الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى (82)} وقلما ذكر عذاب الفاسقين إلا قرنه بذكر الرحمة والمغفرة للمحسنين، حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمة ربه بذنب عمله بجهالة، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بعفوه وكرمه، وهو مصرّ على ذنبه،
168
- وقد فصل سبحانه عقابهم، فذكر بدء إذلالهم بإزالة وحدتهم، وتمزيق جامعتهم، فقال:{وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا} ؛ أي: وفرقنا بني إسرائيل الذين قبل النبي صلى الله عليه وسلم في نواحي الأرض وأقطارها حالة كونهم فرقا كثيرة، وأمما؛ أي: جماعات مشتتة، فيها كل فرقة منهم في قطر من أقطارها، فلا يخلو منهم قطر، وليس لهم شوكة ولا دولة .. {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} كالذين نهوا من اعتدوا في السبت عن ظلمهم، والذين كانوا يؤمنون بالأنبياء من بعد موسى، والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَمِنْهُمْ} أناس {دُونَ ذلِكَ} المذكورين في الصلاح لم يبلغوا مبلغهم، وهم سائر المؤمنين من بني إسرائيل، ومنهم الغلاة في الكفر والفسق، كالذين كانوا يقتلون النبيين بغير حق، ومنهم السماعون للكذب، الأكالون للسحت والرشا، لتبديل الأحكام، والقضاء بغير ما أنزل الله تعالى، كما هو شأن الأمم؛ فإنّها تفسد تدريجا لا دفعة واحدة، كما نشاهد ذلك في المسلمين الذين تتبعوا نظم النصارى، ورضعوا البانهم، وقيل معنى {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ}؛ أي: ومنهم أناس غير أولئك الصالحين، وهم الذين كفروا من بني إسرائيل وبدلوا وغيروا {وَبَلَوْناهُمْ}؛ أي: واختبرناهم {بِالْحَسَناتِ} ؛ أي: بالنعم والخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ؛ أي: بالجدوبة والشدائد {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ؛ أي: لكي يرجعوا عن معصيتهم إلى طاعة ربهم؛ فإن كلا من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة بالترغيب والترهيب، والمعنى: واختبرنا بني إسرائيل وامتحنا استعدادهم بالنعم التي تحسن في عيونهم، وتقر بها أفئدتهم، وبالنقم التي تسؤهم - وإن كانت قد تحسن بالصبر عاقبتها لديهم - رجاء أن يرجعوا عن ذنبهم، وينيبوا إلى ربهم، فيعود إليهم فضله ورحمته.
169
- {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} ؛ أي: جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بدل سوء {وَرِثُوا الْكِتابَ} ؛ أي: أخذوا التوراة من أسلافهم يقرؤونها ولا يعملون بها وقرأ الحسن: {ورثوا} بضم الواو وتشديد الراء، حالة كونهم {يَأْخُذُونَ} من
سفلتهم {عَرَضَ هذَا الْأَدْنى} ؛ أي: متاع الدنيا على تحريف الكلام في صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الأحكام، وهم يستحقرون ذلك الذنب {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا}؛ أي: يغفر الله لنا ذنبنا ولا يؤاخذنا عليه؛ لأننا أبناؤه وأحباؤه، {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ}؛ أي: وإن يأتهم متاع مثل ما أتاهم أمس {يَأْخُذُوهُ} لحرصهم على الدنيا، أو المعنى: إنّهم يتمنون المغفرة من الله تعالى، والحال أنّهم مصرون على الذنب غير تائبين عنه.
وحاصل المعنى: أي نبتت من أولئك - الذين منهم الصالح والطالح - نابتة ورثوا التوراة؛ أي: وقفوا على ما فيها، وكانوا عالمين بأحكامها بعد أسلافهم، والحال أنّهم يؤثرون حطام الدنيا ومتاعها، بما يأكلونه من السحت والرشا، والاتجار بالدين والمحاباة في الحكم، ويقولون: سيغفر لنا ولا يؤاخذنا بما فعلنا، فإنّنا أبناء الله وأحباؤه، وسلائل أبنائه وشعبه الذي اصطفاه من سائر البشر، إلى نحو ذلك من الأماني والأضاليل، وهم بالغون في خطاياهم، مصرون على ذنوبهم، فإن يأتهم عرض آخر مثل الذي أخذوه أولا بالباطل .. يأخذوه ولا يستعففوا عنه، وهم يعلمون أن الله إنما وعد بالمغفرة للتائبين الذين يقلعون عن ذنبهم، ندما وخوفا من ربهم، ويصلحون ما كانوا قد أفسدوا، ثم رد الله عليهم ما زعموه بقولهم: سيغفر لنا، وهم مقيمون على ظلمهم وفسادهم وحبهم للدنيا فقال:{أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ} والاستفهام فيه لتقرير ما بعد النفي، ولا يخفى ما فيه من التقريع والتوبيخ؛ أي: ألم يؤخذ ويجعل عليهم في التوراة العهد المؤكد باليمين على {أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} ؛ والصدق الذي بينه فيه، وقد منعوا فيها من تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة. وللتمني، ففيه افتراء على الله تعالى، ففيها أن من ارتكب ذنبا عظيما فإنّه لا يغفر له إلا بالتوبة، {وَ} قد {دَرَسُوا ما فِيهِ}؛ أي: ما في الكتاب وقرؤوه وعلموا ما فيه، والمعنى: أنّهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أنّهم قد درسوا ما في الكتاب وعلموه، فكان الشرك منهم عن علم لا عن جهل، والمقصود من الاستفهام التقريري: إثبات ما بعد النفي، والمعنى: قد أخذ عليهم الميثاق في الكتاب، ودرسوا ما فيه من الميثاق، وفهموا ما فيه، فهم ذاكرون لما أخذ عليهم من تحريم أكل أموال الناس بالباطل، والكذب على الله تعالى، وقيل: معنى
{دَرَسُوا ما فِيهِ} ؛ أي: محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم: درست الريح الآثار، إذا محتها، ولكن فيه بعد، وقرأ علي والسلمي:{وادارسوا} ، وأصله وتدارسوا، كقوله:{فَادَّارَأْتُمْ} ؛ أي: تدارأتم {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ} ؛ أي: ولثواب دار الآخرة ونعميها وهو الجنة {خَيْرٌ} من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة، المعقبة خزي الدنيا والآخرة {لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} عقاب الله، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، {أَ} تجهلون خيرية ذلك {فَلا تَعْقِلُونَ}؛ أي: فلا تعلمون أنّ الدنيا فانية والآخرة باقية، وفي هذا الاستفهام من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره، أو المعنى: أفلا يعقل هؤلاء الذين يرضون بعرض الدنيا أنّ ما في الآخرة خير وأبقى؛ لأنّها دار المتقين.
والمعنى (1): والدار الاخرة وما فيها من النعيم خير للذين يقتون المعاصي ما ظهر منها وما بطن؛ أي: خير لهم من حطام الدنيا الفاني، الذي يؤخذ بالرشا والسحت وغير ذلك، أتجهلون ذلك فلا تعقلون، وهو واضح لا يخفى على كل ذي عقل لم تطمسه الشهوات، ولم يعم بصيرته حطام الدنيا العاجل، وبذا يرجح الخير على الشر، والنعيم المقيم على المتاع الزائل، وفي هذا إيماء إلى أنّ الطمع في متاع الدنيا هو الذي أفسد على بني إسرائيل أمرهم، واستحوذ عليهم حب العاجلة، فأذهب عنهم رشدهم.
وفي هذا عبرة للمسلمين الذين سرى إليهم كثير من هذا الفساد، وغلب عليهم الطمع وحب الدنيا وعرضها الزائل، وهم قد درسوا كتابهم الكريم، لكن التحلي بلقب الإسلام - والتعلل بأماني المغفرة مع الإصرار على الذنوب اتكالا على الشفاعات والمكفرات - هو الذي غرهم وجعلهم يتمادون في غيهم، وكتابهم ينهاهم عن الأماني والأوهام، وكون الشفاعة لا تقع إلا بإذن الله تعالى لمن رضي عنه كما قال:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .
وقرأ (2) نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب إلتفاتا لهم، ويكون المراد إعلاما بتناهي الغضب، وتشديد التوبيخ، أو يكون خطابا لهذه الأمة؛ أي:
(1) المراغي.
(2)
البحر المحيط، والمراح.