الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[إسلام أبي ذر]
وأما إسلام أبي ذر رضي الله عنه، فخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا المثنى بن سعيد، عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما بلغ أبا ذرّ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي هذا الرجل الّذي يزعم أنه يأتيه الخبر من السماء، فاسمع من قوله ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدم مكة وسمع من قوله ثم رجع إلى أبي ذر فقال:
رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاما ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني فيما أردت، فتزوّد وحمل شنة [ (1) ] له فيها ماء حتى قدم مكة.
فأتى المسجد فالتمس النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه- يعني الليل- فاضجع فرآه عليّ رضي الله عنه فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، فظل ذلك اليوم ولا يرى النبي صلى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به عليّ فقال: ما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأقامه فذهب به معه، ولا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء، حتى إذا كان يوم الثالث فعل مثل ذلك، فأقامه عليّ معه ثم قال له: أما تحدثني ما الّذي أقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت، ففعل.
فأخبره فقال: فإنه حق وهو رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتبعني، فإنّي إن رأيت شيئا أخاف عليك، قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، فقال: والّذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم.
[ (1) ] الشّنّ بفتح الشين: القربة البالية.
فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس، فأكب عليهم وقال: ويلكم! ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجاركم إلى الشام عليهم؟
فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد بمثلها وثاروا إليه فضربوه، فأكب عليه العباس فأنقذه. هذا لفظ مسلم [ (1) ] .
ولفظ البخاري قريب منه، قال فيه: الّذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، وقال: فأطلق الأخ. وقال: أما نال للرجل أن يعلم منزله؟ ترجم عليه.
إسلام أبي ذر [ (2) ] . وذكره مسلم في المناقب.
وخرج البخاري في صدر كتاب المناقب [ (3) ]، من حديث أبي قتيبة مسلم بن قتيبة قال: حدثني المثنى بن سعيد القصير قال: حدثني أبو جمرة قال: قال لنا ابن عباس رضي الله عنه: ألا أخبركم بإسلام أبي ذر؟ قال: قلنا: بلى، قال:
قال أبو ذر: كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل كلمه وأتني بخبره، فانطلق فلقيه ثم رجع، فقلت: ما عندك؟ فقال واللَّه لقد رأيت رجلا يأمر بالخير وينهى عن الشر، فقلت له: لم تشفني من الخبر، فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة، فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد.
قال: فمر بي عليّ رضي الله عنه فقال: كأنّ الرجل غريب؟ قال: نعم، قال فانطلق إلى المنزل، قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره، فلما أصبح غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء.
قال: فمر بي عليّ فقال: أما نال للرجل يعرف منزله بعد؟ قلت: لا، قال:
[ (1) ](صحيح مسلم بشرح النووي) : 16/ 265، كتاب فضائل الصحابة، باب (28) من فضائل أبي ذرّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (1313) .
[ (2) ](فتح الباري) : 18/ 219، كتاب مناقب الأنصار، باب (33) إسلام أبي ذرّ الغفاريّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3861) .
[ (3) ](فتح الباري) : 6/ 681، كتاب المناقب، باب (10) قصة إسلام أبي ذرّ الغفاريّ رضي اللَّه تعالى عنه، حديث رقم (3522) .
انطلق معي، قال: فقال: ما أمرك وما أقدمك هذه البلدة؟ قال: قلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك، قال: فإنّي أفعل، قال: قلت له: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه، فقال: أما إنك قد رشدت، هذا وجهي إليه فاتبعني، أدخل حيث أدخل، فإنّي إن رأيت أحدا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامض أنت، فمضى ومضيت معه، حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرضه عليّ فأسلمت مكاني، فقال لي: يا أبا ذر، اكتم هذا الأمر وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل، فقلت: والّذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين أظهرهم.
فجاء إلى المسجد وقريش فيه فقال: يا معشر قريش! إني أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابيء، فقاموا فضربت لأموت، فأدركني العباس فأكبّ علي ثم أقبل عليهم، فقال: ويلكم! تقتلون رجلا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار؟ فأقلعوا عني، فلما أصبحت الغد رجعت فقلت مثلما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابيء، فصنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكبّ عليّ وقال مثل مقالته بالأمس، فكان هذا أول إسلام أبي ذر رحمه الله.
وخرج مسلم في كتاب المناقب من حديث سليمان بن المغيرة، قال: حدثنا حميد بن هلال عن عبد اللَّه بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار، وكانوا يحلون الشهر الحرام، فخرجت أنا وأخي أنيس وأمنا، فنزلنا على خال لنا، فأكرمنا خالنا وأحسن إلينا، فحسدنا قومه فقالوا: إنك إذا خرجت عن أهلك خالف إليهم أنيس، فجاء خالنا فنثا [ (1) ] علينا الّذي قيل له، فقلت له: أمّا ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لك في ما بعد، فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها، وتغطى خالنا بثوبه فجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكة، فناخر أنيس عن صرمتنا [ (2) ] وعن مثلها، فأتينا الكاهن فخيّر أنيسا، فأتانا
[ (1) ] نثا: أشاع وأفشى.
[ (2) ] الصّرمة بكسر الصاد: القطعة من الإبل أو الغنم.
أنيس بصرمتنا [ (1) ] ومثلها معها.
قال: وقد صلّيت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين فقلت:
لمن؟ قال: للَّه تعالى، قلت: فأين توجه؟ قال: أتوجه حيث يوجهني ربي، أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت كأني خفاء [ (2) ] حتى تعلوني الشمس، فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث [ (3) ] عليّ ثم جاء فقلت: ما صنعت؟ قال: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللَّه أرسله! قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر- وكان أنيس أحد الشعراء- قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو قولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، واللَّه إنه لصادق وإنهم لكاذبون، قال: قلت: فاكفني حتى أذهب فأنظر، قال: فأتيت مكة فتضعّفت [ (4) ] رجلا منهم فقلت: أين هذا الّذي تدعونه الصابيء؟ فأشار إلى فقال: الصابيء!! فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظمه حتى خررت مغشيا عليّ، قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب [ (5) ] أحمر، قال: فأتيت زمزم فغسلت عني الدماء وشربت من مائها، ولقد لبثت بابن أخي ثلاثين بين ليلة ويوم، وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّرت عكن [ (6) ] بطني، وما وجدت على كبدي سخفة [ (7) ] جوع، قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء [ (8) ]
[ (1) ] الصّرمة بكسر الصاد: القطعة من الإبل أو الغنم.
[ (2) ] الخفاء: غثاء السيل.
[ (3) ] راث عليّ: أبطأ عليّ.
[ (4) ] تضعّفت: نظرت إلى أضعفهم فسألته، لأن الضعيف مأمون الغائلة غالبا.
[ (5) ] نصب أحمر: يعني من كثرة الدماء، وهو الحجر الّذي كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده فيحمّر بالدم.
قال تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] .
[ (6) ] يعني انثنت وتكسرت لكثرة السمن وانطوت.
[ (7) ] سخفة الجوع بفتح السين وضمها وإسكان الخاء: رقة الجوع وضعفه وهزاله.
[ (8) ] قمراء: مقمرة طالع قمرها.
إضحيان [ (1) ] ، إذ ضرب على أسمختهم [ (2) ] ، فما يطوف بالبيت أحد، وامرأتان منهم تدعوان إسافا ونائلة [قال: فأتتا عليّ في طوافهما فقلت: أنكحا أحدهما الأخرى، قال: فما تناهتا [ (3) ] عن قولهما، قال: فأتتا عليّ فقلت: هن مثل الخشبة [ (4) ] غير أني لا أكني] [ (5) ] فانطلقنا تولولان وتقولان: لو كان هنا أحد من أنفارنا، قال:
فاستقبلهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه وهما هابطان عن الخيل، قالا:
ما لكم؟ قالتا: الصابيء بين الكعبة وأستارها، قالا: ما قال لكما؟ قالتا: إنه قال كلمة تملأ الفم، قال: فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى استلم الحجر، وطاف بالبيت هو وصاحبه، ثم صلّى فلما قضى صلاته
قال أبو ذرّ: وكنت أنا أول من حيّاه بتحية الإسلام، فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه، فقال: وعليك ورحمة اللَّه، ثم قال: من أنت؟ قال: قلت: أنا من غفار، قال: فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته، فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار، فذهبت آخذ بيده فقد عني صاحبه- وكان أعلم به مني- ثم رفع رأسه فقال: متى كنت هاهنا؟ قال:
[قلت] : كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم، قال: فمن كان يطعمك؟ قال:
قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، قال: إنها مباركة، إنها طعام طعم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ائذن لي في طعامه الليلة، فانطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا فجعل يفيض لنا من زبيب الطائف، وكان ذلك أول طعام أكلته بها، ثم غبرت ما غبرت، ثم أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه قد وجّهت إلي أرض ذات نخل لا أراها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ عسى اللَّه أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم، فأتيت أنيسا فقال: ما صنعت؟ قلت: صنعت
[ (1) ] إضحيان بكسر الهمزة والحاء: مضيئة، ويقال: ليلة أضحيان، وأضحيانة، وضحياء، ويوم ضحيان.
[ (2) ] أسمختهم: جمع سماخ، وهو الخرق الّذي في الأذن يفضي إلى الرأس، يقال: صماخ وسماخ، وبالصاد أفصح، والمراد بأصمختهم هنا آذانهم أي ناموا، قال تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف: 11] أي أنمناهم.
[ (3) ] ما تناهتا: ما انتهتا.
[ (4) ] كناية عن الفرج والذكر، وأراد بذلك سب إساف ونائلة، وغيظ الكفار بذلك.
[ (5) ] ما بين الحاصرتين سياقه مضطرب في (خ) ، وصوبناه من (صحيح مسلم) .
أني قد أسلمت وصدقت، قال: ما بي رغبة عن دينك فإنّي قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما، فإنّي أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا، فأسلم نصفهم، وكان يؤمهم إيماء بن رحضة الغفاريّ وكان سيدهم، وقال نصفهم: إذا قدم رسول اللَّه المدينة أسلمنا، فقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة فأسلم نصفهم الباقي، وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول اللَّه: إخوتنا نسلم على ما أسلموا عليه فأسلموا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: غفار غفر اللَّه لها، وأسلم سالمها اللَّه [ (1) ] .
وخرجه أيضا [من حديث] حميد بن هلال بهذا الإسناد، وزاد بعد قوله: فاكفني حتى أذهب فأنظر قال نعم، وكن على حذر من أهل مكة فإنّهم قد شنفوا له وتجهموا [ (2) ] .
وله أيضا من حديث سليمان بن المغيرة قال: حدثنا حميد عن عبد اللَّه بن الصامت قال: قال أبو زناد: يا ابن أخي صليت سنين قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: فأين كنت توجه؟ قال: حيث وجهني اللَّه، واقتصّ الحديث بنحو حديث سليمان بن المغيرة، وقال في الحديث: فتنافرا إلى رجل من الكهان. قال:
فلم يزل أخي أنيس يمدحه ويثني عليه حتى غلبه، قال: فأخذنا صرمته فضممناها إلى صرمتنا.
وقال أيضا في حديثه: قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت وصلى ركعتين خلف المقام، قال: فأتيته فإنّي لأول الناس حيّاه بتحية الإسلام، قال: قلت:
السلام عليك يا رسول اللَّه، قال: وعليك السلام من أنت؟ وفي حديثه أيضا فقال:
منذ كم أنت هاهنا قال: قلت: منذ خمس عشرة.
وفيه: فقال أبو بكر رضي الله عنه: ألحقني بضيافته الليلة [ (3) ] .
[ (1) ](دلائل أبي نعيم) : 1/ 253- 256، حديث رقم (197)، (مسلم بشرح النووي) :
16/ 260، كتاب الفضائل، باب (28) من فضائل أبي ذر رضي الله عنه، حديث رقم (132) .
[ (2) ](المرجع السابق) : ص 264.
[ (3) ](المرجع السابق) : ص 264.
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن يحيى [ (1) ] قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سألوه عن الروح، فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ (2) ]، قالوا:
نحن لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة فيها حكم اللَّه، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا، قال: فنزلت قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً
[ (3) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن مشركي قريش بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة وقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره ببعض قوله، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها وما كان نبؤه؟
وسلوه عن الروح ما هو؟
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما مكة على قريش فقالا: يا معشر قريش! قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، وأخبروهم بها، فجاءوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد! أخبرنا، فسألوه عن
[ (1) ] كذا في (خ)، وفي (دلائل البيهقي) : وهو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، خالد بن ميمون بن فيروز الهمدانيّ الوداعي مولاهم أبو سعيد الكوفي (تهذيب التهذيب) : 11/ 183.
[ (2) ] الإسراء: 85.
[ (3) ] الكهف: 109، (دلائل البيهقي) : 2/ 269، باب ذكر أسولتهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة، (تحفة الأحوذي) : 8/ 456- 458، أبواب تفسير القرآن، سورة بني إسرائيل، حديث رقم (3349)، وقال الترمذي في آخره: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
ما أمروهم به، فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أخبركم بما سألتم عنه غدا، ولم يستثن [ (1) ] ، فانصرفوا عنه، فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث اللَّه إليه في ذلك وحيا، ولم يأته جبريل [عليه السلام] حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة يوما، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا فيها بشيء مما سألناه عنه، حتى أحزن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل من اللَّه عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف، كذا يقول تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [ (2) ] .
قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم افتتح السورة فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [ (3) ] ، يعني محمدا، إنك لرسول اللَّه نبي تحقيقا لما سألوه من نبوته، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً* قَيِّماً [ (3) ] أي معتدلا لا اختلاف فيه، لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [ (4) ] قال: عاجل عقوبة في الدنيا وعذاب في الآخرة، أي من عند ربك الّذي بعثك رسولا [ (5) ] .
قال البيهقي: كذا في هذه الرواية أنهم سألوا عن الروح أيضا، وحديث ابن مسعود يدل على أن سؤال اليهود عن الروح ونزول الآية فيه كان بالمدينة [ (6) ] .
[ (1) ] لم يستثن: لم يقل: إلا أن يشاء اللَّه.
[ (2) ](دلائل البيهقي) : 2/ 269- 270.
[ (3) ] الكهف: 1- 2.
[ (4) ] الكهف: 2.
[ (5) ](دلائل البيهقي) : 2/ 271، (سيرة ابن هشام) : 2/ 139 وما بعدها، فصل [قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام] .
[ (6) ] حديث عبد اللَّه بن مسعود: أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالسنة باب (3) ما يكره من كثرة السؤال، ومن تكلف ما لا يعنيه، وقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث رقم (7297)، (فتح الباري) : 13/ 330، وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب (4) سؤال اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، حديث رقم (2794)، (مسلم بشرح النووي) : 17/ 143.