المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق ابن تيمية: - جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة

- ‌الرسَالَة الأولىرِسَالَة فِي الصِّفَات الاختيارية

- ‌فصل

- ‌مقَالَة الْجَهْمِية والمعتزلة:

- ‌مقَالَة الْكلابِيَّة والسالمية:

- ‌مقَالَة السّلف وَأهل السّنة:

- ‌صفة الْكَلَام:

- ‌مقَالَة الْجَهْمِية والمعتزلة فِي صفة الْكَلَام:

- ‌مقَالَة الْكلابِيَّة والسالمية فِيهَا:

- ‌مقَالَة الرَّازِيّ:

- ‌مقَالَة الْآمِدِيّ:

- ‌مقَالَة الْجُوَيْنِيّ:

- ‌الْآيَات الدَّالَّة على صفة الْكَلَام:

- ‌فَصِل

- ‌صفة الْإِرَادَة:

- ‌صفتا الْمحبَّة وَالرِّضَا:

- ‌فصل

- ‌صفتا السّمع وَالْبَصَر:

- ‌أَفعَال الرب الاختيارية:

- ‌فصل

- ‌الْأَدِلَّة على هَذَا الأَصْل من السّنة:

- ‌فصل

- ‌مَوَاقِف النفاة من مَسْأَلَة الصِّفَات وَالرَّدّ عَلَيْهِم:

- ‌الرَّد على حجَّة للنفاة من وُجُوه:

- ‌الأول:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِث:

- ‌الرَّابِع:

- ‌الْخَامِس:

- ‌السَّادِس:

- ‌فصل

- ‌فَسَاد حجج النفاة لحلول الْحَوَادِث:

- ‌الْحجَّة الأولى:

- ‌فَسَاد هَذِه الْحجَّة:

- ‌الْحجَّة الثَّانِيَة:

- ‌بطلَان هَذِه الْحجَّة من وُجُوه:

- ‌الْوَجْه الأول:

- ‌الْوَجْه الثَّانِي:

- ‌الْوَجْه الثَّالِث:

- ‌الْوَجْه الرَّابِع:

- ‌الْحجَّة الثَّالِثَة:

- ‌إِثْبَات بطلَان هَذِه الْحجَّة:

- ‌الْمَعْنى الصَّحِيح للتغير:

- ‌الْحجَّة الرَّابِعَة:

- ‌الرَّد عَلَيْهَا:

- ‌الرسَالَة الثَّانِيَةشرح كَلِمَات من "فتوح الْغَيْب

- ‌قَالَ الجيلاني: لابد لكل مُؤمن من أَمر يمتثله وَنهي يجتنبه وَقدر يرضى بِهِ:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌الثَّلَاثَة ترجع إِلَى امْتِثَال الْأَمر:

- ‌حكم الْمُبَاحَات وأنواعها:

- ‌سلوك الْأَبْرَار وسلوك المقربين:

- ‌النَّاس فِي الْمُبَاحَات على ثَلَاثَة أَقسَام:

- ‌حكم الإلهام فِي الشَّرِيعَة:

- ‌الْمُؤمن وَالْقدر:

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌أَمر الجيلاني بالفناء عَن الْخلق والهوى والإرادة:

- ‌‌‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌كَلَام الجيلاني عَن عَلَامَات الفناء:

- ‌تَابع كَلَام الجيلاني:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌كَلَام آخر للجيلاني عَن عَلامَة فنَاء إِرَادَة العَبْد:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌فصل

- ‌تَابع كَلَام الجيلاني:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌فصل

- ‌تَابع كَلَام الجيلاني:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌فصل

- ‌الفلاسفة ضالون كافرون من وُجُوه:

- ‌الأول:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِث:

- ‌الرَّابِع:

- ‌الرسَالَة الثَّالِثَةقَاعِدَة فِي الْمحبَّة

- ‌الْحبّ والإرادة أصل كل فعل وحركة فِي الْعَالم والبغض وَالْكَرَاهَة أصل كل ترك فِيهِ

- ‌الْمحبَّة الَّتِي أَمر الله بهَا هِيَ عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ

- ‌أهل الطَّبْع المتفلسفة لَا يشْهدُونَ الْحِكْمَة الغائية من الْمَخْلُوقَات

- ‌أهل الْكَلَام يُنكرُونَ طبائع الموجودات وَمَا فِيهَا من الْقوي والأسباب

- ‌الْمحبَّة والإرادة أصل كل دين

- ‌مَعَاني كلمة الدَّين

- ‌لَا بُد لكل طَائِفَة من بني آدم من دين يجمعهُمْ

- ‌الدَّين هُوَ التعاهد والتعاقد

- ‌الدَّين الْحق هُوَ طَاعَة الله وعبادته

- ‌كل دين سوي الْإِسْلَام بَاطِل

- ‌لَا بُد فِي كل دين من شَيْئَيْنِ العقيدة والشريعة أَو المعبود وَالْعِبَادَة

- ‌تنوع النَّاس فِي المعبود وَفِي الْعِبَادَة

- ‌ذمّ الله التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف فِي الْكتاب وَالسّنة

- ‌يَقُول بعض المتفلسفة إِن الْمَقْصُود بِالدّينِ مُجَرّد الْمصلحَة الدُّنْيَوِيَّة

- ‌فصل

- ‌الْحبّ أصل كل عمل والتصديق بالمحبة هُوَ أصل الْإِيمَان

- ‌تَأْوِيل طوائف من الْمُسلمين للمحبة تأويلات خاطئة

- ‌تنَازع النَّاس فِي لفظ الْعِشْق

- ‌منكرو لفظ الْعِشْق لَهُم من جِهَة اللَّفْظ مأخذان وَمن جِهَة الْمَعْنى مأخذان

- ‌المأخذ الأول من جِهَة اللَّفْظ

- ‌المأخذ الثَّانِي

- ‌المأخذ الْمَعْنَوِيّ قيل إِن الْعِشْق فَسَاد فِي الْحبّ والإرادة

- ‌وَقيل إِن الْعِشْق فَسَاد فِي الْإِدْرَاك والتخيل والمعرفة

- ‌فصل

- ‌كل محبَّة وبغضة يتبعهَا لَذَّة وألم

- ‌اللَّذَّات ثَلَاثَة أَجنَاس:

- ‌الأول: اللَّذَّة الحسية

- ‌الثَّانِي: اللَّذَّة الوهمية

- ‌الثَّالِث: اللَّذَّة الْعَقْلِيَّة

- ‌شرع الله من اللَّذَّات مَا فِيهِ صَلَاح حَال الْإِنْسَان وَجعل اللَّذَّة التَّامَّة فِي الْآخِرَة

- ‌غلط المتفلسفة وَمن اتبعهم فِي أَمر هَذِه اللَّذَّات

- ‌ضل النَّصَارَى كَذَلِك فِي أَمر اللَّذَّات

- ‌الْيَهُود أعلم لكِنهمْ غواة قساة

- ‌تَفْصِيل مقَالَة الفلاسفة فِي اللَّذَّة

- ‌فصل

- ‌حب الله أصل التَّوْحِيد العملي

- ‌أصل الْإِشْرَاك العملي بِاللَّه الْإِشْرَاك فِي الْمحبَّة

- ‌الْمُؤْمِنُونَ يحبونَ لله ويبغضون لله

- ‌محبَّة الله مستلزمة لمحبة مَا يُحِبهُ من الْوَاجِبَات

- ‌الذُّنُوب تنقص من محبَّة الله

- ‌مَرَاتِب الْعِشْق

- ‌ذكر الله الْعِشْق فِي الْقُرْآن عَن الْمُشْركين

- ‌المتولون للشَّيْطَان هم الَّذين يحبونَ مَا يُحِبهُ

- ‌عباد الله المخلصون لَيْسَ للشَّيْطَان عَلَيْهِم سُلْطَان

- ‌العشاق يتولون الشَّيْطَان ويشركون بِهِ

- ‌يُوقع الشَّيْطَان الْعَدَاوَة والبغضاء بَين الْمُؤمنِينَ بالعشق

- ‌أصل الْعِبَادَة الْمحبَّة والشرك فِيهَا أصل الشّرك

- ‌الْفِتْنَة جنس تَحْتَهُ أَنْوَاع من الشُّبُهَات والشهوات

- ‌فصل

- ‌محبَّة الله توجب المجاهدة فِي سَبيله

- ‌موادة عَدو الله تنَافِي الْمحبَّة

- ‌محبَّة الله وَرَسُوله على دَرَجَتَيْنِ: وَاجِبَة ومستحبة

- ‌الْمحبَّة الْوَاجِبَة وَهِي محبَّة الْمُقْتَصِدِينَ

- ‌الْمحبَّة المستحبة وَهِي محبَّة السَّابِقين

- ‌ترك الْجِهَاد لعدم الْمحبَّة التَّامَّة وَهُوَ دَلِيل النِّفَاق

- ‌انقسام النَّاس إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام:

- ‌1- قوم لَهُم قدرَة وَإِرَادَة ومحبة غير مَأْمُور بهَا

- ‌2- قوم لَهُم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة كَامِلَة لله وقدرة كَامِلَة

- ‌3- قوم فيهم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة قَوِيَّة لَكِن قدرتهم نَاقِصَة

- ‌4- من قدرته وإرادته للحق قَاصِرَة وَفِيه إِرَادَة للباطل

- ‌الْعِبَادَة تجمع كَمَال الْمحبَّة وَكَمَال الذل

- ‌من أحب شَيْئا كَمَا يحب الله أَو عظمه كَمَا يعظم الله فقد أشرك

- ‌الْإِنْسَان لَا يفعل الْحَرَام إِلَّا لضعف إيمَانه ومحبته

- ‌تَزْيِين الشَّيْطَان لكثير من النَّاس أنواعا من الْحَرَام ضاهوا بهَا الْحَلَال

- ‌موقف الْمُؤمن من الشرور والخيرات وَمَا يجب عَلَيْهِ حيالها

- ‌بَنو آدم لَا يُمكن عيشهم إِلَّا بالتعاقد والتحالف

- ‌التَّحَالُف يكون وفقا الشَّرِيعَة منزلَة أَو شَرِيعَة غير منزلَة أَو سياسة

- ‌الْمُسلمُونَ على شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالاوَلِهَذَا قَالَ النَّبِي

- ‌فصل

- ‌الْمَقْصُود الأول من كل عمل هُوَ التنعم واللذة

- ‌ النَّعيم التَّام هُوَ فِي الدَّين الْحق

- ‌من الْخَطَأ الظَّن بِأَن نعيم الدُّنْيَا لَا يكون إِلَّا لأهل الْكفْر والفجور

- ‌الْمُؤمن يطْلب نعيم الدُّنْيَا وَالنَّعِيم التَّام فِي الْآخِرَة

- ‌من الْخَطَأ الِاعْتِقَاد أَن الله ينصر الْكفَّار فِي الدُّنْيَا وَلَا ينصر الْمُؤمنِينَ

- ‌مَا سبق يتَبَيَّن بأصلين:

- ‌الأَصْل الأول: حُصُول النَّصْر وَغَيره من أنوع النَّعيم لَا يُنَافِي وُقُوع الْقَتْل أَو الْأَذَى

- ‌الأَصْل الثَّانِي: التنعم إِمَّا بالأمور الدُّنْيَوِيَّة وَإِمَّا بالأمور الدِّينِيَّة:

- ‌1- الدُّنْيَوِيَّة

- ‌2- الدِّينِيَّة

- ‌فصل

- ‌تنَازع النَّاس فِيمَا ينَال الْكَافِر فِي الدُّنْيَا من التنعم هَل هُوَ نعْمَة فِي حَقه أم لَا

- ‌رَأْي ابْن تَيْمِية

- ‌حَال الْإِنْسَان عِنْد السَّرَّاء وَالضَّرَّاء

- ‌حَال الْمُؤمن عِنْدهمَا

- ‌الْمُؤمن أرجح فِي النَّعيم واللذة من الْكَافِر فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة وَإِن كَانَت

- ‌لذات أهل الْبر أعظم من لذات أهل الْفُجُور

- ‌لما خَاضَ النَّاس فِي مسَائِل الْقدر ابتدع طوائف مِنْهُم مقالات مُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة:

- ‌بدع الْقَدَرِيَّة

- ‌بدع طَائِفَة من أهل الْإِثْبَات

- ‌الرَّد عَلَيْهِم

- ‌الْمقَالة الصَّحِيحَة لأهل السّنة وَالْجَمَاعَة

- ‌رفع الله الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ

- ‌الْإِيمَان وَالطَّاعَة خير من الْكفْر وَالْمَعْصِيَة للْعَبد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

- ‌معنى الْمَجِيء إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بعد مماته

- ‌على الْمُؤمن أَن يحب مَا أحب الله وَيبغض مَا أبغضه الله ويرضى بِمَا قدره الله

- ‌فصل

- ‌جَمِيع الحركات ناشئة عَن الْإِرَادَة وَالِاخْتِيَار

- ‌فصل

- ‌أصل الْمُوَالَاة الْحبّ وأصل المعاداة البغض

- ‌فصل

- ‌تَقْسِيم الْعلم إِلَى فعلي وانفعالي

- ‌علم الرب بِأَفْعَال عباده الصَّالِحَة والسيئة يسْتَلْزم حبه للحسنات وبغضه للسيئات

- ‌الْإِرَادَة والمحبة ينقسمان أَيْضا إِلَى فعليتين وانفعاليتين

- ‌الْحبّ يتبع الإحساس والإحساس يكون بموجود لَا بمعدوم

- ‌الْأُمُور الغائبة لَا تعرف وَلَا تحب وَتبْغض إِلَّا بِنَوْع من الْقيَاس والتمثيل

الفصل: ‌تعليق ابن تيمية:

أَشرت إِلَيْهِ وَتقدم، قَالَ الله تَعَالَى:" {أَنا عِنْد المنكسرة قُلُوبهم من أَجلي} " وسَاق كَلَامه. وَفِيه: " {وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إِلَيّ بالنوافل} " الحَدِيث.

‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

قلت: هَذَا الْمقَام هُوَ آخر مَا يُشِير إِلَيْهِ الشَّيْخ عبد الْقَادِر. وَحَقِيقَته أَنه لَا يُرِيد كَون شَيْء إِلَّا أَن يكون مَأْمُورا بإرادته فَقَوله: عَلامَة فنَاء إرادتك بِفعل الله أَنَّك لَا تُرِيدُ مرَادا قطّ. أَي لَا تُرِيدُ مرَادا لم تُؤمر بإرادته فَأَما مَا أَمرك الله وَرَسُوله بإرادتك إِيَّاه فإرادته إِمَّا وَاجِب وَإِمَّا مُسْتَحبّ وَترك إِرَادَة هَذَا إِمَّا مَعْصِيّة وَإِمَّا نقص.

وَهَذَا الْموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أَن الطَّرِيقَة الْكَامِلَة

ص: 119

أَلا يكون للْعَبد إِرَادَة أصلا وَأَن قَول أبي يزِيد: " أُرِيد أَلا أُرِيد " - لما قيل لَهُ: مَاذَا تُرِيدُ؟ - نقص وتناقض؛ لِأَنَّهُ قد أَرَادَ، ويحملون كَلَام الْمَشَايِخ الَّذين يمدحون بترك الْإِرَادَة على ترك الْإِرَادَة مُطلقًا.

وَهَذَا غلط مِنْهُم على الشُّيُوخ المستقيمين وَإِن كَانَ من الشُّيُوخ من يَأْمر بترك الْإِرَادَة مُطلقًا فَإِن هَذَا غلط مِمَّن قَالَه فَإِن ذَلِك لَيْسَ بمقدور وَلَا مَأْمُور.

فَإِن الْحَيّ لَا بُد لَهُ من إِرَادَة، فَلَا يكون حَيّ من النَّاس إِلَّا أَن تكون لَهُ إِرَادَة. وَأما الْأَمر فَإِن الْإِرَادَة الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله، وَيَأْمُر بهَا أَمر إِيجَاب أَو أَمر اسْتِحْبَاب، لَا يَدعهَا إِلَّا كَافِر أَو فَاسق أَو عَاص إِن كَانَت وَاجِبَة، وَإِن كَانَت مُسْتَحبَّة كَانَ تاركها تَارِكًا لما هُوَ خير لَهُ.

ص: 120

وَالله تَعَالَى قد وصف الْأَنْبِيَاء وَالصديقين بِهَذِهِ " الْإِرَادَة " فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى} {إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا نطعمكم لوجه الله لَا نُرِيد مِنْكُم جَزَاء وَلَا شكُورًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِن كنتن تردن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فَإِن الله أعد للمحسنات مِنْكُن أجرا عَظِيما} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمن أَرَادَ الْآخِرَة وسعى لَهَا سعيها وَهُوَ مُؤمن فَأُولَئِك كَانَ سَعْيهمْ مشكورا} وَقَالَ تَعَالَى: {فاعبد الله مخلصا لَهُ الدَّين} {أَلا لله الدَّين الْخَالِص} وَقَالَ تَعَالَى: {قل الله أعبد مخلصا لَهُ ديني} وَقَالَ تَعَالَى: {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} .

وَلَا عبَادَة إِلَّا بِإِرَادَة الله وَلما أَمر بِهِ. وَقَالَ تَعَالَى: {بلَى من أسلم وَجهه لله وَهُوَ محسن} أَي أخْلص قَصده لله. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدَّين} وإخلاص الدَّين لَهُ هُوَ إِرَادَته وَحده بِالْعبَادَة.

وَقَالَ تَعَالَى: {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} وَقَالَ تَعَالَى: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله} . وكل محب فَهُوَ مُرِيد.

ص: 121

وَقَالَ الْخَلِيل عليه السلام {لَا أحب الآفلين} ثمَّ قَالَ: {إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} .

وَمثل هَذَا كثير فِي الْقُرْآن؛ يَأْمر الله بإرادته وَإِرَادَة مَا يَأْمر بِهِ وَينْهى عَن إِرَادَة غَيره وَإِرَادَة مَا نهى عَنهُ وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى فَمن كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته إِلَى الله وَرَسُوله وَمن كَانَت هجرته إِلَى دنيا يُصِيبهَا أَو امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا فَهجرَته إِلَى مَا هَاجر إِلَيْهِ} ".

فهما " إرادتان ": إِرَادَة يُحِبهَا الله ويرضاها وَإِرَادَة لَا يُحِبهَا وَلَا يرضاها بل إِمَّا نهى عَنْهَا وَإِمَّا لم يَأْمر بهَا وَلَا ينْهَى عَنْهَا.

وَالنَّاس فِي الْإِرَادَة " ثَلَاثَة أَقسَام ":

قوم يُرِيدُونَ مَا يهوونه فَهَؤُلَاءِ عبيد أنفسهم والشيطان.

وَقوم يَزْعمُونَ أَنهم فرغوا من الْإِرَادَة مُطلقًا وَلم يبْق لَهُم مُرَاد إِلَّا مَا يقدره الرب وَأَن هَذَا الْمقَام هُوَ أكمل المقامات. ويزعمون أَن من قَامَ بِهَذَا فقد

ص: 122

قَامَ بِالْحَقِيقَةِ وَهِي الْحَقِيقَة الْقَدَرِيَّة الكونية؛ وَأَنه شهد القيومية الْعَامَّة ويجعلون الفناء فِي شُهُود تَوْحِيد الربوبية هُوَ الْغَايَة؛ وَقد يسمون هَذَا: الْجمع والفناء والاصطلام وَنَحْو ذَلِك. وَكثير من الشُّيُوخ زلقوا فِي هَذَا الْموضع.

وَفِي " هَذَا الْمقَام " كَانَ النزاع بَين الْجُنَيْد بن مُحَمَّد وَبَين طَائِفَة من أَصْحَابه الصُّوفِيَّة؛ فَإِنَّهُم اتَّفقُوا على شُهُود تَوْحِيد الربوبية وَأَن الله خَالق كل

ص: 123

شَيْء وربه ومليكه وَهُوَ شُهُود الْقدر؛ وَسموا هَذَا " مقَام الْجمع " فَإِنَّهُ خرج بِهِ عَن الْفرق الأول وَهُوَ الْفرق الطبيعي بِإِرَادَة هَذَا وَكَرَاهَة هَذَا، ورؤية فعل هَذَا وَترك هَذَا فَإِن الْإِنْسَان قبل أَن يشْهد هَذَا التَّوْحِيد يرى لِلْخلقِ فعلا يتفرق بِهِ قلبه فِي شُهُود أَفعَال الْمَخْلُوقَات؛ وَيكون مُتبعا لهواه فِيمَا يُريدهُ فَإِذا أَرَادَ الْحق خرج بإرادته عَن إِرَادَة الْهوى والطبع ثمَّ يشْهد أَنه خَالق كل شَيْء فَخرج بِشُهُود هَذَا الْجمع عَن ذَاك الْفرق فَلَمَّا اتَّفقُوا على هَذَا ذكر لَهُم الْجُنَيْد بن مُحَمَّد " الْفرق الثَّانِي " وَهُوَ بعد هَذَا الْجمع وَهُوَ الْفرق الشَّرْعِيّ. أَلا ترى أَنَّك تُرِيدُ مَا أمرت بِهِ وَلَا تُرِيدُ مَا نهيت عَنهُ وَتشهد أَن الله هُوَ يسْتَحق الْعِبَادَة دون مَا سواهُ وَأَن عِبَادَته هِيَ بِطَاعَة رسله فَتفرق بَين الْمَأْمُور والمحظور وَبَين أوليائه وأعدائه، وَتشهد تَوْحِيد الألوهية؟

فنازعوه فِي هَذَا " الْفرق " مِنْهُم من أنكرهُ. و (مِنْهُم من لم يفهمهُ. وَمِنْهُم من ادّعى أَن الْمُتَكَلّم فِيهِ لم يصل إِلَيْهِ. ثمَّ إِنَّك تَجِد كثيرا من الشُّيُوخ إِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَى

ص: 124

ذَلِك الْجمع وَهُوَ " تَوْحِيد الربوبية " والفناء فِيهِ. كَمَا فِي كَلَام صَاحب " منَازِل السائرين " مَعَ جلالة قدره مَعَ أَنه قطعا كَانَ قَائِما بِالْأَمر وَالنَّهْي المعروفين.

لَكِن قد يدعونَ أَن هَذَا لأجل الْعَامَّة. و (مِنْهُم من يتناقض) . و (مِنْهُم من يَقُول: الْوُقُوف مَعَ الْأَمر لأجل مصلحَة الْعَامَّة) وَقد يعبر عَنْهُم بِأَهْل المارستان.

و (مِنْهُم من يُسَمِّي ذَلِك مقَام التلبيس) .

وَمِنْهُم من يَقُول: إِنَّمَا التَّكْلِيف على الْإِنْسَان مادام عبدا، فَإِذا ترقّى من منزلَة الْعُبُودِيَّة [إِلَى منزلَة] الْحُرِّيَّة سقط عَنهُ التَّكْلِيف، فَلَا يبْقى عَلَيْهِ تَكْلِيف، لِأَن الْحر لَا تَكْلِيف عَلَيْهِ لأحد.

و (مِنْهُم من يَقُول: التَّحْقِيق أَن يكون الْجمع فِي قَلْبك مشهودا وَالْفرق على لسَانك مَوْجُودا) فَيشْهد بِقَلْبِه اسْتِوَاء الْمَأْمُور والمحظور مَعَ تفريقه بِلِسَانِهِ بَينهمَا.

و (مِنْهُم من يرى أَن هَذِه هِيَ الْحَقِيقَة الَّتِي هِيَ مُنْتَهى سلوك العارفين وَغَايَة منَازِل الْأَوْلِيَاء الصديقين) .

و (مِنْهُم من يظنّ أَن الْوُقُوف مَعَ إِرَادَة الْأَمر وَالنَّهْي يكون فِي السلوك والبداية وَأما فِي النِّهَايَة فَلَا تبقى إِلَّا إِرَادَة الْقدر) وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة قَول بِسُقُوط الْعِبَادَة

ص: 125

وَالطَّاعَة؛ فَإِن الْعِبَادَة لله وَالطَّاعَة لَهُ وَلِرَسُولِهِ إِنَّمَا تكون فِي امْتِثَال الْأَمر الشَّرْعِيّ لَا فِي الجري مَعَ الْمَقْدُور وَإِن كَانَ كفرا وفسوقا وعصيانا.

وَمن هُنَا صَار كثير من السالكين من أعوان الْكفَّار والفجار وخفرائهم حَيْثُ شهدُوا الْقدر مَعَهم؛ وَلم يشْهدُوا الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين. وَمن هَؤُلَاءِ من يَقُول: من شهد الْقدر سقط عَنهُ الملام. وَيَقُول: إِن الْخضر إِنَّمَا سقط عَنهُ الملام لما شهد الْقدر.

وَأَصْحَاب شُهُود الْقدر قد يُؤْتى أحدهم ملكا من جِهَة خرق الْعَادة بالكشف وَالتَّصَرُّف فيظن ذَلِك كمالا فِي الْولَايَة؛ وَتَكون تِلْكَ " الخوارق " إِنَّمَا حصلت بِأَسْبَاب شيطانية وَأَهْوَاء نفسانية؛ وَإِنَّمَا الْكَمَال فِي الْولَايَة أَن يسْتَعْمل خرق الْعَادَات فِي إِقَامَة الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين مَعَ حصولهما بِفعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور فَإِذا حصلت بِغَيْر الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة فَهِيَ مذمومة وَإِن حصلت بالأسباب الشَّرْعِيَّة لَكِن اسْتعْملت ليتوصل بهَا إِلَى محرم كَانَت مذمومة وَإِن توصل بهَا إِلَى مُبَاح لَا يستعان بهَا على طَاعَة كَانَت للأبرار دون المقربين وَأما إِن حصلت بِالسَّبَبِ الشَّرْعِيّ واستعين بهَا على فعل الْأَمر الشَّرْعِيّ: فَهَذِهِ خوارق المقربين السَّابِقين.

ص: 126

فَلَا بُد أَن ينظر فِي " الخوارق " فِي أَسبَابهَا وغاياتها: من أَيْن حصلت وَإِلَى مَاذَا أوصلت - كَمَا ينظر فِي الْأَمْوَال فِي مستخرجها ومصروفها - وَمن استعملها - أَعنِي الخوارق - فِي إِرَادَته الطبيعية كَانَ مذموما.

وَمن كَانَ خَالِيا عَن الإرادتين الطبيعية والشرعية فَهَذَا حَسبه أَن يُعْفَى عَنهُ لكَونه لم يعرف الْإِرَادَة الشَّرْعِيَّة. وَأما إِن عرفهَا وَأعْرض عَنْهَا فَإِنَّهُ يكون مذموما مُسْتَحقّا للعقاب إِن لم يعف عَنهُ وَهُوَ يمدح بِكَوْن إِرَادَته لَيست بهواه؛ لَكِن يجب مَعَ ذَلِك أَن تكون مُوَافقَة لأمر الله وَرَسُوله لَا يَكْفِيهِ أَن تكون لَا من هَذَا وَلَا من هَذَا مَعَ أَنه لَا يُمكن خلوه عَن الْإِرَادَة مُطلقًا بل لَا بُد لَهُ من إِرَادَة فَإِن لم يرد مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله أَرَادَ مَا لَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله؛ لَكِن إِذا جَاهد نَفسه على ترك مَا يهواه بَقِي مرِيدا لما يظنّ أَنه مَأْمُور بِهِ فَيكون ضَالًّا.

فَإِن هَذَا يشبه حَال الضَّالّين من النَّصَارَى. وَقد قَالَ تَعَالَى: {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} {صِرَاط الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم غير المغضوب عَلَيْهِم وَلَا الضَّالّين} وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {الْيَهُود مغضوب عَلَيْهِم وَالنَّصَارَى ضالون} ".

ص: 127

فاليهود لَهُم إرادات فَاسِدَة مَنْهِيّ عَنْهَا كَمَا أخبر عَنْهُم: بِأَنَّهُم عصوا وَكَانُوا يعتدون. وهم يعْرفُونَ الْحق وَلَا يعْملُونَ بِهِ فَلهم علم لَكِن لَيْسَ لَهُم عمل بِالْعلمِ وهم فِي الْإِرَادَة المذمومة الْمُحرمَة يتبعُون أهواءهم لَيْسُوا فِي الْإِرَادَة المحمودة الْمَأْمُور بهَا وَهِي إِرَادَة مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله.

وَالنَّصَارَى لَهُم قصد وَعبادَة وزهد لكِنهمْ ضلال يعْملُونَ بِغَيْر علم فَلَا يعْرفُونَ الْإِرَادَة الَّتِي يُحِبهَا الله وَرَسُوله بل غَايَة أحدهم تَجْرِيد نَفسه عَن الإرادات فَلَا يبْقى مرِيدا لما أَمر الله بِهِ وَرَسُوله كَمَا لَا يُرِيد كثيرا مِمَّا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله.

وَهَؤُلَاء ضالون عَن مقصودهم فَإِن مقصودهم إِنَّمَا هُوَ فِي طَاعَة الله وَرَسُوله وَلِهَذَا كَانُوا ملعونين: أَي بعيدين عَن الرَّحْمَة الَّتِي تنَال بِطَاعَة الله عز وجل.

و" الْعَالم الْفَاجِر " يشبه الْيَهُود. و " العابد الْجَاهِل " يشبه النَّصَارَى. وَمن أهل الْعلم من فِيهِ شَيْء من الأول وَمن أهل الْعِبَادَة من فِيهِ شَيْء من الثَّانِي. وَهَذَا الْموضع تفرق فِيهِ بَنو آدم وتباينوا تباينا عَظِيما لَا يُحِيط بِهِ إِلَّا الله. ففيهم من لم يخلق الله خلقا أكْرم عَلَيْهِ مِنْهُ وَهُوَ خير الْبَريَّة. وَمِنْهُم من هُوَ شَرّ الْبَريَّة.

ص: 128

وَأفضل الْأَحْوَال فِيهِ حَال الخليلين: إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد - صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم - وَمُحَمّد سيد ولد آدم وَأفضل الْأَوَّلين والآخرين، وَخَاتم النَّبِيين وإمامهم إِذا اجْتَمعُوا، وخطيبهم إِذا وفدوا وَهُوَ المعروج بِهِ إِلَى مَا فَوق الْأَنْبِيَاء كلهم - إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَغَيرهمَا.

وَأفضل الْأَنْبِيَاء بعده " إِبْرَاهِيم " كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {أَن إِبْرَاهِيم خير الْبَريَّة} ".

وَقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن جَابر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه كَانَ يَقُول فِي خطْبَة يَوْم الْجُمُعَة: " {خير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم} ". وَكَذَلِكَ كَانَ عبد الله بن مَسْعُود يخْطب بذلك يَوْم الْخَمِيس كَمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه.

ص: 129

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَت: " {مَا ضرب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خَادِمًا لَهُ وَلَا امْرَأَة وَلَا دَابَّة وَلَا شَيْئا قطّ إِلَّا أَن يُجَاهد فِي سَبِيل الله وَمَا نيل مِنْهُ قطّ شَيْء فانتقم لنَفسِهِ إِلَّا أَن تنتهك محارم الله فَإِذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شَيْء حَتَّى ينْتَقم لله} ".

{وَقَالَ أنس: خدمت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عشر سِنِين فَمَا قَالَ لي: أُفٍّ قطّ وَمَا قَالَ لي لشَيْء فعلته لم فعلته؟ وَلَا لشَيْء لم أَفعلهُ لم لَا فعلته؟ وَكَانَ بعض أَهله إِذا عتبني على شَيْء قَالَ: دَعوه فَلَو قضي شَيْء لَكَانَ} ".

وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ أفضل الْخَلَائق وَسيد ولد آدم وَله الْوَسِيلَة فِي المقامات كلهَا وَلم يكن حَاله أَنه لَا يُرِيد شَيْئا وَلَا أَنه يُرِيد كل وَاقع كَمَا أَنه لم يكن حَاله أَنه يتبع الْهوى بل هُوَ منزه عَن هَذَا وَهَذَا.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} ،

ص: 130

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ} وَقَالَ: {وَإِن كُنْتُم فِي ريب مِمَّا نزلنَا على عَبدنَا} وَقَالَ: {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} . وَالْمرَاد بِعَبْدِهِ عابده الْمُطِيع لأَمره؛ وَإِلَّا فَجَمِيع المخلوقين عباد بِمَعْنى أَنهم معبدون مخلوقون مدبرون.

وَقد قَالَ الله تَعَالَى لنَبيه: {واعبد رَبك حَتَّى يَأْتِيك الْيَقِين} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ لم يَجْعَل الله لعمل الْمُؤمن أَََجَلًا دون الْمَوْت.

وَقد قَالَ الله تَعَالَى لَهُ: {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} قَالَ ابْن عَبَّاس وَمن وَافقه كَابْن عُيَيْنَة وَأحمد بن حَنْبَل: على دين عَظِيم. و " الدَّين " فعل مَا أَمر بِهِ.

ص: 131

وَقَالَت عَائِشَة: {كَانَ خلقه الْقُرْآن} " رَوَاهُ مُسلم. وَقد أخْبرت أَنه لم يكن يُعَاقب لنَفسِهِ وَلَا ينْتَقم لنَفسِهِ لَكِن يُعَاقب لله وينتقم لله وَكَذَلِكَ أخبر أنس أَنه كَانَ يعْفُو عَن حظوظه.

وَأما حُدُود الله فقد قَالَ: " {وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أَن فَاطِمَة بنت مُحَمَّد سرقت لَقطعت يَدهَا} " أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.

وَهَذَا هُوَ كَمَال الْإِرَادَة؛ فَإِنَّهُ أَرَادَ مَا يُحِبهُ الله ويرضاه من الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وَأمر بذلك وَكره مَا يبغضه الله من الْكفْر والفسوق والعصيان وَنهى عَن ذَلِك كَمَا وَصفه الله تَعَالَى بقوله: {ورحمتي وسعت كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَالَّذين هم بِآيَاتِنَا يُؤمنُونَ} {الَّذين يتبعُون الرَّسُول النَّبِي الْأُمِّي الَّذِي يجدونه مَكْتُوبًا عِنْدهم فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل يَأْمُرهُم

ص: 132

بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث وَيَضَع عَنْهُم إصرهم والأغلال الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم فَالَّذِينَ آمنُوا بِهِ وعزروه ونصروه وَاتبعُوا النُّور الَّذِي أنزل مَعَه أُولَئِكَ هم المفلحون} .

وَأما لحظ نَفسه فَلم يكن يُعَاقب وَلَا ينْتَقم بل يَسْتَوْفِي حق ربه، وَيَعْفُو عَن حَظّ نَفسه وَفِي حَظّ نَفسه ينظر إِلَى الْقدر. فَيَقُول:" {لَو قضي شَيْء لَكَانَ} " وَفِي حق الله يقوم بِالْأَمر فيفعل مَا أَمر الله بِهِ ويجاهد فِي سَبِيل الله أكمل الْجِهَاد الْمُمكن فجاهدهم أَولا بِلِسَانِهِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي أنزل عَلَيْهِ.

كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَو شِئْنَا لبعثنا فِي كل قَرْيَة نذيرا} {فَلَا تُطِع الْكَافرين وجاهدهم بِهِ جهادا كَبِيرا} . ثمَّ لما هَاجر إِلَى الْمَدِينَة وَأذن لَهُ فِي الْقِتَال جاهدهم بِيَدِهِ.

وَهَذَا مُطَابق لما أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة وَهُوَ مَعْرُوف أَيْضا من حَدِيث عمر بن الْخطاب عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث احتجاج آدم ومُوسَى،

ص: 133

لما لَام مُوسَى آدم لكَونه أخرج نَفسه وَذريته من الْجنَّة بالذنب الَّذِي فعله فَأَجَابَهُ آدم بِأَن هَذَا كَانَ مَكْتُوبًا عَليّ قبل أَن أخلق بِمدَّة طَوِيلَة قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {فحج آدم مُوسَى} ".

وَذَلِكَ لِأَن ملام مُوسَى لآدَم لم يكن لحق الله وَإِنَّمَا كَانَ لما لحقه وَغَيره من الْآدَمِيّين من الْمُصِيبَة بِسَبَب ذَلِك الْفِعْل فَذكر لَهُ آدم أَن هَذَا كَانَ أمرا مُقَدرا لَا بُد من كَونه والمصائب الَّتِي تصيب الْعباد يؤمرون فِيهَا بِالصبرِ؛ فَإِن هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْفَعهُمْ. وَأما لومهم لمن كَانَ سَببا فِيهَا فَلَا فَائِدَة لَهُم فِي ذَلِك وَكَذَلِكَ مَا فاتهم من الْأُمُور الَّتِي تنفعهم يؤمرون فِي ذَلِك بِالنّظرِ إِلَى الْقدر وَأما التأسف والحزن فَلَا فَائِدَة فِيهِ فَمَا جرى بِهِ الْقدر من فَوت مَنْفَعَة لَهُم أَو حُصُول مضرَّة لَهُم فلينظروا فِي ذَلِك إِلَى الْقدر وَأما مَا كَانَ بِسَبَب أَعْمَالهم فليجتهدوا فِي التَّوْبَة من الْمَاضِي والإصلاح فِي الْمُسْتَقْبل. فَإِن هَذَا الْأَمر يَنْفَعهُمْ وَهُوَ مَقْدُور لَهُم بمعونة الله لَهُم.

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: " {الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز. وَإِن أَصَابَك شَيْء فَلَا تقل: لَو أَنِّي فعلت لَكَانَ كَذَا

ص: 134

وَكَذَا؛ وَلَكِن قل: قدر الله وَمَا شَاءَ فعل؛ فَإِن لَو تفتح عمل الشَّيْطَان} ".

أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بحرص العَبْد على مَا يَنْفَعهُ والاستعانة بِاللَّه وَنَهَاهُ عَن الْعَجز وأنفع مَا للْعَبد طَاعَة الله وَرَسُوله وَهِي عبَادَة الله تَعَالَى. وَهَذَانِ الأصلان هما حَقِيقَة قَوْله تَعَالَى {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} وَنَهَاهُ عَن الْعَجز وَهُوَ الإضاعة والتفريط والتواني. كَمَا قَالَ فِي الحَدِيث الآخر: " {الْكيس من دَان نَفسه وَعمل لما بعد الْمَوْت وَالْعَاجِز من أتبع نَفسه هَواهَا وَتمنى على الله الْأَمَانِي} " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ.

وَفِي سنَن أبي دَاوُد: " {أَن رجلَيْنِ تحاكما إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقضى على أَحدهمَا. فَقَالَ الْمقْضِي عَلَيْهِ: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الله يلوم على الْعَجز وَلَكِن عَلَيْك بالكيس فَإِذا غلبك أَمر فَقل: حسبي الله وَنعم الْوَكِيل} " فالكيس ضد الْعَجز. وَفِي الحَدِيث: " {كل شَيْء بِقدر حَتَّى الْعَجز والكيس} " رَوَاهُ مُسلم.

ص: 135

وَلَيْسَ المُرَاد بِالْعَجزِ فِي كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا يضاد الْقُدْرَة؛ فَإِن من لَا قدرَة لَهُ بِحَال لَا يلام وَلَا يُؤمر بِمَا لَا يقدر عَلَيْهِ بِحَال. ثمَّ لما أمره بِالِاجْتِهَادِ والاستعانة بِاللَّه وَنَهَاهُ عَن الْعَجز أمره إِذا غَلبه أَمر أَن ينظر إِلَى الْقدر، وَيَقُول: قدر الله وَمَا شَاءَ فعل وَلَا يتحسر ويتلهف ويحزن. وَيَقُول: لَو أَنِّي فعلت كَذَا وَكَذَا لَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَإِن لَو تفتح عمل الشَّيْطَان.

وَقد قَالَ بعض النَّاس فِي هَذَا الْمَعْنى: الْأَمر أَمْرَانِ: أَمر فِيهِ حِيلَة وَأمر لَا حِيلَة فِيهِ. فَمَا فِيهِ حِيلَة لَا تعجز عَنهُ وَمَا لَا حِيلَة فِيهِ لَا تجزع مِنْهُ. وَهَذَا هُوَ الَّذِي يذكرهُ أَئِمَّة الدَّين. كَمَا ذكر (الشَّيْخ عبد الْقَادِر وَغَيره. فَإِنَّهُ لَا بُد من فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور وَالرِّضَا أَو الصَّبْر على الْمَقْدُور.

وَقد قَالَ تَعَالَى حِكَايَة عَن يُوسُف: {أَنا يُوسُف وَهَذَا أخي قد من الله علينا إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} " فالتقوى " تَتَضَمَّن فعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور. و " الصَّبْر " يتَضَمَّن الصَّبْر على الْمَقْدُور.

وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا بطانة من دونكم لَا يألونكم خبالا} - إِلَى قَوْله - {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا}

ص: 136

فَبين سُبْحَانَهُ أَنه مَعَ التَّقْوَى وَالصَّبْر لَا يضر الْمُؤمنِينَ كيد أعدائهم الْمُنَافِقين.

وَقَالَ تَعَالَى: {بلَى إِن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هَذَا يمددكم ربكُم بِخَمْسَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مسومين} فَبين أَنه مَعَ الصَّبْر وَالتَّقوى يمدهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ. وَيَنْصُرهُمْ على أعدائهم الَّذين يقاتلونهم.

وَقَالَ تَعَالَى: {لتبلون فِي أَمْوَالكُم وَأَنْفُسكُمْ ولتسمعن من الَّذين أُوتُوا الْكتاب من قبلكُمْ وَمن الَّذين أشركوا أَذَى كثيرا وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} فَأخْبرهُم أَن أعداءهم من الْمُشْركين، وَأهل الْكتاب لَا بُد أَن يؤذوهم بألسنتهم وَأخْبر أَنهم إِن يصبروا ويتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور. فالصبر وَالتَّقوى يدْفع شَرّ الْعَدو الْمظهر للعداوة المؤذين بألسنتهم والمؤذين بِأَيْدِيهِم وَشر الْعَدو المبطن للعداوة. وهم المُنَافِقُونَ.

وَهَذَا الَّذِي كَانَ خلق النَّبِي صلى الله عليه وسلم وهديه هُوَ أكمل الْأُمُور. فَأَما من أَرَادَ مَا يُحِبهُ الله تَارَة وَمَا لَا يُحِبهُ تَارَة أَو لم يرد لَا هَذَا وَلَا هَذَا فكلاهما دون خلق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِن لم يكن على وَاحِد مِنْهُمَا إِثْم كَالَّذي يُرِيد مَا أُبِيح لَهُ من نيل الشَّهْوَة الْمُبَاحَة وَالْغَضَب والانتقام الْمُبَاح كَمَا هُوَ خلق بعض الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فَهُوَ وَإِن كَانَ جَائِزا لَا إِثْم فِيهِ فخلق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أكمل مِنْهُ.

وَكَذَلِكَ من لم يرد الشَّهَوَات الْمُبَاحَة وَإِن كَانَ

ص: 137

يستعان بهَا على أَمر مُسْتَحبّ وَلم يرد أَن يغْضب وينتقم ويجاهد إِذا جَازَ الْعَفو وَإِن كَانَ الانتقام لله أرْضى لله. كَمَا هُوَ أَيْضا خلق بعض الْأَنْبِيَاء وَالصَّالِحِينَ فَهَذَا وَإِن كَانَ جَائِزا لَا إِثْم فِيهِ فخلق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أكمل مِنْهُ.

وَهَذَا وَالَّذِي قبله إِذا كَانَ شَرِيعَة لنَبِيّ فَلَا عيب على نَبِي فِيمَا شرع الله لَهُ. لَكِن قد فضل الله بعض النَّبِيين على بعض، وَفضل بعض الرُّسُل على بعض.

والشريعة الَّتِي بُعث بهَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أفضل الشَّرَائِع؛ إِذْ كَانَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أفضل الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وَأمته خير أمة أخرجت للنَّاس.

قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فِي قَوْله تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس} كُنْتُم خير النَّاس للنَّاس تأتون بهم فِي الأقياد والسلاسل حَتَّى تدخلوهم الْجنَّة. يبذلون أَمْوَالهم وأنفسهم فِي الْجِهَاد لنفع النَّاس فهم خير الْأُمَم لِلْخلقِ.

والخلق عِيَال الله فأحبهم إِلَى الله أنفعهم لِعِيَالِهِ، وَأما غير الْأَنْبِيَاء فَمنهمْ من يكون ذَلِك شرعة لاتباعه لذَلِك النَّبِي وَأما من كَانَ من أهل شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ومنهاجه فَإِن كَانَ مَا تَركه وَاجِبا عَلَيْهِ وَمَا فعله محرما عَلَيْهِ كَانَ مُسْتَحقّا للذم وَالْعِقَاب إِلَّا أَن يكون متأولا مخطئا فَالله قد وضع عَن هَذِه الْأمة الْخَطَأ وَالنِّسْيَان، وذنب أحدهم قد يعْفُو الله عَنهُ بِأَسْبَاب مُتعَدِّدَة.

ص: 138

وَمن أَسبَاب هَذَا الانحراف أَن من النَّاس من تغلب عَلَيْهِ " طَريقَة الزّهْد " فِي إِرَادَة نَفسه فيزهد فِي مُوجب الشَّهْوَة وَالْغَضَب كَمَا يفعل ذَلِك من يَفْعَله من عباد الْمُشْركين وَأهل الْكتاب كالرهبان وأشباههم وَهَؤُلَاء يرَوْنَ الْجِهَاد نقصا لما فِيهِ من قتل النُّفُوس وَسبي الذُّرِّيَّة وَأخذ الْأَمْوَال ويرون أَن الله لم يَجْعَل عمَارَة بَيت الْمُقَدّس على يَد دَاوُد لِأَنَّهُ جرى على يَدَيْهِ سفك الدِّمَاء. وَمِنْهُم من لَا يرى ذبح شَيْء من الْحَيَوَان كَمَا عَلَيْهِ البراهمة وَمِنْهُم من لَا يحرم ذَلِك لكنه هُوَ يتَقرَّب إِلَى الله بِأَنَّهُ لَا يذبح حَيَوَانا وَلَا يَأْكُل لَحْمه بل وَلَا ينْكح النِّسَاء وَيَقُول فِي ممادحه: فلَان مَا نكح وَلَا ذبح.

وَقد أنكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم على هَؤُلَاءِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس: " {أَن نَفرا من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَأَلُوا أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن عمله فِي السِّرّ فَقَالَ بَعضهم: لَا أَتزوّج النِّسَاء، وَقَالَ بَعضهم: لَا آكل اللَّحْم، وَقَالَ بَعضهم: لَا أَنَام على فرَاش. فَبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ: مَا بَال أَقوام قَالُوا: كَذَا وَكَذَا لكني أُصَلِّي وأنام وَأَصُوم وَأفْطر وأتزوج النِّسَاء وآكل اللَّحْم فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني} ".

وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تحرموا طَيّبَات مَا أحل الله

ص: 139

لكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} نزلت فِي عُثْمَان بن مَظْعُون وَطَائِفَة مَعَه كَانُوا قد عزموا على التبتل وَنَوع من الترهب.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ {عَن سعد قَالَ رد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على عُثْمَان بن مَظْعُون التبتل وَلَو أذن لَهُ لاختصينا} .

و" الزّهْد " النافع الْمَشْرُوع الَّذِي يُحِبهُ الله وَرَسُوله هُوَ الزّهْد فِيمَا لَا ينفع فِي الْآخِرَة فَأَما مَا ينفع فِي الْآخِرَة وَمَا يستعان بِهِ على ذَلِك فالزهد فِيهِ زهد فِي نوع من عبَادَة الله وطاعته والزهد إِنَّمَا يُرَاد لِأَنَّهُ زهد فِيمَا يضر أَو زهد فِيمَا لَا ينفع فَأَما الزّهْد فِي النافع فجهل وضلال كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {احرص على مَا ينفعك واستعن بِاللَّه وَلَا تعجز} ".

والنافع للْعَبد هُوَ عبَادَة الله وطاعته وَطَاعَة رَسُوله وَكلما صده عَن ذَلِك فَإِنَّهُ ضار لَا نَافِع ثمَّ الأنفع لَهُ أَن تكون كل أَعماله عبَادَة لله وَطَاعَة لَهُ وَإِن أدّى الْفَرَائِض وَفعل مُبَاحا لَا يُعينهُ على الطَّاعَة فقد فعل مَا يَنْفَعهُ وَمَا لَا يَنْفَعهُ وَلَا يضرّهُ.

ص: 140

وَكَذَلِكَ " الْوَرع " الْمَشْرُوع هُوَ الْوَرع عَمَّا قد تخَاف عاقبته وَهُوَ مَا يعلم تَحْرِيمه وَمَا يشك فِي تَحْرِيمه وَلَيْسَ فِي تَركه مفْسدَة أعظم من فعله - مثل فعل محرم يتَعَيَّن - مثل من يتْرك أَخذ الشُّبْهَة ورعا مَعَ حَاجته إِلَيْهَا وَيَأْخُذ بدل ذَلِك محرما بَينا تَحْرِيمه أَو يتْرك وَاجِبا تَركه أعظم فَسَادًا من فعله مَعَ الشُّبْهَة كمن يكون على أَبِيه أَو عَلَيْهِ دُيُون هُوَ مطَالب بهَا وَلَيْسَ لَهُ وَفَاء إِلَّا من مَال فِيهِ شُبْهَة فيتورع عَنْهَا ويدع ذمَّته أَو ذمَّة أَبِيه مرتهنة.

وَكَذَلِكَ من " الْوَرع " الِاحْتِيَاط بِفعل مَا يشك فِي وُجُوبه لَكِن على هَذَا الْوَجْه. وَتَمام " الْوَرع " أَن يعم الْإِنْسَان خير الخيرين وَشر الشرين، وَيعلم أَن الشَّرِيعَة مبناها على تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها وَإِلَّا فَمن لم يوازن مَا فِي الْفِعْل وَالتّرْك من الْمصلحَة الشَّرْعِيَّة والمفسدة الشَّرْعِيَّة فقد يدع وَاجِبَات وَيفْعل مُحرمَات. وَيرى ذَلِك من الْوَرع كمن يدع الْجِهَاد مَعَ الْأُمَرَاء الظلمَة وَيرى ذَلِك ورعا ويدع الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة خلف الْأَئِمَّة الَّذين فيهم بِدعَة أَو فجور وَيرى ذَلِك من الْوَرع وَيمْتَنع عَن قبُول شَهَادَة الصَّادِق وَأخذ علم الْعَالم لما فِي صَاحبه من بِدعَة خُفْيَة وَيرى ترك قبُول سَماع هَذَا الْحق الَّذِي يجب سَمَاعه من الْوَرع.

وَكَذَلِكَ " الزّهْد وَالرَّغْبَة " من لم يراع مَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله من الرَّغْبَة والزهد وَمَا يكرههُ من ذَلِك؛ وَإِلَّا فقد يدع وَاجِبَات وَيفْعل مُحرمَات مثل من يدع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْأكل أَو أكل الدسم حَتَّى يفْسد عقله أَو تضعف قوته عَمَّا

ص: 141

يجب عَلَيْهِ من حُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق عباده أَو يدع الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله لما فِي فعل ذَلِك من أَذَى بعض النَّاس والانتقام مِنْهُم حَتَّى يستولي الْكفَّار والفجار على الصَّالِحين الْأَبْرَار فَلَا ينظر الْمصلحَة الراجحة فِي ذَلِك.

وَقد قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن الشَّهْر الْحَرَام قتال فِيهِ قل قتال فِيهِ كَبِير وَصد عَن سَبِيل الله وَكفر بِهِ وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَإِخْرَاج أَهله مِنْهُ أكبر عِنْد الله والفتنة أكبر من الْقَتْل} . يَقُول سبحانه وتعالى: وَإِن كَانَ قتل النُّفُوس فِيهِ شَرّ فالفتنة الْحَاصِلَة بالْكفْر، وَظُهُور أَهله أعظم من ذَلِك فَيدْفَع أعظم الفسادين بِالْتِزَام أدناهما.

وَكَذَلِكَ الَّذِي يدع ذبح الْحَيَوَان أَو يرى أَن فِي ذبحه ظلما لَهُ هُوَ جَاهِل فَإِن هَذَا الْحَيَوَان لَا بُد أَن يَمُوت فَإِذا قتل لمَنْفَعَة الْآدَمِيّين وحاجتهم كَانَ خيرا من أَن يَمُوت موتا لَا ينْتَفع بِهِ أحد والآدمي أكمل مِنْهُ وَلَا تتمّ مصْلحَته إِلَّا بِاسْتِعْمَال الْحَيَوَان فِي الْأكل وَالرُّكُوب وَنَحْو ذَلِك؛ لَكِن مَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ من تعذيبه نهى الله عَنهُ كصبر الْبَهَائِم وذبحها فِي غير الْحلق واللبة مَعَ الْقُدْرَة على ذَلِك وَأوجب الله الْإِحْسَان بِحَسب الْإِمْكَان فِيمَا أَبَاحَهُ من الْقَتْل وَالذّبْح. كَمَا فِي صَحِيح مُسلم عَن شَدَّاد بن أَوْس عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: " {إِن الله كتب

ص: 142

الْإِحْسَان على كل شَيْء: فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة وَإِذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد أحدكُم شفرته وليرح ذَبِيحَته} ".

وَهَؤُلَاء الَّذين زهدوا فِي " الإرادات " حَتَّى فِيمَا يُحِبهُ الله وَرَسُوله من الإرادات بإزائهم " طَائِفَتَانِ ": (طَائِفَة رغبت فِيمَا كره الله وَرَسُوله والرَّغْبَة فِيهِ من الْكفْر والفسوق والعصيان) . و (طَائِفَة رغبت فِيمَا أَمر الله وَرَسُوله لَكِن لهوى أنفسهم لَا لعبادة الله تَعَالَى) وَهَؤُلَاء الَّذين يأْتونَ بصور الطَّاعَات مَعَ فَسَاد النيات كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {أَنه قيل لَهُ: يَا رَسُول الله الرجل يُقَاتل شجاعة وَيُقَاتل حمية وَيُقَاتل رِيَاء فَأَي ذَلِك فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ: من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله} ".

قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الْمُنَافِقين يخادعون الله وَهُوَ خادعهم وَإِذا قَامُوا إِلَى الصَّلَاة قَامُوا كسَالَى يراءون النَّاس وَلَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا} وَهَؤُلَاء أهل إرادات فَاسِدَة مذمومة فهم مَعَ تَركهم الْوَاجِب

ص: 143