الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل
وكان مبعثه بعد الفيل بأربعين سنة، حتى أن قباث بن أشيم [ (1) ] وعائشة رضي اللَّه تعالى عنهم يذكرون من أمر الفيل وسائقه وقائده، فذكروا من أمر حديث محمد ابن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا زكريا بن يحيى الكنائي، حدثنا محمد بن فضيل عن عبد اللَّه بن سعيد بن أبي سعيد عن جده قال: دخل قباث بن أشيم أخو بني المليح على مروان بن الحكم- وقباث يومئذ أكبر العرب- فقال له مروان: أنت أكبر أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكبر مني وأنا أقدم منه بعشرين سنة، قال: فما أبعد ذكرك؟ قال: أذكر حتى الفيل [ (2) ] .
ومن حديث أبي الحويرث قال: سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الليثي: يا قباث! أنت أكبر أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: رسول اللَّه أكبر مني وأنا أسن منه، ولد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وتنبأ على رأس أربعين من الفيل، ووقفت بي أمي على روث الفيل محيلا أعقله [ (2) ] .
ومن طريق محمد بن إسحاق عن عبد المطلب بن عبد اللَّه بن قيس بن مخرمة عن أبيه عن جده قال: ولدت أنا ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وسأل عثمان بن عفان
[ (1) ] هو قباث بن أشيم بن عامر بن الملوّح بن يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن كنانة الليثي، هذا هو المشهور في نسبه، وقيل: هو تميمي، وقيل: كندي، وقال ابن حبان: يعمري ليثي من بني كنانة، له صحبة، وحديثه عند أهل الشام. شهد بدرا مع المشركين، وكان له فيها ذكر، ثم أسلم بعد ذلك، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشاهد، وكان على مجنبة أبي عبيده بن الجراح يوم اليرموك (طبقات ابن سعد) : 7/ 411، (الإصابة) : 5/ 407- 408، ترجمة رقم (7061 ز)، (الاستيعاب) : 3/ 1303- 1304، ترجمة رقم (2165) .
[ (2) ](دلائل أبي نعيم) 1/ 143، حديث رقم (84)، (المستدرك) : 3/ 2724، حديث رقم (6624/ 2222)، (الإصابة) : 5/ 407، (الإستيعاب) : 3/ 303، (دلائل البيهقي) :
1/ 78، (سنن الترمذي) : برقم (3623) ، وقال حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق، (البداية والنهاية) : 2/ 321.
رضي اللَّه عنه قباث بن أشيم أخا بني عمرو بن ليث: أنت أكبر أم رسول اللَّه؟
قال: رسول اللَّه أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد، ورأيت خذق [ (1) ] الفيل أخضر محيلا [ (2) ][بعده بعام، ورأيت أمية بن عبد شمس شيخا كبيرا يقوده- إما قال ابنه أو قال غلام له- فقال: يا قباث، أنت أعلم وما تقول][ (3) ] .
ومن حديث محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي سبرة عن يزيد بن الهاد عن أبي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت:
رأيت قائد الفيل [وسائسه][ (4) ] بمكة أعميين مقعدين يستطعمان [الناس][ (5) ] .
ومن حديث جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: أقبل أصحاب الفيل حتى لما أن دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم: ما جاء بك إلينا؟ ما عناك إلينا؟ ألا بعثت إلينا فنأتيك بكل ما أردت، فقال: أخبرت بهذا البيت الّذي لا يدخله أحد إلا أمن فجئت أخيف أهله، فقال:
إنا نأتيك بكل شيء تريده فارجع، فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه.
وتخلف عبد المطلب، وقام على جبل فقال: لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، ثم قال: اللَّهمّ إن لكل إله حلالا فامنع حلالك، لا يغلبن غدا محالهم محالك، اللَّهمّ إن فعلت فأمر ما بدا لك.
فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل، التي قال اللَّه تعالى: تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ قال: فجعل الفيل يعج عجيجا فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ.
ومن حديث عبد اللَّه بن وهب [ (6) ] قال: أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد
[ (1) ] الخذق: الروث.
[ (2) ](دلائل البيهقي) : 1/ 77 وقال: ورواه محمد بن بشّار عن وهب بن جرير فقال: «خذق الطير أخضر محيلا» .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين من (تاريخ الطبري) : 2/ 155- 156، باختلاف يسير.
[ (4) ] في (خ) : «وسائقه» والتصويب من رواية ابن إسحاق.
[ (5) ] زيادة من رواية ابن إسحاق. (سيرة ابن هشام) : 1/ 176.
[ (6) ] السند في (دلائل أبي نعيم) : حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن
عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس أنه قال: كان من حديث أصحاب الفيل أن أبرهة الأشرم الحبشي كان ملك اليمن، وأن ابن ابنته أكشوم بن الصباح الحميري خرج حاجا.
فلما انصرف من مكة نزل بكنيسة بنجران فعدا [ (1) ] عليها ناس من أهل مكة، فأخذوا ما فيها من الحلي، وأخذوا متاع أكشوم، فانصرف إلى جده الحبشي مغضبا، فلما ذكر له ما لقي بمكة من أهلها تألّي [ (2) ] أن يهدم البيت، فبعث رجلا من أصحابه يقال له: شمر بن مصفود على عشرين ألفا من خولان ونفرا من الأشعريين، فساروا حتى نزلوا بأرض خثعم، فتنحت خثعم عن طريقهم، فكلمهم التّقتال [الخثعميّ] [ (3) ]- وكان يعرف كلام الحبشة- فقال:[هذان على شمران قوسي، على أكلت وسهمي، قحافة][ (4) ] وأنا جار لك.
فسار معهم وأحبه، فقال له تقتال: إني أعلم الناس بأرض العرب، وأهداه بطريقهم، فطفق في مسيرهم بجيشها الأرض ذات المهمة [ (5) ] حتى تقطعت أعناقهم عطشا، فلما دنا من الطائف خرج إليهم ناس من بني جشم ونصر وثقيف، فقالوا:
ما حاجتك إلى طريقنا، وإنما هي قرية صغيرة، ولكنا ندلك على بيت بمكة يعبد، وهو حرز لمن لجأ إليه من ملكه، ثم له ملك العرب، فعليك به ودعنا عنك.
فأتاه حتى إذا بلغ المغمّس [ (6) ] ، وجد إبلا لعبد المطلب بن هاشم، مائة ناقة مقلدة فأنهبها بين أصحابه، فلما بلغ ذلك عبد المطلب جاءه- وكان جميلا وكان
[ () ] سليمان، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد اللَّه بن وهب، قال: أخبرني ابن لهيعة عن عقيل بن خالد، عن عثمان بن المغيرة بن الأخنس أنه قال:
…
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فغدا» وما أثبتناه من (خ) ، وهو أجود للسياق.
[ (2) ] تألّي: آلى على نفسه بيمين حلفه.
[ (3) ] زيادة من (دلائل أبي نعيم) .
[ (4) ] كذا في (خ) ، وسياقها مضطرب، ولعلها «هاتان يداي لك على شهران وناعس» ، كما في (الروض الأنف)، وشهران وناعس: قبيلي خثعم.
[ (5) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فطفق يجبهم في مسيرهم الأرض ذات المهمة» ، والمهمة: المفازة، الأرض المقفرة.
[ (6) ] المغمّس: موضع قرب مكة في طريق الطائف.
له صديق من أهل اليمن يقال له ذو عمير [ (1) ]- فسأله أن يرد إليه إبله، فقال: إني لا أطيق ذلك، ولكن إن شئت أدخلتك على الملك، فقال عبد المطلب: فافعل، فأدخله عليه فقال: إن لي إليك حاجة، قال: قضيت كل حاجة جئت تطلبها، قال: أنا في بلد حرام، وفي سبيل بين أرض العرب وبين أرض العجم، وكانت لي مائة ناقة مقلدة ترعى هذا الوادي بين مكة وتهامة، عليها نمير [ (2) ] أهلنا ونخرج إلى تجارتنا ونتحمل من عدونا، عدا عليها جيشك فأخذوها، وليس مثلك يظلم من جاوره، فالتفت الحبشيّ إلى ذي عمرو ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى عجبا، فقال: لو سألني كل شيء أحرزه أعطيته إياه أما إبلك فقد رددتها عليك، ومثلها، فما يمنعك أن تكلمني في بيتكم هذا وبلدكم هذا؟ فقال له عبد المطلب:
أما بيتنا هذا وبلدنا هذا فإن لهما ربا إن شاء أن يمنعهما منعهما، ولكني [إنما][ (3) ] أكلمك في مالي، فأمر عند ذلك بالرحيل، وتألّى ليهدمنّ الكعبة مكة [ (4) ] ، فانصرف عبد المطلب وقد سمع تأليّه في مكة وقد هرب أهلها، فليس بها إلا عبد المطلب وأهل بيته، فأخبرهم بذلك واندفع يرتجز وهو يطوف حول الكعبة:
لاهم [ (5) ] إن المرء يمنع أهله فامنع حلالك [ (6) ]
…
لا يغلبن صليبهم ومحالهم غدوا [ (7) ] محالك [ (8) ]
فإن فعلت فربما أولا فأمر ما بدا لك
…
فإن فعلت فإنه أمر يتم به فعالك
[ (1) ] كذا في (خ)، وفي (دلائل البيهقي) :«ذو عمرو» ، وفي ابن هشام:«ذو نفر» .
[ (2) ] الميرة: المؤنة، قال تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا [يوسف: 65] .
[ (3) ] زيادة في (خ) .
[ (4) ] في (دلائل أبي نعيم) : «ليهدمن مكة» .
[ (5) ] لاهمّ: أصلها: اللَّهمّ، والعرب تحذف منها الألف واللام، وكذلك تقول في «واللَّه إنك» :
«لاهنك» ، وذلك لكثرة دوران هذا الاسم على الألسنة. بل قالوا فيما هو دونه- في الاستعمال:
«أجنك» في «من أجل أنك» . (سيرة ابن هشام) : 1/ 170 هـ.
[ (6) ] الحلال في هذا البيت: الحلول في المكان، والحلال: مركب من مراكب النساء، والحلال أيضا:
متاع البيت، وجائز أن يستعيره هاهنا. (المرجع السابق) .
[ (7) ] في (خ) و (دلائل أبي نعيم) : «عدوا» وما أثبتناه من (سيرة ابن هشام)، وغدوا: غدا.
[ (8) ] المحال: القوة والشدة.
غدوا بجموعهم والفيل كي يبتزوا عيالك
…
فإن تركتهم وكعبتنا فوا حزنا هنالك
فانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك [ (1) ]
وقال [عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ [ (2) ] :
لاهمّ أخز الأسود بن مقصود
…
الآخذ الهجمة ذات التقليد [ (3) ]
بين حراء وثبير فالبيد
…
أخفر به رب وأنت المحمود [ (4) ]
قد أجمعوا على أن لا يكون عيد
…
ويهدموا البيت الحرام المعمود
والمروتين والمشاعر السود
…
فضحها إلى طماطم سود [ (5) ]
فلما توجه شمر [ (6) ] وأصحابه بالفيل- وقد أجمعوا ما أجمعوا- طفق كلما وجهوه أناخ وبرك، وإذا صرفوه عنها من حيث أتى أسرع المسير، فلم يزل كذلك حتى غشيهم الليل.
وخرجت عليهم طير من البحر لها خراطيم كأنها البلس [ (7) ] ، شبيهة بالوطاويط حمر وسود، فلما رأوها أشفقوا منها وسقط في أذرعهم، فقال شمر: ما يعجبكم من طير خمال جنبها الليل إلى مساكنها، فرمتهم بحجارة مدحرجة كالبنادق، تقع في [ (8) ] رأس الرجل فتخرج من جوفه.
[ (1) ] وردت هذه الأبيات في (خ) ، (سيرة ابن هشام) ، (دلائل أبي نعيم) ، (تاريخ الطبري) ، (سبل الهدى والرشاد) ، (الروض الأنف) ، بزيادة ونقص، وتقديم وتأخير. وروى ابن هشام هذه الأبيات الثلاثة:
لاهم إن العبد يمنع
…
رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم
…
ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم و
…
قبلتنا فأمر ما بدا لك
ثم قال: هذا ما صحّ له منها. (سيرة ابن هشام) : 1/ 170.
[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة من (سيرة ابن هشام) .
[ (3) ] الهجمة: ما بين التسعين إلى المائة من الإبل.
[ (4) ] حراء وثبير: جبلان بالحجاز، أخفره: أي انقض عزمه وعهده فلا تؤمنه.
[ (5) ] طماطم سود: يعني العلوج، ويقال لكل أعجمي كافر: طمطمان، والأعلاج: جمع علج.
[ (6) ] هو الأسود بن مفصود.
[ (7) ] البلس: الزرازير.
[ (8) ] في (خ) : «على» ، وما أثبتناه من (دلائل أبي نعيم) ، وهو أجود للسياق.
وكان فيهم أخوان من كندة، أما أحدهما ففارق القوم قبل ذلك، وأما الآخر فلحق بأخيه حين رأى ما رأى، فبينا هو يحدثه عنها إذ رأى طيرا منها فقال: كان هذا منها، فدنا منه الطائر فقذفه بحجر فمات، فقال أخوه الناجي منها:
إنك لو رأيت ولن ترانا
…
لدى جنب المغمس ما لقينا
خشيت اللَّه لمّا بثّ طيرا
…
بظل سحابة مرت علينا
وما تواكلهم يدعو بحق
…
كأن قد كان للحبشان دينا
فلما أصبحوا الغد أصبح عبد المطلب ومن معه على جبالهم فلم يروا أحدا غشيهم، فبعث ابنه عبد اللَّه على فرس له سريع ينظر ما لقوا، فإذا القوم مشدّخون [ (1) ] جميعا فرجع يرفع فرسه كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال:
إن ابني أفرس العرب، وما كشف عن فخذه إلا بشيرا ونذيرا.
فلما دنا من ناديهم بحيث يسمعهم الصوت، قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا، فخرج عبد المطلب وأصحابه فأخذوا أموالهم، فكانت أموال بني عبد المطلب من ذلك المال. وقال عبد المطلب:
أأنت منعت الجيش والأفيالا
…
وقد رعوا بمكة الأجبالا؟
وقد خشينا منهم القتالا
…
وكلّ أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
وقال عكرمة بن عامر العبدري:
اللَّه ربي وولي الأنفس
…
أنت حبست الفيل بالمغمّس
فانصرف شمر بن مفصود هاربا وحده، وكان أول منزل نزله سقطت يده اليمنى، ثم نزل منزلا آخر فسقطت رجله [ (2) ] اليسرى، فأتى منزله وقومه وهو حينئذ لا أعضاء له، فأخبرهم بالخبر وقصّ عليهم ما لقيت جيوشه، ثم فاضت نفسه وهم ينظرون.
[ (1) ] الشّدخ: الشّج.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «يده» في الموضعين.
قال أبو نعيم [ (1) ] : رويت قصة أصحاب الفيل من وجوه، وسياق عثمان بن المغيرة أتمها وأحسنها شرحا، وما ذكر أن عبد المطلب بعث بابنه عبد اللَّه فهو وهم من بعض النقلة، لأن الزهري ذكر أن عبد اللَّه بن عبد المطلب كان موته عام الفيل، وأن الحرث بن عبد المطلب كان أكبر ولد عبد المطلب، وكان هو الّذي بعثه على فرسه لينظر ما لقي القوم [ (2) ] .
وخرج من حديث ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير قال: كان من شأن الفيل أن أبرهة الأشرم ملك الحبشة بعث مع أبي يكسوم [ (3) ] فبعث فيهم يريد أن يغزو الكعبة فيهدمها، وساكنها يومئذ قريش، وإن أبا يكسوم أقبل بالفيل ومن معه، حتى إذا أبصر الحرم ودنوا منه، حبس اللَّه الفيل بذي المغمّس [ (4) ] ، فكان إذا ضربوه ليدخل مكة أبي عليهم، وإذا تركوه وجّه راجعا إلى وجهه الّذي جاء منه، فرجعوا ذلك العام، حتى إذا كان [بعد ذلك بعامين خرج رجال من] العرب حتى قدموا على أبرهة فعجزوه في إرساله أول مرة، وأمروه أن يبعث الثانية، فبعث الأسود بن مفصود، وبعث معه بكتيبة عظيمة معها الفيل، حتى إذا دنوا من الحرم ونظروا إليه، بعث اللَّه عليهم بقدرته طيرا أبابيل خرجت من البحر. والأبابيل: من أفواج الطير، وزعموا- واللَّه أعلم- أن لها خراطيم أمثال البلس [ (5) ] ، فلما بلغ ذلك قريشا قام رجال منهم فاستقبلوا الكعبة يدعون اللَّه على الفيل ومن معه، فكان ممن قام في ذلك اليوم عبد المطلب بن هاشم، وعكرمة بن عامر العبدري، فقال عبد المطلب: لاهم فأخز الأسود بن مفصود
…
،
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «قال الشيخ» .
[ (2) ] هذا الحديث أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 144- 148، حديث رقم (86)، وابن سعد في (الطبقات الكبرى) : 1/ 90 من طرق متعددة جمع رواياتها، والحاكم في (المستدرك) :
2/ 583- 584، حديث رقم (3974/ 1112) وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 587- 591، تفسير سورة الفيل.
[ (3) ] في هذه العبارة نظر، فأبو يكسوم هو أبرهة، قال ابن إسحاق: ولما هلك أبرهة، ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة، وبه كان يكنى، فلما هلك يكسوم بن أبرهة، ملك اليمن في الحبشة أخوه مسروق ابن أبرهة [سيرة ابن هشام] : 1/ 182، تحت عنوان:«ولدا أبرهة» .
[ (4) ] المغمّس: موضع على ثلث فرسخ من مكة.
[ (5) ] وزاد ابن كثير في (التفسير) : «وأكفّ كأكفّ الكلاب» .
الأبيات [ (1) ]، وقال أيضا:
فلم أسمع بأرض من رجال
…
أرادوا الغزو ينتهكوا حرامك
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك
…
لا يغلبن صليبهم ومحالهم فيه محالك
وإن تركتهم وكعبتنا فشأ ما بدا لك
وقال عكرمة بن عامر حين أهلكوا:
أنت منعت الحبش والأفيالا
…
وقد رعوا بمكة الأجبالا
وقد خشينا منهم القتالا
…
كل كريم ماجد بطالا [ (2) ]
يمشي يجر المجد والأذيالا
…
ولا يبالي جنة المختالا
ثم قلبتهم بشر حالا
…
وقد لقوا أمرا له مفصالا
وكان بين غزوة أصحاب الفيل الأخيرة وبين الفجار أربعون سنة، وإنما سمي الفجار لحرب كانت بين بني كنانة وقيس استحلوا فيها الحرمات وفجروا فيها، وكان بين الفجار وبين بنيان الكعبة خمس عشرة سنة [ (3) ] .
وقال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد اللَّه بن كعب مولى آل عثمان قال في حديث ذكره: خرج أبرهة وهو يكسوم وهو الأشرم، فخرج بمن أراد الحبشة، وقوم من أهل اليمن كثير، وكان فيمن خرج من أهل اليمن ملك حمير ذو نفر، واستعمل على اليمن ابنه يكسوم، فجعل لا يمر بحيّ من العرب إلا استتبعهم فتبعوه، فأقبل في جمع كثير من الحبشة، وحمير، ومن كندة، حتى مرّ ببلاد خثعم، فخرج إليه نفيل بن حبيب الخثعميّ فقال: يميني على شهران وشمالي على ناهس (بطنين من خثعم) .
قال الواقدي: فحدثني أسامة بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرج أبرهة
[ (1) ] سبق ذكرها وشرحها ضمن أحاديث هذا الباب.
[ (2) ] هذه الأبيات في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 148.
وقد خشينا منهم القتالا
…
وكل أمر لهم معضالا
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
[ (3) ](إمتاع الأسماع) بتحقيقنا: 1/ 16، هامش (5) .
حتى انتهى إلى بلاد خثعم، فخرج إليه نفيل بن حبيب الخثعميّ في شهران وناهس، ومن أفناء العرب، فاعترضوا ليقاتلوهم فهزمهم أبرهة، وقتل من قتل، وأخذ نفيل أسيرا فأمر أن يضرب عنقه، فقال نفيل: أيها الملك! لا تقتلني، فإنّي أدلّ العرب، وعلى شهران وناهس بالطاعة، فاستحياه، وخرج معه نفيل دليلا ومعه ذو نفر دليلا.
فلما افترقت الطريقان، طريق إلى مكة وطريق إلى الطائف تآمر العربيان ومن معهما فقالوا: يذهبون إلى بيت اللَّه الّذي ليس له في الأرض بيت غيره لهدمه؟! ألفتوه واشغلوه بثقيف عسى أن يجد عندهم ما يكره، فمالا به إلى الطائف.
قال الواقدي: فحدثني محمد بن أبي سعد الثقفي، عن يعلي عن عطاء عن وكيع بن عدس، عن عمير أبي رزين [ (1) ] قال: كنا نرعى غنما بين دجنا إلى الطائف، فأتى بالطائف مع الشمس ما شعرنا ولا شعر من بها إلا بالأشرم أبرهة قد جاءهم ضحى، معهم الفيلة والدّهم من الناس.
فخرج إليه أبو مسعود في رجال من ثقيف فقالوا: أيها الملك! خرجت لأمر تريده، فامض الّذي تريد، أمامك ما عندك مكان يحج إليه، إنما البيت الّذي تحج إليه العرب بمكة، وإنما أتيت من الذين معك، فدعا ذا نفر ونفيلا فقال: قدمتما بي إلى هاهنا؟ فقالا: هؤلاء عدو وأولئك عدو، فقال: إني لم أرد هؤلاء، إنما أردت أن أهدم البيت الّذي يحج إليه العرب وأغيظهم مما صنعوا بكنيستي.
قال: فحدثني زيد بن أسلم عن أبيه، قال: خرج إليه مسعود بن معتب.
قال الواقدي: هذا أثبت من الّذي يقول: أبو مسعود، قال: ما أنت؟ قال:
مسعود منك، ونحن ندلك على البيت الّذي تعبده العرب، فأرشده إلى مكة، وبعث أبا رغال يدله على طريق مكة، فأنزله أبو رغال بالمغمّس، فمات أبو رغال:
بالمغمّس، فقبره هناك ترجمه العرب [ (2) ] .
قال الواقدي: فحدثني عبد اللَّه بن عثمان عن أبي سليمان عن أبيه قال: خرج
[ (1) ] كذا في (خ) .
[ (2) ](سيرة ابن هشام) : 1/ 166، تحت عنوان:«أبو رغال ورجم قبره» .
أبرهة من اليمن بذي نفر ونفيل بن حبيب فعدلا به إلى الطائف وقالا: لو أتينا مكة هؤلاء وراء ظهورنا فخشينا أن نؤتي من خلفك، فأردنا أن تبدأ بهم حتى لا يكون من ورائك أحد، فصدقهما ثم انصرف عن الطائف.
قال الواقدي: وأقبل أبرهة حتى إذا كان عن يسار عرفة، ودنا من الحرم عسكر هناك، وكان أبرهة قد بعث على مقدمته رجلا من الحبشة يقال له: الأسود [ (1) ] ، على خيل يحشر عليه أموال أهل مكة، فدخل الحرم فجمع سوائم ترعى في الحرم فضمها إليه، فأصاب لعبد المطلب مائتي بعير ثم انصرف إلى معسكره فأخبره الخبر، وأنه لم يصدّه أحد عن أخذها.
فبعث أبرهة حناطة الحميريّ فقال: سل عن أشرف أهلها فأخبره بأني لم آت لقتال أحد، إنما جئت لهدم هذا البيت لما نذرت وأوحيت على نفسي لما صنعت العرب بكنيستي ثم أنصرف، فإن صددتمونا عنه قاتلناكم، وإن تركتمونا هدمناه وأنصرف عنكم.
فقال عبد المطلب: ما عندنا له قتال، وما لنا به طاقة ولا يدان، وسنخلي بينه وبين ما يريد، فإن لهذا البيت ربا مانعه.
قال له حناطة: انطلق معي إليه، فركب عبد المطلب على فرس وركب معه ابنه الحرث، فلما دخل عسكره جاء حناطة إلى أبرهة فأخبره بما قال عبد المطلب، وأنه دخل عسكره، فقال له أبرهة: أخبرني عن بيتهم، أي شيء بناؤه؟ قال:
حجارة منضودة، فعجب أبرهة من ذلك.
وكان عبد المطلب حين دخل العسكر سأل عن ذي نفر الحميري- وكان له صديقا- فدخل عليه فقال: هل عندك من غنى؟ قال: فيما ذا؟ قال: في إبلي التي أخذت، قال: وما عندي من الغنى وأنا أسير في يد رجل عجمي لا أدري
[ (1) ] هو الأسود بن مفصود بن الحارث بن منبه بن مالك بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مذحج، بعثه النجاشيّ مع الفيلة والجيش، وكانت الفيلة ثلاثة عشر فيلا، هلكت كلها إلا [محمود] فيل النجاشي لامتناعه عن التوجه إلى الكعبة.
متى هو قاتلي، ولكن سأكلم لك أنيسا سائس الفيل محمود وإنه صديقي، قال عبد المطلب: فذلك.
فقال: هذا سيد قريش الّذي يحمل على الجياد ويهب الأموال ويطعم في السهل، ما هبّت الريح والوحش والطير، وقد أصاب له الملك مائتي بعير، فأحب أن تكلمه حتى يردها عليه.
قال: فذكر ذلك أنيس لأبرهة فقال له: قد أتاك سيد قريش الّذي يحمل على الجياد، وقد طلبه الملك قبل ذلك فأرسل إليه حناطة، فوافى عبد المطلب باب الملك وعنده حناطة وأنيس فقال أنيس: هذا صاحب عير مكة، وهو يطعم في السهل والجبل، [ما هبت الريح] والوحش والطير، وقال حناطة: هو سيد أهل مكة فأذن له، فدخل- وكان عبد المطلب من أوسم الناس وجها وأجلهم- فلما رآه أبرهة أجلّه واستبشر برؤيته، وأبرهة على سرير فنزل عنه، وكره أن يكون تحته، وكره أن يجلسه على السرير فيراه الحبشة جالسا معه على سرير ملكه، فنزل أبرهة فجلس على بساط وأجلسه إلى جنبه ورحّب به وقال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟
فقال: حاجتي أن تردّ عليّ مائتي بعير أصابوها إليّ، فلما قال ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد عجبت حين رأيتك لهيبتك مع ما ذكر لي من شرفك وفعالك وتقدمك على أهل بيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير قد غصبنا [منك] ، وتترك ما هو دينك ودين آبائك وعزك وشرفك، وقد جئت لأهدمه [و] لا تكلمني فيه.
قال عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت الّذي تريد ربّا سيمنعه.
فقال أبرهة: ما كان سيمتنع مني.
قال عبد المطلب: أنت وذاك.
قال: ما أرى القوم يصدقون أنّا نصل إليه، وسيرون نصل إليه أم لا، فإنّي لا أرى أحدا همّ بشيء من هذا قبلي فيقولون قد حيل بينه وبين ذلك.
قال أنت وذاك، قد خرجنا عنه وما دونه أحد يصدك عنه، فأمر بإبله فردت عليه.
قال: ولما نزل المغمّس جاء مكة أول من جاء بنزوله ابو قحافة ومعمر بن عثمان وعمير بن جدعان، كانوا في إبل عبد اللَّه بن جدعان هناك، فأخبروا الناس، فحف الناس ولحقوا برءوس الجبال وبالشعاب وبطون الأودية.
قال الواقدي: وحدثني سيف بن سليمان قال: سمعت مجاهدا يقول: لما ولّى عبد المطلب من عند أبرهة منصرفا، أمر أبرهة أصحابه بالتهيؤ والتعبئة لإقحامهم الحرم، فعبئوا كتيبة القتال، وصفوا الصفوف، وقدّموا الفيلة كما كانوا يصنعون في الحروب، وقدم صاحب مقدمته الأسود بن مفصود، ووقف أبرهة كما كان يقوم في الحروب، معه وجوه أصحابه قد حفوا به من وجوه الحبشة والعرب ممن قد سار به، وقد أخذت صفوف أقطار الأرض بعضها خلف بعض.
وكان الفيل إذا حملوا لم يسر ويحرن كحران الدابة ويكرّ كرّ الناس، حتى بلغ أبرهة ذلك، فجاء وهو في أصحابه حتى وقف على دابته فجعل يصيح بسائس الفيل فيضربه، فإذا ألح عليه ربض وصخّ [ (1) ] ، فينخس بالرمح ولا ينثني.
قال: وحدثني عبد اللَّه بن عمرو بن زهير عن أبيه، عن عبد اللَّه بن خراش الكعبي عن أبيه قال: أقبل عبد المطلب يومئذ وأقبل أصحاب الفيل، فلما رأى عبد المطلب ما هموا به سار سريعا على فرسه حتى أوفى على حراء، ومعه عمرو بن عائذ بن عمران ابن مخزوم ومطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومسعود بن عمرو الثقفي، ينظرون كلما حمل الحبشة الفيل على الحرم ربض، فيقبل الحبشة بحرابهم ورماحهم وعصيهم يطعنونه بها فيقوم، فإذا حملوه على الحرم برك وصاح، وإذا وجهوه من حيث جاء ولّى وله وجيف [ (2) ] ، وأي وجه شاءوا طاوعهم ما لم يحملوه على الحرم.
قالوا: فبينا عبد المطلب وأصحابه على حراء- وهم يحملون الفيل على الحرم-
[ (1) ] صخّ الصوت الأذن يصخّها صخّا، وفي حديث ابن الزبير وبناء الكعبة: فخاف الناس أن تصيبهم صاخّة من السماء، هي الصيحة التي تصخّ الأسماع، أي تقرعها وتصمها. قال ابن سيده: الصاخة صيحة تصخّ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدّتها، ومنه سميت القيامة الصاخة. (لسان العرب) :
3/ 33، (النهاية) : 3/ 14، وفي (دلائل أبي نعيم) :«برك وصاح» .
[ (2) ] وجيف: اضطراب من سرعة المشي.
ويأبى، إذ قال عمرو بن عائذ لعبد المطلب: انظر! هل ترى شيئا؟ قال: إني لأرى طيرا يأتي من قبل البحر قطعا قطعا، وهي أصغر من الحمام، سود الرءوس، حمر الأرجل والمناقير.
قال عمرو: فأقبلت حتى حلقت على القوم، مع كل طائر ثلاثة أحجار:
في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، وقال عبد المطلب لمسعود: هل ترى شيئا؟
قال: نعم، أرى سوادا كثيرا من قبل البحر كثيفا، قال عبد المطلب: هو طائر، قال مسعود: صدقت، قد واللَّه عرفت حين حلوا بنا أن لو أرادوا الدية لقدروا عليها، فلم أزل أبعث الأشرم وأصرفه حتى ولى إلى ما هاهنا، وعرفت أنه لا يصل إلى البيت حتى لا يعذب، وهذا واللَّه عذابه.
قال الواقدي: وحدثني قيس بن الربيع عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد ابن عمير قال: لما أراد اللَّه أن يهلك أصحاب الفيل، أرسل عليهم طيرا أنشئت من البحر كأنها الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار مجزعة [ (1) ] : حجر في منقارة وحجران في رجليه، فجاءت حتى صفّت على رءوسهم، فصاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها، فما وقع [ (2) ] حجر على رجل منهم إلا خرج من الجانب الآخر، إذا وقع على رأسه خرج من دبره [ (3) ][وإذا وقع على جسده خرج من الجانب الآخر، وبعث اللَّه ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادت شدة فأهلكوا] .
[ (1) ] مجزعة: مقطعة.
[ (2) ] في (دلائل أبي نعيم) : «فما على الأرض حجر وقع على رجل» .
[ (3) ] هذا آخر الحديث رقم (88) في (دلائل أبي نعيم) : 1/ 149- 150، وفيه الواقدي وعبد اللَّه ابن خراش متروكان، وما بين الحاصرتين زيادة من (خ)، وابن كثير في (التفسير) : 4/ 590، وقال ابن كثير: وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب (دلائل النبوة) : من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة، قصة أصحاب الفيل، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن، وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له شمر بن مفصود، وكان الجيش عشرين ألفا، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى، وهذا السياق غريب جدا، وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره، والصحيح أن أبرهة الأشرم قدم من مكة، كما دلّ على ذلك السياقات والأشعار.
وهكذا روى عن ابن لهيعة عن الأسود عن عروة، أن أبرهة بعث الأسود بن مفصود على كتيبة معهم الفيل، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه، والصحيح قدومه، ولعل ابن مفصود كان على مقدمة الجيش. واللَّه تعالى أعلم. (تفسير ابن كثير) : 4/ 590.
وذكر عمر بن شيبة في كتاب (أخبار مكة) : عن أبي عاصم أخبرنا عمرو ابن سعيد قال: سمعت مشيختنا يقولون: حمام مكة من بقية طير أبابيل.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الحجارة مثل البندق، وبها نضح حمرة مختمه، مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت تلك الحجارة عليهم فلم تعد عسكرهم.
وحدثني عمر بن طلحة عن جونة بن عبد عن أمية بن عبد الرحمن قال: سمعت نوفل بن معاوية الديليّ يقول: رأيت الحصا الّذي رمى به أصحاب الفيل، حصا مثل الحمص وأكبر من العدس، حمر مختمة، كأنها جزع ظفار [ (1) ] .
وحدثني ابن أبي سبرة عن عمر بن عبد اللَّه العبسيّ قال: قال حكيم بن حزام:
كان في المقدار بين الحمصة والعدسة، حصاته نضح أحمر، مختم كالجزع، فلولا أنه عذب به قوم [لأخذت] منه ما أتخذه في مسجدي، أسلمت وهو بمكة كثير في بيوتكم.
وحدثنا سعيد بن حسان عن عطاء بن أبي رباح عن حبيب بن ميسرة، عن أم كرز الخزاعية قالت: رأيت الحجارة التي رمي بها أصحاب الفيل حمرا مختمة كأنها جزع ظفار، وحدثني ابن أبي سبرة عن عمر بن عبد اللَّه العيشي عن ابن كعب القرظي قال: جاءوا بفيلين، فأما محمود فربض، وأما الآخر فجثع فحصب.
وحدثني رباح بن مسلم عن من سمع وهب بن منبه قال: كانت الفيلة معهم، فكان محمود- وهو فيل الملك- إذا تقدم يربض لتقتدي به الفيلة فجثع منها فيل فحصب فرجعت الفيلة.
وحدثني سيف بن سليمان عن مجاهد قال: كان فيل حصب بالمغمّس.
وحدثني عبد اللَّه بن عمرو بن زهير الكعبي عن أبي مالك الحميري عن عطاء
[ (1) ] جزع: خرز، وظفار: بلد باليمن قرب صنعاء، ينسب إليها هذا الخرز، وأن به سوادا وبياضا.
ابن يسار قال: حدثني من كلّم قائد الفيل وسائسه قال لهما: أخبراني خبر الفيل.
قالا: أقبلنا وهو فيل الملك النجاشي الأكبر، لم يسر به قط إلى جمع إلا هزمهم، فاخترت أنا وصاحبي هذا لجلدنا وحرفتنا بسياسة الفيل، قال: فلما دنونا من الحرم جعلنا كلما وجهناه إلى الحرم يربض، فتارة نضربه فينهض، وتارة نضربه حين برك ثم نتركه، فلما أتينا إلى المغمّس ربض فلم يقم، وطلع العذاب.
فقلت: نجا غيركما؟ قالا: نعم، ليس كلهم أصاب العذاب، وولى أبرهة ومن تبعه يريد بلاده، كلما دخلوا أرضا وقع منه عضو، حتى انتهى إلى بلاد خثعم وليس عليه غير رأسه فمات.
وحدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: أفلت نفيل والحميري. قال الواقدي: وسمعت أنه لما ولى أبرهة مدبرا جعل نفيل يقول:
أين المفر والإله الطالب
…
والأشرم المغلوب ليس الغالب [ (1) ]
وذكر ابن الكلبي في (الجمهرة) أن ضبّة وعمرا وحميسا أبناء أدّ بن طائحة ابن إلياس بن مضر شهدوا الفيل فهلكوا، وأفلت منهم ستون رجلا، إذا ولد مولود مات منهم رجل.
قال الواقدي: وحدثني حزام بن هشام عن أبيه قال: لما رد اللَّه الحبشة عن البيت أعظمت قريشا وقالوا: هؤلاء أهل اللَّه لما كفاهم مؤنة عددهم، وجعلوا يقولون في ذلك الأشعار، وخرجت الحبشة يسقطون في كل طريق ويهلكون في كل منهل.
وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله أنملة أنملة، كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة ودم وقيح، حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرخ طير، فمات حين انصدع صدره عن قلبه فيما يقولون [ (2) ] .
[ (1) ](دلائل أبي نعيم) : 1/ 150، (سيرة ابن هشام) : 1/ 172، وقال ابن هشام: قوله: «ليس الغالب» عن غير ابن إسحاق.
[ (2) ](المرجع السابق) : 173.
وحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحرث قال: دخلت مع أبي على فاطمة بنت المنذر فحدثتنا أحاديث، وكان فيما حدثت أن قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تقول: لما قدم أصحاب الفيل بالفيل وأصابهم ما أصابهم، دخل سائقه وقائده مكة، فلم يزالا بها حتى رأيتهما قبل أن ينبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أعميين مقعدين يستطعمان الناس، يكونان حيث يذبح المشركون ذبائحهم، فقال لها: أي أين كانوا يذبحون؟ قالت: على إساف ونائله [ (1) ] .
وقد ذكر محمد بن إسحاق أن سبب غزو أبرهة البيت أنه بني القلّيس بصنعاء، فبني كنيسة لم ير مثلها في زمانها بشيء من الأرض، ثم كتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبق مثلها لمن كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حاج العرب، فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة غضب رجل [من][ (2) ] النّسأة (أحد بني فقيم بن علي بن عامر بن ثعلبة بن الحرث بن مالك ابن كنانة بن خزيمة) فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها (يعني سلح)[ (3) ]، ثم خرج فلحق بأرضه فأخبر أبرهة بذلك فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنع هذا رجل من العرب أهل هذا البيت الّذي يحج العرب إليه بمكة لما سمع قولك: «أصرف إليه حاج العرب» ، غضب فجاء فقعد فيها، أي لست لذلك بأهل.
فغضب عند ذلك أبرهة، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، وتجهزت ثم أمر الحبشة فتهيأت ثم ساروا، وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب فأعظموه وفظعوا به، ورأوا جهاده حقا عليهم لما رأوا أنه يريد هدم الكعبة بيت اللَّه الحرام.
فخرج إليه رجل كان من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت اللَّه، فأجابه
[ (1) ](المرجع السابق) : 176، (تفسير ابن كثير) : 4/ 590، وقال: كان اسم قائد الفيل [أنيسا] .
[ (2) ] زيادة للسياق، والنسأة: جمع ناسئ، وهم الذين كانوا ينسئون الشهور، أي يؤخرون حرمة أحد الأشهر الحرم، وقد سبق شرح ذلك.
[ (3) ] سلح: من السّلاح، وهو النّجو، [وهو الغائط]، (ترتيب القاموس) : 2/ 592، (دلائل أبي نعيم) : 1/ 151، قال أبو نعيم: «فقعد فيها أي تغوّط فيها) .
من أجابه إلى ذلك، ثم عرض له فقاتله، فهزم ذو نفر وأصحابه، وأخذ فأتي به أسيرا، فلما أراد قتله قال له: لا تقتلني فإنه عسى أن يكون بقائي خيرا لك.
فتركه وحبسه عنده، ثم مضى حتى كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب في قتلى خثعم شهران وناهس [ (1) ] ومن تبعه من قبائل العرب، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ له أسيرا، فخلى سبيله وخرج معه يدله حتى [إذا][ (2) ] مرّ بالطائف خرج ابنه مسعود بن معتب [ (3) ] فتجاوز عنهم، وبعثوا معه أبا رغال يدله على الطريق إلى مكة حتى أنزله المغمّس مات أبو رغال، وبعث أبرهة الأسود بن مسعود على خيل إلى مكة، فساق أموال أهل تهامة، وذكر القصة بمعنى ما تقدم.
وخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أرسل اللَّه على أصحاب الفيل جعل لا يقع حجر على واحد منهم إلا تفطّر جسده، فذلك أول ما كان الجدري، فأرسل اللَّه سيلا فذهب بهم [ (4) ] فألقاهم في البحر.
وعن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصّفاح [ (5) ]، فأتاهم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا بيت اللَّه لم يسلط عليه أحد، قالوا: لا نرجع حتى نهدمه، فكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر.
فدعا اللَّه بالطير الأبابيل، فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلما حاذتهم صفّت عليهم ثم رمتهم، فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة، فكان لا يحك إنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه.
وقال قيس عن حصين بن عبد الرحمن في قوله: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً
[ (1) ] يقال: إن خثعم ثلاث: شهران، وناهس، وأكلب، غير أن أكلب عند أهل النسب هو: ابن ربيعة ابن نزار، ولكنهم دخلوا في خثعم وانتسبوا إليهم. (ابن هشام) : 1/ 164.
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] هو مسعود بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف.
[ (4) ] في (خ) : «بها» .
[ (5) ] الصّفاح بكسر الصاد: موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة من مشاش. (معجم البلدان) : 3/ 467، موضع رقم (7558) .
أبابيل [ (1) ] قال: طير خرجت من قبل البحر، لها رءوس مثل رءوس السباع ترميهم، فمن أصابت جدر [ (2) ] ، وذلك أول ما كان الجدري، لم ير قبله.
وقد روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين عليهم السلام: أن قدوم الفيل للنصف من المحرم، وبين الفيل وبين مولد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمس وخمسون ليلة [ (3) ] .
[ (1) ] الفيل: 3.
[ (2) ] أصابه داء الجدري.
[ (3) ] ذكروا أن الفيل جاء مكة في المحرم، وأنه صلى الله عليه وسلم ولد بعد مجيء الفيل بخمسين يوما، وهو الأكثر والأشهر، وأهل الحساب يقولون: وافق مولده من الشهور الشمسية نيسان (أبريل) ، فكانت لعشرين مضت منه، وولد بالغفر من المنازل «منازل القمر» . (ابن هشام) : 1/ 394، فصل ولادة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (هامش) .