الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَجِيء لَكَانَ ذَلِك نقصا؛ فَكل مِنْهَا كَمَال حِين وجوده؛ لَيْسَ بِكَمَال قبل وجوده؛ بل وجوده قبل الْوَقْت الَّذِي تَقْتَضِي الْحِكْمَة وجوده فِيهِ نقص.
الثَّالِث:
(الثَّالِث) : أَن يُقَال: لَا نسلم أَن عدم ذَلِك نقص فَإِن مَا كَانَ حَادِثا امْتنع أَن يكون قَدِيما وَمَا كَانَ مُمْتَنعا لم يكن عَدمه نقصا؛ لِأَن النَّقْص فَوَات مَا يُمكن من صِفَات الْكَمَال.
الرَّابِع:
(الرَّابِع) : أَن هَذَا يرد فِي كل مَا فعله الرب وخلقه. فَيُقَال: خلق هَذَا إِن كَانَ نقصا فقد اتّصف بِالنَّقْصِ وَإِن كَانَ كمالا فقد كَانَ فاقدا لَهُ؛ فَإِن قُلْتُمْ: " صِفَات الْأَفْعَال " عندنَا لَيست بِنَقص وَلَا كَمَال. قيل: إِذا قُلْتُمْ ذَلِك أمكن المنازع أَن يَقُول: هَذِه الْحَوَادِث لَيست بِنَقص وَلَا كَمَال.
الْخَامِس:
(الْخَامِس) : أَن يُقَال: إِذا عرض على الْعقل الصَّرِيح ذَات يُمكنهَا أَن تَتَكَلَّم بقدرتها وَتفعل مَا تشَاء بِنَفسِهَا وَذَات لَا يُمكنهَا أَن تَتَكَلَّم بمشيئتها وَلَا تتصرف بِنَفسِهَا أَلْبَتَّة بل هِيَ بِمَنْزِلَة الزَّمن الَّذِي لَا يُمكنهُ فعل يقوم بِهِ بِاخْتِيَارِهِ قضى الْعقل الصَّرِيح بِأَن هَذِه الذَّات أكمل وَحِينَئِذٍ فَأنْتم الَّذين وصفتم الرب بِصفة النَّقْص؛ والكمال فِي اتصافه بِهَذِهِ الصِّفَات؛ لَا فِي نفي اتصافه بهَا.
السَّادِس:
(السَّادِس) : أَن يُقَال: الْحَوَادِث الَّتِي يمْتَنع كَون كل مِنْهَا أزليا وَلَا يُمكن وجودهَا إِلَّا شَيْئا فَشَيْئًا إِذا قيل: أَيّمَا أكمل أَن يقدر على
فعلهَا شَيْئا فَشَيْئًا أَو لَا يقدر على ذَلِك؟ كَانَ مَعْلُوما - بِصَرِيح الْعقل - أَن الْقَادِر على فعلهَا شَيْئا فَشَيْئًا أكمل مِمَّن لَا يقدر على ذَلِك. وَأَنْتُم تَقولُونَ: إِن الرب لَا يقدر على شَيْء من هَذِه الْأُمُور؛ وتقولون إِنَّه يقدر على أُمُور مباينة لَهُ.
وَمَعْلُوم أَن قدرَة الْقَادِر على فعله الْمُتَّصِل بِهِ قبل قدرته على أُمُور مباينة لَهُ؛ فَإِذا قُلْتُمْ لَا يقدر على فعل مُتَّصِل بِهِ لزم أَن لَا يقدر على الْمُنْفَصِل؛ فَلَزِمَ على قَوْلكُم أَن لَا يقدر على شَيْء وَلَا أَن يفعل شَيْئا فَلَزِمَ أَن لَا يكون خَالِقًا لشَيْء؛ وَهَذَا لَازم للنفاة لَا محيد لَهُم عَنهُ.
وَلِهَذَا قيل: الطَّرِيق الَّتِي سلكوها فِي حُدُوث الْعَالم وَإِثْبَات الصَّانِع: تنَاقض حُدُوث الْعَالم وَإِثْبَات الصَّانِع وَلَا يَصح القَوْل بحدوث الْعَالم وَإِثْبَات الصَّانِع إِلَّا بإبطالها؛ لَا بإثباتها. فَكَأَن مَا اعتمدوا عَلَيْهِ وجعلوه أصولا للدّين ودليلا عَلَيْهِ هُوَ فِي نَفسه بَاطِل شرعا وعقلا وَهُوَ مُنَاقض للدّين ومناف لَهُ، كَمَا أَنه مُنَاقض لِلْعَقْلِ ومناف لَهُ.
وَلِهَذَا كَانَ " السّلف وَالْأَئِمَّة " يعيبون كَلَامهم هَذَا ويذمونه وَيَقُولُونَ: من طلب الْعلم بالْكلَام تزندق؛ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُف. ويروى عَن مَالك. وَيَقُول الشَّافِعِي: حكمي فِي أهل الْكَلَام أَن يضْربُوا بِالْجَرِيدِ وَالنعال وَيُطَاف بهم فِي العشائر وَيُقَال: هَذَا جَزَاء من ترك الْكتاب وَالسّنة وَأَقْبل على الْكَلَام.
وَقَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل: عُلَمَاء الْكَلَام زنادقة وَمَا ارتدى أحد بالْكلَام فأفلح.
وَقد صدق الْأَئِمَّة فِي ذَلِك فَإِنَّهُم يبنون أَمرهم على " كَلَام مُجمل " يروج على من لم يعرف حَقِيقَته فَإِذا اعْتقد أَنه حق تبين أَنه مُنَاقض للْكتاب وَالسّنة فَيبقى فِي قلبه مرض ونفاق وريب وَشك؛ بل طعن فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول.
وَهَذِه هِيَ الزندقة. وَهُوَ " كَلَام بَاطِل من جِهَة الْعقل " كَمَا قَالَ بعض السّلف: الْعلم بالْكلَام هُوَ الْجَهْل فهم يظنون أَن مَعَهم عقليات وَإِنَّمَا مَعَهم جهليات: {كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى إِذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه وَالله سريع الْحساب} . هَذَا هُوَ الْجَهْل الْمركب؛ لأَنهم كَانُوا فِي شكّ وحيرة فهم فِي ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور.
أَيْن هَؤُلَاءِ من نور الْقُرْآن وَالْإِيمَان؟ قَالَ الله تَعَالَى: {الله نور السَّمَاوَات وَالْأَرْض مثل نوره كمشكاة فِيهَا مِصْبَاح الْمِصْبَاح فِي زجاجة
الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَب دري يُوقد من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار نور على نور يهدي الله لنوره من يَشَاء وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس وَالله بِكُل شَيْء عليم} .
فَإِن قيل: أما كَون الْكَلَام وَالْفِعْل يدْخل فِي " الصِّفَات الاختيارية " فَظَاهر. فَإِنَّهُ يكون بِمَشِيئَة الرب وَقدرته وَأما " الْإِرَادَة " و " الْمحبَّة " و " الرِّضَا " و " الْغَضَب " فَفِيهِ نظر فَإِن نفس " الْإِرَادَة " هِيَ الْمَشِيئَة وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِذا خلق من يُحِبهُ كالخليل فَإِنَّهُ يُحِبهُ وَيُحب الْمُؤمنِينَ وَيُحِبُّونَهُ.
وَكَذَلِكَ إِذا عمل النَّاس أعمالا يَرَاهَا وَهَذَا لَازم لَا بُد من ذَلِك، فَكيف يدْخل فِي الِاخْتِيَار؟
قيل: كل مَا كَانَ بعد عَدمه فَإِنَّمَا يكون بِمَشِيئَة الله وَقدرته وَهُوَ سُبْحَانَهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن؛ فَمَا شاءه وَجب كَونه وَهُوَ يجب بِمَشِيئَة الرب وَقدرته وَمَا لم يشأه امْتنع كَونه مَعَ قدرته عَلَيْهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لآتينا كل نفس هداها} {وَلَو شَاءَ الله مَا اقتتل الَّذين من بعدهمْ} {وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ} .
فكون الشَّيْء وَاجِب الْوُقُوع لكَونه قد سبق بِهِ الْقَضَاء، وَعلم أَنه لَا بُد من كَونه لَا يمْتَنع أَن يكون وَاقعا بمشيئته وَقدرته وإرادته وَإِن كَانَت من لَوَازِم ذَاته كحياته وَعلمه. فَإِن " إِرَادَته للمستقبلات " هِيَ مسبوقة " بإرادته للماضي "{إِنَّمَا أمره إِذا أَرَادَ شَيْئا أَن يَقُول لَهُ كن فَيكون} وَهُوَ إِنَّمَا أَرَادَ " هَذَا الثَّانِي " بعد أَن أَرَادَ قبله مَا يَقْتَضِي إِرَادَته؛ فَكَانَ حُصُول الْإِرَادَة اللاحقة بالإرادة السَّابِقَة.
وَالنَّاس قد اضْطَرَبُوا فِي " مَسْأَلَة إِرَادَة الله سبحانه وتعالى " على أَقْوَال مُتعَدِّدَة. وَمِنْهُم من نفاها وَرجح الرَّازِيّ هَذَا فِي " مطالبه الْعَالِيَة " لَكِن - وَللَّه الْحَمد - نَحن قد قررناها وبيّنّاها وبيّنّا فَسَاد الشّبَه الْمَانِعَة مِنْهَا؛ وَأَن مَا جَاءَ بِهِ الْكتاب وَالسّنة هُوَ الْحق الْمَحْض الَّذِي تدل عَلَيْهِ المعقولات الصَّرِيحَة وَأَن " صَرِيح الْمَعْقُول مُوَافق لصحيح الْمَنْقُول ".
وَكُنَّا قد بيّنّا " أَولا " أَنه يمْتَنع تعَارض الْأَدِلَّة القطعية فَلَا يجوز أَن يتعارض دليلان قطعيان سَوَاء كَانَا عقليين أَو سمعيين أَو كَانَ أَحدهمَا عقليا وَالْآخر سمعيا؛ ثمَّ بَينا بعد ذَلِك: أَنَّهَا متوافقة متناصرة متعاضدة. فالعقل يدل على صِحَة
السّمع والسمع يبين صِحَة الْعقل وَأَن من سلك أَحدهمَا أفْضى بِهِ إِلَى الآخر. وَأَن الَّذين يسْتَحقُّونَ الْعَذَاب هم الَّذين لَا يسمعُونَ وَلَا يعْقلُونَ.
كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {أم تحسب أَن أَكْثَرهم يسمعُونَ أَو يعْقلُونَ إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} .
وَقَالَ تَعَالَى: {كلما ألقِي فِيهَا فَوْج سَأَلَهُمْ خزنتها ألم يأتكم نَذِير} {قَالُوا بلَى قد جَاءَنَا نَذِير فكذبنا وَقُلْنَا مَا نزل الله من شَيْء إِن أَنْتُم إِلَّا فِي ضلال كَبِير} {وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا فِي أَصْحَاب السعير} .
وَقَالَ تَعَالَى: {أفلم يَسِيرُوا فِي الأَرْض فَتكون لَهُم قُلُوب يعْقلُونَ بهَا أَو آذان يسمعُونَ بهَا فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور} .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِن فِي ذَلِك لذكرى لمن كَانَ لَهُ قلب أَو ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد} .
فقد بَين الْقُرْآن أَن من كَانَ يعقل أَو كَانَ يسمع: فَإِنَّهُ يكون ناجيا وسعيدا وَيكون مُؤمنا بِمَا جَاءَت بِهِ الرُّسُل وَقد بسطت هَذِه الْأُمُور فِي غير مَوضِع وَالله أعلم.