المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كونكم متلبسين {بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجد واجتهاد وعزم على تحمل تكاليفه - تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن - جـ ١٠

[محمد الأمين الهرري]

الفصل: كونكم متلبسين {بِقُوَّةٍ}؛ أي: بجد واجتهاد وعزم على تحمل تكاليفه

كونكم متلبسين {بِقُوَّةٍ} ؛ أي: بجد واجتهاد وعزم على تحمل تكاليفه {وَاذْكُرُوا ما فِيهِ} ؛ أي: واذكروا ما في الكتاب الذي أعطيناكموه من الأوامر والنواهي بالعمل به، ولا تنسوه، وقيل: واذكروا ما فيه من الثواب والعقاب، وقيل: واعملوا بما فيه من الحلال والحرام. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ؛ أي: لكي تجعلوا ذلك الامتثال وقاية وسترا لكم من عذاب الله تعالى، وتزكية لنفوسكم من الأدناس؛ فإنّ

قوة العزيمة في إقامة الدين تزكي النفوس وتهذب الأخلاق، كما أنّ التهاون فيها يدسّيها ويغريها على اتباع الشهوات {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)} أو المعنى: لكي تتقون قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق. وقرأ (1) الأعمش {واذكروا} بالتشديد من الأذكار. وقرأ ابن مسعود {وتذكروا} ، وقرىء {وتذكروا} بالتشديد بمعنى وتذكروا.

‌172

- قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} معطوف على قوله: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} عطف قصة على قصة، والحكمة في تخصيص (2) بني إسرائيل بهذه القصة الزيادة في إقامة الحجة عليهم، حيث أعلمهم الله بأنّه أعلم نبيه بمبدأ العالم، فضلا عن وقائعم؛ أي: واذكر يا محمد للناس كافة قصة إذ أخذ ربك العهد {مِنْ بَنِي آدَمَ} على التوحيد وقال لهم: اعلموا أنه لا إله غيري، وأنا ربكم لا رب لكم غيري، فلا تشركوا بي شيئا، فإنّي سأنتقم ممن أشرك بي ولم يؤمن بي، وإنّي مرسل إليكم رسلا يذكرونكم عهدي وميثاقي هذا، ومنزل عليكم كتابا، فتكلموا جميعا وقالوا: شهدنا أنك ربنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثيقهم حين استخرج {مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ}؛ أي: أخرج بعضهم من ظهور بعض، آخر الأبناء من الآباء بطنا بعد بطن، فأخرج أولا ذرية آدم من ظهره، فأخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، ثم أخرج من هذا الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني، وانحصر الجميع قدام آدم، ونظر لهم بعينه، وخلق فيهم العقل والفهم والحركة والكلام، وبين مسلمهم من كافرهم، بأن جعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود {وَأَشْهَدَهُمْ

(1) البحر المحيط.

(2)

الصاوي.

ص: 206

عَلى أَنْفُسِهِمْ}؛ أي: أشهد أنفسهم على أنفسهم على أخذ ذلك الميثاق وقبوله؛ أي: قررهم، فإنّ الشهادة على النفس معناها الإقرار، وأشهد بعضهم على بعض، وقال لهم:{أَلَسْتُ} أنا {بِرَبِّكُمْ} وخالقكم ومعبودكم {قالُوا بَلى} أنت ربنا لا رب لنا غيرك، فأخذ بذلك مواثقهم، ثم كتب الله آجالهم، وأرزاقهم، ومصائبهم، فنظر إليهم آدم عليه السلام، فرأى منهم الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: رب هلا سويت بينهم؟ فقال: إني أحب أن أشكر، فلمّا قررهم بتوحيده، وأشهد بعضهم على بعض، أعادهم إلى صلب آدم، فلا تقوم الساعة حتى يولد كل من أخذ منه الميثاق، ثم استشهد الملائكة على قبولهم الميثاق، فقال: يا ملائكتي اشهدوا على قبولهم هذا الميثاق. قالت الملائكة: {شَهِدْنا} ذلك عليهم، وعلى هذا المعنى يحسن الوقف على قوله {بَلى}؛ لأنّ كلام الذرية قد تم وانقطع بقوله:{بَلى} ؛ وقوله: {شَهِدْنا} مستأنف من كلام الملائكة، وقيل هو من كلام الذرية، والمعنى: شهدنا على أنفسنا بهذا الإقرار، وعلى هذا المعنى لا يحسن الوقف على بلى؛ لأنّ مقولهم لم يتم ولم ينقطع على {بَلى} وقيل (1): المراد ببني آدم هنا آدم نفسه، وعلى هذا يكون معنى الآية: أن الله سبحانه وتعالى لما خلق آدم .. مسح ظهره، فاستخرج منه ذريته، وأخذ عليهم العهد، وهؤلاء هم عالم الذر، وهذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا المصير إلى غيره لثبوته مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفا على غيره من الصحابة.

وقد أخرج مالك في «الموطأ» وأحمد في «المسند» وعبد بن حميد والبخاري في «تاريخه» ، وأبو داود والترمذي، وحسنه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن حبان في «صحيحه» وغيرهم: أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} .. الآية فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها؟ فقال: «إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا

(1) الشوكاني.

ص: 207

رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله النار».

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وأما المروي عن الصحابة في تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من صلبه في عالم الذر، وأخذ العهد عليهم وإشهادهم على أنفسهم .. فهي كثيرة، منها عن ابن عباس عند ابن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في قوله:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ}

الآية. قال: خلق الله آدم، وأخذ ميثاقه أنّه ربه، وكتب أجله ورزقه، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر، فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم، وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصيباتهم. وقد أخرج عن جماعة ممن بعد الصحابة تفسير هذه الآية بإخراج ذرية آدم من ظهره، وفيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسيرها، مما قدمنا ذكره ما يغني عن التطويل.

وقرأ أبو عمرو وابن عامر ونافع (1): {ذرياتهم} بالجمع، وقرأ باقي السبعة {ذُرِّيَّتَهُمْ} بالإفراد، وهي تقع على الواحد والجمع، ثم بين سبحانه وتعالى سبب الإشهاد وعلته فقال:{أَنْ تَقُولُوا} قرأ أبو عمرو هنا وفيما يأتي بالياء التحتية على الغيبة، كما كان فيما قبله على الغيبة، وقرأ الباقون بالتاء الفوقية على الخطاب، وجملة {أَنْ تَقُولُوا} علة لمحذوف تقديره: فعلنا ذلك الأخذ والإشهاد كراهة أن تقولوا أيها الذرية، أو لكي لا تقولوا:{يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا} التوحيد؛ أي: عن كون الله ربنا وحده لا شريك له {غافِلِينَ} ؛ أي: ساهين جاهلين؛ أي: إنّا (2) فعلنا هذا الأخذ والإشهاد بكم منعا لاعتذاركم يوم القيامة بأن تقولوا: «إذا عذبت على الإشراك: إنا كنا عن هذا التوحيد غافلين، إذ لم ينبهنا إليه منبه، ومآل هذا أنّه لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل؛ لأنّهم نبهوا بنصب الأدلة، وجعلوا

(1) البحر المحيط.

(2)

المراغي.

ص: 208