المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌تنبيه مفيد كتب أبو بكر بن فهد الهاشمي سوى القرآن معجزات - إمتاع الأسماع - جـ ٤

[المقريزي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الرابع]

- ‌[تتمة الفصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم]

- ‌ومن حديث محمد بن كعب القرظيّ قال:

- ‌فصل في ذكر ما كان من أعلام نبوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منذ حملت به أمه آمنة بنت وهب [ (1) ] إلى أن بعثه اللَّه برسالته

- ‌وأما إخبار الحبر لعبد المطلب بأن في إحدى يديه ملكا وفي الأخرى نبوة، وأن ذلك في بني زهرة

- ‌وأما رؤية النور بين عيني عبد اللَّه بن عبد المطلب

- ‌وأما إخبار آمنة بأنها قد حملت بخير البرية وسيّد الأمة

- ‌وأما دنوّ النجوم منها عند ولادته وخروج النور منها

- ‌وأما انفلاق البرمة عنه

- ‌وأما ولادته مختونا مسرورا

- ‌وأما استبشار الملائكة وتطاول الجبال وارتفاع البحار وتنكيس الأصنام وحجب الكهان ونحو ذلك

- ‌وأما ارتجاس إيوان كسرى وسقوط شرفاته وخمود نار فارس ورؤيا الموبذان

- ‌وأما صرف أصحاب الفيل عن مكة المكرمة

- ‌وكان مولده صلى الله عليه وسلم عام الفيل

- ‌وأما الآيات التي ظهرت في مدة رضاعته صلى الله عليه وسلم

- ‌وأما معرفة اليهود له وهو غلام مع أمه بالمدينة، واعترافهم إذ ذاك بنبوته

- ‌وأما توسم جده فيه السيادة لما كان يشاهد منه في صباه من مخايل [ (1) ] الرّباء [ (2) ]

- ‌وأما إلحاق القافّة [ (1) ] قدمه بقدم إبراهيم عليه السلام وتحدّث يهود بخروج نبي من ضئضئ [ (2) ] عبد المطّلب

- ‌وأما رؤية عمه أبي طالب منذ كفله ومعرفته بنبوته

- ‌وأما تظليل الغمام له في صغره واعتراف بحيرى ونسطورا بنبوته

- ‌فصل في رعاية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الغنم قبل النبوة

- ‌فصل في ذكر اشتهار رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة قبل بعثته بالرسالة من اللَّه تعالى إلى العباد

- ‌فصل في ذكر عصمة اللَّه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم من الجن والإنس والهوام

- ‌فصل في ذكر حراسة السماء من استراق الشياطين السمع [ (1) ] عند بعثة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برسالات اللَّه تعالى لعباده

- ‌فصل في ذكر بعثة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فأمّا شبهة منكري التكليف

- ‌وأما شبهة البراهمة

- ‌وأما شبهة منكري كون الشرائع من عند اللَّه

- ‌وأما شبهة اليهود

- ‌وأما بعثة الرسل هل هي جائزة أو واجبة

- ‌وأما الأدلة على صحة دين الإسلام وصدق نبينا محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم

- ‌فأحدهما:

- ‌الحجة الثانية

- ‌الحجة الثالثة

- ‌الحجة الرابعة

- ‌الحجة الخامسة

- ‌الحجة السادسة

- ‌الحجة السابعة

- ‌الحجة الثامنة

- ‌الحجة التاسعة

- ‌الحجة العاشرة

- ‌وأما تقرير نسخ الملة المحمدية لسائر الملل

- ‌وأمّا أنّ التّوراة التي هي الآن بأيدي اليهود ليست التوراة التي أنزلها اللَّه على موسى عليه السلام

- ‌فلحقها ثلاثة أمور [ (1) ] :

- ‌ومنها أن اللَّه تجلى لموسى في سيناء

- ‌وهذه نبذة من مقتضيات غضب اللَّه تعالى عليهم

- ‌بحث تاريخي عن الأناجيل التي بين يدي النصارى

- ‌[المعجزة في رأي المتكلمين]

- ‌[الآية]

- ‌تنبيه وإرشاد لأهل التوفيق والرشاد

- ‌فصل في [ذكر موازاة الأنبياء في فضائلهم بفضائل نبينا صلى الله عليه وسلم ومقابلة ما أوتوا من الآيات بما أوتي عليه السلام]

- ‌وأما إبراهيم عليه السلام

- ‌وأما هود عليه السلام

- ‌وأما صالح عليه السلام

- ‌وأما إدريس عليه السلام

- ‌وأما يعقوب عليه السلام

- ‌وأما ذرية يعقوب عليه السلام الذين هم بنو إسرائيل

- ‌وأما يوسف عليه السلام

- ‌وأما موسى عليه السلام

- ‌وأما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق وجازه بأصحابه

- ‌وأما هارون عليه السلام

- ‌وأما داود عليه السلام

- ‌وأما سليمان عليه السلام

- ‌وأما يحيى بن زكريا عليهما السلام

- ‌وأما عيسى عليه السلام

- ‌أمّا القرآن الكريم

- ‌أمّا إعجاز القرآن الكريم

- ‌وأما كيفية نزوله والمدة التي أنزل فيها

- ‌وأمّا جمع القرآن الكريم فقد وقع ثلاث مرات

- ‌وأما الأحرف التي أنزل عليها القرآن الكريم

- ‌[الناسخ والمنسوخ]

- ‌[القراءات التي يقرأ بها القرآن]

- ‌[التابعون بالمدينة المنوّرة من القراء]

- ‌[التابعون بمكة المشرّفة من القراء]

- ‌[التابعون بالبصرة من القراء]

- ‌[التابعون بالشام من القراء]

- ‌[التابعون بالكوفة من القراء]

- ‌[القراءات المشهورة]

- ‌[تحريم الصلاة بالقراءة الشاذة]

- ‌[ترتيب نزول القرآن بمكة]

- ‌[آخر ما نزل بمكة]

- ‌[ترتيب نزول القرآن بالمدينة]

- ‌[تتمّة مفيدة]

- ‌[فصل في ذكر أخذ القرآن ورؤية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالقلوب حتى دخل كثير من العقلاء في الإسلام في أول ملاقاتهم له]

- ‌إسلام الطفيل بن عمرو الدوسيّ

- ‌[الهجرة الأولى إلى الحبشة]

- ‌[إسلام أبي ذر]

- ‌[ذكر إسلام عمرو بن عبسة السّلمي وما أخبره أهل الكتاب من بعث النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌تنبيه مفيد

- ‌[فصل جامع في معجزات رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على على سبيل الإجمال]

الفصل: ‌ ‌تنبيه مفيد كتب أبو بكر بن فهد الهاشمي سوى القرآن معجزات

‌تنبيه مفيد

كتب أبو بكر بن فهد الهاشمي سوى القرآن معجزات شهيرات، وآيات على صدق نبوّته بينات، وجدت منه صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة، وأحوال متغايرة، بلغ مجموعها التواتر الّذي يورث علما ضروريا، كشجاعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وجود حاتم الطائي، ومع ذلك فهذا القرآن الكريم بأيدينا، نتلوه بألسنتنا، ونحفظه في صدورنا، لا نرتاب فيه، معجزة قائمة أبدا، ينادي على منار التحدي:

فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [ (1) ] ، ثم إذعان الملوك للمصطفى صلى الله عليه وسلم مع ضعف حاله وعدم ماله، وإقرار أهل الكتاب بصفته، واجتماع العرب [بأسرها][ (2) ] على نصرته وموالاته، بعد تنافرها وتقاطعها، وتدابرها في ذات نفسها، وشدة محاربتها له، ومبالغتها في عداوته، من أكبر الدلالة على صدقة صلى الله عليه وسلم، ومن أراد أن يعلم كيفية نقل الكافة الّذي لا يجوز فيه الغلط، ولا يمكن فيه الكذب، ولا يدخله الخلل ولا الخطأ بوجه من الوجوه البتة.

فينظر كيف نقل القرآن الكريم، وكيف نقلت أحوال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وأعلامه التي ذكرت في القرآن، من الرمية التي رماها، وإنذاره بالغيوب، ودعائه اليهود إلى تمني الموت، ودعائه النصارى إلى المباهلة، ودعائه جميع مشركي العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وتوبيخهم بالعجز، وتوبيخ اليهود بأنهم لا يتمنوا الموت، علما منه صلى الله عليه وسلم بأنهم عاجزون عن ذلك، ممنوعون عن النطق به.

وقصة رمي أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، فإن هذا نقله اليماني، وهو عدوّ مضر الذين هم رهط رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأهله، ونقله المضري واليماني، وهم كلهم أعداء متضادون متنافرون.

[ (1) ] البقرة: 23.

[ (2) ] زيادة للسياق.

ص: 381

ومع ذلك فإن كل من في الأرض ما بين أقصى السند إلى أقاصي خراسان، إلى ثغور الديلم والجزيرة والشام، إلى منتهى بلاد الأندلس، إلى سواحل البربر إلى بلاد السودان، وما بين ذلك من الأمم، كلهم ينقلون القرآن كما هو، ولم يكن ممنوعا ولا مكتوما عن أحد.

وكل من ذكرناه كانوا أعداء متباينين، وأحزابا متجانبين، وقوما لقاحا لا ملك عليهم لأحد عليهم، فانقادوا لظهور الحق، وآمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم وهم لا يخافون منه، كباذان الملك بصنعاء اليمن، وحيفر وعياذ ابني الجلندي، والملكين بعمان، والنجاشي ملك الحبشة، وصاروا إخوة كبني أب وأم، وانحل كل من أمكنه منهم عن ملكه، وأرسله إلى ولاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، طوعا، كذي الكلاع وذي ظليم، وذي روذ، وذي مران وغيرهم من ملوك اليمن، وملك عمان والبحرين، وشهر بن باذام، إلا من لا يمكنه ذلك خوف قومه كالنجاشي، وهذا أمر مشهور منقول بنقل الكواف، وأذعن سائر من ذكرنا بغلبة سيوف الحق، دون مال أعطاه صلى الله عليه وسلم، ولا ملك منّى به من نصره، بل حضّهم بأجمعهم على الصبر، وأنذر بالأثرة عليهم أنصاره.

ولم يكن إسلام الأنصار الذين هم الأوس والخزرج، وإسلام أكثر أهل مكة، وأهل البحرين، إلا لما بهرهم من المعجزات، وهو صلى الله عليه وسلم حينئذ مطرد مشرد، لا ملك له، ولا عوان، لا يقرأ ولا يكتب، قد نشأ في بلاد الجهل، بينما لا مال له، بل كان يرعى غنم قومه على قراريط يتقوت بها، فعلمه اللَّه تعالى الحكمة دون توسط معلم، ولا تدرج يتعلم، وعصمه من كل ما أراد على كثرة أعدائه، دون حرس ولا ستور ولا أعوان، وحماة الدنيا وزينتها، واختار تعالى له أرفع الدرجات من الدعاء إلى ربه وإلى دينه فقط.

فهذه هي الحقائق المشهورة، لا ما تدعيه النصارى فيما بأيديهم من الإنجيل أنه منقول بنقل الكواف، وأن الملوك دخلت في دينهم اختيارا فإن الأمر بخلاف ذلك، وبيانه أن الإنجيل ما هو إلا كتاب كتبه أربعة: اثنان من الحواريين

ص: 382

بزعمهم، وهما متى ويوحنا، واثنان من التلامذة، وهما [لوقا][ (1) ] الطبيب تلميذ شمعون الصفا، والآخر مارقس تلميذ شمعون أيضا، وزعموا أن أناجيلهم الأربعة منقولة عن هؤلاء الأربعة بنقل الكواف.

وزعموا أيضا أن كتابها عندهم معصومون، وأنهم أجلّ من الأنبياء، وفي صدر إنجيل متى نسب المسيح عليه السلام، وقد ساقه رجلا رجلا، حتى وقف على يوسف النجار، فذكر نيفا وخمسين اسما، فأخرج نسبه إلى الملوك من ولد صيعام ابن سليمان بن داود عليهما السلام، وبعد صدر من إنجيل لوقا هذا النسب بعينه بأسماء غير تلك الأسماء، وذكر نحو أربعين اسما فقط، وأخرج نسبه إلى ماثان بن داود عليهما السلام.

ومثل هذا من التناقض الفاحش لا يقع من قوم معصومين، وإنما يقع من الآحاد الذين يجوز عليهم الغلط والنسيان وتعمد الكذب، وما كان منقولا كهذا فلا يتدين به عاقل في توحيده، ولا فيما يوجب يقين العلم، وإنما يؤخذ بمثل هذا فيما جرى مجرى الشهادات التي تعيد العلم دون العمل.

وأول ملك تنصر قسطنطين بعد أزيد من مائتي عام وستين عاما شمسية من رفع المسيح عليه السلام، فأي آية رأى وشاهد بعد هذه المدة الطويلة، وقد علم كل ذي بصر بالأخبار سبب [تنصره][ (1) ] ، وهو أن أمه كانت نصرانية بنت نصراني، تزوجها أبوه فولدت له قسطنطين وربته على دينها، وقد علم كل ذي عقل قوة تأثير النشأة فيمن نشأ على دين من الأديان، وما استطاع إظهار النصرانية حتى دخل على رومة مسيرة شهر ونصف، وبني [برنطية][ (2) ] فغرقت بالقسطنطينية، ثم أكره الناس على النصرانية بالسيف [والعصا][ (1) ] ، وكان من عهوده المحفوظة ألا يولي أحدا من الناس ولاية من الولايات إلا من تنصّر، والناس سراع إلى الدنيا، نافرين عما يؤذيهم.

ولكن هذا من دعوى النصارى مناف إلى ما يدّعونه من أنهم بعد هذه المدة

[ (1) ] زيادة للسياق.

[ (2) ] كذا في (خ) ولم أجد لها توجيها ولعلها «بزنطية» .

ص: 383

الطويلة، وبعد خراب بيت المقدس مرة بعد مرة، وبقائه خرابا لا ساكن فيه أزيد من مائتي عام وسبعين عاما، وجدوا الشوك الّذي وضع على رأس المسيح عليه السلام، ووجدوا المسامير التي ضربت في يده، والدم الّذي طار من جسده، والخشبة التي صلب عليها بزعمهم.

فلا يدري العاقل ممن العجب؟ أممن اخترع مثل هذه الكذبة، وتجاسر على الحديث بها؟ أم ممن قبلها وصدق بها ودان باعتقادها؟ فيا ليت شعري، كيف بقي ذلك الشوك وذلك الدم وتلك المسامير والخشبة طول تلك المدة؟ وأهل ذلك مطرودون مقتولون بالسيف والرجم بالحجارة والإحراق بالنار لقتل من تستّر بالزندقة في زماننا.

ومع ذلك فإن تلك المدينة خراب منذ عشرات الأعوام لم يسكنها أحد إلا السباع والوحش، وقد شوهد ملوك جلة لهم أعوان وأتباع وأولاد، وشيع وأقارب صلبوا، فما مضت إلا مدة يسيرة حتى لم يبق لأخشابهم التي صلبوا عليها أثر، فكيف بأمر لا طالب له، وبدول قد انقطعت، وبلاد قد أقفرت وخلت، ونسيت أخبارها.

وأما ديانة اليهود: فإنه لم تصف نيّات بني إسرائيل- وموسى عليه السلام حيّ بن أظهرهم- وما زالوا مائلين إلى عبادة الأوثان، وتكذيب شريعتهم كلهم بعد وفاته عليه السلام، إلى انقطاع دولتهم، فكيف أن [يذعن][ (1) ] لهم غيرهم؟

ولا خلاف بين اليهود والنصارى وسائر الملل كلها في أن بني إسرائيل كانوا في مصر في أشد عذاب يمكن أن يكون من قبل أولادهم، وتسخيرهم في عمل الطوب، والضرب العظيم، والذل الّذي لا يصبر عليه كلب مطلق، فأتاهم موسى عليه السلام يدعوهم إلى فراق هذا الأسر الّذي قتل النفوس أخف منه، وإلى الحرية والملك والغلبة والأمن، ومن المعلوم أن من كان في أقل من تلك الحال فإنه

[ (1) ] زيادة للسياق.

ص: 384

يسارع إلى كل من طمع على يديه بفرح، وأن يستجيب إلى كل ما دعي إليه، وإن أكثر من في هذا البلاء يستجيز عبادة من أخرجه منه إلى العز والحرمة، ومع هذا فقد كان بنو إسرائيل أهل عسكر مجتمع، يمكن منهم التواطؤ.

وأما عيسى عليه السلام فما اتبعه إلا نحو اثني عشر رجلا معروفين ونساء قليل، وعدد لا يبلغ المائة، وكانوا مع هذه القلة مشردين غير ظاهرين، ولا يقوم بمثل هذا ضرورة يقين العلم.

وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلا يختلف أحد من أهل شرق الأرض وغربها، في أنه أتى إلى قوم لئام، لا يقرون ملك، ولا يطيعون لأحد، ولا ينقادون لرئيس، نشأ على هذا أجدادهم وأسلافهم، منذ ألوف من الأعوام، وقد سرى الفخر والنخوة، والكبر والظلم، والأنفة في طباعهم، وهم أعداد عظيمة، قد [ملكوا][ (1) ] جزيرة العرب، وهي نحو مسيرة شهرين في شهرين، فدعاهم بلا مال ولا أتباع، بل قد خذله قومه إلى أن ينحطوا من ذلك العز إلى غرم الزكاة، ومن الحرية إلى جري الأحكام عليهم، ومن طول الأيدي بقتل من أحبوا، أو أخذ ماله إلى القصاص من النفس [والأعضاء][ (1) ] ، واللطمة من أجلّ من فيهم لأقل علج [ (2) ] دخل فيهم، وإلى إسقاط الأنفة والفخر، وإلى ضرب الظهور بالسياط أو بالنّعال إن شربوا خمرا، أو إن قذفوا إنسانا، وإلى الرجم بالحجارة حتى يموتوا إن زنوا.

وانقاد أكثرهم طوعا، ما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة فقط، فتبدلت به صلى الله عليه وسلم طبائعهم من الظلم إلى العدل، ومن الجهل إلى العلم، ومن العسف والقسوة إلى الرأفة والرحمة، وسيرة العدل العظيم الّذي لا يبلغه أكابر الفلاسفة.

فقد رأى الناس كيف كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكيف كانت طاعة العرب لهما، كل ذلك بلا رزق جار، ولا عطاء [دائر][ (1) ] ، ولا غلبة ملوكية، إلا بغلبة من اللَّه تعالى على نفوسهم، وكسر لطبائعهم، كما قال تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ

[ (1) ] زيادة للسياق.

[ (2) ] العلج: الرجل من كفار العجم وغيرهم.

ص: 385

بينهم [ (1) ] ، ثم بقي صلى الله عليه وسلم كذلك بين أظهرهم بلا حرس ولا ديوان جند ولا بيت مال، معصوما محروسا.

وهكذا نقلت أعلامه ومعجزاته بخلاف معجزات سائر الأنبياء، فإنّها لم تصح إلا ما نقله هو صلى الله عليه وسلم، لصحة الطريق إليه، وارتفاع دواعي الكذب والعصبية جملة عن أتباعه فيه، فلقد كان جمهورهم غريبا من غير قومه، ولا يمنيهم بدنيا، ولا وعدهم بملك، وهذا ما لا ينكره أحد من الناس.

وأيضا

فإن ابتداء أمره صلى الله عليه وسلم أنه وقف على الصفا ونادى:

يا صباحاه

يا صبحاه، فجاءوا يهرعون، فقالوا: ما دهمك؟ ما طرقك؟ قال:

ما تعرفونني؟ قالوا: محمد الأمين، قال: أرأيتم إن قلت لكم [إن خيلا تغير عليكم خلف هذا الوادي][ (2) ] ، وإن عسكرا قد غشيكم من الصبح، أكنتم تصدقوني؟

قالوا: اللَّهمّ نعم، ما جربنا عليك كذبا قط، قال:[فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد من اللَّه، قولوا: لا إله إلا اللَّه، واشهدوا أني رسول اللَّه، واتبعوني يحببكم اللَّه، فإنه تعالى ناصري][ (2) ]، وقال لي: استخرجهم كما استخرجوك، وابعث جيشا أبعث خمسة أمثاله، وضمن لي أنه ينصرني بقوم منكم، وقال لي:

قاتل بمن أطاعك من عصاك، وضمن لي أن يغلب سلطاني سلطان كسرى وقيصر.

وقالت له قريش مرة: أتابعك من هؤلاء الموالي، كبلال وعمار وصهيب خير من قصي بن كلاب وعبد مناف وهاشم بن عبد شمس؟ فقال: نعم واللَّه، لئن كانوا قليلا ليكثرن، ولئن كانوا وضعاء ليشرفن حتى يصيروا نجوما يهتدى بهم ويقتدى، فيقال: هذا قول فلان وذكر فلان، فلا تفاخروني بآبائكم الذين موتوا في الجاهلية، فما يذهب الجعل بمنخره خير من آبائكم الذين موتوا فيها، فاتبعوني أجعل لكم أنسابا، والّذي نفسي بيده، لتقسمن كنوز كسرى وقيصر، فقال له عمه أبو طالب: أبق عليّ وعلى نفسك، وظن صلى الله عليه وسلم أنه خاذله، فقال: يا عم!

[ (1) ] الأنفال: 63.

[ (2) ] ما بين الحاصرتين زيادة للسياق وحيث أن سياق هذه الفقرة مضطرب فقد صوبناه من (البحر المحيط) :

10/ 566، تفسير سورة المسد.

ص: 386

واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه ما تركته، ثم استعبر باكيا ثم قام، فلما ولى ناداه: أقبل يا ابن أخي، فقال: اذهب وقل ما شئت، فو اللَّه لا أسلمتك لسوء أبدا.

هذا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر ما لقي من قومه من الجهد والشدة،

فقال لقد مكثت أياما وهذا صاحبي- يشير إلى أبي بكر رضي الله عنه بضع عشر ليلة، ما لنا طعام إلا الثريد في شعيب الجبال.

وكان عتبة بن غزوان يقول إذا ذكر البلاء والشدة التي كانوا عليها بمكة: لقد مكثنا أياما ما لنا طعام إلا ورق البشام [ (1) ] ، أكلناه حتى تقرحت أشداقنا، ولقد وجدت يوما تمرتين فجعلتهما بيني وبين سعد، وما فينا اليوم أحد إلا وهو أمين على كورته، وكانوا يقولون فيمن وجد تمرة فقسمها بينه وبين صاحبه: إن أسعد الرجلين من حصلت له النواة في قسميها يلوكها يومه وليلته، وعدم القوت.

وكذا

قال صلى الله عليه وسلم: لقد رعيت غنيمات أهل مكة لهم بالقراريط،

وجاء صلى الله عليه وسلم يوما ليدخل الكعبة، فدفعه عثمان بن طلحة العبدولي، فقال: لا تفعل يا عثمان! فكأنك بمفتاحها بيدي أضعه حيث شئت، فقال له:[ذلت][ (2) ] يومئذ قريش وقلّت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل كثرت وعزّت.

ثم غزا صلى الله عليه وسلم تبوك في ثلاثين ألفا، فهذا من قبل اللَّه عز وجل، الّذي يجعل من لا شيء كل شيء، ويجعل كل شيء مالا شيء، يجمد المائعات، ويميع الجامدات، يجمد البحر، ثم يفجر الصخر، وما مثله صلى الله عليه وسلم في ذلك إلا كمثل من قال: هذه الزجاجة الرقيقة السخيفة، أصك بها هذه الجبال الصلدة الصلبة المتينة، فقرضها ونقضها، وهذه النملة الضعيفة اللطيفة، تهزم العساكر الكثيرة المعدة [ (3) ] .

وكذا حقيقة أمره صلى الله عليه وسلم، حتى قال عروة بن مسعود الثقفي لقريش- وكان

[ (1) ] شجر عطر الرائحة، ورقه يسوّد الشعر، ويستاك بقضبه. (ترتيب القاموس) : 1/ 279.

[ (2) ] زيادة للسياق.

[ (3) ] المعدّة: من العتاد وآله الحرب.

ص: 387

رسولهم إليه صلى الله عليه وسلم بالحديبية-: لقد وردت على النجاشي وقيصر وكسرى، ورأيت حديثهم وأتباعهم، [فما][ (1) ] رأيت أطوع ولا أوقر ولا أهيب من أصحاب محمد لمحمد، [هم][ (1) ] حوله وكأن الطير على رءوسهم، فإن أشار بأمر بادروا إليه، وإن توضأ اقتسموا وضوءه، وإن تنخم دلكوا بالنخامة وجوههم وجلودهم، وكانوا له صلى الله عليه وسلم بعد موته أطوع منهم في حياته، حتى لقد قال بعض أصحابه: لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّهم قوم أسلموا من خوف اللَّه، وأسلم الناس من خوف أسيافهم.

فتأمل- رحمك اللَّه- كيف استفتح صلى الله عليه وسلم دعوته وهو ضعيف وحده بأن قال:

هذا سيكون فكان كما قال، بحيث رآه العدوّ والوليّ، وما كان مثله في ذلك إلا مثل من قال: هذه الهباءة تعظم وتصير جبلا يغطي الأرض كلها، ثم أنذر الناس بها في حال ضعفها، فكان كما أنذر، فعلم أن ذلك من فعل اللَّه الّذي لا يقدر عليه سواه، ولا يفعله إلا إياه جلّت قدرته.

فإن سيرة محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد أنه رسول اللَّه، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم نشأ في بلاد الجهل، لا يقرأ ولا يكتب، ولا خرج عن تلك البلاد إلا مرتين: إحداهما وهو صبي مع عمه إلى أول الشام، والأخرى أيضا إلى أول الشام، ولم يطل بها المقام، ولا فارق قومه، ثم أوطأه اللَّه تعالى رقاب العرب فلم تتغير نفسه، ولا مالت به.

ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه- ذات الفضول- مرهونة في أصواع [ (2) ] من شعير، [و][ (3) ] لم يتسبب صلى الله عليه وسلم إلى شيء من أذى اليهود- وهم أعداؤه- ولا يعرض لذم أحد منهم وإلى ماله، بل ودا [ (4) ] الأنصاري من عند نفسه مائة ناقة، وهو صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى بعير واحد يتقوى به، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من ملوك الأرض وأهل الدنيا بوجه من الوجوه.

[ (1) ] زيادة للسياق.

[ (2) ] جمع صاع.

[ (3) ] زيادة للسياق.

[ (4) ] ودا: دفع دية.

ص: 388

ولا يقتضي أيضا هذا ظاهر السيرة في السياسة، فصح يقينا أنه صلى الله عليه وسلم متبع لما أمره به ربه تعالى، وسواء كان ذلك الأمر مضرا به في ظاهر الأمر غاية الإضرار أو غير مضر به، وهذا أحب الناس إليه، وابن عم أبيه من أخص الناس به، وهو مع ذلك زوج ابنته التي لا ولد له غيرها، وله منها ابنان ذكران، وكل من عمه وابن عمه اللذين هما أقرب الناس إليه، له من الفضل والسياسة والعقل وخلال الخير ما يستحق به سياسة العالم كله، فلم يحابهما وهما من أحب الناس إليه وأشدهم [غنى][ (1) ] عنه، إذ كان غيرهما متقدما عليهما في الفضل، وإن كان بعيد النسب عنه، بل فوض الأمر إليه قاصدا إلى أمر الحق، واتباع ما أمر به، ولم يورث صلى الله عليه وسلم ورثته فلسا فما فوقه، وهم أحب الناس إليه، وأطوعهم له، وهذه أمور لمن تدبرها كافية مغنية.

قال الأعمش عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: ذكروا عند عبد الرحمن- يعني ابن مسعود رضي الله عنه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانهم، فقال عبد اللَّه: إن أمر محمد كان بينا لمن رآه، والّذي لا إله غيره، ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، [ثم قرأ] [ (1) ] : الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [ (2) ] إلى قوله: يُؤْمِنُونَ [بِالْغَيْبِ][ (3) ] . قال الحاكم: فقد صح ما ذكرنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وشريعته التي أتى بها، هي التي وضحت براهينها، واضطرت دلائلها إلى تصديقها، والقطع على أنها الحق الّذي لا حق سواه، وأنها من اللَّه تعالى الّذي لا دين له في العالم غيره، والحمد للَّه الّذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللَّه، لقد جاءت رسل ربنا بالحق.

[ (1) ] زيادة للسياق.

[ (2) ] البقرة: 1- 3.

[ (3) ] زيادة لتصويب الآية الكريمة.

ص: 389