الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فصل في ذكر أخذ القرآن ورؤية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالقلوب حتى دخل كثير من العقلاء في الإسلام في أول ملاقاتهم له]
خرج أبو نعيم من حديث محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا منجاب ابن الحرث، أخبرنا علي بن مسهر، عن الأجلح عن الذّيال بن حرملة، عن جابر ابن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الّذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه فلينظر ماذا يرد عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد! أنت خير أم عبد اللَّه؟ فسكت، ثم قال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت [رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أنت خير أم هاشم؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم][ (1) ] فقال: وإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عبتها. وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك، فرقت جماعتنا، وشتّت أمرنا، وفضحتنا في العرب، حتى طار في العرب أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا، واللَّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى [نتفانى][ (2) ] ، أيها الرجل! إن كان إنما بك الباءة [ (3) ] فاختر أي نساء قريش فلنزوجك عشرا، وإن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فرغت؟ قال، نعم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ* بَشِيراً وَنَذِيراً [ (4) ]، حتى قرأ: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فقال عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: لا،
فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئا أرى
[ (1) ] ما بين الحاصرتين من (أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من المرجع السابق.
[ (3) ] الباءة: القدرة على الزواج.
[ (4) ] فصلت: 1- 13 بما فيها المحذوف.
أنكم تكلمونه إلا وقد كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال نعم، قال: لا والّذي نصبها بنية [ (1) ] ، ما فهمت شيئا مما قال، غير أنه قال: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، قالوا: ويلك! يكلمك رجل بالعربية لا تدري ما قال؟
قال: لا واللَّه ما فهمت شيئا مما قال، غير ذكر الصاعقة [ (2) ] .
وخرجه البيهقي من حديث محمد بن فضيل قال: حدثنا الأجلح عن الذّيال ابن حرملة، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال أبو جهل والملأ من قريش: لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر، فكلمه ثم أتانا من أمره، فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهّان والشعراء، وعلمت من ذلك علما، وما يخفى عليّ إن كان كذلك، فأتاه.
فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد! أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد اللَّه؟ فلم يجبه، قال: فيم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟
فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسا ما بقيت، وإن كان الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني بها أنت وعقبك من بعدك، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم.
فلما فرغ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فقرأ حتى بلغ: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ،
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم، فقال أبو جهل: يا معشر قريش، واللَّه ما نرى عتبة إلا وقد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته انطلقوا بنا إليه، فأتوه فقال أبو جهل: واللَّه يا عتبة ما حسبنا إلا
[ (1) ] يقسم بالكعبة.
[ (2) ](دلائل أبي نعيم) 1/ 230- 231، حديث رقم (182)، وأخرجه السيوطي في (الخصائص الكبرى) : 1/ 283 وقال: أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه برقم (18409)، والبيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 202- 204.
وقال في (مجمع الزوائد) : 6/ 120 رواه أبو يعلي، وفيه الأجلح الكندي وثقه ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وبقية رجاله ثقات.
أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب وأقسم باللَّه لا يكلم محمدا أبدا، وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته، فقص عليهم القصة، فأجابني بشيء واللَّه ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ حتى بلغ:
فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب [ (1) ] .
وخرجه من حديث ابن بكير عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زيادة مولى بني هاشم، عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة [ (2) ]- وكان سيدا حكيما- قال: ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده، يا معشر قريش، ألا أقوم إلى هذا فأكلمه، فأعرض عليه أمورا لعله يقبل منا بعضها، ويكف عنا؟ قالوا: بلى يا أبا الوليد، فقام عتبة ابن ربيعة حتى جلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث فيما قال له عتبة، وفيما عرض عليه من المال والملك وغير ذلك،
حتى إذا فرغ [عتبة قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
أفرأيت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع منّي، قال: أفعل] [ (3) ] قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا، فمضى رسول اللَّه يقرأها عليه، فلما سمعها عتبة أنصت لها، وألقى بيديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السجدة [ (4) ] فسجد فيها، ثم قال: سمعت يا أبا الوليد؟ قال: سمعت، قال: فأنت وذاك.
فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف باللَّه لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الّذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال:
[ (1) ] انظر التعليق السابق.
[ (2) ] عتبة بن ربيعة (2 هـ 624 م) .
[ (3) ] ما بين الحاصرتين تكملة من (دلائل البيهقي) .
[ (4) ] وهي قوله تعالى في ذات السورة: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ، آية: 38 فصلت.
ورائي أني واللَّه سمعت قولا ما سمعت بمثله قط، واللَّه ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش! أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فو اللَّه ليكونن لقوله الّذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد بلسانه، فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم، ثم ذكر شعرا يمدح به عتبة فيما قال [ (1) ] .
وله من حديث المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر قال: لما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على عتبة بن ربيعة: حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم، أطيعوني في هذا اليوم واعصوني فيما بعده، فو اللَّه لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي قط كلاما مثله، وما دريت ما أردّ عليه [ (2) ] .
وله من حديث يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: حدثني الزهري قال:
حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان والأخنس بن شريق، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته، وأخذ كل رجل منهم مجلسا ليستمع فيه وكلا لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فتلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية فإذا كل رجل منهم في مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا.
فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، وتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج
[ (1) ](دلائل البيهقي) : 2/ 204- 205.
[ (2) ](دلائل البيهقي) : 2/ 205- 206.
حتى [أتى][ (1) ] أبا سفيان في بيته قال: أخبرني يا أبا حنظلة، أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمد، فقال: يا أبا ثعلبة، واللَّه لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، فقال الأخنس: وأنا والّذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى [أتى][ (1) ] أبا جهل، فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم، ما رأيت فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن [وبنو] عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى تدرك هذه؟ واللَّه لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه، فقام عنه الأخنس [بن شريق][ (1) ] .
وله من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن المغيرة بن شعبة قال: إن أول يوم عرفت رسول اللَّه، أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقّة مكة، إذ لقينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال لأبي جهل: يا أبا الحكم، هلمّ إلى اللَّه وإلى رسوله أدعوك إلى اللَّه، قال: يا محمد! هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد أن نشهد إلا أن قد بلّغت، فنحن نشهد أن قد بلغت، فو اللَّه لو أني أعلم أن ما تقول حقا ما اتبعتك، فانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأقبل عليّ فقال: واللَّه إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصي قالوا: فينا الحجابة، فقلنا: نعم، فقالوا: فينا الندوة، فقلنا: نعم، قالوا: فينا اللواء، فقلنا: نعم، قالوا: فينا السقاية، فقلنا نعم، ثم أطعمنا، حتى إذا تحاكّت الركب قالوا: منا نبيّ، واللَّه لا أفعل [ (2) ] .
ولأبي نعيم من حديث سعيد، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش، وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا
[ (1) ] زيادات من (دلائل البيهقي) : 2/ 206- 207.
[ (2) ](دلائل البيهقي) : 2/ 207.
بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه [بعضا][ (1) ]، قالوا: فأنت يا عبد شمس، قم وأقم لنا رأيا نقل به، فقال: بل أنتم تقولوا وأسمع، قالوا: نقول: إنه كاهن، قال: فما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا سجعهم، قالوا: فنقول: إنه مجنون، قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا بتخالجه ولا وسوسته، قالوا: فنقول إنه شاعر، قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله، رجزه وهزجه، وقريضه، ومقبوضة ومبسوطه، فما هو بالشاعر، قالوا: فنقول ساحر، قال: ما هو بساحر، لقد رأينا [السحرة][ (1) ] وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، فقالوا: فما نقول يا عبد شمس؟ قال: واللَّه إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجناة، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن يقولوا: هو ساحر يفرق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، [وبين المرء][ (2) ] وزوجه، وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا عنه بذلك [ (3) ] .
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (2) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) .
[ (3) ](دلائل أبي نعيم) : 1/ 232- 233، حديث رقم (183)، وقال في آخره:[رواه يونس ابن بكير عن محمد بن إسحاق، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس] ، ولولا ذلك لكان الحديث مرسلا، حيث قد وصله أبو نعيم بذلك. وأخرجه أيضا البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 200- 201، وزاد فيه:[فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم من أمره، فأنزل اللَّه عز وجل في الوليد بن المغيرة، وذلك من قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- إلى قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ] ، [الآيات (11- 26) من سورة المدثر،] .
[وأنزل اللَّه عز وجل في النفر الذين كانوا معه، ويصنعون له القول في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند اللَّه: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ* فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لمن لقوا من الناس قال وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.] ، [الآيتان (20- 21) من سورة الحجر] .
وأخرجه أيضا ابن إسحاق في (السيرة) و (سيرة ابن هشام) : 2/ 105- 106. ذكر ابن إسحاق قول اللَّه تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً.. الآيات التي نزلت في الوليد، وفيها تهديد ووعيد شديد، لأن معنى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ أي دعني وإياه، فسترى ما أصنع به، كما قال:
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. (المرجع السابق) .
وأخرجه أيضا الحاكم في (المستدرك) 2/ 550، كتاب التفسير، تفسير سورة المدثر، حديث رقم (3872/ 1009)، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه.
وله من حديث سفيان بن عمرو عن عكرمة، أن الوليد بن المغيرة قال: قد سمعت الشعر رجزه وقريضه ومخمّسه، فما سمعت مثل هذا الكلام يعني القرآن- ما هو بشعر، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن له لنورا، وإن له لفرعا، وإنه يعلو ولا [يعلى][ (1) ] .
وللبيهقي من حديث عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب السجستاني، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه، أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا، قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا تبلغ قومك أنك منكر له أو كاره له، قال: وماذا أقول؟
فو اللَّه ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن مني، واللَّه ما يشبه الّذي يقول شيئا من هذا، واللَّه إن لقوله الّذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما [يعلى] ، وإنه ليحطم ما تحته.
فقال: واللَّه لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، أي يأثره عن غيره، فنزلت فيه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [ (2) ] . قال البيهقي: هكذا حدثنا موصولا.
وفي حديث حماد بن زيد عن أيوب، عن عكرمة قال: جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له: اقرأ عليّ، فقرأ عليه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ (3) ]، قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:[أي الوليد] :
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل أبي نعيم) : 1/ 234- 235، حديث رقم (186) ، وقد انفرد به أبو نعيم وهو حديث مرسل، وهو بعض حديث ابن عباس الّذي أخرجه الحاكم في (المستدرك) :
2/ 550، حديث رقم (3872/ 1009) في كتاب التفسير/ تفسير سورة المدثر.
[ (2) ] المدثر: 11.
[ (3) ] النحل: 90.
واللَّه إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر. قال: وكذلك رواه معمر عن عباد بن منصور، عن عكرمة مرسلا، ورواه أيضا معتمر بن سليمان عن أبيه، فذكره أتم من ذلك مرسلا، وكل ذلك يؤكد بعضه بعضا.
وله من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق [قال: حدثني محمد بن أبي محمد عن ابن عباس][ (1) ]، أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش- وكان ذا سنّ فيهم- وقد حضر الموسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا.
فقالوا: أنت يا أبا عبد شمس، فقل وأقم لنا رأيا نقوم به، فقال: بل أنتم، فقولوا أسمع، فقالوا: نقول كاهن، فقال ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة الكاهن وسحره، فقالوا: نقول مجنون، فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا مخالجته ولا وسوسته، قال: فنقول شاعر، قال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وهزجه وقريضه، ومقبوضة ومبسوطه، فما هو بالشعر، قال: فنقول ساحر، فما هو بساحر، قد رأينا السّحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: ما تقول يا أبا عبد شمس؟ قال: واللَّه إن لقوله حلاوة، إن أصله لمغدق، وإن فرعه لجني، فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحر، فيقولوا: ساحر يفرق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وبين أخيه، وبين المرء وبين [زوجه] ، وبين المرء وبين عشيرته، فيتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون للناس حين قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم من أمره، فأنزل اللَّه تعالى في الوليد ابن المغيرة [من] قوله: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً إلى قوله: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وأنزل اللَّه في النفر الذين كانوا معه ويطيعون له القول في رسول اللَّه فيما جاء به من هدي اللَّه: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ، أي أصنافا، فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، أولئك النفر الذين يقولون ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لمن أتوا من
[ (1) ] زيادة للسياق من (دلائل البيهقي) : 2/ 198- 199، باب اعتراف مشركي قريش بما في كتاب اللَّه تعالى من الإعجاز، وأنه لا يشبه شيئا من لغاتهم، مع كونهم من أهل اللغة وأرباب اللسان.
الناس قال: وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وانتشر ذكره في بلاد العرب كلها [ (1) ] .
وله من حديث يونس عن ابن إسحاق، عن شيخ من أهل مصر، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ فقال: يا معشر قريش، واللَّه لقد نزل بكم أمر ما ابتليتم بمثله، لقد كان فيكم محمد غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر، لا واللَّه ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم، وقلتم: شاعر، لا واللَّه ما هو بشاعر، لقد رأينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها، هزجه ورجزه وقريضه، وقلتم: مجنون، ولا واللَّه ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش! انظروا في شأنكم، فإنه واللَّه لقد نزل بكم أمر عظيم، وكان النضر من شياطين قريش وممن كان يؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة [ (2) ] .
وخرج مسلم من حديث عبد [الأعلى][وهو أبو همام [ (3) ]] قال: حدثنا داود عن عمرو بن سعيد عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه: أن ضمادا قدم مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل اللَّه يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد، إني أرقي من هذه الريح، وإن اللَّه يشفي علي يدي من شاء، فهل لك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن الحمد للَّه، نحمده ونستعينه، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد، قال: فقال:
أعد عليّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال:
فقال: [لقد][ (3) ] سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، فقال: هات يدك
[ (1) ] المرجع السابق: 201.
[ (2) ] المرجع السابق: 201- 202.
[ (3) ] زيادة من (صحيح مسلم) .
أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك؟ قال:
وعلى قومي،
قال فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سريّة فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت مطهرة، فقال:
ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد [ (1) ] .
وقال الواقدي: حدثنا محمد بن سليط عن أبيه عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن العدوي قال: قال ضماد: قدمت مكة معتمرا، فجلست مجلسا فيه أبو جهل، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، فقال أبو جهل: هذا الرجل الّذي فرق جماعتنا، وسفّه أحلامنا، وضلل من مات منا، وعاب آلهتنا، فقال أمية: الرجل مجنون غير شك،
قال ضماد: فوقعت في نفسي كلمته وقلت: إني رجل أعالج من هذه الريح، فقمت من ذلك المجلس وأطلب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم أصادفه ذلك اليوم، حتى كان الغد فجئته فوجدته جالسا خلف المقام يصلي، فجلست حتى فرغ، ثم جلست إليه فقلت: يا ابن عبد المطلب! فأقبل عليّ فقال: ما تشاء؟ فقلت: إني أعالج من الريح، فإن أحببت عالجتك، ولا يكثرن ما بك، فقد عالجت من كان به أشدّ مما بك فبرأ، وسمعت قومك يذكرون فيك خصالا سيئة، من تسفيه أحلامهم، وتفريق جماعتهم، وتضليل من مات منهم، وعبت آلهتهم، فقلت: ما فعل هذا إلا رجل به جنه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: الحمد للَّه أحمده، وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، من يهده اللَّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قال ضماد:
فسمعت كلاما لم أسمع كلاما قط أحسن منه، فأستعيده الكلام فأعاد عليّ، فقلت: إلى ما تدعو؟ قال: إلى أن تؤمن باللَّه وحده لا شريك له، وتخلع الأوثان من رقبتك، وتشهد أني رسول اللَّه، فقلت: فماذا إليّ إن فعلت؟ قال: لك الجنة، قلت: فإنّي أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأخلع الأوثان من رقبتي، وأبرأ منها، وأشهد أنك عبد اللَّه ورسوله، فأقمت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم علمت سورا كثيرة من القرآن،
ثم رجعت إلى قومي، قال عبد اللَّه بن عبد الرحمن
[ (1) ](مسلم بشرح النووي) : 6/ 405- 406، كتاب الجمعة باب (13) تخفيف الصلاة والخطبة، حديث رقم 46- (868)، (دلائل البيهقي) : 2/ 223- 224، باب إسلام ضماد وما ظهر له فيما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم من آثار النبوة.
العدوي: فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في سرية، فأصابوا عشرين بعيرا بموضع كذا، واستاقوها، وبلغ علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنهم قوم ضماد، فقال: ردوها إليهم، فردّت.
وخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير ابن مطعم، عن أبيه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب [ (1) ]- وقال البخاري: قرأ في المغرب بالطور- ترجم عليه: باب الجهر في المغرب.
وخرجه مسلم من حديث أبي بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، قالا: حدثنا سفيان. ومن حديث ابن وهب قال: أخبرني يونس. ومن حديث عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، كلهم عن الزهري بهذا الإسناد مثله. وخرجه البخاري في كتاب التفسير [ (2) ] من حديث الحميدي، حدثنا سفيان، حدثوني عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ* أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ* أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [ (3) ] ، كاد قلبي أن يطير، قال سفيان: فأما أنا فإنما سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، لم أسمعه الّذي قالوا لي.
وخرج في كتاب المغازي في غزوة بدر، من حديث عبد الرزاق، حدثنا معمر عن الزهري، عن محمد بن جبير عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي، وذكره في كتاب الجهاد في باب فكاك الأسير، من حديث عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري، عن محمد بن جبير عن أبيه- وكان جاء في أسارى بدر- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور [ (4) ] .
[ (1) ](فتح الباري) : 2/ 315، كتاب الأذان، باب (99) الجهر في المغرب، حديث رقم (765) .
[ (2) ](فتح الباري) : 8/ 776، كتاب التفسير، باب (1) ، حديث رقم (4854) ، 7/ 410، كتاب المغازي: باب (12) ، حديث رقم (4023) ، 6/ 206، كتاب الجهاد والسير، باب (172) فداء المشركين، حديث رقم (3050) .
[ (3) ] الطور: 35- 37.
[ (4) ](فتح الباري) : 7/ 410، كتاب المغازي، باب (12) حديث رقم (4023) .
قال أبو عمر بن عبد البر- وقد ذكر حديث مالك-: وفي هذا الحديث شيء سقط من رواية ابن شهاب، وهو شيء حسن من الفقه، وذلك أن جبير ابن مطعم سمع هذا الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم وهو كافر، وحدث به وهو مسلم.
قال: وقد روى هذه القصة فيه عن مالك عن علي بن الربيع بن الركين، وإبراهيم بن علي التميمي المقرئ، جميعا عن مالك عن الزهري، عن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بدر، فسمعته يقرأ في المغرب بالطور، ولم أسلم يومئذ، فكأنما صدع قلبي، وقال لو كان مطعم حيا وكلمني في أسارى بدر لتركتهم له، ولم نتابع هذان على سياقه هذا الحديث بهذا اللفظ عن مالك.
وقد رواه كذلك عن ابن شهاب، أسامة بن زيد الليثي وغيره، روى ابن وهيب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب أسامة بن زيد الليثي وغيره: روى ابن وهب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أنه جاء في فداء أسرى بدر قال: فوافقت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بالطور وكتاب مسطور، فأخذني من قراءته كالكرب، فكان ذلك أول ما سمعت من أمر الإسلام.
وذكر من طريق قاسم بن أصبغ حديث سفيان بن عيينة قال: سمعت الزهري يحدث عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، قال سفيان: قال سمعته يقول: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ قال: فكاد يطير قلبي.
قال: ورواه يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب، فجعل موضع المغرب العتمة، إلا أنه من رواية ابن لهيعة، فذكر حديث أسد بن موسى قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، أن ابن شهاب كتب إليه قال: حدثني محمد ابن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم في فداء أسارى بدر، فسمعته يقرأ في العتمة بالطور.
ورواه سفيان بن حسين- على الشك- في العتمة أو المغرب، فذكر حديث أبي عبيد قال: حدثنا هيثم، أخبرنا سفيان بن حسين عن الزهري، قال هيثم: ولا
أظني إلا وقد
سمعته من الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر، فوافقته وهو يصلي بأصحابه المغرب، أو العشاء، فسمعته وهو يقول أو يقرأ- وقد خرج صوته من المسجد- إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ* ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [ (1) ]، قال: فكأنما صدع قلبي، فلما فرغ من صلاته كلمته في أسارى بدر فقال: شيخك أو الشيخ لو كان أتانا فيهم شفعناه، يعني أباه المطعم بن عدي.
قال أبو عبيد: قال هيثم وغيره: كانت له عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدا، قال ابن عبد البر: كانت يد المطعم بن عدي عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شأن الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم، وهو أيضا أجار النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم من الطائف من دعاء ثقيف، أجاره هو ومن كان معه يومئذ.
وخرج أبو نعيم من حديث أبان بن عثمان، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: لما أمر اللَّه نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج إلى [منى] وأنا معه وأبو بكر رجلا نسّابة [ (2) ] ، فوقف على منازلهم، فسلم عليهم فردوا السلام، وكان في القوم مفروق بن عمرو، وهاني بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق، وكان مفروق قد غلب عليهم بيانا ولسانا، فالتفت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له: إلى ما تدعو يا أخا قريش؟ فتقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجلس، وقام أبو بكر رضي الله عنه يظله بثوبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأني رسول اللَّه، وأن تؤووني وتمنعوني وتنصروني، حتى أؤدي عن اللَّه الّذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر اللَّه، فكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، واللَّه هو الغني الحميد، قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى قوله: وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [ (3) ] ،
[ (1) ] الطور: 7- 8.
[ (2) ] نسّابة: عالم بالأنساب.
[ (3) ] الأنعام: 151- 153 [آيات الوصايا العشر] .
فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو اللَّه ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه، فتلا عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [ (1) ] الآية، فقال له مفروق: دعوت واللَّه يا قريشيّ إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وقال هانئ بن قبيصة: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وصدقت قولك، وقال المثنى ابن حارثة: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك، وأعجبني ما تكلمت به.
ثم قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أرأيتم أن تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم اللَّه تعالى بلادهم وأموالهم- يعني أرض فارس وأنهار كسرى- ويفرشكم بناتهم، أتسبحون اللَّه وتقدسونه؟ قال له النعمان بن شريك: وأي ذلك لك يا أخا قريش؟ فتلا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [ (2) ] ، الآية. ثم نهض قابضا على يد أبي بكر رضي الله عنه، ولما سمع أكثم بن صيفي قول اللَّه سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [ (3) ] ، استجاب للإسلام أول ما قرئ عليه القرآن، وقال: إنه يأمر بمكارم الأخلاق [ (4) ] .
وخرج الحرث بن أبي أسامة من حديث داود بن المحبّر، حدثنا أبو الأشهب عن الحسن عن قيس بن عاصم المنقري، أنه قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال:
هذا سيد ذي وبر، قال: فسلمت عليه فقلت: يا رسول اللَّه، المال الّذي لا ينفقه [علي منه في ضيف أضافه] [ (5) ] أو عيال وإن كثروا؟ قال: نعم، المال الأربعون، فإن كثر فستون، ويل لأصحاب المئين، ويل لأصحاب المئين، إلا من أدى حق اللَّه في رسلها ونجدتها، وأطرق فحلها وأفقر ظهرها، وحمل على ظهرها ومنح
[ (1) ] النحل: 7- 8.
[ (2) ] الأحزاب: 45- 46.
[ (3) ] النحل: 90.
[ (4) ] حديث أبان بن عبد اللَّه البجلي في عرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب، وقصة مفروق ابن عمرو وأصحابه، ذكره البيهقي في (دلائل النبوة) : 2/ 422- 427، أبو نعيم في (دلائل النبوة) : 1/ 282- 288، حديث رقم (214) ، ذكره أبو نعيم مطولا، وقال ابن حجر:
وأخرجه الحاكم، والبيهقي في (الدلائل) بإسناد حسن.
[ (5) ] كذا في (خ) ، ولا يخفى اضطراب السياق.
عزيزها، ونحر سمينها، وأطعم القانع والمعتر، فقلت: يا رسول اللَّه! ما أكرم هذه الأخلاق وأحسنها، ثم قال: يا قيس، أما لك أحب إليك أم مولاك؟ قال: قلت: بل مالي، قال: فإنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو أعطيت فأمضيت، وما بقي فلوارثك، قلت: واللَّه يا نبي اللَّه، لئن بقيت لأدعن عددها قليلا.
قال الحسن: ففعل رحمه الله. قال أبو نعيم: رواه زناد الجصاص عن الحسن مثله.
وخرج أبو نعيم من حديث السّدي، عن أبي مالك عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قدم [ (1) ] ملوك حضرموت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، بنو وليعة حمد ومخوس ومشرح وأبضعة، وأختهم العمردة، وفيهم الأشعث بن قيس- وهو أصغرهم- فقالوا: أبيت اللعن [ (2) ]، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لست ملكا، أنا محمد بن عبد اللَّه، قالوا: لا نسميك باسمك، قال: لكن اللَّه سماني، وأنا أبو [القاسم][ (3) ]، قالوا: يا أبا القاسم، إنا قد خبأنا لك خبئا [ (4) ] فما هو؟ وكانوا قد خبئوا [لرسول اللَّه] [ (5) ] عين جرادة في حميت [ (6) ] سمن- فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: سبحان اللَّه! إنما يفعل ذلك بالكاهن [ (7) ] ، وإن الكاهن والكهانة والتكهن في النار، فقالوا:
كيف نعلم أنك رسول اللَّه؟ فأخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كفا من حصباء فقال: هذا يشهد أني رسول اللَّه، فسبح الحصباء في يده وقالوا: نشهد أنك رسول اللَّه، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن اللَّه بعثني بالحق، وأنزل علي كتابا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أثقل في الميزان من الجبل العظيم، وفي الليلة الظلماء في مثل نور الشهاب.
[ (1) ] في (دلائل أبي نعيم) : «وفد» .
[ (2) ] أبيت اللعن: يدخل به على الملوك. قال النابغة الذبيانيّ:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
…
وتلك التي أهتمّ منها وأنصب
[ (3) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (4) ] في (خ) : «خبيئا» ، وما أثبتناه من المرجع السابق، وبها جاء التنزيل، قال تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النمل: 25] .
[ (5) ] زيادة للسياق من (أبي نعيم) .
[ (6) ] الحميت: إناء للسمن أو الزيت.
[ (7) ] في المرجع السابق: «إنما يفعل ذلك الكهان» .
قالوا: فأسمعنا منه، فتلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [ (1) ] حتى بلغ وَرَبُّ الْمَشارِقِ [ (1) ] ، ثم سكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسكن روعه، فما يتحرك منه شيء، ودموعه تجري على لحيته، فقالوا: إنا نراك تبكي! أفمن مخافة من أرسلك تبكي؟ قال: إن خشيتي منه أبكتني، بعثني على صراط مستقيم في مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت، ثم تلا: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [ (2) ] إلى آخر الآية [ (3) ] . واللَّه يؤتي فضله من يشاء.
[ (1) ] الصافات: 1- 5، وفي (خ) ، «المشارق والمغارب» وهو خطأ من الناسخ.
[ (2) ] الإسراء: 86.
[ (3) ] أخرجه أبو نعيم في (دلائل النبوة) 1/ 237- 238، حديث رقم (190)، والسيوطي في (الخصائص) : 2/ 305 عنه، وفيه الحكم بن ظهير متروك.