الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{وَقالَ مُوسى} حين أراد الذهاب إلى الجبل لميقات ربه {لِأَخِيهِ هارُونَ} وكان أكبر منه سنا {اخْلُفْنِي} ؛ أي: كن خليفتي {فِي قَوْمِي} وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، وكانت الرياسة فيهم لموسى، وكان هارون وزيره ونصيره بسؤاله لربه حين قال:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)} ، {وَأَصْلِحْ} ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم وأمرهم بعبادة الله تعالى، فهي صلاحهم {وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} أي ولا تسلك سبيل من سلك الإفساد في الأرض بالمعاصي، ومن دعاك منهم إلى الإفساد فلا تتبعه ولا تطعه، واتباع سبيل المفسدين يشمل مشاركتهم في أعمالهم، ومساعدتهم عليها، ومعاشرتهم والإقامة معهم حال اقتراف الإفساد.
والمقصود (1) من هذا النهي التأكيد؛ لأنّ هارون عليه السلام لم يكن ممن يتبع سبيل المفسدين، فهو كقوله:{وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} وكقولك للقاعد: أقعد، بمعنى دم على ما أنت عليه من القعود، والمعنى: دم على عدم اتباع سبيل المفسدين.
143
- {وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا} ؛ أي: لميعادنا الذي وقتنا له للكلام فيه، ولإعطاء الشريعة له، وعبارة «المراح»: ولما جاء موسى لميعادنا في مدين، في يوم الخميس، يوم عرفة، فكلمه الله تعالى فيه من غير واسطة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر. انتهى.
{وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} من وراء حجاب بغير واسطة ملك؛ أي: أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه من جميع جهاته، استشرفت نفسه للجمع بين فضيلتي الكلام والرؤية فـ {قالَ} موسى {رَبِّ أَرِنِي} ذاتك المقدسة، واجعل لي من القوة على حمل تجليك ما أقدر به على النظر إليك، وكمال المعرفة بك؛ أي: مكنّي من رؤيتك {أَنْظُرْ إِلَيْكَ} يا إلهي {قالَ} سبحانه وتعالى لموسى: {لَنْ تَرانِي} ؛ أي: إنك لا تراني الآن ولا فيما يستقبل من الزمان الدنيوي، إذ ليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا.
(1) الخازن.
قال أهل الأخبار: لما جاء موسى لميقات ربه تطهر وطهر ثيابه وصام، ثم أتى طور سيناء، فأنزل الله تعالى ظلة غشيت الجبل على أربع فراسخ من كل ناحية، وطرد عنه الشيطان وهوام الأرض، ونحى عنه الملكين، وكشط له السماء، فرأى الملائكة قياما في الهواء، ورأى العرش بارزا، وأدناه ربه حتى سمع صريف الأقلام على الألواح، وكلّمه وكان جبريل معه لم يسمع ذلك الكلام، فاستحلى موسى كلام ربه، فاشتاق إلى رؤيته فقال: {رَبِّ أَرِنِي
…
} الخ. وإنّما سألها مع علمه بأنّها لا تجوز في الدنيا لما هاج به من الشوق، وفاض عليه من أنواع الجلال، واستقر في بحر المحبة، فعند ذلك سأل الرؤية، وقيل: إنما سأل الرؤية ظنا منه بأنه تعالى يرى في الدنيا، وتعالى الله عن ذلك.
وقال السدي: لما كلم الله موسى عليه السلام .. غاص عدو الله إبليس الخبيث في الأرض حتى خرج من بين قدمي موسى، فوسوس إليه أن مكلمك شيطان، فعند ذلك سأل موسى ربه الرؤية اه «خازن» .
وسؤال موسى (1) للرؤية يدل على أنّها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها، والجواب بقوله:{لَنْ تَرانِي} يفيدا أنّه لا يراه في هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه، أو أنّه لا يرى ما دام الرائي حيا في دار الدنيا، وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواترا لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا لا يأتي بفائدة، ومنهج الحق واضح، والاستدراك بقوله:{وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} معناه أنّك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرما وصلابة وقوة، وهو الجبل فانظر إليه {فَإِنِ اسْتَقَرَّ} الجبل {مَكانَهُ} ولم يتزلزل عند رؤيتي له {فَسَوْفَ تَرانِي}؛ أي: فلعلك تراني وإن ضعف الجبل عن ذلك فأنت منه أضعف، فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، أو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا.
والمعنى: فإن (2) ثبت الجبل لدى التجلي، وبقي مستقرا في مكانه .. فسوف
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
تراني، إذ هو مشارك لك في مادة هذا العالم الفاني، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لا يستطيع أن يثبت ويستقر؛ لأنّ مادته غير مستعدة لقوة تجلي خالقه وخالق كل شيء، فاعلم أنّك لن تراني أيضا، وأنت مشارك له في كونك مخلوقا من هذه المادة، وخاضعا للسنن الربانية في ضعف استعدادها، وقبولها للفناء {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ}؛ أي: رب موسى أو رب الجبل {لِلْجَبَلِ} ؛ أي: ظهر له بعض ظهور وأدناه وأقله ظهورا بلا كيف {جَعَلَهُ} ؛ أي: جعل ذلك التجلي الجبل {دَكًّا} ؛ أي: مدكوكا مدقوقا، فصار ترابا من الدك، وهو الدق مصدر بمعنى اسم المفعول، هذا على قراءة الجمهور (1)، وقرأ حمزة والكسائي {دكاء} بزنة حمراء، والدكاء الناقة التي لا سنام لها، والمعنى: جعله أرضا دكاء؛ أي: مستوية لا ارتفاع فيها، تشبيها له بالناقة الدكاء، وقال الزمخشري: والدكاء اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة. انتهى، والمعنى على هذا: جعله جبلا صغيرا كالرابية، وقرأ ابن وثاب:{دك} بضم الدال، وبالقصر جمع دكاء بالمد نحو: غز جمع غزاء، والمعنى: جعله قطعا صغارا {وَخَرَّ مُوسى} ؛ أي: سقط موسى على وجهه {صَعِقًا} ؛ أي: مغشيا عليه كمن أخذته الصاعقة، والتجلي إنّما كان للجبل دونه، فما بالك لو كان له، والمعنى: أنّه صار حاله لما غشى عليه، كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له، أي: النار النازلة من السماء عند الرعد والبرق {فَلَمَّا أَفاقَ} موسى وصحا من غشيته {قالَ} موسى: {سُبْحانَكَ} يا إلهي؛ أي: تنزيها لك وتقديسا عما لا ينبغي في شأنك مما سألت؛ أي: أنزهك تنزيها من أن أسألك شيئا لم تأذن لي به {تُبْتُ إِلَيْكَ} عن العود إلى مثل هذا السؤال، وأكثر المفسرين يجعلون وجه التنزيه والتوبة أنّه سأل الرؤية بغير إذن من الله تعالى، فتاب ورجع عما طلب، وقال مجاهد:{تُبْتُ إِلَيْكَ} ؛ أي: اسألك الرؤية. قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية؛ فإنّ الأنبياء معصومون، وقيل: هي توبة من قتله للقبطي. ذكره القشيري.
ولا وجه له في مثل هذا المقام.
(1) البحر المحيط.