المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تعليق ابن تيمية: - جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌الْمَجْمُوعَة الثَّانِيَة

- ‌الرسَالَة الأولىرِسَالَة فِي الصِّفَات الاختيارية

- ‌فصل

- ‌مقَالَة الْجَهْمِية والمعتزلة:

- ‌مقَالَة الْكلابِيَّة والسالمية:

- ‌مقَالَة السّلف وَأهل السّنة:

- ‌صفة الْكَلَام:

- ‌مقَالَة الْجَهْمِية والمعتزلة فِي صفة الْكَلَام:

- ‌مقَالَة الْكلابِيَّة والسالمية فِيهَا:

- ‌مقَالَة الرَّازِيّ:

- ‌مقَالَة الْآمِدِيّ:

- ‌مقَالَة الْجُوَيْنِيّ:

- ‌الْآيَات الدَّالَّة على صفة الْكَلَام:

- ‌فَصِل

- ‌صفة الْإِرَادَة:

- ‌صفتا الْمحبَّة وَالرِّضَا:

- ‌فصل

- ‌صفتا السّمع وَالْبَصَر:

- ‌أَفعَال الرب الاختيارية:

- ‌فصل

- ‌الْأَدِلَّة على هَذَا الأَصْل من السّنة:

- ‌فصل

- ‌مَوَاقِف النفاة من مَسْأَلَة الصِّفَات وَالرَّدّ عَلَيْهِم:

- ‌الرَّد على حجَّة للنفاة من وُجُوه:

- ‌الأول:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِث:

- ‌الرَّابِع:

- ‌الْخَامِس:

- ‌السَّادِس:

- ‌فصل

- ‌فَسَاد حجج النفاة لحلول الْحَوَادِث:

- ‌الْحجَّة الأولى:

- ‌فَسَاد هَذِه الْحجَّة:

- ‌الْحجَّة الثَّانِيَة:

- ‌بطلَان هَذِه الْحجَّة من وُجُوه:

- ‌الْوَجْه الأول:

- ‌الْوَجْه الثَّانِي:

- ‌الْوَجْه الثَّالِث:

- ‌الْوَجْه الرَّابِع:

- ‌الْحجَّة الثَّالِثَة:

- ‌إِثْبَات بطلَان هَذِه الْحجَّة:

- ‌الْمَعْنى الصَّحِيح للتغير:

- ‌الْحجَّة الرَّابِعَة:

- ‌الرَّد عَلَيْهَا:

- ‌الرسَالَة الثَّانِيَةشرح كَلِمَات من "فتوح الْغَيْب

- ‌قَالَ الجيلاني: لابد لكل مُؤمن من أَمر يمتثله وَنهي يجتنبه وَقدر يرضى بِهِ:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌الثَّلَاثَة ترجع إِلَى امْتِثَال الْأَمر:

- ‌حكم الْمُبَاحَات وأنواعها:

- ‌سلوك الْأَبْرَار وسلوك المقربين:

- ‌النَّاس فِي الْمُبَاحَات على ثَلَاثَة أَقسَام:

- ‌حكم الإلهام فِي الشَّرِيعَة:

- ‌الْمُؤمن وَالْقدر:

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌أَمر الجيلاني بالفناء عَن الْخلق والهوى والإرادة:

- ‌‌‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌كَلَام الجيلاني عَن عَلَامَات الفناء:

- ‌تَابع كَلَام الجيلاني:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌كَلَام آخر للجيلاني عَن عَلامَة فنَاء إِرَادَة العَبْد:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌فصل

- ‌تَابع كَلَام الجيلاني:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌فصل

- ‌تَابع كَلَام الجيلاني:

- ‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

- ‌فصل

- ‌الفلاسفة ضالون كافرون من وُجُوه:

- ‌الأول:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِث:

- ‌الرَّابِع:

- ‌الرسَالَة الثَّالِثَةقَاعِدَة فِي الْمحبَّة

- ‌الْحبّ والإرادة أصل كل فعل وحركة فِي الْعَالم والبغض وَالْكَرَاهَة أصل كل ترك فِيهِ

- ‌الْمحبَّة الَّتِي أَمر الله بهَا هِيَ عِبَادَته وَحده لَا شريك لَهُ

- ‌أهل الطَّبْع المتفلسفة لَا يشْهدُونَ الْحِكْمَة الغائية من الْمَخْلُوقَات

- ‌أهل الْكَلَام يُنكرُونَ طبائع الموجودات وَمَا فِيهَا من الْقوي والأسباب

- ‌الْمحبَّة والإرادة أصل كل دين

- ‌مَعَاني كلمة الدَّين

- ‌لَا بُد لكل طَائِفَة من بني آدم من دين يجمعهُمْ

- ‌الدَّين هُوَ التعاهد والتعاقد

- ‌الدَّين الْحق هُوَ طَاعَة الله وعبادته

- ‌كل دين سوي الْإِسْلَام بَاطِل

- ‌لَا بُد فِي كل دين من شَيْئَيْنِ العقيدة والشريعة أَو المعبود وَالْعِبَادَة

- ‌تنوع النَّاس فِي المعبود وَفِي الْعِبَادَة

- ‌ذمّ الله التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف فِي الْكتاب وَالسّنة

- ‌يَقُول بعض المتفلسفة إِن الْمَقْصُود بِالدّينِ مُجَرّد الْمصلحَة الدُّنْيَوِيَّة

- ‌فصل

- ‌الْحبّ أصل كل عمل والتصديق بالمحبة هُوَ أصل الْإِيمَان

- ‌تَأْوِيل طوائف من الْمُسلمين للمحبة تأويلات خاطئة

- ‌تنَازع النَّاس فِي لفظ الْعِشْق

- ‌منكرو لفظ الْعِشْق لَهُم من جِهَة اللَّفْظ مأخذان وَمن جِهَة الْمَعْنى مأخذان

- ‌المأخذ الأول من جِهَة اللَّفْظ

- ‌المأخذ الثَّانِي

- ‌المأخذ الْمَعْنَوِيّ قيل إِن الْعِشْق فَسَاد فِي الْحبّ والإرادة

- ‌وَقيل إِن الْعِشْق فَسَاد فِي الْإِدْرَاك والتخيل والمعرفة

- ‌فصل

- ‌كل محبَّة وبغضة يتبعهَا لَذَّة وألم

- ‌اللَّذَّات ثَلَاثَة أَجنَاس:

- ‌الأول: اللَّذَّة الحسية

- ‌الثَّانِي: اللَّذَّة الوهمية

- ‌الثَّالِث: اللَّذَّة الْعَقْلِيَّة

- ‌شرع الله من اللَّذَّات مَا فِيهِ صَلَاح حَال الْإِنْسَان وَجعل اللَّذَّة التَّامَّة فِي الْآخِرَة

- ‌غلط المتفلسفة وَمن اتبعهم فِي أَمر هَذِه اللَّذَّات

- ‌ضل النَّصَارَى كَذَلِك فِي أَمر اللَّذَّات

- ‌الْيَهُود أعلم لكِنهمْ غواة قساة

- ‌تَفْصِيل مقَالَة الفلاسفة فِي اللَّذَّة

- ‌فصل

- ‌حب الله أصل التَّوْحِيد العملي

- ‌أصل الْإِشْرَاك العملي بِاللَّه الْإِشْرَاك فِي الْمحبَّة

- ‌الْمُؤْمِنُونَ يحبونَ لله ويبغضون لله

- ‌محبَّة الله مستلزمة لمحبة مَا يُحِبهُ من الْوَاجِبَات

- ‌الذُّنُوب تنقص من محبَّة الله

- ‌مَرَاتِب الْعِشْق

- ‌ذكر الله الْعِشْق فِي الْقُرْآن عَن الْمُشْركين

- ‌المتولون للشَّيْطَان هم الَّذين يحبونَ مَا يُحِبهُ

- ‌عباد الله المخلصون لَيْسَ للشَّيْطَان عَلَيْهِم سُلْطَان

- ‌العشاق يتولون الشَّيْطَان ويشركون بِهِ

- ‌يُوقع الشَّيْطَان الْعَدَاوَة والبغضاء بَين الْمُؤمنِينَ بالعشق

- ‌أصل الْعِبَادَة الْمحبَّة والشرك فِيهَا أصل الشّرك

- ‌الْفِتْنَة جنس تَحْتَهُ أَنْوَاع من الشُّبُهَات والشهوات

- ‌فصل

- ‌محبَّة الله توجب المجاهدة فِي سَبيله

- ‌موادة عَدو الله تنَافِي الْمحبَّة

- ‌محبَّة الله وَرَسُوله على دَرَجَتَيْنِ: وَاجِبَة ومستحبة

- ‌الْمحبَّة الْوَاجِبَة وَهِي محبَّة الْمُقْتَصِدِينَ

- ‌الْمحبَّة المستحبة وَهِي محبَّة السَّابِقين

- ‌ترك الْجِهَاد لعدم الْمحبَّة التَّامَّة وَهُوَ دَلِيل النِّفَاق

- ‌انقسام النَّاس إِلَى أَرْبَعَة أَقسَام:

- ‌1- قوم لَهُم قدرَة وَإِرَادَة ومحبة غير مَأْمُور بهَا

- ‌2- قوم لَهُم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة كَامِلَة لله وقدرة كَامِلَة

- ‌3- قوم فيهم إِرَادَة صَالِحَة ومحبة قَوِيَّة لَكِن قدرتهم نَاقِصَة

- ‌4- من قدرته وإرادته للحق قَاصِرَة وَفِيه إِرَادَة للباطل

- ‌الْعِبَادَة تجمع كَمَال الْمحبَّة وَكَمَال الذل

- ‌من أحب شَيْئا كَمَا يحب الله أَو عظمه كَمَا يعظم الله فقد أشرك

- ‌الْإِنْسَان لَا يفعل الْحَرَام إِلَّا لضعف إيمَانه ومحبته

- ‌تَزْيِين الشَّيْطَان لكثير من النَّاس أنواعا من الْحَرَام ضاهوا بهَا الْحَلَال

- ‌موقف الْمُؤمن من الشرور والخيرات وَمَا يجب عَلَيْهِ حيالها

- ‌بَنو آدم لَا يُمكن عيشهم إِلَّا بالتعاقد والتحالف

- ‌التَّحَالُف يكون وفقا الشَّرِيعَة منزلَة أَو شَرِيعَة غير منزلَة أَو سياسة

- ‌الْمُسلمُونَ على شروطهم إِلَّا شرطا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالاوَلِهَذَا قَالَ النَّبِي

- ‌فصل

- ‌الْمَقْصُود الأول من كل عمل هُوَ التنعم واللذة

- ‌ النَّعيم التَّام هُوَ فِي الدَّين الْحق

- ‌من الْخَطَأ الظَّن بِأَن نعيم الدُّنْيَا لَا يكون إِلَّا لأهل الْكفْر والفجور

- ‌الْمُؤمن يطْلب نعيم الدُّنْيَا وَالنَّعِيم التَّام فِي الْآخِرَة

- ‌من الْخَطَأ الِاعْتِقَاد أَن الله ينصر الْكفَّار فِي الدُّنْيَا وَلَا ينصر الْمُؤمنِينَ

- ‌مَا سبق يتَبَيَّن بأصلين:

- ‌الأَصْل الأول: حُصُول النَّصْر وَغَيره من أنوع النَّعيم لَا يُنَافِي وُقُوع الْقَتْل أَو الْأَذَى

- ‌الأَصْل الثَّانِي: التنعم إِمَّا بالأمور الدُّنْيَوِيَّة وَإِمَّا بالأمور الدِّينِيَّة:

- ‌1- الدُّنْيَوِيَّة

- ‌2- الدِّينِيَّة

- ‌فصل

- ‌تنَازع النَّاس فِيمَا ينَال الْكَافِر فِي الدُّنْيَا من التنعم هَل هُوَ نعْمَة فِي حَقه أم لَا

- ‌رَأْي ابْن تَيْمِية

- ‌حَال الْإِنْسَان عِنْد السَّرَّاء وَالضَّرَّاء

- ‌حَال الْمُؤمن عِنْدهمَا

- ‌الْمُؤمن أرجح فِي النَّعيم واللذة من الْكَافِر فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة وَإِن كَانَت

- ‌لذات أهل الْبر أعظم من لذات أهل الْفُجُور

- ‌لما خَاضَ النَّاس فِي مسَائِل الْقدر ابتدع طوائف مِنْهُم مقالات مُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة:

- ‌بدع الْقَدَرِيَّة

- ‌بدع طَائِفَة من أهل الْإِثْبَات

- ‌الرَّد عَلَيْهِم

- ‌الْمقَالة الصَّحِيحَة لأهل السّنة وَالْجَمَاعَة

- ‌رفع الله الْحَرج عَن الْمُؤمنِينَ

- ‌الْإِيمَان وَالطَّاعَة خير من الْكفْر وَالْمَعْصِيَة للْعَبد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

- ‌معنى الْمَجِيء إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بعد مماته

- ‌على الْمُؤمن أَن يحب مَا أحب الله وَيبغض مَا أبغضه الله ويرضى بِمَا قدره الله

- ‌فصل

- ‌جَمِيع الحركات ناشئة عَن الْإِرَادَة وَالِاخْتِيَار

- ‌فصل

- ‌أصل الْمُوَالَاة الْحبّ وأصل المعاداة البغض

- ‌فصل

- ‌تَقْسِيم الْعلم إِلَى فعلي وانفعالي

- ‌علم الرب بِأَفْعَال عباده الصَّالِحَة والسيئة يسْتَلْزم حبه للحسنات وبغضه للسيئات

- ‌الْإِرَادَة والمحبة ينقسمان أَيْضا إِلَى فعليتين وانفعاليتين

- ‌الْحبّ يتبع الإحساس والإحساس يكون بموجود لَا بمعدوم

- ‌الْأُمُور الغائبة لَا تعرف وَلَا تحب وَتبْغض إِلَّا بِنَوْع من الْقيَاس والتمثيل

الفصل: ‌تعليق ابن تيمية:

‌تَعْلِيق ابْن تَيْمِية:

قلت: فقد بَين الشَّيْخ عبد الْقَادِر رضي الله عنه أَن لُزُوم الْأَمر وَالنَّهْي لَا بُد مِنْهُ فِي كل مقَام، وَذكر الْأَحْوَال الثَّلَاث الَّتِي جعلهَا: حَال صَاحب التَّقْوَى وَحَال الْحَقِيقَة، وَحَال حق الْحق وَقد فسر مَقْصُوده بِأَنَّهُ لَا بُد للْعَبد فِي كل حَال من أَن يُرِيد فعل مَا أَمر بِهِ فِي الشَّرْع، وَترك مَا نهي عَنهُ فِي الشَّرْع وَأَنه إِذا أَمر العَبْد بترك إِرَادَته فَهُوَ فِيمَا لم يُؤمر بِهِ وَلم ينْه عَنهُ وَهَذَا حق. فَإِنَّهُ لم يُؤمر بِهِ فَتكون لَهُ إِرَادَة فِي وجوده وَلَا نهي عَنهُ فَتكون لَهُ إِرَادَة فِي عَدمه فيخلو فِي مثل هَذَا عَن إِرَادَة النقيضين.

وَقد بَين أَن صَاحب الْحَقِيقَة عَلَيْهِ أَن يلْزم الْأَمر دَائِما الْأَمر الشَّرْعِيّ الظَّاهِر إِن عرفه أَو الْأَمر الْبَاطِن، وَبَين أَن الْأَمر الْبَاطِن إِنَّمَا يكون فِيمَا لَيْسَ بِوَاجِب فِي الشَّرْع وَلَا محرم وَأَن مثل هَذَا ينْتَظر فِيهِ الْأَمر الْخَاص حَتَّى يَفْعَله بِحكم الْأَمر.

فَإِن قلت: فَمَا الْفرق بَين هَذَا وَبَين صَاحب التَّقْوَى الَّذِي قبله؟ وَصَاحب الْحق الَّذِي بعده؟

قيل: أما الَّذِي بعده الَّذين سماهم " الأبدال " فهم الَّذين لَا يَفْعَلُونَ إِلَّا بِأَمْر الْحق، وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا بِهِ فَلَا يشْهدُونَ لأَنْفُسِهِمْ فعلا فِيمَا فَعَلُوهُ من الطَّاعَة؛ بل يشْهدُونَ أَنه هُوَ الْفَاعِل بهم مَا قَامَ بهم من طَاعَة أمره. وَلِهَذَا قَالَ:" فاتباع الْأَمر فِيهَا بمخالفتك إياك بالتبري من الْحول وَالْقُوَّة ".

ص: 159

فَهَؤُلَاءِ يشْهدُونَ تَوْحِيد الربوبية مَعَ تَوْحِيد الإلهية فَيَشْهَدُونَ أَن الله هُوَ الَّذِي خلق مَا قَامَ بهم من أَفعَال الْبر وَالْخَيْر فَلَا يرَوْنَ لأَنْفُسِهِمْ حمدا وَلَا منَّة على أحد، ويرون أَن الله خَالق أَفعَال الْعباد فَلَا يرَوْنَ أحدا مسيئا إِلَيْهِم وَلَا يرَوْنَ لَهُم حَقًا على أحد إِذْ قد شهدُوا أَن الله خَالق كل شَيْء من أَفعَال الْعباد وَغَيرهَا وهم يعلمُونَ أَن الْعباد لَا يسْتَحقُّونَ من أنفسهم وَلَا بِأَنْفسِهِم على الله شَيْئا بل هُوَ الَّذِي كتب على نَفسه الرَّحْمَة.

وَيشْهدُونَ أَنه يسْتَحق أَن يُعبد لَا يُشْرك بِهِ شَيْء، وَأَنه يسْتَحق أَن يتقى حق تُقَاته، وَحقّ تُقَاته أَن يطاع فَلَا يعْصى، وَيذكر فَلَا ينسى، ويشكر فَلَا يكفر فيرون أَن مَا قَامَ بهم من الْعَمَل الصَّالح فَهُوَ بفضله وجوده وَكَرمه لَهُ الْحَمد فِي ذَلِك.

وَيشْهدُونَ: أَنه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه. وَأما مَا قَامَ بالعباد من أذاهم فَالله خالقه وَهُوَ من عدله، وَمَا تَركه النَّاس من حُقُوقهم الَّتِي يستحقونها على النَّاس فَهُوَ الَّذِي لم يخلقه وَله الْحَمد على كل حَال على مَا فعل وَمَا لم يفعل.

وَلِهَذَا كَانُوا منكسرة قُلُوبهم؛ لشهودهم وجوده الْكَامِل، وعدمهم الْمَحْض، وَلَا أعظم انكسارا مِمَّن لم ير لنَفسِهِ إِلَّا الْعَدَم لَا يرى لَهُ شَيْئا وَلَا يرى بِهِ شَيْئا.

وَصَاحب الْحَقِيقَة الَّذِي هُوَ دون هَذَا قد شَاركهُ فِي إخلاص الدَّين لله وَأَنه لَا يفعل إِلَّا مَا أَمر بِهِ فَلَا يفعل إِلَّا لله لَكِن قصر عَنهُ فِي شُهُود

ص: 160

تَوْحِيد الربوبية ورؤيته وَأَنه لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأَنه لَيْسَ لَهُ فِي الْحَقِيقَة شَيْء. بل الرب هُوَ الْخَالِق الْفَاعِل لكل مَا قَامَ بِهِ وَأَن كَمَال هَذَا الشُّهُود لَا يبقي شَيْئا من الْعجب وَلَا الْكبر وَنَحْو ذَلِك.

فكلاهما قَائِم بِالْأَمر مُطِيع لله لَكِن هَذَا يشْهد أَن الله هُوَ الَّذِي جعله مُسلما مُصَليا وَأَنه فِي الْحَقِيقَة لم يحدث شَيْئا، وَذَاكَ وَإِن كَانَ يُؤمن بِهَذَا وَيصدق بِهِ إِذْ كَانَ مقرا بِأَن الله خَالق أَفعَال الْعباد؛ لَكِن قد لَا يشهده شُهُودًا يَجعله فِيهِ بِمَنْزِلَة الْمَعْدُوم.

وَأَيْضًا بَينهمَا فرق من جِهَة ثَانِيَة: وَهِي أَن الأول تكون لَهُ إِرَادَة وهمة فِي أُمُور فيتركها فَهُوَ يُمَيّز فِي مراداته بَين مَا يُؤمر بِهِ وَمَا ينْهَى عَنهُ وَمَا لَا يُؤمر بِهِ وَلَا ينْهَى عَنهُ؛ وَلِهَذَا لم يبْق لَهُ مُرَاد أصلا إِلَّا مَا أَرَادَهُ الرب إِمَّا أمرا بِهِ فيمتثله هُوَ بِاللَّه وَإِمَّا فعلا فِيهِ فيفعله الله بِهِ وَلِهَذَا شبهه بالطفل مَعَ الظِّئْر فِي غير الْأَمر وَالنَّهْي.

وَأما (الأول) : الَّذِي هُوَ فِي مقَام التَّقْوَى الْعَامَّة فَإِن لَهُ شهوات للمحرمات وَله الْتِفَات إِلَى الْخلق وَله رُؤْيَة نَفسه فَيحْتَاج إِلَى المجاهدة بالتقوى بِأَن يكف عَن

ص: 161

الْمُحرمَات وَعَن تنَاول الشَّهَوَات بِغَيْر الْأَمر فَهَذَا يحْتَاج أَن يُمَيّز بَين مَا يَفْعَله وَمَا لَا يَفْعَله وَهُوَ التَّقْوَى.

وَصَاحب الْحَقِيقَة لم يبْق لَهُ مَا يَفْعَله إِلَّا مَا يُؤمر بِهِ فَقَط فَلَا يفعل إِلَّا مَا أَمر بِهِ فِي الشَّرْع وَمَا كَانَ مُبَاحا لم يفعل إِلَّا مَا أَمر بِهِ بَاطِنا.

وَأما (الثَّالِث) : فقد تمّ شُهُوده فِي أَنه لَا يفعل إِلَّا لله وَبِاللَّهِ. فَلَا يفعل إِلَّا مَا أَمر الله بِهِ لله وَيشْهد أَن الله هُوَ الَّذِي فعل ذَاك فِي الْحَقِيقَة وَلَا تكون لَهُ همة إِرَادَة أَن يفعل لنَفسِهِ وَلَا لغير الله وَلَا يفعل بِنَفسِهِ وَلَا بِغَيْر الله.

و (الثَّلَاثَة) مشتركون فِي الطَّرِيق فِي أَن كلا مِنْهُم لَا يفعل إِلَّا الطَّاعَة لَكِن يتفاوتون بِكَمَال الْمعرفَة وَالشَّهَادَة وبصفاء النِّيَّة والإرادة. وَالله أعلم.

فَإِن قيل: كَلَام الشَّيْخ كُله يَدُور على أَنه يتبع الْأَمر مهما أمكن مَعْرفَته بَاطِنا وظاهرا وَمَا لَيْسَ فِيهِ أَمر بَاطِن وَلَا ظَاهر يكون فِيهِ مُسلما لفعل الرب بِحَيْثُ لَا يكون لَهُ اخْتِيَار لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا بل إِن عرف الْأَمر كَانَ مَعَه وَإِن لم يعرفهُ كَانَ مَعَ الْقدر فَهُوَ مَعَ أَمر الرب إِن عرف وَإِلَّا فَمَعَ خلقه،

ص: 162

فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخلق وَالْأَمر وَهَذَا يَقْتَضِي أَن من الْحَوَادِث مَا لَيْسَ فِيهِ أَمر وَلَا نهي فَلَا يكون لله فِيهِ حكم لَا باستحباب وَلَا كَرَاهَة.

وَقد صرح بذلك هُوَ وَالشَّيْخ حَمَّاد الدباس، وَإِن السالك يصل إِلَى أُمُور لَا يكون فِيهَا حكم شَرْعِي بِأَمْر وَلَا نهي بل يقف العَبْد مَعَ الْقدر.

وَهَذَا الْموضع هُوَ الَّذِي يكون السالك فِيهِ عِنْدهم مَعَ " الْحَقِيقَة الْقَدَرِيَّة " الْمَحْضَة إِذْ لَيْسَ هُنَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة.

وَهَذَا مِمَّا ينازعهم فِيهِ أهل الْعلم بالشريعة. وَيَقُولُونَ: إِن " الْفِعْل " إِمَّا أَن يكون بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّرْع وجوده راجحا على عَدمه وَهُوَ الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب. وَإِمَّا أَن يكون عَدمه راجحا على وجوده. وَهُوَ الْمحرم وَالْمَكْرُوه. وَإِمَّا أَن يَسْتَوِي

ص: 163

الْأَمْرَانِ وَهُوَ الْمُبَاح. وَهَذَا التَّقْسِيم بِحَسب الْأَمر الْمُطلق.

ثمَّ " الْفِعْل الْمعِين " الَّذِي يُقَال هُوَ مُبَاح إِمَّا أَن تكون مصْلحَته راجحة للْعَبد لاستعانته بِهِ على طَاعَة ولحسن نِيَّته فَهَذَا يصير أَيْضا محبوبا رَاجِح الْوُجُود بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِمَّا أَن يكون مفوتا للْعَبد مَا هُوَ أفضل لَهُ كالمباح الَّذِي يشْغلهُ عَن مُسْتَحبّ فَهَذَا عَدمه خير لَهُ.

والسالك المتقرب إِلَى الله بالنوافل بعد الْفَرَائِض لَا يكون الْمُبَاح الْمعِين فِي حَقه مستوي الطَّرفَيْنِ فَإِنَّهُ إِذا لم يستعن بِهِ على طَاعَة كَانَ تَركه وَفعل طَاعَة مَكَانَهُ خيرا لَهُ وَإِنَّمَا قدر وجوده وَعَدَمه سَوَاء إِذا كَانَ مَعَ عَدمه يشْتَغل بمباح مثله.

فَيُقَال: لَا فرق بَين هَذَا وَهَذَا، فَهَذَا يصلح للأبرار أهل الْيَمين الَّذين يَتَقَرَّبُون إِلَى الله بالفرائض: أَدَاء الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات، ويشتغلون مَعَ ذَلِك بمباحات. فَهَؤُلَاءِ قد يكون الْمُبَاح الْمعِين يَسْتَوِي وجوده وَعَدَمه فِي حَقهم إِذا كَانُوا عِنْد عَدمه يشتغلون بمباح آخر وَلَا سَبِيل إِلَى أَن تتْرك النَّفس فعلا إِن لم تشتغل بِفعل آخر يضاد الأول؛ إِذْ لَا تكون معطلة عَن جَمِيع الحركات والسكنات.

ص: 164

وَمن هُنَا أنكر الكعبي " الْمُبَاح " فِي الشَّرِيعَة لِأَن كل مُبَاح فَهُوَ يشْتَغل بِهِ عَن محرم، وَترك الْمحرم وَاجِب وَلَا يُمكنهُ تَركه إِلَّا أَن يشْتَغل بضده وَهَذَا الْمُبَاح ضِدّه، وَالْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، وَالنَّهْي عَنهُ أَمر بضده الْمعِين إِن لم يكن لَهُ إِلَّا ضد وَاحِد وَإِلَّا فَهُوَ أَمر بِأحد أضداده فَأَي ضد تلبس بِهِ كَانَ وَاجِبا من بَاب الْوَاجِب الْمُخَير.

وسؤال الكعبي هَذَا أشكل على كثير من النظار فَمنهمْ من اعْترف بِالْعَجزِ عَن جَوَابه: كَأبي الْحسن الْآمِدِيّ، وَقواهُ طَائِفَة بِنَاء على أَن النَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده كَأبي الْمَعَالِي.

وَمِنْهُم من قَالَ: هَذَا فِيمَا كَانَت أضداده محصورة فَأَما مَا لَيست أضداده محصورة فَلَا يكون النَّهْي عَنهُ أمرا بِأَحَدِهِمَا كَمَا يفرق بَين الْوَاجِب الْمُطلق، وَالْوَاجِب الْمُخَير. فَيُقَال فِي الْمُخَير: هُوَ أَمر بِأحد الثَّلَاثَة وَيُقَال فِي الْمُطلق هُوَ أَمر بِالْقدرِ الْمُشْتَرك. وجدي أَبُو البركات يمِيل إِلَى هَذَا.

ص: 165

وَقد ألزموا " الكعبي " إِذا ترك الْحَرَام بِحرَام آخر وَهُوَ قد يَقُول: عَلَيْهِ ترك الْمُحرمَات كلهَا إِلَى مَا لَيْسَ بِمحرم بل إِمَّا مُبَاح وَإِمَّا مُسْتَحبّ وَإِمَّا وَاجِب.

و" تَحْقِيق الْأَمر " أَن قَوْلنَا: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه. وأضداده وَالنَّهْي عَنهُ أَمر بضده أَو بِأحد أضداده من جنس قَوْلنَا: الْأَمر بالشَّيْء أَمر بلوازمه وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء نهي عَمَّا لَا يتم اجتنابه إِلَّا بِهِ. فَإِن وجود الْمَأْمُور بِهِ يسْتَلْزم وجود لوازمه وَانْتِفَاء أضداده، بل وجود كل شَيْء هُوَ كَذَلِك يسْتَلْزم وجوده وَانْتِفَاء أضداده وَعدم الْمنْهِي عَنهُ؛ بل وَعدم كل شَيْء يسْتَلْزم عدم ملزوماته وَإِذا كَانَ لَا يعْدم إِلَّا بضد يخلفه كالأكوان فَلَا بُد عِنْد عَدمه من وجود بعض أضداده.

فَهَذَا حق فِي نَفسه؛ لَكِن هَذِه اللوازم جَاءَت من ضَرُورَة الْوُجُود وَإِن لم تكن مَقْصُوده لِلْأَمْرِ. وَالْفرق ثَابت بَين مَا يُؤمر بِهِ قصدا مَا يلْزمه فِي الْوُجُود.

ص: 166

(فَالْأول) هُوَ الَّذِي يذم ويعاقب على تَركه بِخِلَاف (الثَّانِي) فَإِن من أَمر بِالْحَجِّ أَو الْجُمُعَة وَكَانَ مَكَانَهُ بَعيدا فَعَلَيهِ أَن يسْعَى من الْمَكَان الْبعيد، والقريب يسْعَى من الْمَكَان الْقَرِيب فَقطع تِلْكَ المسافات من لَوَازِم الْمَأْمُور بِهِ وَمَعَ هَذَا فَإِذا ترك هَذَانِ الْجُمُعَة وَالْحج لم تكن عُقُوبَة الْبعيد أعظم من عُقُوبَة الْقَرِيب بل ذَاك بِالْعَكْسِ أولى مَعَ أَن ثَوَاب الْبعيد أعظم فَلَو كَانَت اللوازم مَقْصُودَة لِلْأَمْرِ لَكَانَ يُعَاقب بِتَرْكِهَا فَكَأَن تكون عُقُوبَة الْبعيد أعظم وَهَذَا بَاطِل قطعا.

وَهَكَذَا إِذا فعل الْمَأْمُور بِهِ فَإِنَّهُ لَا بُد من ترك أضداده، لَكِن ترك الأضداد هُوَ من لَوَازِم فعل الْمَأْمُور بِهِ لَيْسَ مَقْصُودا لِلْأَمْرِ بِحَيْثُ إِنَّه إِذا ترك الْمَأْمُور بِهِ عُوقِبَ على تَركه لَا على فعل الأضداد الَّتِي اشْتغل بهَا وَكَذَلِكَ الْمنْهِي عَنهُ مَقْصُود الناهي عَدمه؛ لَيْسَ مَقْصُوده فعل شَيْء من أضداده وَإِذا تَركه متلبسا بضد لَهُ كَانَ ذَلِك من ضَرُورَة التّرْك.

وعَلى هَذَا إِذا ترك حَرَامًا بِحرَام آخر فَإِنَّهُ يُعَاقب على الثَّانِي وَلَا يُقَال فعل وَاجِبا وَهُوَ ترك الأول؛ لِأَن الْمَقْصُود عدم الأول، فالمباح الَّذِي اشْتغل بِهِ عَن محرم لم يُؤمر بِهِ وَلَا بأمثاله [كَانَ] أمرا مَقْصُودا؛ لَكِن نهي عَن الْحَرَام وَمن ضَرُورَة ترك الْمنْهِي عَنهُ الِاشْتِغَال بضد من أضداده فَذَاك يَقع

ص: 167

لَازِما لترك الْمنْهِي عَنهُ فَلَيْسَ هُوَ الْوَاجِب الْمَحْدُود بقولنَا " الْوَاجِب مَا يذم تَاركه ويعاقب تَاركه " أَو " يكون تَركه سَببا للذم وَالْعِقَاب ".

فقولنا: " مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب " أَو " يجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب " يتَضَمَّن إِيجَاب اللوازم. وَالْفرق ثَابت بَين الْوَاجِب " الأول " و " الثَّانِي ". فَإِن الأول يذم تَاركه ويعاقب، وَالثَّانِي وَاجِب وقوعا أَي لَا يحصل الأول إِلَّا بِهِ وَيُؤمر بِهِ أمرا بالوسائل ويثاب عَلَيْهِ لَكِن الْعقُوبَة لَيست على تَركه.

وَمن هَذَا الْبَاب إِذا اشتبهت الْميتَة بالمذكى فَإِن الْمحرم الَّذِي يُعَاقب على فعله أَحدهمَا بِحَيْثُ إِذا أكلهما جَمِيعًا لم يُعَاقب عُقُوبَة من أكل ميتتين بل عُقُوبَة من أكل ميتَة وَاحِدَة، وَالْأُخْرَى وَجب تَركهَا وجوب الْوَسَائِل.

فَقَوْل من قَالَ: كِلَاهُمَا محرم صَحِيح بِهَذَا الِاعْتِبَار؛ وَقَول من قَالَ: الْمحرم فِي نفس الْأَمر أَحدهمَا صَحِيح أَيْضا بذلك الِاعْتِبَار وَهَذَا نَظِير قَول من قَالَ: يجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب.

وإنكار أبي حَامِد الْغَزالِيّ وَأبي مُحَمَّد الْمَقْدِسِي على من قَالَ

ص: 168

هَذَا وَمن قَالَ الْمحرم أَحدهمَا لَا يُنَاسب طَريقَة الْفُقَهَاء، وَحَاصِله يرجع إِلَى " نزاع لَفْظِي ". فَإِن الْوُجُوب وَالْحُرْمَة الثَّابِتَة لأَحَدهمَا لَيست ثَابِتَة للْآخر بل هِيَ نوع آخر حَتَّى لَو اشتبهت مملوكته بأجنبية بِاللَّيْلِ وَوَطئهَا يعْتَقد حل وَطْء إِحْدَاهمَا وَتَحْرِيم وَطْء الْأُخْرَى كَانَ وَلَده من مملوكته ثَابتا نسبه بِخِلَاف الْأُخْرَى وَلَو قَدرنَا أَنه اشتبهت أُخْته بأجنبية وَتزَوج إِحْدَاهمَا فحد مثلا ثمَّ تزوج الْأُخْرَى لم يحد حَدَّيْنِ مَعَ أَنه لَا حد فِي ذَلِك لجَوَاز أَن تكون الْمَنْكُوحَة هِيَ الْأَجْنَبِيَّة.

وَبِهَذَا تنْحَل " شُبْهَة الكعبي ". فَإِن الْمحرم تَركه مَقْصُود، وَأما الِاشْتِغَال بضد من أضداده فَهُوَ وَسِيلَة.

فَإِذا قيل: الْمُبَاح وَاجِب بِمَعْنى وجوب الْوَسَائِل أَي قد يتوسل بِهِ إِلَى فعل وَاجِب وَترك محرم فَهَذَا حق.

ثمَّ إِن هَذَا يعْتَبر فِيهِ الْقَصْد؛ فَإِن كَانَ الْإِنْسَان يقْصد أَن يشْتَغل بالمباح ليترك الْمحرم مثل من يشْتَغل بِالنّظرِ إِلَى امْرَأَته وَوَطئهَا ليَدع بذلك النّظر إِلَى

ص: 169

الْأَجْنَبِيَّة وَوَطئهَا أَو يَأْكُل طَعَاما حَلَالا ليشتغل بِهِ عَن الطَّعَام الْحَرَام فَهَذَا يُثَاب على هَذِه النِّيَّة وَالْفِعْل.

كَمَا بَين ذَلِك النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقوله: " {وَفِي بضع أحدكُم صَدَقَة. قَالُوا: يَا رَسُول الله؛ أَيَأتِي أَحَدنَا شَهْوَته وَيكون لَهُ أجر قَالَ: أَرَأَيْتُم لَو وَضعهَا فِي حرَام أما كَانَ عَلَيْهِ وزر؟ قَالُوا: بلَى. قَالَ: فَلم تعتدّون بالحرام وَلَا تعتدّون بالحلال؟} ".

وَمِنْه قَوْله صلى الله عليه وسلم " {إِن الله يحب أَن تُؤْخَذ بِرُخصِهِ كَمَا يكره أَن تُؤْتى مَعْصِيَته} " رَوَاهُ أَحْمد وَابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه.

وَقد يُقَال: الْمُبَاح يصير وَاجِبا بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِن تعين طَرِيقا صَار وَاجِبا معينا وَإِلَّا كَانَ وَاجِبا مُخَيّرا لَكِن مَعَ هَذَا الْقَصْد وَأما مَعَ الذهول عَن ذَلِك فَلَا يكون وَاجِبا أصلا إِلَّا وجوب الْوَسَائِل إِلَى التّرْك.

ص: 170

وَترك الْمحرم لَا يشْتَرط فِيهِ الْقَصْد. فَكَذَلِك مَا يتوسل بِهِ إِلَيْهِ فَإِذا قيل هُوَ مُبَاح من جِهَة نَفسه وَأَنه قد يجب وجوب المخيرات من جِهَة الْوَسِيلَة لم يمْنَع ذَلِك. فالنزاع فِي هَذَا الْبَاب نزاع لَفْظِي اعتباري. وَإِلَّا فالمعاني الصَّحِيحَة لَا يُنَازع فِيهَا من فهمها.

و (الْمَقْصُود هُنَا) : أَن الْأَبْرَار وَأَصْحَاب الْيَمين قد يشتغلون عَن مُبَاح بمباح آخر فَيكون كل من المباحين يَسْتَوِي وجوده وَعَدَمه فِي حَقهم. أما السَّابِقُونَ المقربون فهم إِنَّمَا يستعملون الْمُبَاحَات إِذا كَانَت طَاعَة لحسن الْقَصْد فِيهَا؛ والاستعانة على طَاعَة الله. وَحِينَئِذٍ فمباحاتهم طاعات.

وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم تكن الْأَفْعَال فِي حَقهم إِلَّا مَا يتَرَجَّح وجوده فيؤمرون بِهِ شرعا أَمر اسْتِحْبَاب أَو مَا يتَرَجَّح عَدمه فَالْأَفْضَل لَهُم أَلا يفعلوه وَإِن لم يكن فِيهِ إِثْم.

والشريعة قد بيّنت أَحْكَام الْأَفْعَال كلهَا فَهَذَا " سُؤال ". و " سُؤال ثَان " وَهُوَ أَنه إِذا قدر أَن من الْأَفْعَال مَا لَيْسَ فِيهِ أَمر وَلَا نهي كَمَا فِي حق الْأَبْرَار فَهَذَا الْفِعْل لَا يحمد وَلَا يذم وَلَا يحب وَلَا يبغض وَلَا ينظر فِيهِ إِلَى وجود

ص: 171

الْقدر وَعَدَمه؛ بل إِن فَعَلُوهُ لم يحْمَدُوا وَإِن لم يفعلوه لم يحْمَدُوا، فَلَا يَجْعَل مِمَّا يحْمَدُونَ عَلَيْهِ أَنهم يكونُونَ فِي هَذَا الْفِعْل كالميت بَين يَدي الْغَاسِل مَعَ كَون هَذَا الْفِعْل صدر باختيارهم وإرادتهم. إِذْ الْكَلَام فِي ذَلِك.

وَأما غير " الْأَفْعَال الاختيارية ": وَهُوَ مَا فعل بالإنسان بِغَيْر اخْتِيَاره، كَمَا يحمل الْإِنْسَان وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع الِامْتِنَاع، فَهَذَا خَارج عَن التَّكْلِيف مَعَ أَن العَبْد مَأْمُور فِي مثل هَذَا أَن يُحِبهُ إِن كَانَ حَسَنَة ويبغضه إِن كَانَ سَيِّئَة ويخلو عَنْهُمَا إِن لم يكن حَسَنَة وَلَا سَيِّئَة، فَمن جعل الْإِنْسَان فِيمَا يَسْتَعْمِلهُ فِيهِ الْقدر من الْأَفْعَال الاختيارية - كالميت بَين يَدي الْغَاسِل - فقد رفع الْأَمر وَالنَّهْي عَنهُ فِي الْأَفْعَال الاختيارية وَهَذَا بَاطِل.

و" سُؤال ثَالِث ": وَهُوَ أَن حَقِيقَة هَذَا القَوْل طي بِسَاط الْأَمر وَالنَّهْي عَن العَبْد فِي هَذِه الْأَحْوَال مَعَ كَون أَفعاله اختيارية، وهب أَنه لَيْسَ لَهُ هوى فَلَيْسَ كل مَا لَا هوى فِيهِ يسْقط عَنهُ فِيهِ الْأَمر وَالنَّهْي بل عَلَيْهِ أَن يحب مَا أحبه الله وَرَسُوله وَيبغض مَا أبغضه الله وَرَسُوله.

قيل: هَذِه الأسولة أسولة صَحِيحَة.

وَفصل الْخطاب أَن السالك قد يخفى عَلَيْهِ الْأَمر وَالنَّهْي بِحَيْثُ لَا يدْرِي هَل ذَلِك الْفِعْل مَأْمُور بِهِ شرعا أَو مَنْهِيّ عَنهُ شرعا؛ فَيبقى هَوَاهُ لِئَلَّا يكون

ص: 172

لَهُ هوى فِيهِ ثمَّ يسلم فِيهِ للقدر، وَهُوَ فعل الرب لعدم مَعْرفَته بِرِضا الرب وَأمره وحبه فِي ذَلِك الْفِعْل.

وَهَذَا يعرض لكثير من أَئِمَّة الْعباد وأئمة الْعلمَاء فَإِنَّهُ قد تكون عِنْدهم أَفعَال وأقوال لَا يعْرفُونَ حكم الله الشَّرْعِيّ فِيهَا بل قد تَعَارَضَت عِنْدهم فِيهَا الْأَدِلَّة أَو خفيت الْأَدِلَّة بِالْكُلِّيَّةِ فيكونون معذورين لخفاء الشَّرْع عَلَيْهِم.

وَحكم الشَّرْع إِنَّمَا يثبت فِي حق العَبْد إِذا تمكن من مَعْرفَته فَأَما مَا لم يبلغهُ وَلم يتَمَكَّن من مَعْرفَته فَلَا يُطَالب بِهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَن يَتَّقِي الله مَا اسْتَطَاعَ. وَهَذَا خطأ فِي الْعلم وَلَيْسَ خطأ فِي الْعَمَل وَهُوَ كالمجتهد الْمُخطئ لَهُ أجر على قَصده واجتهاده، وخطؤه مَرْفُوع عَنهُ.

فَإِن قيل: فَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا. فَالْوَاجِب على العَبْد أَن يتَوَقَّف فِي مثل هَذِه الْحَال إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ أَن ذَلِك الْفِعْل مَأْمُور بِهِ أَو مَنْهِيّ عَنهُ وَهُوَ لَا يُرِيد أَن يفعل شَيْئا لَا مدح فِيهِ وَلَا ذمّ فيقف لَا يستسلم للقدر وَيصير محلا لما يسْتَعْمل فِيهِ من الْأَفْعَال اللَّهُمَّ إِلَّا إِذا فعل غَيره فعلا فَهُوَ لَا يمدحه وَلَا يذمه وَلَا يرضاه وَلَا يسخطه؛ إِذا لم يتَبَيَّن لَهُ حكمه.

فَأَما كَونه هُوَ من أَفعاله الاختيارية يصير مستسلما لما يَسْتَعْمِلهُ الْقدر فِيهِ: كالطفل مَعَ الظِّئْر وَالْمَيِّت مَعَ الْغَاسِل فَهَذَا مَا لم يَأْمر الله بِهِ وَلَا رَسُوله بل هَذَا

ص: 173

محرم، وَإِن عفى عَن صَاحبه وَحسب صَاحبه أَن يعفي عَنهُ؛ لاجتهاده وَحسن قَصده.

أما كَونه يحمد على ذَلِك وَيجْعَل هَذَا أفضل المقامات فَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، وَكَونه مُجَردا عَن هَوَاهُ لَيْسَ مسوغا لَهُ أَن يستسلم لكل مَا يفعل بِهِ.

ثمَّ يُقَال الْأُمُور مَعَ هَذَا نَوْعَانِ: (أَحدهمَا) : أَن يفعل بِهِ بِغَيْر اخْتِيَاره كَمَا يحمل الْإِنْسَان وَلَا يُمكنهُ الِامْتِنَاع، وكما تضجع الْمَرْأَة قهرا وتوطأ فَهَذَا لَا إِثْم فِيهِ بِاتِّفَاق الْعلمَاء. وَإِمَّا أَن يكره بِالْإِكْرَاهِ الشَّرْعِيّ حَتَّى يفعل، فَهَذَا أَيْضا مَعْفُو عَنهُ فِي الْأَفْعَال عِنْد الْجُمْهُور، وَهُوَ أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد لقَوْله تَعَالَى {وَمن يُكْرهن فَإِن الله من بعد إكراههن غَفُور رَحِيم} .

وَأما إِذا لم يكره الْإِكْرَاه الشَّرْعِيّ فاستسلامه للْفِعْل الْمُطلق الَّذِي لَا يعرف أخير هُوَ أم شَرّ، لَيْسَ هُوَ مَأْمُورا بِهِ وَإِن جرى على يَده خرق عَادَة أَو لم يجر فَلَيْسَ هُوَ مَأْمُورا أَن يفعل إِلَّا مَا هُوَ خير عِنْد الله وَرَسُوله.

قيل: هَذَا السُّؤَال صَحِيح وَحَقِيقَة الْأَمر أَن السالكين إِذا وصلوا إِلَى هَذَا الْمقَام فبحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم لرَبهم وطلبهم مِنْهُ أَن يخْتَار لَهُم مَا هُوَ الْأَصْلَح إِذا استعملوا فِي أَمر وهم لَا يعْرفُونَ حكمه فِي الشَّرْع رجوا أَن يكون خيرا؛ لِأَن معرفتهم بِحكمِهِ قد تتعذر عَلَيْهِم،

ص: 174

وَالْإِنْسَان غير عَالم فِي كل حَال بِمَا هُوَ الْأَصْلَح لَهُ فِي دينه وَبِمَا هُوَ رضَا الله وَرَسُوله فَيبقى حَالهم حَال المستخير لله فِيمَا لم يعلم عاقبته إِذا قَالَ: " {اللَّهُمَّ إِنِّي أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وَأَسْأَلك من فضلك الْعَظِيم؛ فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر؛ وَتعلم وَلَا أعلم؛ وَأَنت علام الغيوب. اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر خير لي فِي ديني ومعاشي وعاقبة أَمْرِي فاقدره لي ويسره لي ثمَّ بَارك لي فِيهِ. وَإِن كنت تعلم أَن هَذَا الْأَمر شَرّ لي فِي ديني ومعاشي وعاقبة أَمْرِي فأصرفه عني واصرفني عَنهُ واقدر لي الْخَيْر حَيْثُ كَانَ ثمَّ رضني بِهِ} ".

فَإِذا استخار الله كَانَ مَا شرح لَهُ صَدره وتيسر لَهُ من الْأُمُور هُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ الله لَهُ. إِذْ لم يكن مَعَه دَلِيل شَرْعِي على أَن عين هَذَا الْفِعْل هُوَ مَأْمُور بِهِ فِي هَذِه الْحَال فَإِن الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة إِنَّمَا تَأمر بِأَمْر مُطلق عَام لَا بِعَين كل فعل من كل فَاعل إِذْ كَانَ هَذَا مُمْتَنعا؛ وَإِن كَانَ ذَلِك الْمعِين يُمكن إدراجه تَحت بعض خطاب الشَّارِع الْعَام؛ إِذا كَانَت الْأَفْرَاد الْمعينَة دَاخِلَة تَحت الْأَمر الْعَام الْكُلِّي؛ لَكِن لَا يقدر كل أحد على استحضار هَذَا وَلَا على استحضار أَنْوَاع الْخطاب.

ص: 175

وَلِهَذَا كَانَ الْفُقَهَاء يعدلُونَ إِلَى الْقيَاس عِنْد خَفَاء ذَلِك عَلَيْهِم. ثمَّ " الْقيَاس أَيْضا قد لَا يحصل فِي كل وَاقعَة فقد يخفى على الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان دُخُول الْوَاقِعَة الْمعينَة تَحت خطاب عَام أَو اعْتِبَارهَا بنظير لَهَا فَلَا يعرف لَهَا أصل وَلَا نَظِير. هَذَا مَعَ كَثْرَة نظرهم فِي خطاب الشَّارِع وَمَعْرِفَة مَعَانِيه ودلالته على الْأَحْكَام. فَكيف بِمن لم يكن كَذَلِك؟

ثمَّ السالك لَيْسَ قَصده معرفَة الْحَلَال من الْحَرَام؛ بل مَقْصُوده أَن هَذَا الْفِعْل الْمعِين خير من هَذَا وَهَذَا خير من هَذَا وَأيهمَا أحب إِلَى الله فِي حَقه فِي تِلْكَ الْحَال.

وَهَذَا بَاب وَاسع لَا يُحِيط بِهِ إِلَّا الله وَلكُل سالك حَال تخصه قد يُؤمر فِيهَا بِمَا ينْهَى عَنهُ غَيره وَيُؤمر فِي حَال بِمَا ينْهَى عَنهُ فِي حَال آخر.

فَقَالُوا: نَحن نَفْعل الْخَيْر بِحَسب الْإِمْكَان وَهُوَ فعل مَا علمنَا أَنا أمرنَا بِهِ ونترك أصل الشَّرّ وَهُوَ هوى النَّفس ونلجأ إِلَى الله فِيمَا سوى ذَلِك أَن يوفقنا لما هُوَ أحب إِلَيْهِ وأرضى لَهُ؛ فَمَا استعملنا فِيهِ رجونا أَن يكون من هَذَا الْبَاب؛ ثمَّ إِن أصبْنَا فلنا أَجْرَانِ وَإِلَّا فلنا أجر وخطؤنا محطوط عَنَّا فَهَذَا هَذَا.

وَحِينَئِذٍ فَمن قدر أَنه علم الْمَشْرُوع وَفعله فَهُوَ أفضل من هَذَا، وَلَكِن

ص: 176

كثير مِمَّن يعلم الْمَشْرُوع لَا يَفْعَله وَلَا يقْصد أحب الْأُمُور إِلَى الله، وَكثير مِنْهُم يَفْعَله بشوب من الْهوى فَيبقى هَذَا يفعل الْمَشْرُوع بهوى، وَهَذَا يتْرك مَا لم يعلم أَنه مَشْرُوع بِلَا هوى. فَهَذَا نقص فِي الْعلم، وَذَاكَ نقص فِي الْعَمَل؛ إِذْ الْعَمَل بهوى النَّفس نقص فِي الْعَمَل وَلَو كَانَ الْمَفْعُول وَاجِبا.

فَيُقَال: إِن تَابَ صَاحب الْهوى من هَوَاهُ كَانَ أرفع بِعِلْمِهِ وَإِن لم يتب فَلهُ نصيب من عَالم السوء.

وَلِهَذَا تشاجر رجلَانِ من الْمُتَقَدِّمين عَام الْحكمَيْنِ فِي مثل هَذَا. فَقَالَ أَحدهمَا لصَاحبه: إِنَّمَا مثلك مثل الْكَلْب؛ إِن تحمل عَلَيْهِ يَلْهَث أَو تتركه يَلْهَث. وَقَالَ الآخر: أَنْت كالحمار يحمل أسفارا؛ فَهَذَا أحسن قصدا وَأقوى علما.

وَلِهَذَا تَجِد أَصْحَاب حسن الْقَصْد إِنَّمَا يعيبون على هَؤُلَاءِ اتِّبَاع الْهوى وَحب الدُّنْيَا والرئاسة، وَأهل الْعلم يعيبون على أُولَئِكَ نقص علمهمْ بِالشَّرْعِ، وعدولهم عَن الْأَمر وَالنَّهْي فَهَذَا هَذَا.

وَالله هُوَ الْمَسْئُول أَن يهدينا إِلَى الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحسن أُولَئِكَ رَفِيقًا.

وَقد قَالَ بعض (أهل الْفِقْه والزهد) : من النَّاس من سلك " الشَّرِيعَة " وَمِنْهُم من سلك " الْحَقِيقَة ". وَلَعَلَّه أَرَادَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء؛ فَإِن هَؤُلَاءِ يرجحون بِمَا ييسره الله،

ص: 177

مَعَ حسن الْقَصْد وَاتِّبَاع الْأَمر وَالنَّهْي الْمَعْلُوم لَهُم مَعَ خَفَاء الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة فِي ذَلِك المتيسر لَهُم وَهَؤُلَاء يرجحون بالأدلة الشَّرْعِيَّة من الظَّوَاهِر والأقيسة وأخبار الْآحَاد وأقوال الْعلمَاء مَعَ خَفَاء الْأَمر المتيسر لَهُم.

و (أَيْضا فَهَؤُلَاءِ) قد يشْهدُونَ مَا فِي ذَلِك الْفِعْل الْمَقْدُور من الْمصلحَة وَالْخَيْر فيرجحونه بِحكم الْإِيمَان وَإِن لم يعرفوا دَلِيلا من النَّص على حسنه وَأُولَئِكَ إِنَّمَا يرجحون بالنصوص وَمَا استنبط مِنْهَا. فَهَؤُلَاءِ لَهُم الْقُرْآن وَهَؤُلَاء لَهُم الْإِيمَان.

وَسبب هَذَا أَن كلا من الطَّائِفَتَيْنِ خَفِي عَلَيْهِ مَا مَعَ الْأُخْرَى من الْحق، وكل من الطَّائِفَتَيْنِ فِي طريقها حق وباطل. فَأَما المدعون للْحَقِيقَة بِدُونِ مُرَاعَاة الْأَمر وَالنَّهْي الشرعيين فهم ضالون؛ كَالَّذِين يعْرفُونَ الْأَمر وَالنَّهْي وَلَا يَفْعَلُونَ إِلَّا مَا يهوونه من الْكَبَائِر فَإِنَّهُم فساق. وَهَؤُلَاء وَهَؤُلَاء الَّذين قيل فيهم:" احْذَرُوا فتْنَة الْعَالم الْفَاجِر وَالْعَابِد الْجَاهِل فَإِن فتنتهما فتْنَة لكل مفتون ".

و" الْحَقِيقَة " قد تكون قدرية وَقد تكون ذوقية وَقد تكون شَرْعِيَّة وَلَفظ " الشَّرْع " يتَنَاوَل الْمُبدل والمؤول والمنزل.

ص: 178

و (الْمَقْصُود هُنَا) ذكر أهل الاسْتقَامَة من الطَّائِفَتَيْنِ، وَالْكَلَام على حَال أهل الْعِبَادَة والإرادة الَّذين خَرجُوا عَن الْهوى وَهُوَ الْفرق الطبعي وَقَامُوا بِمَا علموه من الْفرق الشَّرْعِيّ. وَبَقِي " قسم ثَالِث " لَيْسَ لَهُم فِيهِ فرق طبعي وَلَا عِنْدهم فِيهِ فرق شَرْعِي فَهُوَ الَّذِي جروا فِيهِ مَعَ الْفِعْل وَالْقدر.

وَأما من جرى مَعَ الْفرق الطبعي إِمَّا عَالما بِأَنَّهُ عَاص وَهُوَ الْعَالم الْفَاجِر أَو محتجا بِالْقدرِ أَو بذوقه ووجده معرضًا عَن الْكتاب وَالسّنة وَهُوَ العابد الْجَاهِل فَهَذَا خَارج عَن الصِّرَاط الْمُسْتَقيم.

وَهَذَا مِمَّا يبين حَال كَمَال حَال الصَّحَابَة وَأَنَّهُمْ خير قُرُون هَذِه الْأمة؛ إِذْ كَانُوا فِي خلَافَة النُّبُوَّة يقومُونَ بالفروق الشَّرْعِيَّة فِي جليل الْأُمُور ودقيقها مَعَ اتساع الْأَمر وَالْوَاحد من الْمُتَأَخِّرين قد يعجز عَن معرفَة الفروق الشَّرْعِيَّة فِيمَا يَخُصُّهُ كَمَا أَن الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ يتبع هَوَاهُ فِي أَمر قَلِيل. فَأُولَئِك مَعَ عَظِيم مَا دخلُوا فِيهِ من الْأَمر وَالنَّهْي لَهُم الْعلم الَّذِي يميزون بِهِ بَين الْحَسَنَات والسيئات وَلَهُم الْقَصْد الْحسن الَّذِي يَفْعَلُونَ بِهِ الْحَسَنَات. وَالْكثير من الْمُتَأَخِّرين الْعَالمين والعابدين يفوت أحدهم الْعلم فِي كثير من الْحَسَنَات والسيئات حَتَّى يظنّ السَّيئَة حَسَنَة وَبِالْعَكْسِ، أَو يفوتهُ الْقَصْد فِي كثير من الْأَعْمَال حَتَّى يتبع هَوَاهُ فِيمَا وضح لَهُ من الْأَمر وَالنَّهْي.

فنسأل الله أَن يهدينا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم صِرَاط الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ.

ص: 179

هَذَا لعمري إِذا كَانَ عِنْد الْعَالم مَا هُوَ أَمر الشَّارِع وَنَهْيه حَقِيقَة وَعند العابد حسن الْقَصْد الْخَالِي عَن الْهوى حَقِيقَة فَأَما من خلط الشَّرْع الْمنزل بالمبدل والمؤول، وخلط الْقَصْد الْحسن بِاتِّبَاع الْهوى فَهَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء مخلطون فِي علمهمْ وعملهم.

وتخليط هَؤُلَاءِ فِي الْعلم سوى تخليطهم وتخليط غَيرهم فِي الْقَصْد، وتخليط هَؤُلَاءِ فِي الْقَصْد سوى تخليطهم وتخليط غَيرهم فِي الْعلم فَإِنَّهُ من عمل بِمَا علم وَرثهُ الله علم مَا لم يعلم. و " حسن الْقَصْد " من أعون الْأَشْيَاء على نيل الْعلم ودركه. و " الْعلم الشَّرْعِيّ " من أعون الْأَشْيَاء على حسن الْقَصْد وَالْعَمَل الصَّالح فَإِن الْعلم قَائِد وَالْعَمَل سائق، وَالنَّفس حرون فَإِن ونى قائدها لم تستقم لسائقها وَإِن ونى سائقها لم تستقم لقائدها فَإِذا ضعف الْعلم حَار السالك وَلم يدر أَيْن يسْلك فغايته أَن يستطرح للقدر وَإِذا ترك الْعَمَل حاد السالك عَن الطَّرِيق فسلك غَيره مَعَ علمه أَنه تَركه فَهَذَا حائر لَا يدْرِي أَيْن يسْلك مَعَ كَثْرَة سيره وَهَذَا حائد عَن الطَّرِيق زائغ عَنهُ مَعَ علمه بِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم} . هَذَا جَاهِل وَهَذَا ظَالِم. قَالَ تَعَالَى: {وَحملهَا الْإِنْسَان إِنَّه كَانَ ظلوما جهولا} . مَعَ أَن الْجَهْل وَالظُّلم متقاربان لَكِن الْجَاهِل لَا يدْرِي أَنه ظَالِم،

ص: 180

والظالم جهل الْحَقِيقَة الْمَانِعَة لَهُ من الْعلم. قَالَ تَعَالَى {إِنَّمَا التَّوْبَة على الله للَّذين يعْملُونَ السوء بِجَهَالَة ثمَّ يتوبون من قريب} .

قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: سَأَلت أَصْحَاب مُحَمَّد فَقَالُوا: كل من عصى الله فَهُوَ جَاهِل وكل من تَابَ قبل الْمَوْت فقد تَابَ من قريب.

وَقد روى الْخلال عَن أبي حَيَّان التَّيْمِيّ قَالَ: " الْعلمَاء ثَلَاثَة " فعالم بِاللَّه لَيْسَ عَالما بِأَمْر الله، وعالم بِأَمْر الله لَيْسَ عَالما بِاللَّه، وعالم بِاللَّه وبأمر الله.

فالعالم بِاللَّه الَّذِي يخشاه والعالم بِأَمْر الله الَّذِي يعرف أمره وَنَهْيه.

قلت: والخشية تمنع اتِّبَاع الْهوى، قَالَ تَعَالَى:{وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى} {فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى} .

والكمال فِي عدم الْهوى وَفِي الْعلم، وَذَلِكَ هُوَ لخاتم الرُّسُل صلى الله عليه وسلم الَّذِي قَالَ فِيهِ:{والنجم إِذا هوى} {مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى} {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} {إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} فنفى عَنهُ الضلال والغي وَوَصفه بِأَنَّهُ مَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى فنفى الْهوى وَأثبت الْعلم الْكَامِل وَهُوَ الْوَحْي فَهَذَا كَمَال الْعلم وَذَاكَ كَمَال الْقَصْد صلى الله عليه وسلم، وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا.

ص: 181

وَوصف أعداءه بضد هذَيْن فَقَالَ تَعَالَى: {إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَمَا تهوى الْأَنْفس وَلَقَد جَاءَهُم من رَبهم الْهدى} فالكمال الْمُطلق للْإنْسَان هُوَ تَكْمِيل الْعُبُودِيَّة لله علما وقصدا.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} .

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنه لما قَامَ عبد الله يَدعُوهُ} .

وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا حَكَاهُ عَن إِبْلِيس: {قَالَ فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ} {إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين} . وَقَالَ: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِك لنصرف عَنهُ السوء والفحشاء إِنَّه من عبادنَا المخلصين} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّه لَيْسَ لَهُ سُلْطَان على الَّذين آمنُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانه على الَّذين يتولونه وَالَّذين هم بِهِ مشركون} . و " عِبَادَته " تَعَالَى هِيَ طَاعَة أمره، وَأمره لنا مَا بلغه الرَّسُول عَنهُ؛ فالكمال فِي كَمَال طَاعَة الله وَرَسُوله بَاطِنا وظاهرا وَمن كَانَ لم يعرف مَا أَمر الله بِهِ فَترك هَوَاهُ واستسلم للقدر أَو اجْتهد فِي الطَّاعَة فَأَخْطَأَ، فعل الْمَأْمُور بِهِ إِلَى مَا اعتقده مَأْمُورا بِهِ أَو تَعَارَضَت عِنْده الْأَدِلَّة فتوقف عَمَّا هُوَ طَاعَة فِي نفس الْأَمر، فَهَؤُلَاءِ

ص: 182

مطيعون لله يثابون على مَا أحسنوه من الْقَصْد لله واستفرغوه من وسعهم فِي طَاعَة الله وَمَا عجزوا عَن علمه فأخطئوه إِلَى غَيره فمغفور لَهُم.

وَهَذَا من أَسبَاب فتن تقع بَين الْأمة فَإِن أَقْوَامًا يَقُولُونَ ويفعلون أمورا هم مجتهدون فِيهَا وَقد أخطئوا فتبلغ أَقْوَامًا يظنون أَنهم تعمدوا فِيهَا الذَّنب أَو يظنون أَنهم لَا يعذرُونَ بالْخَطَأ وهم أَيْضا مجتهدون مخطئون فَيكون هَذَا مُجْتَهدا مخطئا فِي فعله وَهَذَا مُجْتَهدا مخطئا فِي إِنْكَاره وَالْكل مغْفُور لَهُم. وَقد يكون أَحدهمَا مذنبا كَمَا قد يكونَانِ جَمِيعًا مذنبين. وَخير الْكَلَام كَلَام الله وَخير الْهَدْي هدي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَشر الْأُمُور محدثاتها وكل بِدعَة ضَلَالَة.

وَالْوَاحد من هَؤُلَاءِ قد يعْطى تَصرفا بِالْأَمر وَالنَّهْي. فيولي ويعزل وَيُعْطِي وَيمْنَع فيظن الظَّان أَن هَذَا كَمَال وَإِنَّمَا يكون كمالا إِذا كَانَ مُوَافقا لِلْأَمْرِ فَيكون طَاعَة لله وَإِلَّا فَهُوَ من جنس الْملك وأفعال الْملك: إِمَّا ذَنْب وَإِمَّا عَفْو وَإِمَّا طَاعَة.

فالخلفاء الراشدون أفعالهم طَاعَة وَعبادَة وهم أَتبَاع العَبْد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وَهِي طَرِيق السَّابِقين المقربين. وَأما طَرِيق الْمُلُوك العادلين فإمَّا

ص: 183