الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما سليمان عليه السلام
فإن اللَّه تعالى وهب له ملكا لا ينبغي لأحد من [بعده][ (1) ] ، وقد أعطى اللَّه نبيّنا صلى الله عليه وسلم خزائن الأرض، فأباها وردّها اختيارا للنقل من الدنيا، واستصغارا لها بحذافيرها، وآثر مرتبته ورفعته عند ربه تعالى على ما يغني، ورضي بالقوت اليسير، فكان له من ذلك أعظم ما لسليمان لعلوّ مقامه.
وقد سخر اللَّه تعالى لسليمان الريح، فسارت به في بلاد اللَّه، وكان غدوّها شهرا ورواحها شهرا، فأعطى اللَّه سبحانه نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم أعظم من ذلك فأكثر، لأنه سار في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس مسيرة شهر، وخرج به في ملكوت السموات مسيرة خمسين ألف سنة في أقل من ثلث ليلة، فدخل السموات سماء سماء، ورأى عجائبها ووقف على الجنة والنار، وعرض عليه أعمال أمته صلى الله عليه وسلم، وصلّى بالأنبياء وبملائكة السموات، وخرق الحجب، ودلى له الرفرف الأخضر، وأوحى إليه ربه تعالى ما أوحى، وأعطاه خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، وعهد إليه أن يظهر دينه على الأديان، حتى لا يبقى في شرق الأرض وغربها إلا دينه، أو يؤدون إليه وإلى أهل دينه الجزية عن صغار، وفرض عليه الصلوات الخمس.
ولقي موسى عليه السلام وما له [من][ (1) ] مراجعة ربه في التخفيف عن أمته، وهذا كله في ليلة واحدة، فأيما أعجب وأكثر من هذا، أو الريح غدوها شهر ورواحها شهر، ومع ذلك فإن الصّبا سخّرت للنّبيّ صلى الله عليه وسلم وكانت من جملة أجناده، ولهذا قال: نصرت بالصّبا، ومع ذلك فإن سليمان سأل ذلك فقال: رَبِّ [اغْفِرْ لِي وَ][ (2) ] هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ (3) ] ، ونبينا صلى الله عليه وسلم حباه اللَّه تعالى بذلك من غير تعرض منه له، وأين مقام من [يعطي][ (1) ] حسب سؤاله، من مقام من تأتيه المنح الإلهية مخطوبا لها ومسئولا بها؟
[ (1) ] زيادة للسياق والبيان.
[ (2) ] زيادة للسياق لتصويب النّص.
[ (3) ] ص: 35.
وقد خص اللَّه المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن جعل الرعب يسير بين يديه مسيرة شهر، وأين غدو الريح بسليمان شهرا من تقدم الرعب بين يدي المصطفى شهرا، وقد سخر اللَّه تعالى لسليمان الجن، لكنها كانت تعتاص عليه حتى يصفدها ويعذبها بالأعمال الشاقة وغيرها، ونبينا صلى الله عليه وسلم أتته الجن راغبة فيه، طائعة له، معظّمة لشأنه، مصدقة بما جاءه من ربه، مؤمنة به، متبعة له، ضارعة خاضعة، مستمدة مستمنحة منه زادها ومأكلها، فجعل لها كل روثة تصيبها تعود علفا لدوابها، وكل عظم يعود طعاما لها.
وسخرت له صلى الله عليه وسلم عظماء الجن وأشرافها التسعة، الذين قال تعالى فيهم: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [ (1) ]، وقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [ (2) ] ، وأقبلت إليه صلى الله عليه وسلم ليلة الجن الألوف منها مبايعين له على الصوم والصلاة والنصح للمسلمين، واعتذروا بأنهم قالوا على اللَّه شططا.
فشملت بعثته ورسالته الإنس والجن، وهم لا يحصون عددا، وأين ما أعطيه سليمان من هذا، وما قدر ملكه في جنب هذا الأمر العظيم، وأين تصفيد سليمان الجن من أسر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العفريت من الجن لما تفلّت عليه، وأين المقام السليماني من المقام المحمدي، فإن سليمان كانت تخدمه الجن، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كانت الملائكة المقربون أعوانه، يقاتلون أعداءه بين يديه، ويدفعون عنه من يريده بسوء، وقد قبض أبو أسيد على الغول لما خالفته إلى سيره بسوق نمرة، حتى علمته آية الكرسي، وقبض أيضا أبو أيوب الأنصاري على الغول، وأسر معاذ بن جبل رضي الله عنه جنّيّا من جن نصيبين، وصارع عمار بن ياسر رضي الله عنه الجن لما التقيا على الماء، ومع هذا فقد ضرب جبريل عليه السلام بجناحه لما توفي النجاشي بالحبشة الجبال، حتى قام المصطفى صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه فصلّى عليه وهو صلى الله عليه وسلم ينظر إليه من المدينة.
وكذلك لما توفي معاوية بن معاوية، ضرب جبريل بجناحه، ورفع له صلى الله عليه وسلم
[ (1) ] الأحقاف: 29.
[ (2) ] الجن: 1- 2.
جنازة معاوية حتى نظر إليه وصلّى عليه، وأين تسخير سليمان عليه السلام الجن يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [ (1) ] ، من تسخير اللَّه سبحانه جبريل الروح الأمين، الرسول الكريم، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [ (2) ] ، لمحمد صلى الله عليه وسلم حين نزل على قريش يقاتل يوم بدر، فكان عمل الجن المردة والقردة الكفرة الفسقة لسليمان في أمور الدنيا، وعمل الملائكة المقربين الكرام البررة لمحمد صلى الله عليه وسلم من غير استقصاء، قال تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ [ (3) ]، وقال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [ (4) ] ، ولم يؤيد اللَّه تعالى نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم بالملائكة تقاتل معه كما قاتلت يوم بدر كفاحا كقتال الناس.
قال تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ [ (5) ] ، فلما نزلت الملائكة يوم بدر للقتال،
قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وهو معه في العريش: أبشر يا أبا بكر، أتاك اللَّه بالنصر، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه
…
إلى غير ذلك مما قد أوردته بطرقه في أبوابه.
وقد كان سليمان عليه السلام يفهم كلام الطير كما في قصة الهدهد، ويفهم كلام النملة، قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [ (6) ]، وقال تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ [ (7) ]، وقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [ (8) ] ، وقد أعطى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ذلك بزيادات، فكلمته البهائم والسباع، وحنّ له الجذع، ورغا له البعير، وكلمته الشجر، وسبّح الحصا في كفه، وسلم عليه الحجر والشجر، وأقر الذئب بنبوته، [ونطقت][ (9) ] له ذراع الشاة المسمومة، وسخر الطير لطاعته، وشكت إليه الظبية، وكلمه الضّب، وقد أوردت ذلك كله بطرقه.
[ (1) ] سبأ: 13.
[ (2) ] التكوير: 20.
[ (3) ] آل عمران: 124.
[ (4) ] الأنفال: 9.
[ (5) ] الأنفال: 12.
[ (6) ] النمل: 20.
[ (7) ] النمل: 18.
[ (8) ] النمل: 16.
[ (9) ] زيادة للسياق.