المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الروحية، إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٠

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: الروحية، إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها

الروحية، إلى أن جاءت الشريعة الوسطى السمحة التي بعث بها خاتم الرسل محمد صلوات الله عليه.

ثم بين سبحانه وتعالى كيفية اتباعه صلى الله عليه وسلم، وعلو مرتبة متبعيه، واغتنامهم مغانم الرحمة في الدارين، إثر بيان نعوته الجليلة فقال:{فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ} ؛ أي: بالرسول النبي الأمي حين بعث من قوم موسى، ومن كل أمة {وَعَزَّرُوهُ}؛ أي: منعوه وحموه من كل من يعاديه، مع التعظيم والإجلال؛ لا كما يحمون بعض ملوكهم مع الكره والاشمئزاز {وَنَصَرُوهُ} على أعدائه باللسان والسنان {وَاتَّبَعُوا النُّورَ} الأعظم {الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}؛ أي: مع رسالته، وهو القرآن. سماه نورا لأنّه يظهر نور الإيمان لصاحبه، ويزيل عنه ظلمة الجهل والضلال {أُولئِكَ} الموصوفون بالصفات السابقة، من الإيمان به والتعزير والنصر له، واتباع النور الذي أنزل معه {هُمُ الْمُفْلِحُونَ}؛ أي: الفائزون بالرحمة والرضوان؛ أي: الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة، والناجون من السخط والعذاب، دون غيرهم من حزب الشيطان الذين خذلهم الله تعالى في الدنيا والآخرة.

وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى (1): {وَعَزَّرُوهُ} بالتخفيف. وقرأ جعفر بن محمد: {وعززوه} بزايين،

‌158

- ولما ذكر الله سبحانه وتعالى أوصاف رسول الله صلى الله عليه وسلم المكتوبة في التوراة والإنجيل .. أمره سبحانه أن يقول هذا القول الآتي، المقتضي لعموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعا فقال:{قُلْ} يا محمد لجميع البشر من عرب أو عجم {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ؛ أي: مرسل إليكم كافة لا إلى قومي خاصة، فهو بمعنى قوله تعالى:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ؛ أي: وأنذر به كل من بلغه من الثقلين، وقوله:{وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)} ..

وجاءت أحاديث صحيحة ناطقة باختصاصه صلى الله عليه وسلم، بالرسالة العامة:

(1) البحر المحيط.

ص: 170

فمنها: ما روى الشيخان عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ومسجدا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة» . وفي رواية: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي بعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» . وقوله في الرواية الأولى: «وبعثت إلى كل أحمر وأسود» . قيل: أراد بالأحمر العجم، وبالأسود العرب، وقيل: أراد بالأحمر الإنس، وبالأسود الجن.

ومنها: ما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الأنبياء بستة: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون» .

ثم وصف الله تعالى نفسه بتوحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وبالإحياء وبالإماتة فقال:{الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ} ؛ أي: إن الإله الذي أنا رسوله هو من له التصرف والملك في السموات والأرض وتدبير العالم كله، إذ وحدة النظام في جملة المخلوقات، وعدم التفاوت فيها دليل على وحدة مصدرها وتدبيرها، فهو المعبود وحده لا إله إلا هو، وتوحيد الربوبية بالإيمان، وتوحيد الألوهية بالإيمان والعمل؛ أي: بعبادة الله وحده، هما أصل الدين، والركن الأول في العقيدة، والركن الثاني: الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والركن الثالث: عقيدة البعث بعد الموت، وهي تتضمن الإحياء والإماتة وتصرف الرب في خلقه.

وقد بنى على تقرر هذه الأمور الثلاثة الدعوة إلى الإيمان فقال: {فَآمِنُوا}

ص: 171

أيها الناس جميعا {بِاللَّهِ} الواحد في ربوبيته وألوهيته، الذي يحيي كل ما تحله الحياة، ويميت كل ما يعرض له الموت بعد الحياة، وهذا أمر مشاهد كل يوم {وَ} آمنوا بـ {رَسُولِهِ} النبي الأمي الذي بعثه في الأميين رسولا إلى الخلق أجمعين يعلمهم الكتاب، والحكمة، ويطهرهم من خرافات الشرك والجهل، والتفرق والتعادي، ليكونوا بهدايته أمة واحدة، يتحقق بها الإخاء البشري العام، وقد بشر

بهذا النبي والأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأنّه المتمم لما بعثوا به من هداية الناس، قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: فآمنوا بالله وبي، بعد قوله:{إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} ؟

قلت: عدل عن المضمر إلى الاسم الظاهر لتجري عليه الصفات التي أجريت عليه، ولما في طريقه الالتفات من البلاغة، وليعلم أنّ الذي يجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنّه النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان أنا أو غيري، إظهارا للنصفة {الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ}؛ أي: يؤمن يتوحيد الله وبكلماته التشريعية، التي أنزلها لهداية خلقه على ألسنة رسله، وهي مظهر علمه ورحمته، والمراد بها القرآن وسائر الكتب السماوية، وبكلماته التكوينية التي هي مظهر إرادته وقدرته وحكمته، وقرأ الأعمش:{الذي يؤمن بالله وآياته} بدل {كَلِماتِهِ} . وبعد أن أمرهم سبحانه بالإيمان أمرهم بالإسلام فقال: {وَاتَّبِعُوهُ} ؛ أي: واتبعوا ذلك النبي الأمي، واسلكوا طريقه، واقتفوا أثره في كل ما يأتي ويذر من أمر الدين {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}؛ أي: رجاء اهتدائكم بالإيمان وباتباعه إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، وتلك هي الثمرة التي تجنى منهما، فما آمن قوم بنبي

إلا كانوا بعد الإيمان به خيرا مما كانوا قبله من العزة والكرامة في دنياهم، وسعادتهم في آخرتهم، بنيل رضوان ربهم، والحظوة بالقرب منه.

وليس من التشريع الذي يجب فيه امتثال الأمر واجتناب النهي ما لا تعلق له بحق الله ولا حق خلقه، من جلب مصلحة أو دفع مفسدة، كمسائل العادات والزراعات والصناعات والعلوم، والفنون المبنية على التجارب، وما جاء فيها من أمر ونهي فهو إرشاد لا تشريع، وقد ظن بعض الصحابة أنّ إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لبعض

ص: 172