الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرهبانية وَالتَّشْدِيد وتعذيب النَّفس الَّذِي لَا يُحِبهُ الله إِلَى مَا يُحِبهُ الله من الرُّخْصَة هُوَ من الْحَسَنَات الَّتِي يثيبه الله عَلَيْهَا وَإِن فعل مُبَاحا لما اقْترن بِهِ من الِاعْتِقَاد وَالْقَصْد الَّذين كِلَاهُمَا طَاعَة لله وَرَسُوله. فَإِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لكل امْرِئ مَا نوى.
وَأَيْضًا فَالْعَبْد هُوَ مَأْمُور بِفعل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْمُبَاحَات هُوَ مَأْمُور بِالْأَكْلِ عِنْد الْجُوع وَالشرب عِنْد الْعَطش وَلِهَذَا يجب على الْمُضْطَر إِلَى الْميتَة أَن يَأْكُل مِنْهَا وَلَو لم يَأْكُل حَتَّى مَاتَ كَانَ مستوجبا للوعيد كَمَا هُوَ قَول جَمَاهِير الْعلمَاء من الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم وَكَذَلِكَ هُوَ مَأْمُور بِالْوَطْءِ عِنْد حَاجته إِلَيْهِ بل وَهُوَ مَأْمُور بِنَفس عقد النِّكَاح إِذا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَقدر عَلَيْهِ.
فَقَوْل النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {فِي بضع أحدكُم صَدَقَة} " فَإِن المباضعة مَأْمُور بهَا لِحَاجَتِهِ ولحاجة الْمَرْأَة إِلَى ذَلِك فَإِن قَضَاء حَاجَتهَا الَّتِي لَا تَنْقَضِي إِلَّا بِهِ بِالْوَجْهِ الْمُبَاح صَدَقَة.
سلوك الْأَبْرَار وسلوك المقربين:
و" السلوك " سلوكان: سلوك الْأَبْرَار أهل الْيَمين وَهُوَ أَدَاء الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات بَاطِنا وظاهرا. و (الثَّانِي) : سلوك المقربين السَّابِقين وَهُوَ فعل الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب بِحَسب الْإِمْكَان وَترك الْمَكْرُوه وَالْمحرم كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {إِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَاجْتَنبُوهُ. وَإِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم} ".
وَكَلَام الشُّيُوخ الْكِبَار: كالشيخ " عبد الْقَادِر " وَغَيره يُشِير إِلَى هَذَا السلوك؛ وَلِهَذَا يأمرون بِمَا هُوَ مُسْتَحبّ غير وَاجِب وَينْهَوْنَ عَمَّا هُوَ مَكْرُوه غير محرم فَإِنَّهُم يسلكون بالخاصة مَسْلَك الْخَاصَّة وبالعامة مَسْلَك الْعَامَّة.
وَطَرِيق الْخَاصَّة طَرِيق المقربين أَلا يفعل العَبْد إِلَّا مَا أَمر بِهِ وَلَا يُرِيد إِلَّا مَا أَمر الله وَرَسُوله بإرادته وَهُوَ مَا يُحِبهُ الله ويرضاه ويريده إِرَادَة دينية شَرْعِيَّة وَإِلَّا فالحوادث كلهَا مُرَادة لَهُ خلقا وتكوينا. وَالْوُقُوف مَعَ الْإِرَادَة الخلقية الْقَدَرِيَّة مُطلقًا غير مَقْدُور عقلا وَلَا مَأْمُور شرعا.
وَذَلِكَ لِأَن من الْحَوَادِث مَا يجب دَفعه وَلَا تجوز إِرَادَته كمن أَرَادَ تَكْفِير الرجل أَو تَكْفِير أَهله أَو الْفُجُور بِهِ أَو بأَهْله أَو أَرَادَ قتل النَّبِي وَهُوَ قَادر على دَفعه أَو أَرَادَ إضلال الْخلق، وإفساد دينهم ودنياهم فَهَذِهِ الْأُمُور يجب دَفعهَا وكراهتها؛ لَا تجوز إرادتها.
وَأما الِامْتِنَاع عقلا؛ فَلِأَن الْإِنْسَان مجبول على حب مَا يلائمه وبغض مَا ينافره فَهُوَ عِنْد الْجُوع يحب مَا يقيته كالطعام وَلَا يحب مَا لَا يقيته كالتراب فَلَا يُمكن أَن تكون إِرَادَته لهذين سَوَاء. وَكَذَلِكَ يحب الْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح الَّذِي يَنْفَعهُ وَيبغض الْكفْر والفسوق الَّذِي يضرّهُ بل وَيُحب الله وعبادته وَحده وَيبغض عبَادَة مَا دونه.
كَمَا قَالَ الْخَلِيل: {أَفَرَأَيْتُم مَا كُنْتُم تَعْبدُونَ} {أَنْتُم وآباؤكم الأقدمون} {فَإِنَّهُم عَدو لي إِلَّا رب الْعَالمين} .
فقد أمرنَا الله أَن نتأسى بإبراهيم وَالَّذين مَعَه إِذْ تبرءوا من الْمُشْركين وَمِمَّا يعبدونه من دون الله.
وَقَالَ الْخَلِيل: {إِنَّنِي برَاء مِمَّا تَعْبدُونَ} {إِلَّا الَّذِي فطرني فَإِنَّهُ سيهدين} والبراءة ضد الْولَايَة وأصل الْبَرَاءَة البغض وأصل الْولَايَة الْحبّ.
وَهَذَا لِأَن حَقِيقَة التَّوْحِيد أَلا تحب إِلَّا الله وتحب مَا يُحِبهُ الله لله فَلَا تحب إِلَّا لله وَلَا تبغض إِلَّا لله. قَالَ تَعَالَى: {وَمن النَّاس من يتَّخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} .
وَالْفرق ثَابت بَين الْحبّ لله وَالْحب مَعَ الله فَأهل التَّوْحِيد وَالْإِخْلَاص يحبونَ غير الله لله وَالْمُشْرِكُونَ يحبونَ غير الله مَعَ الله كحب الْمُشْركين لآلهتهم وَحب النَّصَارَى للمسيح وَحب أهل الْأَهْوَاء رُءُوسهم.
فَإِذا عرف أَن العَبْد مفطور على حب مَا يَنْفَعهُ وبغض مَا يضرّهُ. لم يُمكن أَن تستوي إِرَادَته لجَمِيع الْحَوَادِث فطْرَة وخلقا وَلَا هُوَ مَأْمُور من جِهَة الشَّرْع أَن يكون مرِيدا لجَمِيع الْحَوَادِث بل قد أمره الله بِإِرَادَة أُمُور وَكَرَاهَة أُخْرَى.
وَالرسل - صلوَات الله عَلَيْهِم وَسَلَامه - بعثوا بتكميل الْفطْرَة وتقريرها لَا بتحويل الْفطْرَة وتغييرها. وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ ويمجسانه} " قَالَ تَعَالَى: {فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا لَا تَبْدِيل لخلق الله ذَلِك الدَّين الْقيم وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ} .
وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم " {يَقُول الله تَعَالَى: خلقت عبَادي حنفَاء فَاجْتَالَتْهُمْ الشَّيَاطِين وَحرمت عَلَيْهِم مَا أحللت لَهُم وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا} ". و " الحنيفية " هِيَ الاسْتقَامَة بإخلاص الدَّين لله وَذَلِكَ يتَضَمَّن حبه تَعَالَى والذل لَهُ لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا لَا فِي الْحبّ وَلَا فِي الذل فَإِن الْعِبَادَة تَتَضَمَّن غَايَة الْحبّ بغاية الذل وَذَلِكَ لَا يسْتَحقّهُ إِلَّا الله وَحده وَكَذَلِكَ الخشية وَالتَّقوى لله وَحده والتوكل على الله وَحده.
وَالرَّسُول يطاع وَيُحب فالحلال مَا حلله وَالْحرَام مَا حرمه وَالدّين مَا شَرعه. قَالَ الله تَعَالَى: {وَمن يطع الله وَرَسُوله ويخش الله ويتقه فَأُولَئِك هم الفائزون} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} .
وَهَذَا حَقِيقَة دين الْإِسْلَام. وَالرسل بعثوا بذلك كَمَا قَالَ تَعَالَى: {شرع لكم من الدَّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ
إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدَّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيهَا الرُّسُل كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عليم} {وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون} .
فَهَذَا هُوَ الأَصْل الَّذِي يجب على كل أحد أَن يعتصم بِهِ فَلَا بُد أَن يكون مرِيدا محبا لما أمره الله بإرادته ومحبته كَارِهًا مبغضا لما أمره الله بكراهته وبغضه.
وَالنَّاس فِي هَذَا الْبَاب " أَرْبَعَة أَنْوَاع ": أكملهم الَّذين يحبونَ مَا أحبه الله وَرَسُوله، ويبغضون مَا أبغضه الله وَرَسُوله فيريدون مَا أَمرهم الله وَرَسُوله بإرادته ويكرهون مَا أَمرهم الله وَرَسُوله بكراهته وَلَيْسَ عِنْدهم حب وَلَا بغض لغير ذَلِك. فيأمرون بِمَا أَمر الله وَرَسُوله بِهِ وَلَا يأمرون بِغَيْر ذَلِك، وَينْهَوْنَ عَمَّا نهى الله عَنهُ وَرَسُوله وَلَا ينهون عَن غير ذَلِك.
وَهَذِه حَال الخليلين أفضل الْبَريَّة: مُحَمَّد وَإِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِمَا وَسلم وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ: " {إِن الله اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتخذ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا} ".
وَقَالَ فِي الحَدِيث الصَّحِيح: " {إِنِّي وَالله لَا أعطي أحدا وَلَا أمنع أحدا وَإِنَّمَا أَنا قَاسم أَضَع حَيْثُ أمرت} ".
وَذكر: أَن ربه خَيره بَين أَن يكون نَبيا ملكا؛ وَبَين أَن يكون عبدا رَسُولا فَاخْتَارَ أَن يكون عبدا رَسُولا. فَإِن " النَّبِي الْملك " مثل دَاوُد وَسليمَان.
قَالَ تَعَالَى: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب} قَالُوا: مَعْنَاهُ أعْط من شِئْت وامنع من شِئْت لَا نحاسبك.