المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

والخلاصة: أنّه أوتي الهدى فانسلخ منه إلى الضلال، ومال إلى - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٠

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: والخلاصة: أنّه أوتي الهدى فانسلخ منه إلى الضلال، ومال إلى

والخلاصة: أنّه أوتي الهدى فانسلخ منه إلى الضلال، ومال إلى الدنيا، فتلاعب به الشيطان، وكانت عاقبته البوار والخذلان، وخاب في الآخرة والأولى.

‌176

- وفي الآية عبرة وعظة للمؤمنين، وتحذير لهم من اتباع أهوائهم، حتى لا ينزلقوا في مثل تلك الهوة التي انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا، وركونه إلى شهواتها ولذاتها، {وَلَوْ شِئْنا}؛ أي: ولو أردنا أن نرفعه بتلك الآيات وبالعمل بها إلى درجات الكمال والعرفان {لَرَفَعْناهُ} ؛ أي: لرفعنا ذلك المنسلخ {بِها} ؛ أي: بتلك الآيات إلى درجات الكمال، ومنازل العلماء الأبرار، بأن نخلق له الهداية خلقا، ونلزمه العمل بها طوعا أو كرها، إذ لا يعجزنا ذلك ولكنه مخالف لسنتنا {وَلكِنَّهُ}؛ أي: ولكن ذلك المنسلخ {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} ؛ أي: أراد الخلود في الأرض، وركن إلى الدنيا، ومال إليها، وآثر لذاتها وشهواتها على الآخرة، وأصله من الخلود وهو الدوام والمقام، والأرض هنا عبارة عن الدنيا؛ لأنّ الأرض عبارة عن المفاوز والقفار، وفيها المدن والضياع، والمعادن والنبات، ومنها يستخرج ما يعاش به في الدنيا، فالدنيا كلها هي الأرض. ذكره في «الخازن» {وَاتَّبَعَ هَواهُ}؛ أي: واتبع ما تهواه نفسه، وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها الجسدية، ولم يوجه إلى الحياة الروحية عزما، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشيء مما آتيناه من آياتنا، فخسر دنياه وآخرته، ووقع هاوية الردى والهلاك وانحط في أسفل سافلين، وقيل: المعنى: اتبع رضا زوجته، وكانت هي التي حملته على الانسلاخ من آيات الله تعالى.

وخلاصة ذلك (1): أنّ من شأن من يؤتى الآيات أن تسمو نفسه وتصعد في سلم الكمال، لما فيها من الهداية إلى سبيل الخير الحاضة على العمل النافع، وما فيه فائدة روحية له، على شريطة أن يتلقاها بعزيمة ونية صادقة، كما جاء في الحديث:«إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكل امرىء ما نوى» . أما من تلقاها بغير

(1) المراغي.

ص: 233

قصد أو بنية كسب المال والجاه، وفي نفسه ما يصرفه عنها .. فلن يستفيد منها شيئا، وسرعان ما ينسلخ منها.

وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء الذين يريدون بعلمهم الدنيا، وشهوات النفس، ويتبعون الهوى، وذلك لأنّ الله سبحانه وتعالى خص هذا الرجل بآياته وحكمته، وعلمه اسمه الأعظم، وجعل دعاءه مستجابا، ثم إنّه لما اتبع هواه، وركب إلى الدنيا، ورضي بها عوضا عن الآخرة .. نزع منه ما كان أعطيه، وانسلخ من الدين، فخسر الدنيا والآخرة، ومن الذي يسلم من الميل إلى الدنيا واتباع الهوى إلا من عصمه الله بالورع، وثبته بالعلم، وبصره بعيوب نفسه.

وعن كعب بن مالك الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» أخرجه الترمذي. ثم ضرب الله تعالى مثلا لهذا الرجل الذي آتاه آياته فانسلخ منها واتبع هواه فقال: {فَمَثَلُهُ} ؛ أي: مثل هذا المنسلخ عن آيات الله تعالى وصفته في الدناءة والخسة، ولزوم حاله له {كَمَثَلِ الْكَلْبِ}؛ أي: كصفة الكلب الذي صار لهث اللسان طبيعة له {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ} أيها المخاطب؛ أي: إن تزجره وتطرده {يَلْهَثْ} ؛ أي: يخرج لسانه مع التنفس الشديد {أَوْ تَتْرُكْهُ} ؛ أي: تترك ذلك الكلب غير مطرود {يَلْهَثْ} ؛ أي: يخرج لسانه مع التنفس؛ أي: (1) إن شددت عليه وأجهدته لهث، أو تركته على حاله لهث، لأن اللهث طبيعة أصلية فيه، فكذلك حال الحريص على الدنيا، إن وعظته .. فهو حرص لا يقبل الوعظ ولا ينجع فيه، وإن تركته ولم تعظه .. فهو حريص أيضا؛ لأن الحرص على طلب الدنيا صار طبيعة له لازمة، كما أن اللهث طبيعة لازمة للكلب اه. «خازن» .

وعبارة الشوكاني هنا قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ} ؛ أي: (2) فصار لما انسلخ عن الآيات ولم يعمل بها منحطا إلى أسفل رتبة، مشابها لأخس الحيوانات في الدناءة، مماثلا له في أقبح أوصافه، وهو أنه يلهث في كلا حالتي قصد

(1) الخازن.

(2)

الشوكاني.

ص: 234

الإنسان له وتركه فهو لاهث، سواء زجر أو ترك، طرد أو لم يطرد، شد عليه أو لم يشد عليه، وليس بعد هذا في الخسة والدناءة شيء، وجملة قوله:{إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} في محل النصب على الحال؛ أي: مثله كمثل الكلب حال كونه متصفا بهذه الصفة، والمعنى: إن هذا المنسلخ عن الآيات لا يرعوى عن المعصية في جميع أحواله سواء وعظه الواعظ، وذكره المذكر، وزجره الزاجر، أو لم يقع شيء من ذلك، قال القتيبي: كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش، إلا الكلب؛ فإنّه يلهث في حال الكلال، وحال الراحة، وحال المرض، وحال الصحة وحال الري، وحال العطش، فضربه الله مثلا لمن كذب بآياته، فقال: إن وعظته ضل، وإن تركته ضل، فهو كالكلب، إن تركته لهث، وإن طردته لهث كقوله تعالى:{وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)} ، واللهث: إخراج اللسان لتعب أو عطش، أو غير ذلك مع التنفس الشديد، وقيل معنى الآية: إنك إذا حملت على الكلب نبح وولى هاربا، وإن تركته شد عليك ونبح فيتعب نفسه مقبلا عليك، ومدبرا عنك، فيعتريه عند ذلك ما يعتريه عند العطش من إخراج اللسان. انتهت.

والمعنى (1): أن هذا الرجل كالكلب في صفته هذه، وهي أقبح حالاته وأخسها، فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه يكون كذلك في أسوء حال، فهو في هم دائب، وشغل شاغل في جمع عرض الدنيا وزخرفها - يعني بخسيس أمورها وجليلها - كشأن عباد الأهواء وطلاب الأموال، ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب، وإن كان ما يعنى به حقيرا لا يتعب ولا يعيي، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة في الدنيا .. زاد طمعا فيها كما قال الأول:

فما قضى أحد منها لبانته

ولا انتهى أرب إلّا إلى أرب

والإشارة بقوله: {ذلِكَ} إلى ما تقدم من التمثيل بتلك الحالة الخسيسة، وهو مبتدأ خبره قوله:{مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} ؛ أي: ذلك المثل الخسيس مثل القوم؛ أي: تلك الصفة الخسيسية الدنيئة المذكورة في المنسلخ عن

(1) المراغي.

ص: 235

آياتنا صفة ليست خاصة به، بل هي صفة عامة قائمة بجميع القوم الذين كذبوا بآياتنا من اليهود والمشركين وغيرهم، بعد أن علموا بها وعرفوها فحرفوا، وبدلوا وكتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بها، فعم (1) هذا المثل جميع من كذب بآيات الله تعالى وجحدها، فوجه التمثيل بينهم وبين الكلب اللاهث: أنّهم إذا جاءتهم الرسل ليهدوهم .. لم يهتدوا، وإن تركوهم لم يهتدوا أيضا، بل هم ضلال في كل حال.

أي (2): ذلك المثل البالغ في الغرابة، مثل هؤلاء القوم الذين جحدوا بآياتنا واستكبروا عنها، جهلا بها وتقليدا للآباء والأجداد، فهم قد ظنوا أن إيمانهم بها يسلبهم العزة، ويحط من أقدارهم، ويحول بينهم وبين ما يستمتعون به من اللذات، فكان ذلك حجابا حائلا بينهم وبين النظر فيها نظر تبصر واستدلال، وإن كانوا نظروا إليها من تلك الناحية التي تروق لهم - وهي حرمانهم من التمتع بالحظوظ والشهوات - إلى ما فيها من الاعتراف بضلال السلف من الآباء والأجداد، فما أشبه حالهم، بحال من أوتي الآيات فانسلخ منها، وذلك ليس بعيب فيها، بل العيب عليه باتباعه هواه الذي حرمه من الانتفاع بها، قال بعضهم:

قد تنكر العين ضوء الشّمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

{فَاقْصُصِ} يا محمد على هؤلاء المكذبين لك من اليهود وغيرهم هذا {الْقَصَصَ} الذي هو صفة الرجل المنسلخ عن آياتنا؛ فإن مثله المذكور كمثل هؤلاء القوم المكذبين من اليهود الذين تقص عليهم، فالقصص مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: أخبرهم هذا الخبر {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك، ويعملون فيه أفهامهم، فينزجرون عن الضلال، ويقبلون على الصواب.

قال أبو السعود (3): وجملة الترجي في محل نصب على أنها حال من ضمير

(1) الخازن.

(2)

المراغي.

(3)

أبو السعود.

ص: 236