الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[1037] باب رد قول الجهمية: الله في كل مكان وبيان خطأ الدعاة الذين يتهاونون في رد هذه العقيدة
[قال الإمام في مقدمة "مختصر العلو" بعد أن بين أن علو الله تعالى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول]:
ومن هنا نعلم مبلغ ضلال الجهمية ومن تأثر بهم من الخلف الذين أنكروا جميعاً أن يكون الله تعالى على عرشه فوق خلقه، ثم انقسم هؤلاء إلى مذهبين:
الأول: مذهب الجهمية الذين ذهبوا إلى أن الله تعالى في كل مكان مخلوق (1). وقد جادلهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فأحسن جدالهم وكشف به عوارهم فقال في رسالة " الرد على الجهمية ":
" وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله سبحانه وتعالى حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟ فيقول: نعم. فقل له: فحين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى أحد ثلاثة أقاويل:
أ - إن زعم أن الله تعالى خلق الخلق في نفسه كفر حين زعم أن الجن والإنس والشياطين وإبليس في نفسه.
ب - وإن قال: خلقهم خارجاً من نفسه ثم دخل فيهم كفر أيضاً حين زعم أنه
(1) وحكاه الأشعري في (مقالات الإسلاميين)(ص 212) عن بعض المعتزلة، وتبرأ منه في "الإبانة " كما ستراه في ترجمته، وجزم بأنه تعالى مستو على عرشه، وهذا خلاف اعتقاد أتباعه المنتسبين إليه كما سترى قريباً. [منه].
دخل في كل مكان وحش وقذر.
ج - وإن قال خلقهم خارجاً من نفسه ثم لم يدخل فيهم؛ رجع عن قوله أجمع وهو قول أهل السنة) (1) ..
والمذهب الآخر قول بعض غلاة النفاة للعلو:
" الله لا فوق، لا تحت، ولا يمين، ولا يسار، ولا أمام، ولا خلف لا داخل العالم، ولا خارجه "(2) ويزيد بعض فلاسفتهم:
" لا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه "
قلت: وهذا النفي معناه - كما هو ظاهر - أن الله غير موجود، وهذا هو التعطيل المطلق والجحد الأكبر، تعالى الله عما يقول الظالمون علواًّ كبيراً، وما أحسن ما قال محمود بن سبكتكين لمن وصف الله بذلك:"ميز لنا بين هذا الرب الذي تثبته وبين المعدوم " ذكره في " التدمرية "(ص 41).
وهذان المذهبان الباطلان أحدهما - ولا بد - لازم لكل من أنكر صفة العلو لله على عرشه كما سبق بيانه، وإن مما يؤسف له شديد الأسف أن المذهب الأول منهما هو السائد اليوم على ألسنة الناس في هذه البلاد عامتهم وخاصتهم فما تكاد تجلس في مجلس يذكر الله فيه إلا بادرك بعض الجالسين فيه بقوله:" الله موجود في كل مكان " وقد يقول آخر: " الله موجود في كل الوجود " فإذا سارعت إلى
(1)"اجتماع الجيوش الإسلامية"(ص 76 - 80) ومثله في رسالة " المعرفة " للشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله. [منه].
(2)
كذا في " حاشية البيجوري على الجوهرة "(ص 58) وقد سمعت هذا النفي من بعض المشايخ على المنبر يوم الجمعة يُعلم المسلمين الإيمان برب العالمين. [منه].
بيان بطلان هذا الكلام لما فيه من نسبة ما لا يجوز إلى الله من كونه مظروفاً لخلقه، وما فيه من المخالفة لصفة علوه على عرشه، سارع بعض المتعالمين إلى تأويل ذلك القول بضم جملة " بعلمه " إليه، كأنما هو آية من كتاب الله أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بد من تأويله، ولم يدر هؤلاء المساكين أنها كلمة الجهمية والمعتزلة وعقيدتهم على ما يدل عليه ظاهر هذا القول دون أي تأويل، فإذا سمعت تأويلهم إياه بقولهم " بعلمه " ظننت خيراً، ولكن سرعان ما يخيب ظنك حينما توجه السؤال الموروث عن النبي المعصوم الكاشف عن إيمان المرء أو مبلغ معرفته بالله تعالى أو العكس ألا وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم للجارية:«أين الله» قالت: في السماء. قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» ، فأنت إذا وجهت مثل هذا السؤال إلى العامة والخاصة وجدتهم يحملقون بأعينهم مستنكرين إياه، جاهلين أو متجاهلين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي سَنَّهُ لنا، ثم تراهم مع ذلك حيارى لا يدرون بماذا يجيبون كأن الشريعة الإسلامية لم تتعرض لبيانه مطلقاً، لا في الكتاب ولا في السنة، مع أن الأدلة فيهما متواترة على أن الله تعالى في السماء، ولذلك فالجارية لما أجابت على السؤال بقولها: في السماء شهد لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنها مؤمنة لأنها أجابت بما هو معروف في الكتاب والسنة، فيا ويح من لا يشهد له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالإيمان، ويا ويل من يأبى بل يستنكر ما جعله صلى الله عليه وآله وسلم دليلاً على الإيمان، وهذا والله من أعظم ما أصاب المسلمين من الانحراف عن عقيدتهم أن لا يعرف أحدهم أن ربه الذي يعبده ويسجد له أهو فوق خلقه أم تحتهم، بل لا يدري إذا كان خارجاً عنه أو في داخله، حتى صدق فيهم قول بعض المتقدمين من أهل العلم:" أضاعوا معبودهم "،وهم مع ذلك لم يبلغوا في الضلال شأن أولئك الذين حكموا عليه بالعدم حين
قالوا: "لا فوق ولا تحت
…
" إلخ فحق فيهم قول بعضهم: " المعطل يعبد عدماً، والمجسم يعبد صنماً "، يشير بذلك إلى الجهمية المعطلة النفاة، وإلى المجسمة الممثلة الذين يثبتون الصفات مع التجسيم والتشبيه، والحل وسط بينهما كما تقدم.
ومع خطورة هذه المسألة وبالغ أهميتها وشدة الخلاف القائم فيها بين أهل السنة من جهة والجهمية والمعتزلة وغيرهم من النفاة من جهة أخرى حتى قال ابن القيم رحمه الله تعالى في " الجيوش الإسلامية "(ص 96):
" بل الذي بين أهل الحديث والجهمية من الحرب أعظم مما بين عسكر الكفر وعسكر الإسلام "
أقول: مع هذا كله نرى أغلب الدعاة الإسلاميين اليوم لا يقيمون لهذه المسالة ولا لأمثالها من مسائل الاعتقاد وزناً، ولا يلقون لها باًلا، فلا تسمع لها في محاضراتهم ولا في مجالسهم الخاصة فضلاً عن العامة ذكراً، ويكتفون من المدعوين أن يؤمنوا إيماناً مجملاً؛ ألا ترى إلى ذلك الدكتور الذي قال في مقدمة رسالة " باطن الإثم " وهو يرسم للمسلمين المتفرقين المتدابرين الدواء بزعمه:
" وما أظن إلا أننا جميعا مؤمنون بالله إلها واحداً لا شريك له، بيده الخير والملك، وهو على كل شيء قدير "
نعم نحن مؤمنون بالله
…
ولكن إيمان المؤمنين يختلف بعضه عن بعض أشد الاختلاف، وما نحن فيه من صفة العلو أوضح مثال فإن كان الدكتور يعتقدها على طريقة السلف المثبتين لها بدون تشبيه ولا تعطيل؛ فالناس الذين وضع لهم هذه الرسالة لا يشاركونه في ذلك الاعتقاد إن كان هو ليس شريكاً لهم في اعتقادهم،
فماذا يفيد هذا الإيمان وهو ليس على ما شرعه الله وبينه، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الإمام أبو محمد الجويني في مقدمة رسالته السابقة " الاستواء والفوقية " بعد أن ذكر الله تعالى ببعض صفاته كالسمع والبصر والكلام واليدين والقبضتين:
" استوى على عرشه فبان من خلفه، لا يخفى عليه منهم خافية، علمه بهم محيط وبصره بهم نافذ، وهو في ذاته وصفاته لا يشبهه شيء من مخلوقاته، ولا يمثل بشيء من جوارح مبتدعاته، هي صفات لائقة بجلاله وعظمته لا تتخيل كيفيتها الظنون، ولا ترها في الدنيا العيون، بل نؤمن بحقائقها وثبوتها واتصاف الرب تعالى بها، وننفي عنها تأويل المتأولين، وتعطيل الجاحدين، وتمثيل المشبهين، تبارك الله أحسن الخالقين، فبهذا الرب نؤمن، وإياه نعبد، وله نصلي ونسجد، فمن قصد بعبادته إلى إله ليست له هذه الصفات فإنما يعبد غير الله، وليس معبوده ذلك بإله ".
والإمام الجويني رحمه الله تعالى حينما يقول ذلك، ويُصدِر هذا الحكم العدل على النفاة إنما تلقى ذلك عن أئمة السلف (1) فسيأتي في ترجمة الإمام عبد الله بن المبارك قوله في الجهمية:" إنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء "، في ترجمة عباد بن العوام:" آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء أرى أن لا يناكحوا أو يتوارثوا "، ونحوه في ترجمة عبد الرحمن بن مهدي، ووهب بن جرير، والقعنبي، وأبو معمر القطيعي، وغيرهم من الأئمة، لكنهم لا
(1) وهذا معنى ما جاء في رسالة " المعرفة " للشيخ عبد الكريم الرفاعي رحمه الله (ص 12): " ومن اعتقد اعتقاداً غير مطابقاً للواقع كاعتقاد النصارى بالتثليث والوثنية بالتجسيم وغير ذلك من المعتقدات الباطلة فهو كافر بإجماع المسلمين ". [منه].