الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: إنه تعالى مالك الملك، وخالق الخلق، وهم عبيده وفي ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون، فيحسن ذلك منه على سبيل المالكية، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على أنواع من أنواع المصلحة، والله أعلم بمراده.
وقرأ ابن (1) مسعود وعلي، وزيد بن ثابت، والباقر، والربيع بن أنس، وأبو العالية {لتصيبن} وفي ذلك وعيد للظالمين فقط، وعلى هذا التوجيه خرج ابن جني قراءة الجماعة {لا تُصِيبَنَّ} وحكى النقاش عن ابن مسعود، أنه قرأ فتن أن تصيب {وَاعْلَمُوا} أيها المؤمنون {أَنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {شَدِيدُ الْعِقابِ}؛ أي: شديد عقابه للأمم، والأفراد، التي خالفت سننه التي لا تبديل لها ولا تحويل، أو خالفت هدى دينه المزكي، للأنفس المطهر للقلوب، ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه، والمعنى: الزموا الاستقامة خوفا من عذاب الله تعالى، وهذا العقاب (2) منه ما هو في الدنيا، وهو مطرد في الأمم وقد أصيبت به الأمة الإسلامية في القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده، إذ قصروا في درء الفتنة الأولى، فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك، ثم تسلسل العقاب في كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان، حتى زالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها.
وقد يقع هذا العقاب للأفراد، لكنهم ربما لا يشعرون به، لأنه يقع تدريجيا، فلا يكاد يحس به، وأما العقاب الأخروي فأمره الله إلى العالم بالسر والنجوى، والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم.
26
- وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} خطاب للمهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة في عصر التنزيل، يذكرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية في الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم.
(1) البحر المحيط.
(2)
المراغي.
أي: واذكروا يا معشر المهاجرين {إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} في العدد في أول الإسلام {مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} ؛ أي: مقهورون في أرض مكة {تَخافُونَ} من مبدأ الإسلام إلى حين الهجرة إذا خرجتم من البلد {أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} ؛ أي: أن يأخذكم مشركو العرب من قريش وغيرها، بسرعة لشدة عداوتهم لكم، ولقربهم منكم، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة، فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا في خارج الحرم، وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم، كما قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} {فَآواكُمْ} وضمكم أيها المهاجرون إلى الأنصار ونقلكم إلى المدينة فصرتم آمنين من كفار مكة، {وَأَيَّدَكُمْ} وإياهم؛ أي: قواكم {بِنَصْرِهِ} سبحانه وتعالى إياكم في بدر، وفي سائر غزواتكم، ويؤيدكم على من سواكم من فارس والروم، وغيرهما كما وعدكم بذلك في كتابه الكريم، {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ}؛ أي: من الغنائم وغيرها، وكانت محرمة على من كان قبل هذه الأمة {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم العظيمة؛ أي: رجاء أن تشكروا هذه النعم وغيرها مما يؤتيكم من فضله كما وعد في كتابه {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} .
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ} الآية.
قال كان هذا الحي أذل الناس ذلا، وأشقاه عبثا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا وأبينه ضلالة معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم ما يحسدون عليه من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردي في النار يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من نعم الله عز وجل.
وفي الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان، ومكن لأهله في الأرض، وأنالهم ما لم يكونوا يرجونه لولا هدى الدين، وأورثهم في الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا، وريحانا، وجنة نعيم.