المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المقام، حتى تسبب من ذلك تطويل ذيول الكلام.   ‌ ‌89 - {قَدِ - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٠

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: المقام، حتى تسبب من ذلك تطويل ذيول الكلام.   ‌ ‌89 - {قَدِ

المقام، حتى تسبب من ذلك تطويل ذيول الكلام.

‌89

- {قَدِ افْتَرَيْنا} واختلقنا {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى {كَذِبًا} عظيما وتخرصنا عليه من القول باطلا {إِنْ} نحن {عُدْنا} ورجعنا ودخلنا في {مِلَّتِكُمْ} الباطلة، وقد علمنا فساد ما أنتم عليه من الملة والدين {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ} سبحانه وتعالى وخلصنا {مِنْها} وبصرنا خطأها، وهدانا الصراط المستقيم، باتباع ملة إبراهيم، وإذا كان اتباع ملتكم يعد افتراء على الله لأنّه قول عليه، لا علم لنا به بوحي ولا برهان من العقل .. فكيف بمن يفتري عليه ويضل عن صراطه على علم؟ فالكفر بالحق وغمطه بعد العلم به هو شر أنواع الكفر، والافتراء على الله فيه أفظع ضروب الافتراء، التي لا تقبل فيها الأعذار بحال.

وفي قوله: {إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ} ، أيضا فيه من الإشكال (1) مثل ما في الأول، وهو أنّ شعيبا عليه السلام ما كان في ملتهم قط حتى يقول:{إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها} والجواب عنه مثل ما أجيب به عن الإشكال الأول، وهو أن تقول: إنّ الله نجى قومه الذين آمنوا به من تلك الملة الباطلة، إلا أنّ شعيبا نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئا مما كانوا عليه من الكفر، فأجرى الكلام على حكم التغليب، وقيل: معنى {نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها} علمنا قبح ملتكم، وفسادها، فكأنّه خلصنا منها. وعبارة المراغي قوله:{إِذْ نَجَّانَا} ؛ أي: نجى أصحابي منها، فهو تغليب بإدخاله في زمرتهم، أو: نجاني من الإنتماء إلى هذه الملة التي ما كنت أؤمن بعقيدتها، ولا أعمل بعمل أهلها. انتهى.

{وَما يَكُونُ لَنا} ؛ أي: ما ينبغي لنا، ولا يصح منا، ولا يستقيم {أَنْ نَعُودَ} ونرجع إلى ملتكم وندخل {فِيها} ونترك الحق الذي نحن عليه في حال من الأحوال {إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا}؛ أي: إلا في حال مشيئة ربنا أن نعود فيها، فهو وحده القادر على ذلك، لا أنتم ولا نحن، لأنّا موقنون بأن ملتكم باطلة، وملتنا هي الحق، التي بها صلاح حال البشر وعمران الأرض، فحينئذ يمضي

(1) الخازن.

ص: 12

قضاء الله وقدره فينا، وينفذ سابق مشيئته علينا.

وهذه الجملة (1) رفض آخر للعود إلى ملتهم، مؤكد أبلغ التأكيد، مؤس لهم من عودته ومن آمن معه إلى ملتهم، فبعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم، نفاه نفيا مؤكدا بأنّه ليس من شأنهم، ولا يجىء من قبلهم بحال من الأحوال، كالترغيب والترهيب، بالرجاء في المنافع، والخوف من المضار، كالإخراج من الديار إلا حالا واحدة، وهي مشيئة الله، ومشيئته تجري بحسب علمه وحكمته في خلقه، وسنته في خلقه أن ينصر أهل الحق على أهل الباطل ما داموا ناصرين له، وقائمين بما هداهم إليه منه.

وخلاصة ذلك: لا تطمعوا أن يشاء ربنا الحفي بنا، عودتنا في ملتكم، بعد إذ نجانا منها بفضله، فما كان الله ليدحض حجته ويغير سنته.

وقال الواحدي: معنى (2) العود هنا الابتداء.

والذي عليه أهل العلم والسنة في هذه الآية: أنّ شعيبا وأصحابه قالوا: ما كنا نرجع إلى ملتكم بعد أن وقفنا على أنّها ضلالة تكسب دخول النار، إلا أن يريد الله إهلاكنا، فأمورنا راجعة إلى الله، غير خارجة عن قبضته، يسعد من يشاء بالطاعة، ويشقي من يشاء بالمعصية، وهذا من شعيب وقومه استسلام لمشيئة الله تعالى، ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ} . وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» . قال الزجاج - رحمه الله تعالى -: المعنى: وما يكون لنا أن نعود فيها، إلا أن يكون قد سبق في علم الله ومشيئته أن نعود فيها، وتصديق ذلك قوله:{وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} ؛ أي: أحاط علم ربنا سبحانه وتعالى أزلا بكل الأشياء، ويعلم ما كان وما سيكون، قبل أن يكون، فالسعيد من سعد في علم الله، والشقي من شقي في علم الله، فهو سبحانه وتعالى يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئة تجري على موجب الحكمة، فكل

(1) المراغي.

(2)

الواحدي.

ص: 13

ما يقع فهو مشتمل عليها، وفي هذا إيماء إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}. {عَلَى اللَّهِ} سبحانه وتعالى لا على غيره {تَوَكَّلْنا}؛ أي: اعتمدنا، وفي أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان، ويحول بيننا وبين الكفر وأهله، ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته، وإليه استندنا في أمورنا كلها، فإنّه الكافي لمن توكل عليه؛ أي: إلى الله وحده وكلنا أمورنا، مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من الحفاظ على شرعه ودينه، فهو الذي يكفينا تهديدكم، وما ليس في استطاعتنا من جهادكم {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} . إذ من شروط التوكل الصحيح القيام بالأحكام الشرعية، ومراعاة السنن الكونية، والاجتماعية، فمن يترك العمل بالأسباب .. فهو الجاهل المغرور، لا المتوكل المأجور.

كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله: أيترك ناقته سائبة ويتوكل على الله؟ «إعقلها وتوكل» . رواه الترمذي، وقال تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أمره بمشورة أصحابه في غزوة أحد:{فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ؛ وإنما يكون العزم بعد الأخذ في الأسباب، فقد لبس من يومئذ در عين، وأعد العدة لقتال أعدائه، ورتب الجيوش بحسب القوانين المعروفة في ذلك العصر.

وخلاصة رد شعيب على الملأ من قومه: أنّه عجب من تهديدهم وإنذارهم، وأقام الأدلة على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم، وعدم استطاعة أحد إجبارهم عليه، غير الله الفعال لما يريد، ثمّ ثنى بذكر توكله على الله الذي يكفي من توكل عليه ما أهمه، مما هو فوق كسبه واختياره، ثمّ ثلث بالدعاء الذي لا يكون مرجو الإجابة إلا بعد القيام بعمل ما في الطاقة من الأعمال الكسبية مع التوكل على الله فقال:{رَبَّنَا افْتَحْ} واحكم وافصل واقض {بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} ؛ أي: بالعدل الذي لا جور فيه، ولا ظلم ولا حيف، الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، وبين المحقين والمبطلين. وكرر الظرف في قوله:{بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا} بخلاف قوله: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا} زيادة في تأكيد تميزه ومن معه من قومه ا. هـ. «سمين» {وَأَنْتَ} : يا ربنا {خَيْرُ

ص: 14