الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحد لهلك كل كافر وعاص عقب كفره وفجوره {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} .
وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد (1): {من أساء} - بالسين المهملة - فعل ماض من الإساءة، وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاووس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وقرأ بها سفيان بن عينية مرة واستحسنها، فقام إليه عبد الرحمن المقري، وصاح به وأسمعه، فقال سفيان: لم أدر ولم أفطن لما يقول أهل البدع.
ثم ذكر من ستكتب لهم الرحمة فقال: {فَسَأَكْتُبُها} ؛ أي: فسأكتب رحمتي، وأثبتها وأقدرها وأقضيها بمشيئتي في الآخرة خاصة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} الكفر والمعاصي {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ}؛ أي: المفروضة؛ أي: يعطون زكاة أموالهم وصدقاتها التي تتزكى بها أنفسهم، وخص الزكاة بالذكر دون ما عداها من الطاعات لأن النفوس شحيحة، ففتنته تقتضي أن يكون المانعون للزكاة أكثر من التاركين غيرها من الطاعات، كما إنّ في ذلك إيماء إلى أنّ اليهود أشربوا في قلوبهم حب المال، وفتنوا بجمعه ومنع بذله في سبيل الله {وَ} سأكتبها لـ {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا}؛ أي: بدلائل وحدانيتنا وقدرتنا، وصدق رسلنا {يُؤْمِنُونَ}؛ أي: يصدقون تصديق إيقان مبني على العلم الصحيح، دون تقليد للآباء والأجداد.
157
- ثم بين الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين كتب لهم هذه الرحمة، ببيان أوضح مما قبله وأصرح فقال:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ} نعت {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أو بدل منه، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين يتمسكون دين الرسول الكريم ويتبعون {النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} محمدا صلى الله عليه وسلم؛ أي: الذي لم يمارس القراءة والكتابة، ومع ذلك جمع علوم الأولين والآخرين، فخرجت اليهود والنصارى وسائر الملل، والأمي إما نسبة إلى الأمة الأمية التي لا تكتب ولا تحسب - وهم العرب - أو نسبة إلى الأم، والمعنى: إنه باق على حالته التي ولد عليها، لا يكتب ولا يقرأ
(1) البحر المحيط.
المكتوب، وقيل نسبة إلى أم القرى - وهي مكة - وقرأ يعقوب {الأمي} بفتح الهمزة، وخرجها بعضهم على أنّه من تغيير النسب كما قالوا في النسب إلى أمية: أموي بفتح الهمزة، وخرجها بعضهم على أنّه نسبة إلى الأم، بمعنى القصد الذي هو مصدر أم يؤم أما، بمعنى قصد، ومعناه: المقصود لكل أحد، وهذا الوصف من خصوصياته صلى الله عليه وسلم، إذ كثير من الأنبياء كان يكتب ويقرأ، فالأمية آية من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم، فهو مع أميته قد جاء بأعلى العلوم النافعة، التي بها يصلح ما فسد من عقائد البشر وأخلاقهم وآدابهم وأعمالهم، فغير نظم البشر في تلك الحقبة الطويلة، وأثر في حياة الأمم التي حوله أكبر الأثر، بما شهد له المنصفون في كل الأديان، وقد وصف الله تعالى ذلك الرسول الذي أوجب اتباعه على كل من أدركه من بني إسرائيل بصفات:
منها: أنّه نبي أمي.
ومنها: أنّه هو {الَّذِي يَجِدُونَهُ} ؛ أي: يجد الذين يتبعونه من بني إسرائيل اسمه ونعته {مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ} اللذين هما مرجعهم في الدين، بحيث لا يشكون أنّه هو، وبالجملة فأهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يتناقلون خبر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، ويذكرون البشارات من كتبهم، حتى إذا ما بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق آمن به كثيرون، وكان علماؤهم يصرحون بذلك، كعبد الله بن سلام وأصحابه من علماء اليهود، وتميم الداري من علماء النصارى، وغيرهم من الذين أسلموا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنها: أنه {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ؛ أي: بكل ما تعرفه القلوب ولا تنكره، من التوحيد ومكارم الأخلاق، وبر الوالدين وصلة الأرحام {وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}؛ أي: عن كل ما تنكره القلوب ولا تعرفه، وهو ما كان من مساوىء الأخلاق، كعبادة الأوثان، والكفر بما أنزل الله على النبيين، وقطع الرحم، وعقوق الوالدين.
ومنها: أنّه {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ} ؛ أي: كل ما تستطيبه الأذواق السليمة من الأطعمة، وفيه فائدة في التغذية مما حرم عليهم في التوراة، كلحوم الإبل،
وشحوم البقرة والغنم.
ومنها: أنّه {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ} ؛ أي: كل ما تستخبثه الطبائع السليمة، وتستقذره النفوس، كالميتة والدم المسفوح، والخنازير، وما يؤخذ من الأموال بغير حق، كالربا والرشوة والغضب والخيانة.
ومنها: أنّه {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} ؛ أي: يسقط عنهم ثقل العهد الذي أخذ عليهم، والمراد (1) بالإصر هنا: العهد والميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل على أن يعملوا بما في التوراة من الأحكام، فكانت تلك الشدائد، قاله ابن عباس.
وقيل (2): التشديد الذي كان عليهم من تحريم السبت، وأكل الشحوم، وغير ذلك من الأمور الشاقة، قاله قتادة. وقال مسروق: لقد كان الرجل من بني إسرائيل يذنب الذنب فيصبح وقد كتب على باب بيته أن كفارته أن تنزع عينيك فينزعهما. وقرأ ابن عامر {أصارهم} بالجمع. وقرىء: {أصرهم} بفتح الهمزة وبضمها. وقرأ طلحة: {ويذهب عنهم إصرهم} {وَ} يخفف عنهم {الْأَغْلالَ} ؛ أي: التكاليف الشاقة {الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ} في عبادتهم ومعاملاتهم، كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وكاشتراط قتل النفس في صحة التوبة، وتعيين القصاص في القتل العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة، وعدم صحة صلاتهم إلا في الكنائس، وغير ذلك من التكاليف التي كانت على بني اسرائيل، شبهت بالأغلال التي تجمع اليد إلى العنق، كما أن اليد لا تمتد مع وجود الغل، فكذلك لا تمتد إلى الحرام الذي نهيت عنه.
والخلاصة (3): أنّ بني إسرائيل كانوا قد أخذوا بالشدة في أحكام العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والعقوبات، فكانت مثلهم مثل من يحمل أثقالا يئط منها، وهو موثق بالسلاسل والأغلال في عنقه ويديه ورجليه، وقد خفف المسيح عليه السلام عنهم بعض التخفيف في الأمور المادية، وشدد في الأحكام
(1) الخازن.
(2)
زاد.
(3)
المراغي.