الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما عيسى عليه السلام
فإن اللَّه تعالى خصه بإرسال الروح الأمين إلى أمه فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[ (1) ] ، ليهب لها غلاما زكيا، فحملت به، وأنه نطق في المهد، وقد أعطى اللَّه نبينا صلى الله عليه وسلم ضروبا من هذه الآيات، فبشرت به أمه آمنة وهي حامل به، وظهرت لها الآيات عند وضعها كما تقدم ذكره، وقد قال تعالى عن عيسى: وَرَحْمَةً مِنَّا [ (2) ] .
ونبينا صلى الله عليه وسلم وصفه اللَّه بأعم الرحمة وأكملها، فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [ (3) ] ، فمن صدقه وآمن به فاز برحمته في الدارين، ومن لم يصدقه أمن في حياته مما عوقب به المكذبون للرسل من الأمم من الخسف والمسخ والقذف، [وأنقذ][ (4) ] اللَّه ببعثته من آمن من الضلال، وانتعشوا بالإيمان من الدمار، وأمنوا به من البوار، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [ (5) ]، وقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [ (6) ] ، فكان صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة. وقال تعالى عن عيسى. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [ (7) ] وقد أوتي نبينا ما يجانس ذلك وأكثر منه وأفضل.
قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [ (8) ]، وقال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [ (9) ]، وقال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [ (10) ] يعني القرآن شرف لك ولهم، وقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [ (11) ]، ويقول تعالى للأنبياء: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [ (12) ] ، إلى غير ذلك من الآيات، وكان عيسى يخلق من الطين كهيئة الطير
[ (1) ] مريم: 17.
[ (2) ] مريم: 21.
[ (3) ] الأنبياء: 107.
[ (4) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (5) ] آل عمران: 164.
[ (6) ] الأحزاب: 45.
[ (7) ] آل عمران: 48.
[ (8) ] الحجر: 87.
[ (9) ] النحل: 44.
[ (10) ] الزخرف: 44.
[ (11) ] سبأ: 28.
[ (12) ] إبراهيم: 41.
فيكون طيرا بإذن اللَّه، وكان لنبينا [صلى الله عليه وسلم][ (1) ] نظير ذلك.
فإن عكاشة انقطع سيفه يوم بدر، فدفع له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قضيبا من حطب، قال: قاتل بهذا، فعادل سيفا في يده شديد المتن أبيض الحديدة طويل القامة فقاتل به، حتى فتح اللَّه على المسلمين، ثم لم يزل يشهد به المشاهد إلى أيام الردّة.
فالمعنى الّذي أمكن به نبينا أن تصير الخشبة حديدا يبقى على الأيام، هو المعنى الّذي خلق به عيسى من الطين كهيئة الطير، بل ذلك أعظم وأبدع، فإنه لم يعهد قط أن الحديد يخرج من الخشب، وقد عهد أن الحيوان يتكون من الطين.
وأيضا فإن هذا الحديد القاطع الّذي تولد من الخشب بقي أعواما كثيرة، ولم ينقل أن الطير الّذي خلقه عيسى من الطين بقي لذلك، ومع هذا فقد سمع التسبيح من الحجارة الصم في يد نبينا صلى الله عليه وسلم، وشهدت الأشجار والأحجار له بالنّبوّة، واجتمعت الأشجار والتزمت ثم افترقت عن أمره لها، وكل هذا يجانس إحياء الموتى، وطيران الطيور من الطين كهيئة الطير.
وقد كان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص، ولنبينا صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فقد ردّ عين قتادة بعد ما ندرت وسالت على خده، ونفث في عيني رجل قد ابيضتا فأبصر، وبصق في عين رفاعة بن رافع وقد فقئت عينه بسهم فلم يؤده منها شيء، وتفل في عين على رضي الله عنه وهو أرمد فبرئ من ساعته وما اشتكى عينيه بعد، ومسح صلى الله عليه وسلم بيده على عدة من المصابين والمرضى فبرءوا.
وقد كان عيسى يحي الموتى بإذن اللَّه، ولنبينا من هذا المعنى ما هو أعجب وأغرب، فقد أحيا شاة جابر، وأحيا اللَّه تعالى لامرأة ولدها ببركته، [وكلمته][ (2) ] صلى الله عليه وسلم ذراع الشاة [المسمومة][ (2) ] ، وتكليم الذراع أغرب، لأن حياة العضو المبان وتكليمه أعجب من حياة الذات الكاملة، لأن الحياة عهدت منها، وقد تكلم جماعة بعد الموت بخلاف العضو من الحيوان، لا سيما بعد طبخه بالنار.
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق والبيان.
وقد كان عيسى يخبر بالغيوب، وينبئ قومه بما يأكلون في بيوتهم ويدخرونه، ونبينا صلى الله عليه وسلم له في هذا المقام الّذي لا فوقه: فإن عيسى إنما كان يخبر بما كان من وراء جدار، ونبينا كان يخبر بما كان منه بمسيرة شهر وأكثر، كإخباره بموت النجاشي، وبقتل زيد وجعفر وابن رواحة في مؤتة،
وكان يأتيه السائل ليسأله عن شيء فيقول له: إن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه أو تسأل فأخبرك؟ فيقول:
لا، بل أخبرني فيخبره بما في نفسه.
وأخبر عمير بن وهب الجمحي بما تواطأ عليه هو وصفوان بن أمية لما قعدا بمكة في الحجر في الفتك به صلى الله عليه وسلم بعد مصاب أهل بدر.
وأخبر عمه العباس لما أسر ببدر وأراد أن يفاديه فقال: ليس لي مال، فقال:
أين مالك الّذي أودعته أم الفضل لما أردت الخروج وعهدت إليها فيه؟
وبعث عليا والزبير إلى سارة، وقد حملت كتاب حاطب إلى أهل مكة فأخرجاه منها، وقال لعبد اللَّه بن أنيس لما بعثه إلى الهذلي بوادي عرفة: إذا رأيته هبته، وأطلعه اللَّه في منصرفه من تبوك على موضع ناقته وقد ضلت.
وأخبر بموت كسرى في وقت قتله، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأشياء قبل كونها فوقعت كما قال، وبشّر بما يجري على أمته بعد موته، فكان مثل ما وعد به، فمما أخبر بكونه:
قول اللَّه تعالى: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [ (1) ] ، فكفاه اللَّه ووفاه ما وعده من نصره، وأباد المستهزءين.
وقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [ (2) ] ، فكان كما وعده اللَّه، غلبوا وقتلوا، ويحشرون إلى النار.
وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [ (3) ] ، فكان كما وعده.
[ (1) ] البقرة: 137.
[ (2) ] آل عمران: 12.
[ (3) ] آل عمران: 139.
وقوله تعالى: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ [ (1) ] ، فهزم اللَّه المشركين يوم بدر.
وقوله تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [ (2) ] ، وقواه بلا مال ولا عشيرة، حتى ملكت أمته المشرق والمغرب.
وقوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ [ (3) ] ، فدخلوا مكة آمنين.
وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [ (4) ] ، فكان كذلك.
وقوله تعالى: الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ [ (5) ] فلعلمه بكونه ووقوعه، حدّد الوقت فقال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (6) ]، وأكده بقوله: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ [ (7) ] .
وقوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ (8) ] ، يعني فتح مكة، يبشر بفتح مكة لعظم قدرها مثل كونه، وبدخول الناس في دينه أفواجا، فكان [كذلك][ (9) ] .
وقدمت وفود العرب بإسلام قومهم وانقيادهم لدينه، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى طبق الإسلام اليمن إلى شجر العمان وأقصى نجد العراق، بعد تمكنه بالحجاز، وبسط رواقه بالغور مجرى حكم الرسول على أهل مكة والطائف وعمان والبحرين واليمن واليمامة.
وقوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها [ (10) ]، يعني:
العجم وفارس، لقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها [ (11) ] ، يعني فارس والروم، وكان كذلك ملكها اللَّه أمته صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [ (12) ] ،
[ (1) ] الأنفال: 7.
[ (2) ] الحج: 40.
[ (3) ] الحج: 59.
[ (4) ] النور: 55.
[ (5) ] الروم: 1- 3.
[ (6) ] الروم: 3- 4.
[ (7) ] الروم: 6.
[ (8) ] النصر: 1.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] الفتح: 21.
[ (11) ] الأحزاب: 27.
[ (12) ] الفتح: 16.
هم أهل فارس والروم، وبنو حنيفة أصحاب مسيلمة فقاتلهم أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما.
ولم يختلف أحد من أهل القبلة في أن المخلفين من الأعراب لم يدعوا إلى شيء من الحروب بعد توليهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى دعوا في زمن أبي بكر إلى قتال أصحاب مسيلمة، ووعد صلى الله عليه وسلم بفتح بيضاء المدائن وأخذ كنوز كسرى،
وقال لعديّ بن حاتم: لا يمنعنك ما ترى بأصحابي من الخصاصة، فليوشكن أن تخرج الظعينة من الحيرة بغير جوار، فأبصر ذلك عدي بعينه.
وتزوج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة، وأسلم أبوها أبو سفيان، فزالت العداوة وآلت إلى مودة وصلة، وأطلعه اللَّه تعالى على ما أكنه في الصدور، وأضمر به القلوب، فقال تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ [ (1) ] .
وقال: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [ (2) ] ، يعني من بعث محمد صلى الله عليه وسلم لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ [ (3) ] ، فأعلم اللَّه نبيه بذلك، وقال: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [ (4) ] .
وقال تعالى: وَيُحِبُّونَ [أَنْ يُحْمَدُوا][ (5) ] بِما لَمْ يَفْعَلُوا [ (6) ] ، وذلك أن اليهود كتموا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما سألهم عنه، وأخبروه بغير الحق، وأوهموه صدقهم ليستحمدوه بذلك، فأعلمه اللَّه بخبرهم.
وقال تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [ (7) ]، وذلك أن اليهود قالوا: لإخوانهم المنافقين في السير يوم الخندق: على ما تقتلون أنفسكم؟ [هلم][ (8) ] إلينا، ما ترجون من محمد؟ واللَّه ما تجدون عنده خيرا.
[ (1) ] المائدة: 13.
[ (2) ] البقرة: 76.
[ (3) ] البقرة: 76.
[ (4) ] البقرة: 77.
[ (5) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.
[ (6) ] آل عمران: 88.
[ (7) ] الأحزاب: 18.
[ (8) ] زيادة للسياق.
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ [ (1) ] ذلك بأنهم قالوا لبني قريظة والنضير:
سنطيعكم في بعض الأمر، فأخرج اللَّه أسرارهم لنبيه. ونظائر ذلك مما أطلع اللَّه عليه نبيه مما أسرّه اليهود والمنافقون في القرآن كثير.
وهذا مما لا يجوز أن يكون وقوعه بطريق الاتفاق، ولا هو مما لا تصل قدر البشر إلى معرفته، فلم يبق إلا أن يكون أطلع اللَّه نبيه عليه، مما أسره اليهود والمنافقون وأعلمه به، وأين إعلام المسيح أصحابه بما يأكلون، وإخباره لهم بما [يدخرون][ (2) ] ، من إعلام الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الحوادث العظيمة، والغيوب البديعة قبل كونها؟
قال الحافظ أبو نعيم: ووجه الدلالة في إخباره صلى الله عليه وسلم بالغيوب على صدق نبوته، وثبوت رسالته، أن مولده ومنشأه في قوم أميين، لم يتعاظموا علما بالنجوم، ولا حكما بالطوالع والكواكب، حسب ما يستنبطه المنجمون، ولا عرف هو بطلب شيء من ذلك في بلده ولا في أسفاره، وكانت الكهانة بطلت بمبعثه، ولم يكن له علم بالغيوب، إلا بوحي يأتيه به جبريل عن اللَّه تعالى.
ولو كان في قومه وبلده المنجمون والمستنبطون وهو لم يخالطهم، ولا عرف بالأخذ عنهم، وأخبر ما أخبر به من الغيوب لكان ذلك دلالة على نبوته ومعجزة له إذا أخفى ذلك على عشيرته وخلطائه لمفارقة تلك العادات، وليس بجائز أن يكون إخباره مأخوذا عن الشياطين مع ما جاء به من سبّهم ولعنهم، فثبت بهذا أن الإخبار فيما أخبر به من الغيوب عن اللَّه تعالى.
وأما ما اعترض به بعض الملاحدة والكفرة بأنه لم يأت بآية قاطعة محتجا بقوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [ (3) ] ، وما أشبهه من الآي، فكيف وقد ورد القرآن بقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
[ (1) ] محمد: 25- 26.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] الإسراء: 59.
[ (1) ]، وقوله: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [ (2) ]، وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ (3) ] ثم قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [ (4) ] الآية، وقال لليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً [ (5) ] .
وقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [ (6) ] الآية، وقال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [ (7) ]، وقال: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ [ (8) ]، وقال: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى [ (9) ]، وقال:
الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ* فِي بِضْعِ سِنِينَ [ (10) ] ، وما في معناه من الآي.
وإنما منعوا الآيات التي كانوا يقترحونها على النبي صلى الله عليه وسلم بأن تأتهم الملائكة عيانا فيقولون: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ (11) ]، فأنزل اللَّه تعالى: ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ [ (12) ]، وقولهم:
لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذير* أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [ (13) ] ، وما في معناه.
وأنزل اللَّه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ (14) ] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم إنما الآيات عند اللَّه، ولا يرسلها إلا بما يعلم فيه الصلاح، وأن شهوات الكفار والجهال لا نهاية لها، وفيما أنزله من الكتاب المبني على الغيوب كفاية مع ما كان اللَّه تعالى يظهره عليه من الآيات سفرا وحضرا.
[ (1) ] القمر: 1.
[ (2) ] الجن: 9.
[ (3) ] البقرة: 23.
[ (4) ] البقرة: 24.
[ (5) ] الجمعة: 6- 7.
[ (6) ] النور: 55.
[ (7) ] الأنفال: 9.
[ (8) ] الشعراء: 197.
[ (9) ] طه: 133.
[ (10) ] الروم: 1- 4.
[ (11) ] الحجر: 7.
[ (12) ] الحجر: 8.
[ (13) ] الفرقان: 7- 8.
[ (14) ] العنكبوت: 51.
واستفاضت الأخبار به بنقل الأمناء العدول من جهات كثيرة مختلفة، يستحيل فيها على مضي السنين وتطاول المدة، واختلاف همم النقلة ودواعيهم [التواطؤ][ (1) ] عليها، فحصلت بحمد اللَّه الدلائل خاصا وعاما.
والقرآن هو الحجة الباقية بقاء الدهر، التي عجزت العرب مع خصاصتهم وبلاغتهم عن معارضته، مع ما يرجعون إليه من العقول الراجحة، [والافهام][ (2) ] الكاملة، فليس يخلو تركهم معارضته من أحد أمرين: إما عجزا عنها أو قدرة عليها، فإن كان عجزا فهو ما يقوله، وإن كانوا قادرين على معارضته فلم يعارضوا لصرفة، صرفهم اللَّه عنها، فهي أيضا معجزة، كما لو أن مدعيا ادّعى النبوّة فقال:
[آيتي][ (3) ] أنكم لو أردتم الكلام يومكم هذا لم يمكنكم، فلم يمكنهم الكلام، كان ذلك معجزة له، وآية للصرف التي صرفهم اللَّه عن النطق والكلام، وقد كان أمره صلى الله عليه وسلم في الانتفاء عن علم الغيب، و [براءته][ (4) ] من ادعائه ظاهرا منتشرا، وأنه لا يعلم منه إلا ما علمه اللَّه وأنبأه.
وذكر من حديث مسدد قال: أخبرنا بشر بن المفضل، أخبرنا خالد بن ذكوان، حدّثتنا الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فدخل عليّ صبيحة بني بي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلن جويرات لنا يضربن بالدف من أمامي يوم بدر، إلى أن قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في الغد؟ فقال: دعي هذه وقولي [الّذي][ (5) ] كنت تقولين.
ومن حديث إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بناس من الأنصار في عرس لهن يتغنين:
وأهدى لها [كبشا][ (6) ] تبجح في المربد
…
وزوجك في النادي يعلم ما في غد
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يعلم ما في غد إلا اللَّه عز وجل،
فكانوا أنصاره وأعوانه،
[ (1) ] زيادة للسياق.
[ (2) ] زيادة للسياق.
[ (3) ] زيادة للسياق.
[ (4) ] زيادة للسياق.
[ (5) ] زيادة للسياق.
[ (6) ] زيادة للسياق.
فمدحهم اللَّه بذلك في كتابه، فقد كان لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عدة حواريين، منهم الزبير.
وقال: لكل نبي حواري، وحواري الزبير،
على أن حواري عيسى كان مبلغهم في طاعته أن قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ [ (1) ] ؟
وكان لحواري رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في خلوص الطاعة وصحة النية وحسن المؤازرة، ومجاهدة النفوس في نصر نبيهم، وتبجيلهم وتعظيمهم له، ومعرفتهم بجلالته ما تقدم ذكره، وسيأتي إن شاء اللَّه، لأن اللَّه تعالى امتحن قلوبهم للتقوى، فكانوا لا يحدّون النظر إليه إعظاما له، ولا يرفعون أصواتهم عليه إجلالا له، ولا يتنخم نخامة إلا ابتدروها يتمسحون بها، ولا سقطت شعرة إلا تنافسوا فيها، حتى إن معاوية أوصى أن يدفن معه شعر من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وشرب عبد اللَّه بن الزبير محجمة من دمه، وكان إذا حضر من [جفاة] الأعراب من لا يوقره استأذنوه في قتله، وقد ذكرت ذلك كله بطرقه.
وقد كان عيسى عليه السلام كثير السياحة، جوابا للقفار والبراري فقد كان لنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك ما هو أعظم وأفخم، فإنه ساح في الأرض بأصحابه مجاهدا أعداء اللَّه، فاستنقذ في عشر سنين ما لا يعدّ من حاضر وباد، وافتتح القبائل الكثيرة، فأين سياحة عيسى ليخلو بعبادة ربه، من سياحة محمد المبعوث بالسيف المصلت على أعداء اللَّه لإقامة دين اللَّه؟ فكان لا يداري لغيره بالكلام، ويجاهد في اللَّه ولا ينام إلا على دم، ولا يستقر إلا متجهزا لقتال الأعداء، أو باعثا إليهم سرية في إقامة الدين وإعلاء الدعوة وإبلاغ الرسالة صلى الله عليه وسلم.
وقد كان عيسى زاهدا يتقنّع من دنياه باليسير، ويرضيه منها القليل، فخرج من الدنيا كفافا لا له ولا عليه، وقد كان لنبينا من مقام الزهد ما لا فوقه، فإنه كانت له ثلاث عشرة زوجة سوى سراريه، فما رفعت مائدته قط وعليها طعام، ولا شبع من خبزين ثلاث ليال متتابعة، وكان يربط الحجر على بطنه.
[ (1) ] المائدة: 112.
وكان لباسه الصوف، وفراشه إهاب شاة، ووسادته من أدم، حشوها ليف، فيأتي عليه الشهران والثلاثة فلا توقد في بيته نار لمصباح، وتوفي ودرعه مرهونة، ولم يترك صفراء ولا بيضاء، هذا وقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض، ووطئت له البلاد، ومنح الغنائم الكثيرة، فقسمها حتى أنه فرّق في يوم واحد ثلاثمائة ألف، وأعطى جماعة كل رجل مائتين من الإبل، وأعطى ما بين جبلين من الغنم،
وكان يأتيه السائل فيقول: والّذي بعثني بالحق ما أمس في آل محمد صاع من شعير ولا من تمر،
وكان يقول: أجوع يوما وأشبع يوما، فإذا جعت تضرعت، وإذا شبعت حمدت.
وقد كان عيسى يتقلب في حياطة اللَّه له، ومدافعته عنه المكر والغوائل بحيث كان يمسي ويصبح آمنا ساكن النفس، قال تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ [ (1) ] الآية.
وكذلك نبينا عصمه اللَّه، فقال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [ (2) ] ، فكان يبرز وحده في سواد الليل وبالأسحار إلى البقيع والأودية، ومعه اليهود أعداؤه المجاهرون بعداوته في بلد واحد، فلم يصلوا منه إلى أي شيء، وهو يقتلهم ويسبي ذراريهم ونساءهم.
ودفع اللَّه تعالى عنه كيد قريش وهو بمكة، وأنبت على الغار له شجرة وأقام الحمام فعشش عليه، والعنكبوت فنسج على بابه، وقد رفع اللَّه عيسى إلى السماء، ولنبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك [أعلى][ (3) ] مقام فإنه عرض عليه عند وفاته البقاء فاختار ما عند اللَّه وقربه تعالى على البقاء في الدنيا، فقبضه اللَّه تعالى ورفع روحه، ولو اختار البقاء، لكان كعيسى والخضر وإلياس عند اللَّه في سماواته، وفي عالمه في أرضه، لأن عيسى عليه السلام مقيم في السماء والخضر وإلياس يتجولان في السموات والأرض على ما قيل.
ومع هذا فإن جماعة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم رفعوا كما رفع المسيح، وذلك أعجب،
[ (1) ] المائدة: 110.
[ (2) ] المائدة: 67.
[ (3) ] زيادة للسياق.
فرفع اللَّه عامر بن فهيرة والناس ينظرون، ودفن العلاء بن الحضرميّ لما مات في خلافة أبي بكر رضي الله عنه بأرض اليمن في أرض العدو، فخافوا أن ينبش قبره ويستخرج، فذهبوا يطلبونه لينقل من أرض العدو في يومهم الّذي دفنوه فيه، فلم يقدروا عليه ولا دروا أين ذهب به.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أخبرنا جعفر بن عون، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن الزهري قال: أخبرني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش، قال: فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العين، فرقيت فيها فحللت خبيبا، فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد، ثم التفت فلم أر خبيبا، كأنما ابتلعته الأرض، فما رئي خبيب إلى الساعة، قال أبو بكر بن أبي شيبة: وقد كان جعفر بن عون قال: عن جعفر بن عمرو بن أمية، عن أبيه عن جدة.