ص: 119

نقول: فيه ثلاثُ لُغاتٍ:

أولًا: أن يكون باعتبارِ المُخاطَبِ مُطْلَقًا.

ثانيًا: أن يكون بالفَتْحِ دائمًا.

ثالثًا: أن يكون بالفَتْحِ لمفردٍ في المذَكَّر وبالكَسْرِ لِمُفْرَدٍ في المؤَنَّثِ مُطْلَقًا.

فهذه ثلاثُ لغاتٍ:

اللُّغَة الأولى: وهي المَشْهورَة الفُصْحى؛ أن تكون الكاف بحَسَبِ المخاطَبِ مُطْلَقا، تُخاطِبُ مُفْردًا مُذَكَّرًا تقول:(ذلكَ)، مُفْرَدة مُؤَنَّثَة:(ذلكِ) مثنى (ذلكما) جماعة ذكور: (ذَلِكُم جَماعَة)، إناث:(ذلكُنَّ) هذا الأَفْصَحُ.

ثانيًا: أن تَجْعَلَه مُفْرَدًا مفتوحًا في المذَكَّر مُطْلَقًا فتقول: (ذلكَ) سواء كنْتَ تخاطِبُ مُفْردًا أو مثنًّى أو جمعًا لكنْ بِشَرْطِ أن يكون مُذَكَّرًا، وتقول في المؤنث:(ذلكِ) سواءٌ كُنْتَ تُخاطِبُ واحِدَةً أو مُثَنًّى أو جماعَةً.

ثالثًا: أن تَجْعَلَه مفتوحًا بصيغةِ المُذَكَّر دائمًا أيًّا خاطَبْتَ، فتقول:(ذلكَ) سواءٌ كُنْتَ تُخاطِبُ رجلًا، أو امْرَأَةً، جماعَةً، أو مُثَنًّى، أو مُفْردًا.

هنا يقول الله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} المشارُ إليه مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ، والمخاطَبُ جماعَةٌ؛ لأنَّ الله يُخاطِبُ النَّاسَ جميعًا.

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} الرَّبُّ يُطْلَقُ على معانٍ كثيرة في اللُّغَة العَرَبِيَّة:

منها: الخالق، المالِك، المُدَبِّر.

فالرُّبوبِيَّة معناها أنَّ الله تعالى خالقٌ مالِكٌ مُدَبِّر؛ ولهذا قال: {لَهُ الْمُلْكُ}

ص: 120

فهذه جُمْلَةٌ خَبَرِيَّة قُدِّمَ فيها الخَبر للدَّلالَة على الحَصْرِ؛ يعني: له وَحْدَه المُلْكُ دون

غَيْره، المُلْك المُطْلَقُ الشَّامِل لله وَحْدَه، مِلْك الذَّواتِ والأَعْيان، ومِلْك التَّصَرُّفِ في

هذه الأَعيانِ، فهو المالِكُ لِكُلِّ مَخْلوقِ، وهو المُتَصَرِّفُ في كلِّ مَخْلوقٍ.

فإذا قُلْتَ: كيف يَصِحُّ الحَصْرُ مع أنَّ الله عز وجل أَثْبَتَ المُلْكَ لِغَيْرِه فقال: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المُؤْمنون: 6] وقال: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النُور: 61]، وقال:{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النُّور: 33]، فأَثْبَتَ المُلْك لغيره وأنت تقول: إن هذه الجُمْلَة فيها حَصْرٌ؟

فالجواب من وَجْهَيْنِ:

الوَجْهُ الأَوَّلُ: أنَّ مِلْكَنا ليس مِلْكَا مُطْلَقًا، بل هو مِلْكٌ مُقَيَّدٌ بحَسَب الشَّريعَة، فأنا مثلًا مالِكٌ لهذه الحَقيبَة، لكِنْ لا أَمْلِكُ أن أُتْلِفَها؛ لأنَّه حرامٌ عليَّ أن أُتْلِفَها، مالِكٌ لهذا البَعيرِ مثلًا لكِنْ هل أَمْلِكُ أن أُعَذِّبَه؟ هل أَمْلِكُ أن أَجْرَحَه؟

الجوابُ: لا، لا أَمْلِكُ هذا إلا بإذْنٍ مِنَ الشَّرْعِ؛ ولهذا لمَّا أَذِنَ الشَّرْعُ بِوَسْمِ البَعيرِ مع أَنَّه مُؤْذٍ لها ومُؤْلِم جاز، ولمَّا أَذِنَ بإشْعارِ الإِبِلِ والبَقَرِ في الهَدْيِ جازَ.

والإشْعارُ هو أن يُشَقَّ السَّنامُ بالسِّكينِ في الهَدْيِ حتَّى يَسيلَ الدَّمُ على الشَّعْر والجِلْد، والفائِدَةُ من هذا ليُعْرَفَ أنَّ هذه هَدْيٌ، ولهذا نَحْنُ نُشْعِرُ الإِبِلَ والبَقَرَ، ونُقَلِّدُ الإِبِلَ والبَقَرَ والغَنَمَ، فالغَنَمُ ليس فيها إشعارٌ، بل فيها تَقْليدٌ فقط، والتَّقْليدُ أَنَّنا نَضَعُ عليها قِلادَةً في العُنُق، نُعَلِّقُ فيها النِّعالَ القديمة المُتَقَطِّعَة، وآذانَ القِرَبِ (واحِدها قِرْبَة) يعني: قِطَع القِرَب لتُعَلَّقَ بها، نُعَلِّقُه على هذا البَعيرِ أو البَقَرَة أو الشَّاة ليُعْرَفَ أنَّها هَدْيٌ؛ لأنَّ النِّعالَ المُتَقَطِّعة وقِطَع القِرَبِ تَدُلُّ على الرَّثاثَةِ والفَقْر، إشارَةً إلى أنَّ هذه للفُقَراءِ، والقَصْدُ أنَّ مِلْكنا للشَّيْءِ مُقَيَّد.

ص: 121

ثانيًا: أنَّه مِلكٌ قاصِرٌ؛ يعني: ليس شامِلًا، فأنا مثلًا أَمْلِك هذه الحَقيبَة، لكن أنت لا تَمْلِكُها، وأنت تَمْلِك هذا الكِتَابَ، وأنا لا أَمْلِكُه، إذن فهو مِلْكٌ قاصِرٌ لا يتعدَّى، أمَّا مِلْك الله عز وجل فإنَّه مِلْكٌ مُطْلَقٌ يَتَصَرَّف في مُلْكه كما يشاءُ، وهو ملكٌ عامٌ شامِلٌ، والله عز وجل يُنْزِل الأَمْراضَ ويُنْزِلُ الجُروحَ في مَخْلوقاتِهِ، وقد يبتلي اللهُ الإِنْسَانَ فتَظْهَرُ فيه جُرُوحٌ تُؤْلِمُه، وتُزْعِجُه وتُظْهِر الأَلَم في أَعْصابِهِ وفي عِظامِهِ، لو أنَّ أَحَدًا من المَخْلوقينَ أراد أن يَفْعَلَ ذلك لكان مَمْنوعًا ولا يجوز، لكنَّ الله عز وجل له أن يَفْعَلَ ما شاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

إذن: الله هو الرَّبُّ، وهو الذي له المُلْك، وهذا المُلك أيضًا شامِلٌ للأَعْيانِ والذَّواتِ، وشامِلٌ للتَّصَرُّف فيها، ومنه التَّصَرُّفُ في الحُكْمِ، فالأَحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ لا تُتَلَقَّى إلا مِنَ الله عز وجل، ويَجِبُ أن نُؤْمِنَ ونُطَبِّقَ جَميعَ أحكامِ الله سواءٌ كان ذلك في العباداتِ أو في المُعامَلاتِ أو الأَحْوالِ، يَجِبُ أن نُطَبِّقَ الجميعَ.

فإن قال أَحَدٌ من النَّاس: العبادَةُ حَقُّ الله، فهي بيني وبَيْنَه ولا أَتَجاوَزُ ما شَرَعَ، والمعامَلَةُ حَقُّ الإِنْسَانِ، له أن يتجاوَزَ الشَّرْعَ فيها، فأنا لي أن أَعْدِلَ عن شَريعَةِ الله إلى حُكْمِ الطَّوَاغيتِ؟ فمثلًا العبادَةُ حَقُّ الله الخاصُّ، لا يجوز لي أن أَتَصَرَّف فيها، أمَّا البَيْعُ والشِّراءُ فَلِمَصْلَحَتي أنا، فأَيُّ نَوْعٍ من البَيْعِ والشِّراء يَتَّفِق مع المَصْلَحَة والكَسْب فلي أن أَفْعَلَه، سواء كان ربًا أو غِشًّا أو مَكْرًا

إلخ، فهل يجوز ذلك أو لا يجوزُ؟ ! فهو يقول: المَسْجِدُ لله، والوَطَنُ للشَّعْب أو للجَميعِ.

فالجواب: أن نقول: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} ليس لأَحَدٍ مُلْكٌ، المُلْكُ لله عز وجل يَتَصَرَّف في هذا المُلْك كما يشاء حِلًّا وحُرْمَة وإيجابًا، ولا أَحَد يتدَخَّل في ذلك، والذي يقول هذا ويَعْمَل بالشَّرْعِ في العِباداتِ ويُنْكِرُ الشَّرْعَ في المعاملاتِ

ص: 122

نقول: إنَّه كافِرٌ مُرْتَدٌّ عن الإِسْلامِ.

ولا يجوز إقرارُهُ على هذا الشَّيْءِ؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150 - 151].

فالإيمانُ بِبَعْضِ الرُّسلِ دون بعضٍ كالإيمانِ بِبَعْضِ الشَّريعَةِ دون بعْضٍ؛ لأنَّ الأوَّلَ تَجْزِئَة في الرُّسُلِ، وهذا تَجْزِئَة في المُرْسَل به ولا فَرْقَ؛ فالذي يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الكِتَابِ ويَكْفُرُ بِبَعْضِه هو في الحَقيقة كافرٌ بالجميعِ؛ لأنَّنا نقول: لو سَلَّمْتَ أَنَّه من الله وأنَّه شَرْعُه ما كَفَرْتَ به، فإذا كَفَرْتَ به فهو كفرٌ بالجميعِ، وشَرْعُ الله تعالى لا يَتَبَعَّضُ.

ومِن هنا نأخُذ خُطورةَ الأمرِ في كثيرٍ من بلدان المُسْلِمين الذين يُحَكِّمون فيما بينهم غيرَ شريعَةِ الله، ويَرونَ أنَّ هذه القوانينَ الوَضْعِيَّة الطَّاغوتِيَّةَ أَفْضلُ من شَرْعِ الله، وأَقْوَمُ لعبادِ الله وأَقْوَمُ لمصَالِح عباد الله مِمَّا شَرَعَه الله، نَسْأَلُ الله العافية.

وهذا بلا شَكٍّ نَقْصٌ في عُقُولهِم، وذَهَابٌ لأَدْيانِهِم، كيف يكون هذا الوَضْعُ الطَّاغوتِيُّ المُحْدَثُ المَبْنِيُّ على العَقْل القاصِر أَفْضَلَ وأَنْفَعَ للعبادِ مِن شَرْعِ الله عز وجل الذي شَرَعَه لعبادِه وهو أَعْلَمُ بِمَصَالحِهِم وأَحْكَمُ بما يُرْشِدُهُم؟ !

أيُّ إِنْسَانٍ عنده عَقْلٌ - فَضْلًا أن يكون عنده إيمانٌ - لا يُمْكِنُ أبدًا أن يدورَ في فِكْرِه أنَّ هذه الأَحْكَامَ الوَضْعِيَّة المُخالِفَة لشَرْع الله خيرٌ لعِبادِ الله مِن شَرْع الله إلا مُخَبَّلًا ومَجْنونًا، والعياذ بالله، وما ذلك بِغَريبٍ على بني آدَمَ؛ فالذين كانوا يَعْبُدون الأَحْجارَ في الجاهِلِيَّة مثل هؤلاء في السَّفَه، هؤلاء أيضًا عَبَدوا آراءَ غَيْرهم وقَدَّمُوها على شَريعَةِ الله.

ص: 123

والقَوْلُ بأن (الدِّين لله والوَطَن للخَلْقِ) هذا خَطَأٌ فادِحٌ، بل يقال:(الدِّينُ لله والبلادُ لله)؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف: 128] وليست لك، الأَرْضُ لله، والشَّعْب لله، والدِّينُ لله، وكلُّ شَيْء فهو لله، وإذا كان لله فالواجِبُ علينا أن نَسيرَ على هَدْيِ الله.

قَوْله عز وجل: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الواو إمَّا اسْتِئْنافِيَّة وإمَّا عاطِفَة من بابِ عَطْفِ الجُمَل بَعْضِها على بَعْضٍ {وَالَّذِينَ} مُبْتَدَأٌ، وجُمْلَة {مَا يَمْلِكُونَ} خَبَرُها.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} تعبدون {مِنْ دُونِهِ} أي غَيْره وهم الأَصْنَامُ].

قال المُفَسِّر رحمه الله: [تَعْبدون] لأنَّ الدُّعاءَ عبادَةٌ، والعابِدُ لله عز وجل قد تتضَمَّن عبادَتُه الدُّعاءَ كالصَّلاة مثلًا؛ فيها فىُ دُعَاءٌ وهو عبادَةٌ، وقد تكون دُعَاءً بلسانِ الحالِ؛ لأنَّ العابِدَ يريد الفَوْزَ بالجَنَّةِ والنَّجاةَ من النَّار، فهو وإن لم يَقُل: الفَوْز بالجَنَّة والنَّجاة من النَّار فهو لا يُريد إلا ذلك؛ إذن فهذا بلسانِ الحالِ.

ولهذا نقول: إنَّ الدُّعاء عِبَادَةٌ؛ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] بعد قَوْله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فدلَّ هذا على أنَّ الدُّعَاء عِبَادَة، وهنا يقول:{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} .

قال المُفَسِّر رحمه الله: [يَعْبدون] إمَّا عِبَادَة بالفِعْل؛ كالرُّكوعِ للصَّنَم، والسُّجُود للصَّنْم، والذَّبْح له، والنَّذْر له، وما أشبه ذلك، أو يدعونه دُعَاءَ مَسْأَلَة لا دُعَاءَ عِبَادَة، فيَأْتونَ إلى الصَّنَم وإلى القَبْر، ويسألونه حاجاتِهِم، ويَسْتَغيثونَ به، فشَمِلَ

ص: 124

قَوْله تعالى: {تَدْعُونَ} دُعَاءَ المَسْأَلَة، ودُعاءَ العِبَادَة، وقلْتُ: إنَّ دُعاءَ العِبَادَة دُعاءُ مَسْأَلَة لكن بِلِسانِ الحالِ.

كيف يَدْعون هؤلاء؟ أقول: يَدْعون هذه الأَصْنَام على وَجْهَيْنِ:

إمَّا بدُعاءِ مَسْأَلَة، وإمَّا بدُعاءِ عِبَادَة، ودُعَاءُ العِبَادَة دُعَاءٌ بلسانِ الحالِ.

قول المُفَسِّر رحمه الله: [{مِنْ دُونِهِ} أي: غَيْره، وهم الأَصْنام] الأَصْنام تارةً يُعَبِّر الله عنها بِصيغَةِ المُؤَنَّث، وتارة يُعَبِّر عنها بِصيغَةِ المُذَكَّر، هنا عَبَّر عنها بصيغة المُذَكَّرِ العاقِلِ {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ} هذا للمُذَكَّرِ العاقِلِ، وإنَّما وَصَفَ هذه مع أنَّها جمادٌ مَيِّتَةٌ للتَّنَزُّل مع هؤلاء العابدينَ لها وذِكْرها على أكْمَلِ حالٍ يَعْتَقدونَها فيها؛ يعني: هي مع كمالهِا على زَعْمِكُم لِكَوْنِها من ذوات العَقْلِ لا تَمْلِك شيئًا.

قَوْله تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} : {مِنْ} زائِدَة؛ ولهذا نقول: {قِطْمِيرٍ} مفعولٌ به منصوبٌ بِفَتْحَة مُقَدَّرَة على آخره منع من ظهورها اشتغالُ المَحَلِّ بِحَرَكَة حرف الجَرِّ الزَّائِد؛ أي: ما يَمْلِكونَ قِطْميرًا.

قال المُفَسِّر رحمه الله: [{قِطْمِيرٍ}: لِفافَةَ النَّواة] إنَّ في النواة ثلاثَةَ أَشْياءَ يُضْرَبُ بها المَثَلُ في الحَقَارة: قِطْمير، ونَقِير، وفَتِيل.

ويَدُلُّ على هذا أنَّهم لا يَمْلِكون شيئًا قَوْلُه تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} : {إِنْ} هذه شَرْطِيَّةٌ، وفعل الشَّرْطِ {تَدْعُوهُمْ} وهو مَجْزومٌ بِحَذْف النون، وجوابُ الشَّرْط {لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} وهو مجزوم أيضًا بحَذْفِ النون؛ يعني: هذه الأَصْنَامُ إن تَدْعوهُم لا يَسْمَعوا دُعَاءَكُم، لو تَدْعُونَ هذه الأَصْنَامَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ما سمعوا؛ لأنَّها جَمادٌ، قال الله عز وجل:{وَلَوْ سَمِعُوا} قال المُفَسِّر رحمه الله: [فَرْضًا

ص: 125

{مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} ما أجابوكم] يعني: لو سَمِعَتْ هذه الأَصْنَامُ دُعَاءكم ما استجابَتْ لكم؛ أي: ما أجابَتْكم سواءٌ إن قلتم: يا لات يا عُزَّى، يا مَنَاة، يا يَعُوق، يا يَغُوث، يا نَسْر، لو سَمِعَتْ هذا الدُّعَاءَ هل تُجيبُكم وتقول: نعم، ماذا تريدون؟

الجواب: لا، ولا تُعْطيكم المَطْلوبَ أيضًا، حتى لو سَكَتَت ما أَوْصَلَت المطلوبَ إليكم؛ ولهذا قال:{مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} لِيَشْمَلَ الإسْتِجابَةَ بالقَوْلِ بأن تقولَ هذه الأَصْنَامُ: ماذا تريدون؟ والإسْتِجابَة بالفِعْل وهي إيصالُ المَطْلوبِ إلى هؤلاء الطَّالبينَ، فهي لا تَسْتجيبُ لا لهذا ولا لهذا.

قول المُفَسِّر رحمه الله: [{اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أي: أجابوكم] مثلُ قَوْلِه تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195]؛ أي: أجابَهُم وكقَوْله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} [البقرة: 186] أي: فَلْيُجيبُوني، وأمثال هذا كثيرٌ؛ فالإستجابة هنا بمَعْنى الإِجابَة؛ أي: إِنَّ هذه الأَصْنَامَ لا تُجيبهم.

وزِدْ على ذلك أنَّهم - كما قال المُفَسِّر رحمه الله: [{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} بإشْراكِكُم إيَّاهم مع الله؛ أي: يَتَبَرَّؤونَ مِنكم ومن عبادتكم إياهم] إِذَن انتفى عنها إجابَةُ الدُّعَاءِ، ومع ذلك لَيْتَهُم سَلِمُوا من شَرِّهِم، يَوْمَ القِيامَة في هذا المَوْقِف العظيم المَشْهور يَكْفُرون بِشِرْكِكُم ويَتَبَرَّؤون منكم، وهذا غايَةُ ما يكون من الخِذْلان؛ لأنَّ النَّاسَ في يوم القِيامَة يكونون فيه أَحْوَجَ ما يكونون إلى النَّصْرِ والعِزَّةِ، وهؤلاء الأَصْنَامُ يَوْمَ القِيامَة تُذِلُّهُم كما قال الله تعالى - وهذا يقَوْله إبراهيم -:{وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25].

ص: 126