الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل في [ذكر موازاة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا صلى الله عليه وسلم ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي عليه السلام]
وقد أتى اللَّه تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فإن قريشا لما كذبوه وبالغوا في أذاه وإهانته، دعا عليهم، فاستجاب ربه دعاءه فيهم وقبله، كما خرجه عبد الرزاق، أخبرنا إسرائيل عن إسحاق عن عمرو بن ميمون، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة وجمع قريش ينظرون، فقال قائل منهم: ألا ترون إلى هذا المرائي، أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرثها ودمها وسلائها، حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟
فانطلق أشقاهم فجاء به، حتى إذا سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، وثبت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساجدا، وضحكوا حتى مال بعضهم على بعض، فانطلق منطلق إلى فاطمة رضي الله عنها وهي جويرية- فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا حتى نحّت عنه، وأقبلت عليهم تسبّهم.
فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته استقبل الكعبة فقال: اللَّهمّ عليك بقريش، ثم سماهم فقال: اللَّهمّ عليك بعمرو بن هشام، وشيبة، وعتبة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد، قال عبد اللَّه: والّذي توفّى نفسه، لقد رأيتهم صرعى يسحبون إلى القليب قليب بدر، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللَّهمّ أتبع أهل هذا القليب لعنة:
وسيأتي هذا بطرقه.
فانظر لمشابهة هذا الخبر ما أوتيه نوح من إجابة دعائه في هلاك قومه، وتأمل ما ميز اللَّه تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من ذلك، فإن نوحا عليه السلام لما امتلأ غيظا من أذى المكذبين له، وعيل صبره، ابتهل إلى ربه تعالى يسأله أن ينصره، فقال: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [ (1) ] ، فهطلت السماء بماء منهمر، فكانت دعوته دعوة انتقام وانتصار.
[ (1) ] القمر: 10.
ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا ربه لما قحطت الأرض فهطلت السماء بدعائه بما منهمر، أغاث اللَّه به العباد والبلاد، فكانت دعوته رحمة وغوثا للأنام، كما كان صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وسيأتي خبر استسقائه بطرقه.
وقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، يدعوهم ليلا ونهارا، فلم يؤمن به إلا دون المائة، ما بين رجل وامرأة [ (1) ] ، وهم الذين ركبوا معه السفينة، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت مدة دعائه الناس عشرين سنة، فآمن به أمم لا يحصون، ودانت له جبابرة [الأرض] ، خافت ملوكها ككسرى ملك فارس، وقيصر ملك الروم، والنجاشيّ ملك الحبشة، والمقوقس ملك مصر، وإقبال اليمن وملوك البحرين، وحضر موت، وهجر، وعمان، وغيرهم.
ودانت له بحمل الإتاوة والجزية: أهل نجران، وهجر، وأيلة، وأكيدر، ودومة، لما أيده اللَّه تعالى به من الرعب الّذي ينزله بقلوب أعدائه، حتى فتح الفتوح الجليلة، ودخل الناس في دين اللَّه أفواجا، فأتوا طائعين راغبين، مصدقين له، مؤمنين بما جاء به، فأي كرامة أعظم، وأي منزلة أرفع من هذا؟
وقد خصّ نوحا عليه السلام بأن نحلة اسما من أسمائه تعالى فقال: إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [ (2) ] ، وخصّ محمدا صلى الله عليه وسلم باسمين من أسمائه الحسنى، جمعهما له، ولم يشركه فيهما [ (3) ] أحد، قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [ (4) ] .
هذا مع ما خصه به تعالى من مزيد التشريف والتكريم، حيث خاطبه بصفة من صفات الرفعة والشرف، تقوم مقام الكنية، إذا يقول تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم في كتابه العزيز: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [ (5) ] ، يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [ (6) ] ، يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [ (7) ] ،
[ (1) ] قال تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] .
[ (2) ] الإسراء: 3.
[ (3) ] هما: رءوف، رحيم.
[ (4) ] التوبة: 128.
[ (5) ] الأنفال: 64، 65، 70، التوبة: 73، الأحزاب: 1، 28، 45، 50، 59، الممتحنة:
12، الطلاق: 1، التحريم: 1، 9.
[ (6) ] المائدة: 41، 67.
[ (7) ] المدثر: 1.
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [ (1) ] .
ولم يخاطب سبحانه غيره من الرسل إلا باسمه، فقال تعالى: يا آدَمُ [ (2) ] ، يا نُوحُ [ (3) ] ، يا إِبْراهِيمُ [ (4) ] ، يا مُوسى [ (5) ] ، يا يَحْيى [ (6) ] ، يا داوُدُ [ (7) ] ، يا عِيسى [ (8) ] ، وكل ذي عقل سليم يرى أن الخطاب للرجل بكنية أجل وأعظم من دعائه وخطابه به [من][ (9) ] ندائه باسمه.
ولما رماه صلى الله عليه وسلم المشركون بما رموا به من قبله من رسل اللَّه تعالى منذ عهد نوح فقالوا: مجنون، وساحر، وشاعر، ونحو ذلك من افترائهم الّذي نزه اللَّه عنه رسله عليهم السلام، احتمل صلى الله عليه وسلم أذاهم، وصبر على تكذيبهم له، ثقة منه بأن اللَّه تعالى تولى نصرته، وأنه وليه وظهيره، ولم يسلك مسلك من تقدمه من الرسل، في انتصارهم لأنفسهم، كقول نوح لما قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [ (10) ]، فقال مجيبا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ [ (11) ]، وكقول هود لما قال له قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [ (12) ] فقال دفعا عن نفسه: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ [ (13) ]، [و] [ (14) ] كما قال [فرعون] [ (15) ] لموسى: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً [ (16) ]، فنصر نفسه بنفسه فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً [ (17) ]، ولما قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم: أَإِنَّا لَتارِكُوا [ (18) ] آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [ (19) ]، وقالوا: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [ (20) ] ، سكت صلى الله عليه وسلم صابرا محتسبا.
فتولى اللَّه تعالى نصرته بوحي يتلى على مر الأيام إذا يقول: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ
[ (1) ] المزمل: 1.
[ (2) ] البقرة: 33، 35، الأعراف: 19، طه:117.
[ (3) ] هود: 46، 48.
[ (4) ] هود: 76، الصافات:104.
[ (5) ] طه: 11، 17، 19، 36، 40، 83، النمل: 9، 10، القصص: 30، 31.
[ (6) ] مريم: 12.
[ (7) ] ص: 26.
[ (8) ] آل عمران: 55، المائدة: 110، 116.
[ (9) ] زيادة للسياق.
[ (10) ] الأعراف: 60.
[ (11) ] الأعراف: 61.
[ (12) ] الأعراف: 66.
[ (13) ] الأعراف: 67.
[ (14) ] زيادة للسياق.
[ (15) ] زيادة للسياق.
[ (16) ] الإسراء: 101.
[ (17) ] الإسراء: 102.
[ (18) ] في (خ) : «لتاركوا» .
[ (19) ] الصافات: 36.
[ (20) ] الحجر: 6.
وَما يَنْبَغِي لَهُ [ (1) ]، وإذ يقول اللَّه تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [ (2) ]، وكذلك لما قالت قريش: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [ (3) ] ، وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [ (4) ] ، أعرض عنهم امتثالا لأمر ربه تعالى، إذ قال: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [ (5) ] ، فأنزل اللَّه تعالى براءته من ذلك، ودافع عنه ونصره، إذ يقول سبحانه: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [ (6) ]، وإذ يقول: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [ (7) ] ، في آيات أخر، ولهذا المعنى مزيد بيان فيما يأتي.
[ (1) ] يس: 69.
[ (2) ] القلم: 2.
[ (3) ] النحل: 103.
[ (4) ] الفرقان: 4، وفي (خ) . «وقالوا إن هذا» .
[ (5) ] النجم: 29.
[ (6) ] الفرقان: 6.
[ (7) ] الشعراء: 193.