الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما صرف أصحاب الفيل عن مكة المكرمة
فقد قال اللَّه جل جلاله في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم وقريش بأجمعها تسمعه، والعرب شاهدة له، والحرب بينهم راكدة، والتكذيب منهم ظاهر-: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [ (1) ] ، فلولا أن قصة الفيل كانت عندهم كالعيان، وكان العهد قريبا، والأمر مشهورا مستفيضا، لاحتجوا فيه بغاية الاحتجاج، والقوم في غاية العداوة والإرصاد، وفي غاية المباينة والتكذيب، وهم الذين عناهم اللَّه تعالى بقوله: وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [ (2) ]، وقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [ (3) ]، وقال: فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ [ (4) ]، وقال: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ [ (5) ] .
قوله: أَلَمْ تَرَ: قال الفراء: ألم تخبر، وقال ابن عباس: ألم تسمع، وهو استفهام معناه التقرير، والخطاب للرسول ولكنه عام، ومعناه: ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ وكيدهم: هو ما أرادوا من تخريب الكعبة، في تضليل: أي في ذهاب.
والمعنى: أنّ كيدهم ضل عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً: أي وأرسل الرب عليهم، وهذا عطف على معنى أَلَمْ يَجْعَلْ لا على لفظه.
[ () ] القطن: أصل ذنب الطائر، وأسفل الظهر من الإنسان، ومنه:[الفقرات القطنية] .
البوغاء: التراب الناعم.
الدّمن: ما تدمّن منه، أي: تجمّع وتلبّد.
وقد ورد هذا الخبر في المراجع السابقة بسياقات مختلفة، في بعضها تقديم وتأخير واختلاف يسير في عدد الأبيات.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، محقق كتاب (المصنوع في معرفة الحديث الموضوع)، في المقدمة ص 18:«فهذا الحديث ليس بصحيح، ولا يجوز قوله ولا إنشاده، ويزيده منعا أنه يتعلق بشأن من شئون النبي صلى الله عليه وسلم، وبأمور خارقة للعادة، ولا يغرنّك ذكر بعض العلماء له في كتب السيرة أو التاريخ» ، وله في ذلك بحث طويل فليراجع هناك.
[ (1) ] سورة الفيل كلها.
[ (2) ] مريم: 97.
[ (3) ] الزخرف: 58.
[ (4) ] الأحزاب: 19.
[ (5) ] إبراهيم: 46.
وقال ابن مسعود: الأبابيل: المتفرقة من هاهنا وهاهنا، وتبعه عليه الأخفش.
وقال ابن عباس ومجاهد ومقاتل: هي التي يتبع بعضها بعضا.
وقال الحسن وطاووس: هي الكثيرة.
وقال عطاء وأبو صالح وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجاج: إنها الجمع بعد الجمع، والأبابيل: جماعات في تفرقة.
وقال زيد بن أسلم: هي المختلفة الألوان.
وقوله: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، قيل: حجارة من طين، وقال عبد الرحمن بن أبزي [ (1) ] : من سجيل، من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.
وقيل: من الجحيم، وهي سجين. وقال الزجاج: من سجيل، أي مما يكتب عليهم أن يعذبوا به، وهو مشتق من السجل الّذي هو الكتاب، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ: أي فجعل اللَّه أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب، فرمت به من أسفل ويبس وتفرقت أجزاؤه.
وقال عكرمة: فصاروا كالحب إذا أكله الدود فصار أجوف.
وقال ابن عباس: المراد به قشر البر، يعني الغلاف الّذي يكون فوق حبة البر.
ويروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما [في] جوفه، فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة.
ثم قال تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [ (2) ] ، أي فعل ذلك ليؤلف قريشا رحلتي
[ (1) ] هو عبد الرحمن بن أبزي الخزاعي، له صحبه، ورواية، وفقه، وعلم.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم (817) ، في صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه:«إن هذا القرآن يرفع اللَّه به أقواما، ويضع به آخرين» ،
ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: ابن أبزي رفعه اللَّه بالقرآن.
(طبقات ابن سعد) : 6/ 63، (الجرح والتعديل) : 5/ 209، (التاريخ الكبير) : 5/ 245، (تهذيب الأسماء واللغات) : 1/ 1/ 293، (الاستيعاب) : 2/ 822، ترجمة رقم (1388)، (سير أعلام النبلاء) : 3/ 201- 202، (تهذيب التهذيب) : 6/ 121، ترجمة رقم (277) .
[ (2) ] قريش: 1.
الشتاء والصيف اللتين بهما تعيّشهم ومقامهم بمكة، تقول: ألفت موضع كذا إذا لزمته وآلفنيه كما تقول: لزمت موضع كذا وألزمنيه اللَّه.
وكرر لإيلاف كما تقول: أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانته عن كل الناس، فيكرر الكلام للتوكيد.
ثم أمرهم بالشكر فقال: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ [ (1) ] في هذا الموضع الجدب من الجوع، وَآمَنَهُمْ فيه والناس يتخطفون حوله مِنْ خَوْفٍ وقال أبو نعيم: وقصة أصحاب الفيل من أشهر القصص، قد نطق القرآن بها [ (2) ] ، ورويت الأشعار فيها [ (3) ] ، ولم يختلف أحد فيها، لا مشرك ولا موحد، وصارت هذه القصة في جملة القصص التي لا يمكن إنكارها، وذلك في العام الّذي ولد فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فدل ظاهر الحال على أن صرف اللَّه تعالى أصحاب الفيل عن قصدهم في تخريب الكعبة دلالة على تقوية أمر الحج، وتأييد لمن [هو] قائم به، ويدعي أنه شريعة له، فصار أمر الفيل لهذا المعنى بشارة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وتحقيقا لشريعته، وتأييدا لدعوته وللَّه الحمد.
[ (1) ] قريش: 3- 4.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 143: «نطق بها القرآن» .
[ (3) ] هؤلاء الشعراء هم:
[1]
عبد اللَّه بن الزّبعرى بن عدي بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، وله خمسة أبيات.
[2]
أبو قيس: صيفي بن الأسلت بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس، وله ستة أبيات ثم خمسة أبيات أخر.
[3]
طالب بن أبي طالب بن عبد المطلب، وله بيتان.
[4]
أبو الصلت بن ربيعة بن وهب بن علاج، وله ثمانية أبيات.
[5]
الفرزدق، واسمه همام بن غالب، أحد بني مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم، وله خمسة أبيات.
[6]
عبد اللَّه بن قيس الرقيات، أحد بني عامر بن لؤيّ بن غالب، وله ثلاثة أبيات.
وهذه الأشعار ذكرها ابن إسحاق في السيرة، انظر:(سيرة ابن هشام) : 1/ 176- 181، «ما قيل في قصة الفيل من الشعر» ، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 586- 591، تفسير سورة الفيل.