الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث تاريخي عن الأناجيل التي بين يدي النصارى
إن النصارى كلهم: أريوسييهم، وملكانييهم، ونسطورييهم، ويعقوبييهم، ومارونييهم، ويونانييهم، لا يختلفون في أن الأناجيل أربعة، ألفها أربعة رجال في أزمان مختلفة.
فأولها: ألّفه متّى [ (1) ] اليوناني تلميذ المسيح عليه السلام، بعد ثماني سنين من رفع المسيح، وكتبه بالسريانية في بلد يهوذا بالشام، وهو نحو ثمان وعشرين ورقة بخط متوسط.
[ (1) ] متّى: من الاسم العبري «مثتيا» ، الّذي معناه «عطية يهوه» وهو أحد الاثني عشر رسولا، وكاتب الإنجيل الأول المنسوب إليه.
وكان متّى في الأصل جابيا في كفر ناحوم، ودعي من موضع وظيفته، وكانت وظيفة الجباية محتقرة بين اليهود، إلا أنها أفادت متى خبرة بمعرفة الأشغال، ولم يذكر شيء من أتعابه في العهد الجديد إلا أنه كان من جملة الذين اجتمعوا في العلية بعد صعود المسيح، وزعم يوسيبيوس أنه بشر اليهود، ويرجّح أن مؤلف هذا الإنجيل هو متى نفسه، وذلك للأسباب الآتية:
1-
يذكر لوقا أن متى صنع للسيد المسيح وليمة كبيرة في أول عهده بالتلمذة، أما متى فيذكرها بكل اختصار تواضعا.
2-
الشواهد والبينات الواضحة من نهج الكتابة بأن المؤلف يهودي متنصّر.
3-
لا يعقل أن إنجيلا (خطيرا) كهذا هو في مقدمة الأناجيل، ينسب إلى شخص مجهول، وبالأحرى أن ينسب إلى أحد تلاميذ المسيح.
4-
يذكر بابياس- في القرن الثاني الميلادي- أن متى قد جمع أقوال المسيح.
5-
من المسلم به أن الجابي عادة يحتفظ بالسجلات، لأن هذا من أهم واجباته لتقديم الحسابات، وكذلك فإن هذا الإنجيليّ قد احتفظ بأقوال المسيح بكل دقة.
ويرجع أن هذا الإنجيل كتب في فلسطين لأجل المؤمنين من بين اليهود الذين اعتنقوا الديانة المسيحية.
واختلف القول بخصوص لغة هذا الإنجيل الأصلية، فذهب بعضهم إلى أنه كتب أولا في العبرانية، أو الأرامية التي كانت لغة فلسطين في تلك الأيام.
وذهب آخرون إلى أنه كتب في اليونانية كما هو الآن. أما الرأي الأول فمستند إلى شهادة الكنيسة القديمة، فإن آباء الكنيسة قالوا: أنه ترجم إلى اليونانية ويستشهدون بهذه الترجمة، فإذا سلمنا بهذا الرأى، التزمنا بأن نسلم بأن متى نفسه ترجم إنجيله، أو أمر بترجمته.
أما الرأي بأن متى نفسه ترجم إنجيله العبراني، فيفسّر سبب استشهاد الآباء بالإنجيل اليوناني نفسه، فإن متى يوافق مرقس ولوقا في العظات، ويختلف عنهما أكثر ما يكون في القصة، ثم إن الآيات المقتطفة في العظات، هي من الترجمة السبعينية، وفي بقية القصة هي ترجمات من العبرانية.
ولا بد أن هذا الإنجيل قد كتب قبل خراب أورشليم، وذهب بعض القدماء إلى أنه كتب في السنة الثامنة بعد الصعود، وآخرون إلى أنه كتب في الخامسة عشرة، ويظن (البعض) أن إنجيلنا الحالي
والثاني: [ (1) ] ألفه مارقس الهاروني، ويقال له: مرقس [ (2) ] ، وهو من السبعين، وهو تلميذ شمعون بن يونا، بعد اثنتي عشرة سنة من رفع المسيح، وكتبه باليونانية في بلد إيطاليا من بلاد الروم، وهي أنطاكية، ويقال: كتبه بمدينة رومية، وزعموا أن شمعون هذا هو الّذي ألّفه، ثم محا اسمه من أوله، ونسبه إلى تلميذه مارقس، وهو نحو أربع عشرة ورقة بخط متوسط.
[ () ] كتب بين سنة 60 وسنة 65 م، وأن إنجيل مرقس ولوقا كتبا في تلك المدة نفسها (قاموس الكتاب المقدس) : 832- 833.
[ (1) ] في (خ) : «الآخر» .
[ (2) ] مرقس: اسم لاتيني، معناه مطرقة، وهو ابن امرأة تقيّة من أورشليم، كانت أختا لبرنابا، وهي التي كان الرسل والمسيحيون الأولون يجتمعون مرارا في دارها للصلاة. وقيل: أنه آمن بواسطة إنذار بطرس الرسول لأنه كان يدعوه ابنا له، وكان مرافقا لبولس وبرنابا في سفرهما الأول للتبشير، حتى وصل إلى برجة، ففارقهما هناك، ورجع إلى أورشليم، ولذلك أبى بولس أن يقبله رفيقا له في سفره الثاني، فانطلق مع برنابا إلى قبرس، وكان حينئذ في أنطاكية، ويحتمل أنه كان قد أرسل إلى هناك من أورشليم من قبل الرسل، غير أنه تصالح مع بولس فيما بعد، وصار رفيقا له، وكان يمدحه بأنه كان نافعا، وأخيرا صحب تيماثاوس إلى رومية وكتب الإنجيل المدعو باسمه.
وقيل: إن بطرس أرسله إلى مصر ليبشر فيها باسم يسوع المسيح، وكانت أتعابه ناجحة في ليبية، ومرموريكا، وبنتا بوليس، ثم عاد إلى الاسكندرية وهاج عليه فيها اضطهادات شديدة من جمهور الوثنيين في موسم عيد إله لهم يسمى سيرابيس. ثم مات لشدة ما أنهكه من آلام العذابات الكثيرة، بعد أن حبس ليلة. (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) 2/ 216.
وإنجيل مرقس هو الثاني من ترتيب الأناجيل الأربعة، مع أن هذا لا يعني بالضرورة أنه كتب بعد إنجيل متى. وهو أقصر الأناجيل الأربعة، والمادة التي يقدمها مرقس في إنجيله يقدمها في تفصيل كثير.
فيتقدم قصة حياة المسيح، وأعماله
…
بسرعة، وفي تصوير رائع، وفي مناظر متعاقبة، الواحد تلو الآخر، وتسير هذه المناظر في ترتيب تاريخي متسلسل، ويوجه مرقس عناية خاصة إلى ما عمله المسيح، أكثر مما يوجهه إلى تعليم المسيح.
وكان الاعتقاد السائد في أواخر القرن الأول الميلادي، أن هذا الإنجيل كتب في روما، ووجّه إلى المسيحيين الرومانيين
…
وقد ذكر إيريليوس أحد آباء الكنيسة الأولين، أن مرقس كتب البشارة التي تحمل اسمه قائلا:«بعد أن نادى بطرس وبولس بالإنجيل في روما، بعد انتقالهم- أو خروجهما- سلم لنا مرقس كتابة مضمون ما نادى به بطرس» .
وإذا كان الأمر كذلك، فربما كتب هذا الإنجيل بين عام 65 وعام 68 م، ويلاحظ أن الجزء الأخير من الإنجيل- وهو ص 16: 9- 20- وجد في بعض المخطوطات القديمة، ولم يوجد في (بعضها) الآخر، مثل المخطوطة السينائية، ومخطوطة الفاتيكان، ولكن يجب أن لا يغرب عن بالنا أن حوادث الظهور الواردة في هذه الأعداد، وكذلك أقوال المسيح المقام المذكورة فيها حقائق دامغة يؤيدها ورودها في الأناجيل الأخرى. (قاموس الكتاب المقدس) : 853- 855 باختصار.
والثالث: ألفه لوقا [ (1) ]- الطبيب الأنطاكي، تلميذ شمعون المذكور- وكتبه باليونانية في بلد [][ (2) ] وهي الاسكندرية بعد تأليف مارقس، وهو نحو إنجيل متى.
والرابع: ألفه يوحنا ابن زبدي [ (3) ] تلميذ المسيح بعد رفعه بثلاثين سنة، وكتبه باليونانية في بلد آسية، وهو نحو أربع وعشرين ورقة، ويوحنا هذا هو الّذي ترجم إنجيل متى من العبرانية إلى اليونانية.
[ (1) ] لوقا: اسم لاتيني ربما كان اختصار «لوقانوس» أو «لوكيوس» وهو صديق بولس ورفيقه، وقد اشترك معه في إرسال التحية والسلام إلى أهل كولوسي، حيث وصفه بالقول «الطبيب الحبيب» .
وقيل: إن لوقا البشير كان يهوديا دخيلا من أنطاكية، وزعم بعضهم أنه كان من تلاميذ المسيح السبعين، وليس ذلك بصحيح كما يظهر من مقدمة إنجيله، وكان هذا الرجل صاحبا أمينا لبولس الرسول في أسفاره الكثيرة، وإتعابه وآلامه، كما يتضح من سفر أعمال الرسل، وكانت صناعته الطب.
وقيل: إن لوقا استشهد في حكم نيرون الملك الروماني، وهو لا يبعد عن الصواب، لأنه كان غالبا مصاحبا لبولس الّذي قضى نحبه هناك.
وهناك رأي آخر يقول: على أن زمن موته وكيفيته لا يعرف أحد منها شيئا، إلا أن هناك تقليدا يذكر أنه مات في بثينية في سن متقدمة، وبثينيّة مقاطعة في الشمال الغربي من آسيا الصغرى، يحدّها شرقا يافلاغونيا، وشمالا البحر الأسود، وجنوبا فريجية وغلاطية، وغربا بحر مرمرة.
وإنجيل لوقا هو الإنجيل الثالث، وقد وجّه إلى شخص شريف يدعى ثاوفيلس، يرجح أنه أحد المسيحيين من أصل أممي، وكل الدلائل تشير إلى أن هذه البشارة كتبت حوالي عام 60 ميلادي. (مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدس الثمين) : 2/ 216، (قاموس الكتاب المقدس) : 822- 823.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين كلمة غير واضحة في (خ) ، وما بعدها فسّرها.
[ (3) ] هو يوحنا ابن زبدي، أحد تلاميذ المسيح الاثني عشر، وهو المعروف بيوحنا الحبيب، وقد كان في البداية يعمل صيادا للسمك، ويبدو أنه لم يكن صيادا بسيطا، بل كان على قدر من اليسار، إذا ذكر عنه أنه عند ما دعاه السيد المسيح ترك السفينة والشّباك والأجراء.
كتب يوحنا هذا الإنجيل بعد كتابة البشائر الثلاثة الأولى بزمن طويل، والغالب أنه كتب بعد سنة 90 ميلادية، أي بعد رفع السيد المسيح بحوالي 60 عاما، وكانت المسيحية في ذلك الوقت قد بدأت في الانتشار، وبدأت أيضا تقاسي ليس من اضطهاد اليهود فقط، بل أيضا من اضطهاد الدولة الرومانية.
وقد كانت اللغة اليونانية هي السائدة في ذلك العصر، وهي لغة المثقفين في كل البلاد، وكان كثير من اليونانيين قد آمنوا بالمسيح، والآخرون يريدون أن يعرفوا هذه الديانة، ولذلك كتب يوحنا إنجيله باللغة اليونانية ليسهل على الجميع قراءته
…
ولم يتعرض يوحنا لذكر نسب السيد المسيح لأنه كتب إنجيله لليونانيين، ولا شك أنه كان صعبا على الفكر اليوناني أن يتقبل مسألة الأنساب التي كان اليهود يهتمون بها جدا.
(دراسات في الكتاب المقدس) : 1/ إنجيل يوحنا، 6- 11.
وعدة هذه الأناجيل الأربعة تسعة آلاف واثنان وستون آية، وليس أحد من النصارى يزعم أن هذه الأناجيل الأربعة منزلة من عند اللَّه على المسيح، ولا أن المسيح أتى بها، بل كلهم يرى فيها ما قلنا.
ولا يستريب عالم في أن التبديل والتحريف تطرق إلى لفظها وإلى معناها، وهذه الأناجيل الأربعة يخالف بعضها بعضا ومتناقضة، كما ذكر فيها قصة صلب عيسى، وكيف تكون في الإنجيل الّذي أنزل اللَّه على المسيح قصة صلبه وما جرى له، وأنه أصابه كذا وكذا، وصلب يوم كذا وكذا، وقام من القبر، وغير ذلك مما هو من كلام شيوخ النصارى.
والإنجيل على قولهم نزل على المسيح قبل صلبه بزعمهم، وغايته أن يكون من كلام الحواريين ثلاثة أناجيل، وسمّوا الجميع إنجيلا وفيها ذكر القول ونقيضه، فمنها أنه قال: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق غير مقبولة، ولكن غيري يشهد لي.
وقال في موضع آخر: إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين جئت، وإلى أين أذهب. ومنها أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال: جزعت نفسي الآن فماذا أقول يا أبتاه، سلمني من هذا الموقف.
ومنها أنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما وقال: يا إلهي! لم أسلمتني؟ فكيف تجمع هذا مع قولهم: إنه هو الّذي اختار نفسه إلى اليهود يصلبوه ويقتلوه، رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج بذلك آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وجميع الأنبياء عليهم السلام، من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس.
وكيف يبتلى إله العالم بذلك، وكيف يسأل السلامة منه، وهو الّذي اختاره ورضيه، وكيف يشتد صياحه ويقول: يا إلهي! لم اسلمتني؟ وهو الّذي أسلم نفسه، وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه، وإنزال صاعقة على الصليب وأهله؟ أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود؟ جلّ اللَّه عن قولهم.
ولو أتينا بما حرفوه في الإنجيل لأتينا به أو غالبة، غير أن اللَّه تعالى صرفهم عن بضع وثلاثين موضعا فيها بشارات بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما إليه ليكون حجة عليهم.
ولهم إنجيل خامس يسمى إنجيل الصبوة، فيه الأشياء التي صدرت من المسيح عليه السلام في حال طفولته، وهو يحكي عن بطرس عن مريم عليها السلام، وفيه زيادات ونقصان، وذكر فيه قدوم المسيح وأمه، ويوسف النجار إلى صعيد مصر ثم عودتهم إلى الناصرة.
فقد تبين أن الإنجيل إنما نقله أربعة رجال، منهم اثنان [فقط][ (1) ] من أصحاب المسيح بل من التابعين لهم، ولا جرم لما نقل هذا الكتاب بلفظ الآحاد وقع فيه الغلط. واللَّه الموفق للصواب وإليه المرجع [والمآب][ (1) ] .
[ (1) ] زيادة للسياق.