الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشكر
…
===
من التعدد، وفى هذا الجواب نظر؛ لأنه ينافى جعل" سواء" بمعنى مستو؛ لأن مستو إنما يخبر به عن الواحد، تقول: زيد مستو مع عمرو، ولا يخبر به عن متعدد، فلا تقول: زيد وعمرو مستو، بل مستويان، وأجيب بأن الإخبار بحسب الظاهر؛ لأن سواء فى الأصل مصدر بمعنى الاستواء فيصح الإخبار به عن الاثنين؛ لأن المصدر يقع على القليل والكثير، وإن أريد به هنا اسم الفاعل، ويصح بقاء" أو" على بابها، وصح الإخبار نظرا للمعنى المراد أى: أحد التعلّقين مستو مع الآخر، وإنما جعلنا" سواء" خبرا، والمصدر بعده مبتدأ دون العكس؛ لأن" سواء" نكرة من غير مسوغ، والمقصود الإخبار عن التعليقين بالاستواء لا العكس، ويجوز جعل" سواء" خبرا لمبتدأ محذوف أى: الأمران سواء والجملة دليل الجواب، والجملة بعدها شرطية على جعل همزة الاستفهام المحذوفة مضمنة معنى" إن" الشرطية لاشتراكهما فى الدلالة على عدم الجزم، والتقدير: إن تعلق بالنعمة أو بغيرها فالأمران سواء، ويجوز أن تكون" سواء" بمعنى مستو مبتدأ، والمصدر المأخوذ من الفعل فاعل سدّ مسد الخبر على مذهب من لم يشترط الاعتماد، والمسوغ للابتداء العمل، فالأوجه فى هذا التركيب ثلاثة، ويجوز وجه رابع، وهو جعل سواء بمعنى مستو خبرا مقدما والفعل بعده مبتدأ مؤخرا؛ لأنه مجرد عن النسبة أو الزمان، فحكمه حكم المصدر، والهمزة مقدرة بعد" سواء"، وهى مجردة عن الاستفهام لمجرد التسوية، وكأنه قيل: تعلقه بالنعمة أو بغيرها مستو، ويقال على هذا سؤالا وجوابا مثل ما قيل على الأول.
[الكلام فى الشكر]:
(قوله: والشكر) أى: لغة وأما اصطلاحا؛ فهو صرف العبد جميع ما أنعم الله عليه به من سمع وبصر وغيرهما إلى ما خلق لأجله، أى: صرفها بحسب الطاقة البشرية لا مطلق صرف، ولذا قال تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (1) وإنما عرف الشكر مع أنه لم يذكر فى المتن؛ لأنه أخو الحمد، ولم يعرف المدح كأنه مراعاة لما قال
(1) سبأ: 13.
فعل ينبئ عن تعظيم المنعم
…
===
الزمخشري (1): إن المدح والحمد شيء واحد.
(قوله: فعل) اعترض بأن الفعل ما قابل القول والاعتقاد كما هو المتعارف، وحينئذ فيكون الفعل من كلامه غير شامل للشكر اللسانى والجنانى؛ لأن الذى باللسان قول والذى بالجنان كيفية نفسانية، وحينئذ فلا يصح تعميمه فى الفعل بعد ذلك بقوله: " سواء
…
إلخ"، فكان الأولى أن يعبر بأمر يشمل الموارد الثلاث، ويجاب بأنه أراد بالفعل الأمر والشأن على اصطلاح أهل اللغة لا ما قابل القول، والاعتقاد كما هو المتعارف أو المراد بالفعل ما قابل الانفعال، ولا شك أن كلا من القول والاعتقاد ليس انفعالا.
(قوله: ينبئ) فيه أن الشكر الجنانى وهو الاعتقاد لا يصح إنباؤه عن التعظيم إذ لا معنى لإنبائه بالنسبة للشاكر لما فيه من تحصيل الحاصل ولا بالنسبة لغيره لعدم اطلاعه عليه لكونه خفيا، وعلى فرض أن يطلعه عليه الشاكر بقول أو فعل فالمنبىء حقيقة هو ذلك القول أو الفعل المطلع لا الاعتقاد، وحينئذ فيكون تعريف الشكر غير جامع لخروج اعتقاد الجنان لعدم الإنباء فيه مع أنه من أفراده ويكون قوله الآتى:" أو بالجنان" فاسدا لعدم إنبائه. قلت: المراد بالإنباء الدلالة لا الإخبار، ولا شك أن الشكر الجنانى وهو اعتقاد الشاكر أن المنعم متصف بصفات الكمال دال على تعظيم المنعم بالنسبة للشاكر وغيره، ولا يقدح فى كون الاعتقاد دالا على تعظيم المنعم بالنسبة لغير الشاكر جهله به وعدم اطلاعه عليه؛ لأنه لو زال المانع وعلم به لعلم مدلوله وهو تعظيم المنعم؛ لأن الدليل ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر لا ما يلزم من وجوده العلم بشيء آخر ألا ترى أن الدخان دال على النار بالنسبة للأعمى؛ لأنه لو علم به لعلم بالنار بغير واسطة
(1) هو العلامة أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد الزمخشرى الخوارزمى كبير المعتزلة النحوى صاحب الكشاف والمفصل، حجّ وجاور وتخرج به أئمة. وكان رأسا فى البلاغة العربية والبيان، وله نظم جيد، ومن مصنفاته أيضا الفائق فى غريب الحديث، وربيع الأبرار، وأساس البلاغة، والمنهاج فى الأصول، وقال الذهبي:" كان داعية للاعتزال، الله يسامحه". توفى ليلة عرفة سنة 538 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء للذهبى (20/ 151)، والأعلام للزركلى (7/ 178).
لكونه منعما، سواء كان باللسان أو بالجنان أو بالأركان،
…
===
فتحصل من هذا أن اعتقاد الشاكر اتصاف المنعم بصفات الكمال يدل على الشاكر وغير الشاكر ممن له اطلاع عليه بإلهام أو بزوال المانع، واطلاع على السرائر أو بقول أو بفعل من الشاكر على تعظيم المنعم، ولا يقال: إن الاطلاع على ذلك الاعتقاد إذا كان بقول أو فعل من الشاكر، فالمنبىء عن التعظيم حينئذ إنما هو ذلك القول أو الفعل لا الاعتقاد؛ لأنا نقول الموجود من الشاكر حينئذ شكران: أحدهما بالجنان والآخر باللسان أو بالأركان، والذى بالأركان أو اللسان دال على الجنان، وكل من الجنان وغيره دال على تعظيم المنعم الأول بواسطة، والثانى بدونها، فظهر لك أن حصر المعترض الإنباء فى القول الذى هو الشكر اللساني، والفعل الذى هو الشكر الأركانى ممنوع؛ بقى شىء آخر، وهو أن الشكر الجنانى هو اعتقاد عظمة المنعم، وهو لا يصح إنباؤه عن تعظيم المنعم؛ لأن المراد بالتعظيم المذكور التعظيم عند الشاكر لا بحسب نفس الأمر، وهو اعتقاد العظمة أيضا، والشيء لا ينبئ عن نفسه، وأجيب بأن الشكر الجنانى اعتقاد اتصاف المنعم بصفات الكمال، وهو مغاير لاعتقاد العظمة؛ لأنه أعم منه والعام ينبىء عن الخاص أى يدل عليه.
(قوله: بسبب كونه منعما) متعلق ب" تعظيم"، وفيه أن هذا معلوم من قوله قبل عن تعظيم المنعم؛ لأن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، وأجيب بأن هذا تصريح بما علم التزاما لكون دلالة الالتزام مهجورة فى التعاريف، وقوله:" بسبب كونه منعما" أى: على الشاكر أو غيره.
(قوله: سواء كان) أى: الفعل، وقوله:" باللسان" أى: صادرا من اللسان.
(قوله: أو بالجنان) أى: أو كان ذلك الفعل صادرا من الجنان أى: القلب، والفعل الصادر منه هو اعتقاد اتصاف المنعم بصفات الكمال كما علمت، واعلم أن المعتقد لا يقال له شاكر إلا إذا انقاد وأذعن، وإلا فلا يعد اعتقاده شكرا كما في الإيمان أفاده شيخنا العلامة العدوى.
(قوله: أو بالأركان) أى الجوارح، و (أل) للجنس فيصدق بجارحة واحدة كما لو أكرمتنى فقبلت يدك أو وضعت يدى على صدرى لك أو قمت لك إجلالا، واعلم أن عمل الجوارح لا يقال له: شكر إلا إذا كان خدمة لا إن كان بطريق الإعانة والترحم
فمورد الحمد لا يكون إلا باللسان، ومتعلقه يكون النعمة وغيرها، ومتعلق الشكر لا يكون إلا النعمة، ومورده يكون اللسان وغيره،
…
===
والأجرة.
(قوله: فمورد
…
إلخ) " الفاء" واقعة فى جواب شرط مقدر أى إذا علمت تعريف كل من الحمد والشكر، وأردت معرفة مورد كل منهما ومتعلقه فمورد
…
إلخ، واعترض التعبير بالمورد لاقتضائه صدور الحمد من شيء قبل ثم ورد على اللسان بعد، إذ مورد الشيء ما يرد عليه ألا ترى أن الحيوان إذا أخرجته من بيتك للحوض مثلا فالحوض يقال له: مورد، والبيت مصدر مع أن الحمد إنما صدر من اللسان فالأولى أن يقول: فمصدر الحمد، وأجيب بأن مراده بالمورد المصدر أى ما ورد منه الحمد لا ما ورد عليه، واختار التعبير عن المصدر بالمورد؛ لأن الثناء لما كان لا يعتد به فى كونه حمدا إلا إذا كان مصاحبا لقصد التعظيم، صار كأنه صادر من القلب ووارد على اللسان ففى التعبير بالمورد إشارة إلى أنه لا يعتد بالحمد إلا إذا كان صادرا من القلب بأن يكون قصد به التعظيم وواردا على اللسان لا إن قصد به الهزء والسخرية أو لم يقصد به شيء
(قوله: ومتعلقه) وهو ما يكون فى مقابلته ويجعل بإزائه وهو المحمود عليه.
(قوله: وغيرها) لكن لا بد أن يكون ذلك الغير فعلا جميلا اختياريا كحسن الخط، وإلا كان مدحا كالثناء فى مقابلة اعتدال القامة وجمال الذات، ومن قول الشارح يكون" النعمة وغيرها" يعلم جواب سؤال، وهو أن الحمد ينقسم إلى مطلق ومقيد؛ فاعترض بأنه كيف يكون مطلقا ليس فى مقابلة شىء مع أن المحمود عليه ركن من أركان الحمد، والماهية تنعدم بانعدام جزئها، وحاصل الجواب أن المراد بالحمد المطلق ما ليس فى مقابلة نعمة، وكونه ليس فى مقابلة نعمة لا ينافى وقوعه فى مقابلة فعل جميل اختيارى غير نعمة، فالحاصل أن الحمد إن وقع فى مقابلة نعمة فهو المقيد، وإن وقع فى مقابلة فعل جميل اختيارى غير نعمة فالمطلق، فالمحمود عليه متحقق فى كل منهما.
(قوله: ومتعلق الشكر
…
إلخ) لم يقدم المورد كما قدمه فى الحمد بل قدّم المتعلق لأجل أن يكون بين المتعلقين قرب، ولأجل المناسبة بين متعلق الشكر ومورد الحمد من حيث الخصوص فى كل منهما، فلما بدأ بمورد الحمد ناسب أن يبدأ بمتعلق الشكر؛ لأنه نظيره فى الخصوص.
(قوله: فالحمد
…
إلخ) اعترض بأنه لا حاجة لذكر ذلك بعد ما تقدّم
فالحمد أعم من الشكر باعتبار المتعلق، وأخص باعتبار المورد، والشكر بالعكس.
(لله) هو اسم
…
===
من قوله: " فمورد
…
إلخ"، وأجيب بأن الكلام السابق مسوق لبيان موردهما ومتعلقهما، وهذا الكلام مفرع على السابق لبيان النسبة بين مفهوميهما وهى العموم والخصوص الوجهى.
(قوله: فالحمد أعم) أى: مطلقا، وقوله:" باعتبار" الباء سببية ثم إن أفعل إما على غير بابه أو على بابه؛ نظرا إلى أن متعلق الشكر فيه عموم، ومثل هذا يقال فى قوله:
" أخص" قرره شيخنا العدوى.
(قوله: أخص) أى: مطلقا.
(قوله: بالعكس) أى: مخالف للحمد باعتبار أنه أعم منه نظرا للمورد، وأخص منه نظرا للمتعلق؛ فالمراد بالعكس العكس العرفي، وهو المخالفة، ولا يصح أن يراد به المعنى المنطقى ولا اللغوى؛ لأن الأول:
قلب جزأى القضية مع بقاء الصدق والكيفية والكم فى غير الموجبة الكلية، والثانى: قلب الجزأين مع بقاء ما ذكر مطلقا فعكس" كل إنسان حيوان" على الأول" بعض الحيوان إنسان"، وعلى الثانى" كل حيوان إنسان"؛ لأن التعريفين لا قلب فيهما على أن التعريف من قبيل التصور، فلا قضية أصلا حتى يقلب جزأيها.
(قوله: هو) أى: لفظ الله من لله اسم
…
إلخ، والاسم يطلق على ما قابل الفعل والحرف وعلى ما قابل الكنية واللقب وعلى ما قابل الصفة، ويصح إرادة ما عدا الأول إذ لا توهم فيه وإرادة الثالث أنسب؛ لأن جعله مقابلا للصفة فيه رد على من قال- كالبيضاوى (1): إنه صفة فى الأصل لا علم؛ لأن العلم ما وضع لمعين، وذاته تعالى لا طريق للعلم بحقيقتها فكيف يوضع لها العلم، وإنما كان صفة مع أنه جامد؛ لأنه مؤول بمشتق أى معبود بحق ثم صار علما بالغلبة التقديرية، وما ذكره الشارح لا يصح أن يكون تعريفا حقيقيا للفظ الجلالة؛ لأنه يجب أن يكون مانعا من دخول الغير فيه، وهذا ليس كذلك؛ لأنه يدخل فيه غير لفظ الجلالة من الألفاظ المرادفة له من اللغات الفارسية وغيرها بل هو تعريف رسمى المقصود منه بيان المعنى الموضوع له، فلا يختص ذلك المعنى بلفظ ولا لغة بل كل ما رادفه
(1) هو قاضى القضاة على بن عمر البيضاوى.
للذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد، والعدول إلى الجملة الاسمية
…
===
صح أن يعبر به عن ذلك المعنى لحصول الغرض منه، وذات الشيء تقال على حقيقته الكلية وعلى هويته الخارجية، والمراد هنا الثاني، وتستعمل الذات استعمال النفس واستعمال الشيء فلذا يجوز فيها التذكير والتأنيث.
(قوله: للذات) أورد المعرف باللام إشارة إلى أنه اسم للذات المعينة بالشخص فيكون علما شخصيا.
(قوله: الواجب الوجود
…
إلخ) اعترض ذكر هذين الوصفين بأنه إن كان لكونهما من جملة الموضوع له لزم عليه أن لفظ الجلالة كلى انحصر فى جزئي، وهو باطل؛ لأنه يلزم عليه عدم إفادة لا إله إلا الله للتوحيد، والعقلاء مجمعون على إفادتها لذلك، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
وإن كان ذكرهما لتمييز الموضوع له عن غيره، فلا وجه لتخصيصهما بالذكر من بين الأوصاف المميزة، وأجيب باختيار الثاني، وإنما خصّا بالذكر لاشتهاره بهما واختصاصه بهما لفظا ومعنى، فلا يستعمل واحد منهما فى غيره، وليس أحد فى الواقع متصفا بواحد منهما غيره تعالى، وقدّم الأول على الثاني؛ لأن الأول أصل لغيره من صفات الكمال؛ لأن كل كمال يتفرع على وجوب الوجود بالذات؛ لأنه المفهوم عند الإطلاق، فواجب الوجود من حيث هو كذلك أكمل الموجودات وأشرفها، فيجب اتصافه بأشرف طرفى النقيضين من أى وصف اعتبر، وأخر الوصف الثانى عن الأول؛ لأن استحقاقه لجميع المحامد فرع وجوب وجوده، والمحامد جمع محمدة بمعنى الحمد أى المستحق لكل فرد من أفراد الحمد.
(قوله: والعدول إلى الجملة الاسمية
…
إلخ) هذا يفيد أن أصل هذه الجملة الاسمية الجملة الفعلية المعدول عنها، وهو كذلك لأمرين:
أولهما: أن الحمد من المصادر الدالة على الأحداث المتعلقة بمحالها من الذوات والشائع الكثير فى بيان الأحداث المنسوبة لمحالها المتعلقة بها هو الأفعال لدلالتها على وقوع تلك الأحداث فى أزمنة مخصوصة.
ثانيهما: أن ذلك المصدر، وهو الحمد فى أكثر استعماله منصوب على المفعولية المطلقة بأفعال محذوفة بأن يقال: حمدا لله، والأصل: حمدت حمدا الله؛ فحذف الفعل مع الفاعل، وأقيم المصدر مقامه.
للدلالة على الدوام والثبات، وتقديم الحمد باعتبار أنه أهم نظرا إلى كون المقام مقام الحمد كما ذهب إليه صاحب الكشاف
…
===
(قوله: للدلالة على الدوام والثبات) أى: لمضمونها، والثبات هو الحصول المستمر، وحينئذ فعطفه على الدوام للتفسير بخلاف الثبوت؛ فإنه أعم من الدوام؛ لأنه مطلق الحصول فيوجد مع التجدد ومع الدوام ثم إن ما ذكره الشارح من دلالة الجملة الاسمية على دوام مضمونها وثباته بخلاف الفعلية؛ فإنها تدل على تجدد مضمونها وحدوثه أى: حصوله بعد أن لم يكن. هو ما ذكره صاحب الكشاف، وصاحب المفتاح، وكلام الشيخ عبد القاهر فى دلائل الإعجاز يقتضى أن الجملة الاسمية إنما تدل على مجرد الثبوت، ولا دلالة لها على الدوام حيث قال:" لا دلالة لقولنا زيد منطلق على أكثر من ثبوت الانطلاق لزيد"(1)، وجمع شارحنا بين الكلامين فى شرح المفتاح كلام الشيخ عبد القاهر بالنظر لأصل الوضع، وكلام صاحب الكشاف وصاحب المفتاح بالنظر للقرائن كرعاية المقام، والعدول عن الفعلية. (وقوله: وتقديم الحمد) أى: على لفظ الجلالة، وقوله:" باعتبار" أى: بسبب اعتبار وملاحظة أنه- أى: الحمد- هنا أهم أى: من اسم الله؛ فحذف المفضل عليه للعلم به، واعترض على الشارح بأن الأصل تقديم المبتدأ، فتقديم الحمد على لفظ الجلالة آت على الأصل، وما كان كذلك لا يحتاج لنكتة التقديم وأجيب بأنه لما كان أصل" الحمد لله"" حمدت الله حمدا" فحذف الفعل اكتفاء بدلالة مصدره عليه فصار" الله حمدا"، ثم أدخلت لام الجر على المفعول فصار" لله حمدا"، ثم أدخلت" أل" على الحمد لإفادة الاستغراق أو لتعريف الجنس أو العهد، ثم رفع لما ذكره الشارح من الدلالة على الدوام والثبات صار أصل" الحمد" التأخير عن لفظ الجلالة، فلا بد من نكتة لتقديمه سلمنا أن أصله التقديم لكن قد عارض هذا الأصل عارض، وهو أهمية اسم الله فقد تعارضت أصالة التقديم وأهمية الله، فلا بد من نكتة مرجحة لذلك التقديم.
(قوله: نظرا إلى كون المقام
…
إلخ) هذا علة لكون الحمد أهم من اسم الله أى:
وإنما كان الحمد هنا أهم من اسمه تعالى نظرا إلى كون المقام وهو مفتتح التأليف مقام الحمد لا مقام ذكر لاسمه تعالى، فإن قلت: الحمد الذى يقتضيه المقام عبارة عن الثناء على الله،
(1) انظر: دلائل الإعجاز ص 248.
فى تقديم الفعل فى قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (1) على ما سيجىء، وإن كان ذكر الله أهم نظرا إلى ذاته.
===
والثناء على الله لا يحصل إلا بمجموع المبتدأ والخبر، وحينئذ فالمقام إنما يقتضى تقديم مجموع الجملة على ما سواه لا تقديم لفظ الحمد على لفظ الجلالة، وحينئذ فتعليل أهمية الحمد على اسمه تعالى المقتضية لتقديم الحمد بكون المقام مقام حمد لا يصح، وحاصل الجواب أنا نسلم أن الحمد الذى يقتضيه المقام هو الثناء وأن الثناء لا يحصل إلا بمجموع الجملة إلا أن لفظ الحمد لما كان موضوعا للثناء كان تقديمه على لفظ الآخر أهم لإشعاره بما يقتضيه المقام، وعلم من كلامه أن الأهم العرضى إذا اقتضاه الحال يكون أولى بالرعاية من الأهم الذاتي.
(قوله: فى تقديم الفعل فى قوله تعالى: اقْرَأْ
…
إلخ) حيث قال: قدم الفعل؛ لأنه أهم من اسم الله؛ لأن المقام مقام قراءة، وهذا مبنى على أن قوله:" باسم ربك" متعلق ب" اقرأ" الأول، وأما إن علق بالثانى ونزل الأول منزلة اللازم، فلا يرد البحث من أصله.
(قوله: وإن كان ذكر الله) الواو للحال، " وإن" زائدة أى: والحال أن ذكر الله أى ذكر هذا اللفظ أهم من كل شيء نظرا إلى ذاته لكونه دالا على الذات العلية المقدمة على غيرها وجودا ورتبة، فإن قلت الاهتمام ب" اسم الله" ذاتى لما علمت والاهتمام ب" الحمد" عرضى أى عارض بالنظر لخصوص المقام، والأول مقدم فى الاعتبار على الثاني، وعلى تقدير عدم تقديمه عليه فى الاعتبار، وأنهما متساويان فيه؛ فهما متعارضان، فإما أن يتساقطا ويعدل إلى أمر آخر أو يرجح اعتبار أحدهما بمرجح؛ قلت: المرجح لاعتبار الاهتمام العرضى الحاصل بتقديم الحمد قصد المتكلم؛ لأن الحاكم بالترجيح فى التقديم فى باب البلاغة قصد البليغ أو كون تقديم الحمد هو الأصل؛ لأنه مبتدأ وساد مسد العامل بحسب الأصل أو أن أهمية الله الذاتية كفت شهرتها مؤنة ما يدل عليها بخلاف الاهتمام بالحمد فإنه عارض، فاللائق الإتيان بما يدل عليه كالتقديم لخفائه.
(1) العلق: 1.
(على ما أنعم) أى: على إنعامه،
…
===
(قوله: على ما أنعم) ليس متعلقا بالحمد على أن" لله" خبر لئلا يلزم الإخبار عن المصدر قبل تمام عمله بل هو إما متعلق بمحذوف خبر بعد خبر أى: كائن على إنعامه فيكون مشيرا إلى استحقاقه تعالى الحمد على صفاته كما يستحقه لذاته، أو متعلق بمحذوف خبر و" لله" صلة الحمد أو متعلق بمحذوف مستأنف أى أحمده على ما أنعم، و" على" بمعنى لام التعليل علة لإنشاء الحمد أو أنهما صلتان للحمد، والخبر محذوف أى: واجب.
(قوله: أى: على إنعامه) أشار بذلك إلى أن" ما" موصول حرفى لا اسمى واختار ذلك لأمرين:
الأول: أن الحمد على الإنعام أمكن وأقوى من الحمد على النعمة؛ لأن الحمد على الإنعام حمد بلا واسطة، وعلى النعمة حمد بواسطة أنها أثر الإنعام؛ لأنه لا يصح الحمد على المنعم به إلا باعتبار الإنعام.
الأمر الثاني: إن جعلها موصولا اسميّا يحوج إلى تقدير عائد، والعائد المجرور لا يحذف اطرادا إلا إذا جر بمثل ما جرّ به الموصول، وهنا الموصول مجرور ب" على"، والعائد مجرور بالباء، فالحذف حينئذ قليل على أنه لا يظهر بالنسبة للمعطوف؛ لأن" علم" أخذ مفعوله فلا يمكن أن يقدر العائد فيه، ولا يجوز عطف الجملة على الصلة إذا خلت عن العائد إلا إذا كان العطف بالفاء، وأما قول بعضهم: إنه يمكن تقدير عائد فى المعطوف بأن يقال: وعلمه، ويجعل قوله:" ما لم نعلم" بدلا من الضمير أو خبرا لمبتدأ محذوف، أو مفعولا لفعل محذوف تقديره: أعنى؛ فتعسف وخروج عن الطريق المستقيم.
أما الأول فلاستلزامه الا بدال من المحذوف، وحذف المبدل منه غير جائز عند الجمهور فى غير الإنشاء، وعند ابن الحاجب (1) مطلقا، وأما فى الأخيرين فلاستلزامهما الحذف بلا
(1) هو العلامة النحوى الفقيه الأصولى، أبو عمر عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب كردى الأصل ولد فى صعيد مصر ونشأ فى القاهرة وسكن دمشق ومات بالإسكندرية، من تصانيفه" الكافية" و" الشافية" ومختصر الفقه" وغير ذلك فى النحو والصرف والفقه والأصول. توفى- رحمه الله سنة 646 هـ انظر: الأعلام للزركلى (4/ 211)، ومقدمة شرح شافية ابن الحاجب (1/ 3).
ولم يتعرض للمنعم به إيهاما لقصور العبارة عن الإحاطة به، ولئلا يتوهم اختصاصه بشىء دون شىء
…
===
دليل يعتد به؛ ولأن الرفع والنصب على المدح، وإن كانا لطيفين فى أنفسهما لكنه لا لطف فى بيان ما علم بما لم نعلم.
(قوله: ولم يتعرض للمنعم به) أى: كلّا أو بعضا تفصيلا أو إجمالا؛ لأن أقسام التعرض للمنعم به أربعة: الأول: أن يكون بذكر جميع الجزئيات تفصيلا بأن يقال: الحمد لله على السمع والبصر إلى آخر النعم، الثاني: أن يكون بذكرها إجمالا بأن يقال: الحمد لله على جميع النعم، الثالث: أن يكون بذكر بعضها تفصيلا بأن يقال: الحمد لله على العلم، الرابع: أن يكون بذكر بعضها إجمالا بأن يقال: الحمد لله على بعض النعم.
(قوله: إيهاما لقصور العبارة
…
إلخ) أى لأجل أن يتوهم السامع قصور العبارة عن الإحاطة بالمنعم به على جميع الاحتمالات، وإن كانت العبارة فى الواقع لا تقصر إلا عن القسم الأول، ولذلك عبر بالإيهام، ويصح أن يراد بالإيهام الإيقاع فى الوهم أى:
الذهن، ولو على سبيل الجزم، وليس المراد بالإيهام التوهم، وهو الطرف المرجوح، والمعنى حينئذ: لأجل أن يوقع فى وهم السامع وفى ذهنه أن العبارة قاصرة لا تحيط بالمنعم به أعم من أن يكون الإيقاع على سبيل الجزم كما فى القسم الأول أولا كما فى بقية الأقسام فاندفع ما يقال: إن التعرض للمنعم به كلا على سبيل التفصيل تقصر عنه العبارة قطعا فلا وجه للتعبير بالإيهام، وحينئذ فالأولى إسقاطه.
(قوله: ولئلا يتوهم اختصاصه) أى: المنعم به أى: إنه لو اقتصر فى حمده على بعض المنعم إجمالا أو تفصيلا لتوهم أن المنعم به مختص بهذا البعض، ويصح رجوع ضمير اختصاصه لحمد الله، وعلى كل حال، فقوله: " ولئلا يتوهم
…
إلخ" علة لعدم التعرض لبعضه إجمالا وتفصيلا، ويصح أيضا أن يكون علة لعدم التعرض للمنعم به كلا إجمالا كما قال الخطابى من حيث إنه يمكن أن يراد بالعموم الخصوص إذ كثر استعمال العام فى الخاص، ولا يقال: إن هذا يعكر علينا فى العموم المأخوذ من الحذف إذ لا فرق، فلا
(وعلم) من عطف الخاص على العام
…
===
تتم النكتة التى أبدوها لترجيح الحذف على الذكر؛ لأنا نقول: الحذف لما كانت دلالته على العموم عقلية كانت قوية؛ فتدفع توهم الخصوص بخلاف الذكر؛ فإن التعويل فى دلالته على الألفاظ، ودلالتها ضعيفة، فلا تدفع توهم الخصوص ثم بعد هذا كله يقال للشارح: إن المصنف قد تعرض للمنعم به إجمالا؛ لأن عموم الإنعام المستفاد من إضافة المصدر إلى الفاعل مستلزم لعموم المنعم به استلزاما عقليا، وحينئذ، فلا يصح قوله:" ولم يتعرض للمنعم به" إلا أن يقال: المراد إنه لم يتعرض له تصريحا إن قلت: إنه قد تعرض لبعض المنعم به صراحة حيث قال: " وعلم من البيان ما لم نعلم"، فلا يصح نفى التعرض بالنظر لهذا القسم، وأجيب بأن المراد: لم يتعرض لذكر المنعم به فى ابتداء الكلام عند ذكر الإنعام.
(قوله: من عطف الخاص على العام) أى: لأن تعليمه- سبحانه وتعالى إيانا البيان الذى لم نكن نعلمه من جملة إنعامه.
(قوله: رعاية
…
إلخ) علة لمحذوف أى:
وعطف هذا الخاص على العام لأجل رعاية أى: ملاحظة براعة الاستهلال، والبراعة:
مصدر برع الرجل إذا فاق أقرانه، والاستهلال أول صياح المولود ثم استعمل فى أول كل شيء، ومنه الهلل أول المطر، ومستهل الشهر أوله، وحينئذ فمعنى براعة الاستهلال بحسب الأصل أى: المعنى اللغوى تفوق الابتداء أى: كون الابتداء فائقا حسنا ثم سمى به فى الاصطلاح ما هو سبب فى تفوق الابتداء، وهو كون الابتداء مناسبا للمقصود، وذلك بأن يشتمل الابتداء على ما يشير إلى مقصود المتكلم ناثرا أو ناظما بإشارة ما، ولا شك أن الابتداء هنا قد اشتمل على البيان الذى هو المنطق الفصيح المعرب عما فى الضمير، وهذا الكتاب فى علم المعانى والبيان والبديع المتعلقة بالبيان المذكور، ففى التعبير به إشارة إلى أن مراد المصنف التكلم على علم له تعلق بالبيان أى: المنطق الفصيح أو أن براعة الاستهلال من حيث إن التعبير بالبيان يشير إلى أن مراد المصنف التكلم فى هذا الكتاب على فن البيان الآتى تعريفه؛ لأن البيانين وإن اختلفا معنى فقد اشتركا فى الاسم، فالإشارة إلى مقصوده حاصلة على كل حال.
رعاية لبراعة الاستهلال، وتنبيها على فضيلة نعمة البيان.
===
بقى شىء آخر، وهو أن رعاية البراعة وملاحظتها تحصل بمجرد ذكر البيان سواء كان معطوفا أو لا. كان عطفه من قبيل عطف الخاص على العام أو لا، وحينئذ، فلا يصح تعليله العطف المذكور بالبراعة المذكورة فكان الأولى أن يقول: وعلم تخصيص بعد تعميم، وذكر ذلك الخاص؛ رعاية
…
إلخ، وأجيب بأنه يلزم من عطف الخاص على العام ذكر ذلك الخاص، فالتعليل بالمعطوف والمعطوف عليه بالنظر لذلك اللازم، ورد هذا الجواب بأنه إنما يتم بالنسبة للعلة الأولى المعطوف عليها، ولا يتم بالنسبة للعلة الثانية المعطوفة، وذلك لأن التنبيه على فضيلة نعمة البيان إنما يحصل بملاحظة العطف لا بمجرد ذكر الخاص، وأجيب بأن ملاحظة العطف إنما هى سبب للتنبيه على زيادة الفضيلة لا للتنبيه على أصل الفضيلة؛ إذ التنبيه على أصلها يحصل بمجرد ذكر ذلك الخاص محمودا عليه. سلمنا أن التنبيه على فضيلة نعمة البيان إنما يحصل بملاحظة العطف؛ فنقول: لا يبعد أن يقال: معنى قوله: " عطف الخاص على العام" ذكره بعد العام بطريق العطف فهنا شيئان: الأول: ذكر الخاص، والثاني: ذكره بعد العام بطريق العطف، فقوله:" رعاية" علة للأمر الأول، وقوله:" وتنبيها" علة للأمر الثاني، والأحسن ما أجاب به العلامة عبد الحكيم عن أصل الإشكال، وهو أن المفعول له قد يكون علة غائية مترتبة، وقد يكون علة باعثة، فالأول: أعنى: قوله: " رعاية
…
إلخ" من الأول، والثاني: وهو قوله: " وتنبيها" من الثاني؛ فإن الرعاية مترتبة على عطف الخاص على العام باشتمال ذلك الخاص على لفظ البيان، والتنبيه باعث على العطف المذكور.
(قوله: وتنبيها على فضيلة نعمة البيان) أى على مزيتها وشرفها؛ لأن البيان هو المنطق الفصيح، كما قال الشارح، والإنسان لا يتوصل إلى أعظم مآربه إلا به، ووجه التنبيه أن ذكر الخاص بعد العام يومىء إلى أن الخاص بلغ فى الشرف والكمال مبلغا بحيث صار كأنه ليس من أفراد العام؛ لأن العطف يقتضى مغايرة المعطوف للمعطوف عليه، والمغايرة تحصل ولو بالعظم على طريقة قوله:
(من البيان) بيان لقوله: (ما لم نعلم)
…
===
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإنّ المسك بعض دم الغزال (1)
والحاصل: أن العطف يشير إلى أن ذلك المعطوف لعظمه أمر آخر مغاير لما عطف عليه، وأنه إنما أفرده بالذكر، ولم يكتف بدخوله تحت العام لعظمه، فكأنه أمر آخر غيره.
(قوله: بيان لقوله: ما لم نعلم) أى: بيان لما من قوله: " ما لم نعلم" لكن لما كانت الصلة والموصول كالشيء الواحد صح ما قاله.
(قوله: ما لم نعلم) أى: فى الزمان السابق على التعليم، وتعليم ذلك البيان الذى كان غير معلوم بخلق علم ضرورى فى أبينا آدم بجميع الأسماء والمسميات من كل لغة، واعترض بأنه لا حاجة لذكر قوله:" ما لم نعلم" للاستغناء عنه بقوله: " علم"؛ لأن التعليم لا يتعلق إلا بغير المعلوم، فغير المعلوم لازم للتعليم، وبذكر الملزوم يعلم اللازم، وأجيب بأن غير المعلوم منه ما هو صعب المأخذ لا ينال بقوتنا واجتهادنا، ومنه ما هو سهل المأخذ بحيث ينال بقوتنا واجتهادنا بحسب العرف، واللازم للتعليم الثانى دون الأول، والمراد هنا فى كلام المصنف الأول، فقوله:" ما لم نعلم" أى:
بقوى أنفسنا واجتهادنا ولو حذف قوله: " ما لم نعلم" لتوهم أن ذلك العلم أمر سهل المأخذ ينال بالاجتهاد والقوى البشرية، حينئذ فالتصريح بقوله:" ما لم نعلم" لدفع ذلك التوهم، وهذا الذى ذكره الشارح مأخوذ من قوله تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ (2)، وقد يقال: إن هذا التوهم يدفعه قوله: " من البيان"؛ لأنه لا ينال بالقوة والاجتهاد عرفا، فلو قال:" وعلمنا البيان" لكفى فى دفع ذلك التوهم، فلعل الأحسن أن يقال: إنما أتى بقوله:
" ما لم نعلم" لرعاية السجع أو لدفع توهم التجوز بأن يراد بالتعلم إحضار المذهول عنه وتذكير المنسى، وما قيل: إن فائدته التصريح بأنه تعالى نقلنا من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ففيه بحث؛ لأن هذه الفائدة مستفادة من التعليم بلا شبهة ثم إن قوله:" ما لم نعلم" مفعول ثان ل" علم"، والأول محذوف أى: علمنا، إذ ليس" علم" من أفعال
(1) البيت من الوافر، وهو للمتنبى فى ديوانه، وأسرار البلاغة ص 123، 140 تحقيق: أحمد شاكر.
(2)
النساء: 113.
قدّم رعاية للسجع، والبيان: المنطق الفصيح المعرب عما فى الضمير.
(والصلاة والسّلام
…
===
القلوب حتى لا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه، وكيف وقد وقع الاقتصار عليه فى قوله تعالى: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا (1).
(قوله: قدّم رعاية للسجع) ظاهره أن رعاية السجع لا تتأتى إلا بتقديم ذلك البيان مع أنه يمكن مراعاة السجع بدون تقديم له بأن يقال: وما لم نعلم من البيان علم، وأجيب بأن مراد الشارح: قدم ذلك على المبين فقط بعد ذكر العامل فى مرتبته، ولا شك أن الرعاية المذكورة لا تحصل مع ذكر العامل فى مرتبته إلا بذلك التقديم، وأما ما أجاب به العلامة القاسمي (2) من أنه يلزم من تأخير" علم" تقديم معمول الصلة عليها؛ لأن" علم" معطوف على" أنعم" الذى هو صلة ل" ما"، " وما لم نعلم" مفعوله، وذلك لا يجوز مردود؛ لان الممنوع تقديم معمول الصلة على الموصول نحو:" جاء زيدا الذى ضرب"، وأما تقديمه على الصلة وحدها نحو:" جاء الذى زيدا ضرب" فلم يمنعه أحد.
(قوله: المنطق) أى: المنطوق به، " والفصيح" بمعنى الظاهر الذى لا يلتبس بعضه ببعض كما فى ألحان الطيور، وليس المراد بالفصيح الخالص من اللكنة؛ لأن المراد بالبيان هنا ما يتميز به نوع الإنسان، وربما لا يكون فصيحا بالمعنى المذكور.
(قوله: المعرب عما فى الضمير) أى: المظهر له بدلالات وضعية إما من الله أو من أهل اللغة على ما بين فى موضعه.
(قوله: والصلاة والسّلام
…
إلخ) الظاهر أن هذه الجملة إنشائية؛ لأن المقصود منها الدعاء له صلى الله عليه وسلم، ويدل لذلك ما ورد: كيف نصلى عليك؟ فقال: " قولوا
(1) البقرة: 32.
(2)
هو علامة الشام- محمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق- من سلالة الحسين السبط، إمام الشام فى عصره علما بالدين وتضلعا من فنون الأدب، مولده ووفاته فى دمشق كان سلفى العقيدة لا يقول بالتقليد، من مصنفاته:" إصلاح المساجد من البدع والعوائد"، " محاسن التأويل"، " دلائل التوحيد"، " موعظة المؤمنين"، ولابنه ظافر القاسمى كتاب: جمال الدين القاسمى وعصره، توفى- رحمه الله سنة 1332 هـ. انظر الأعلام (2/ 135).
على سيدنا محمد خير من نطق بالصواب، وأفضل من أوتى الحكمة) هى علم الشرائع،
…
===
اللهم صل
…
إلخ" (1) فهذا دليل على أن المراد منها الدعاء، فهو من قبيل عطف الإنشاء على الإنشاء أعنى: جملة الحمدلة. أما على أن جملة الحمد خبرية قالوا: " و" للاستئناف، وقول المغنى: واو الاستئناف هى الداخلة على مضارع مرفوع يظهر جزمه ونصبه أغلبى أو للعطف، ويقدر القول أى: وأقول الصلاة
…
إلخ، وإنما احتجنا لذلك لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر نعم على ما قاله بعضهم، وإن كان بعيدا أن جملة الصلاة يصح أن تكون خبرية؛ لأن المقصود بها تعظيمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإخبار بأن الله صلى عليه تعظيم له يكون العطف من قبيل عطف الخبرية على مثلها، وإنما كان جعل جملة الصلاة خبرية بعيدا؛ لأنه يقتضى أنه ليس القصد منها الدعاء بل التعظيم، وليس كذلك كما يدل له الحديث السابق ثم إن المقصود بالصلاة عليه طلب رحمة لم تكن حاصلة؛ فإنه ما من وقت إلا ويحصل له فيه نوع من الرحمة لم يحصل له قبل. فلا يقال الرحمة حاصلة فطلبها طلب لما هو حاصل.
(قوله: على سيدنا محمد) يتنازعه كل من الصلاة والسّلام بناء على جواز التنازع بين العوامل الجوامد، وأما إن قلنا: إنه لا يكون إلا فى المشتقات؛ كان متعلقا بواحد وحذفه من أحدهما لدلالة الآخر أو يقدر الخبر مثنى، ولا حذف، والسيد: هو من ساد فى قومه وكان كاملا فيهم أو الذى يلجأ إليه فى المهمات.
(قوله: خير من نطق) إنما اختار خير من نطق على سائر الصفات المادحة له عليه السلام ليناسب ما ذكر فى جانب الحمد من التعرض لنعمة البيان، واختار التعبير بالنطق على التعبير بالتكلم؛ لأنه ليس أفضل من تكلم بالصواب على الإطلاق لصدقه بالمولى- سبحانه وتعالى فيحتاج إلى أن يقال: إنه عام خص منه البعض، وهو الله فعبر بعبارة قاصرة على الحوادث من أول الأمر، وهو النطق، وفى كلامه تلميح إلى قوله تعالى:
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (2)، والصواب ضد الخطأ.
(قوله: هى) أى: الحكمة علم
(1) أخرجه البخارى (3369)، ومسلم (2/ 50) من حديث أبى حميد الساعدى رضي الله عنه.
(2)
النجم: 30.
وكل كلام وافق الحق، وترك فاعل الإيتاء؛ لأن هذا الفعل لا يصلح إلا لله تعالى.
(وفصل الخطاب)
…
===
الشرائع، لم يأت ب" أي" التفسيرية بدل" هى" قيل: ليفيد أن ما ذكر معنى للحكمة لا بقيد كونها الواقعة فى المتن، وفيه أن الإتيان ب" أي" لا يقتضى كون ما ذكر معنى الواقعة فى المتن بخصوصها، فلعل الأحسن أن يقال: حكمة الإتيان ب" هى" دون" أى" إفادة أن الحكمة مقصورة على ما ذكره لا على غيره من المعانى التى ذكروها للحكمة من الإدراكات أو العلم بالشيء على ما ينبغى مع العمل به فيكون فى كلامه إشارة إلى أن هذا المعنى هو المرضى من بين معانيها، وإنما كان الإتيان ب" هى" مفيدا لذلك؛ لأن الجملة حينئذ معرفة الطرفين، وهى تفيد الحصر.
(قوله: وكل كلام وافق الحق) المراد بالحق النسبة الواقعية أى: كل كلام وافقت نسبته الواقعية الواقع، ونفس الأمر وأصله حاقق، وعطف قوله: وكل كلام على ما قبله من عطف العام على الخاص؛ لأن قولك:
الواحد نصف الاثنين كلام وافق الحق، وليس بشريعة.
(قوله: لأن هذا الفعل
…
إلخ) هذا فى الحقيقة علة لمحذوف، وتقدير الكلام ولم يذكر فاعل الإيتاء، وهو الله لتعينه وظهوره؛ لأن هذا الفعل لا يصلح إلا لله، وإذا كان كذلك فلا يحتاج للنص عليه قيل:
إن الأنسب أن يكون المراد بمن نطق بالصواب: الأنبياء- عليهم الصلاة والسّلام- وبمن أوتى الحكمة وفصل الخطاب: الرسل- عليهم الصلاة والسّلام- فإن النبيّ هو الإنسان المبعوث إلى الخلق عموما أو خصوصا بملاحظة معنى الإنباء عن الله وأحكامه، والرسول هو الإنسان المبعوث بملاحظة إرساله إليهم مؤيدا بالمعجزة، ومعه كتاب مشتمل على الحكمة، وهذا مبنى على اتحاد النبى والرسول ذاتا، وإن اختلفا اعتبارا على اشتراط الكتاب مع الرسول، ونوقش فيه بأن عدد الرسل يزيد على عدد الكتب، فتأمل.
(قوله: وفصل الخطاب) يحتمل أنه عطف على" أوتى الحكمة" بناء على أن فصل فعل ماض على وزن ضرب، " والخطاب" مفعوله؛ فيكون جملة فعلية، ويحتمل العطف على" الحكمة" عطف مفرد على مفرد بناء على أن فصل مصدر وهو الذى مشى عليه الشارح، وحاصل ما أشار إليه الشارح بقوله: أى: الخطاب المفصول أو الفاصل أن إضافة
أى: الخطاب المفصول البين الذى يتبينه من يخاطب به ولا يلتبس عليه، أو الخطاب الفاصل بين الحق والباطل
…
===
" فصل" للخطاب من إضافة الصفة للموصوف، وأن المصدر بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول على طريق المجاز المرسل، وعلاقته الجزئية أو التعلق الخاص، ولك أن تجعل الفصل باقيا على مصدرّيته، ويعتبر التجوز فى إضافته إلى الخطاب على حد: جرد قطيفة، وأخلاق ثياب؛ فأصله خطاب فصل نحو: رجل عدل، ونحو: وإنما هى إقبال وإدبار، وهذا أوفق بما عليه أئمة المعانى حيث رجحوا التجوز العقلى على التجوز الإعرابى بحذف المضاف، وعلى المجاز اللغوى، وذلك لتضمن المجاز العقلى من المبالغة البليغية ما لا يتضمنه المجاز اللغوى ولا المجاز الإعرابي.
(قوله: أى: الخطاب المفصول) المراد بالخطاب: الكلام المخاطب به، وقوله:" البين" تفسير للمفصول، وقوله:" الذي يتبينه" تفسير للبين أى: يجده بينا ظاهرا، ويعلمه كذلك من يخاطب به، وقوله:" ولا يلتبس عليه" تفسير لقوله: " يتبينه" فظهر لك أن التبين هنا بمعنى العلم والفهم، ولهذا عدّى بنفسه، وأما الذى بمعنى الظهور فهو لازم.
واعلم أن المراد بفصل الخطاب هنا إما الكتب المنزلة على الرسل أو ما يعمها ويعم سننهم القولية، واعترض بأن فصل الخطاب بهذا المعنى كيف يتناول القرآن، وفيه من المتشابهات ما لا يتبينها من يخاطب بها وتلتبس عليه؟ قلت: المراد بكون المخاطب يجده بينا ولا يلتبس عليه: أنه لا صعوبة فى فهمه، ومن حيث ما يخل بالبلاغة بحيث يعرف المخاطب مواضع الحذف والإضمار والفصل والوصل وغير ذلك من الأوصاف الموجبة للبلاغة، أو يجاب بأن كلام الشارح مبنى على مذهب المتأخرين من أن الراسخين فى العلم يعلمون تأويل المتشابهات وهم المخاطبون بها؛ لأن الخطاب توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، فمخاطب البارى يجب أن يفهم ما خوطب به وهم يتبينونها، ولا تلتبس عليهم أو يجاب بأن المخاطب بها هو الرسول- عليه الصلاة والسلام وهو يتبينها أو يقال: إن إيتاءه عليه الصلاة والسلام الكلام البين لا يقتضى أن يكون كل كلام أوتيه كذلك، وحينئذ فلا ترد المتشابهات على رأى السلف.
(قوله: أو الخطاب الفاصل)
(وعلى آله) أصله: أهل بدليل: أهيل؛
…
===
أى الكلام المميز بين الحق والباطل، وشاع استعمال الحق والباطل فى الاعتقادات، والخطأ والصواب فى الأعمال. (قوله وعلى آله) فيه إضافة الآل للضمير، وهو جائز على التحقيق خلافا لمن قال: إنه من لحن العامة؛ لأن آل إنما يضاف لذى شرف، والظاهر أشرف من الضمير، ورد بأن الضمير يعطى حكم مرجعه فى الشرف وعدمه، ويدل للجواز قول عبد المطلب:
وانصر على آل الصلي
…
ب وعابديه اليوم آلك (1)
(قوله: أصله أهل) أى: من قولهم: فلان أهل لكذا أى: مستحق له، ولا شك أن الرجل مستحق لآله، وآله مستحقون له؛ فأبدلت الهاء همزة فتوالت همزتان أبدلت الثانية ألفا، فإن قلت: إبدال الهاء همزة مشكل، إذ فائدة التصريف النقل لما هو أخف والنقل هنا لما هو أثقل إذ الهمزة أثقل من الهاء، وأجيب بأن هذا الثقيل لم يقصد لذاته وإنما هو وسيلة للتوصل للخفيف المطلق وهو الألف ولم تقلب الهاء ألفا من أول الأمر؛ لأنه غير معهود فى محل آخر حتى يقاس هذا عليه بخلاف قلبها همزة؛ فإنه قد عهد كما فى" أراق" أصله:
هراق.
(قوله: بدليل أهيل) أى: بدليل تصغيره على أهيل، والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها، واعترض بأن فى الاستدلال بالتصغير دورا؛ وذلك لأن المصغر فرع المكبر، وحينئذ ف" أهيل" متوقف على" آل"، فإذا استدل ب" أهيل" على أن أصله أهل كان آل متوقفا على" أهيل"، وهذا دور لتوقف كل واحد على الآخر، وأجيب بأن الجهة منفكة؛ لأن توقف المكبر على المصغر من حيث العلم بأصالة الحروف، وتوقف المصغر على المكبر
(1) البيت ينسب إلى عبد المطلب بن هاشم، جدّ النبى صلى الله عليه وسلم وأنه قالها عند محاولة أبرهة الأشرم هدم الكعبة المشرفة عام الفيل. ولقد أورد ابن كثير فى" البداية والنهاية" نحوا من هذا البيت وهى قوله:
لا همّ إنّ العبد يمنع رحله فامنع رحالك
…
لا يغلبنّ صليبهم ومحالهم غدوا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدالك
انظر: " البداية والنهاية"(2/ 59) بتحقيق د/ عبد الحميد هنداوي.
خص استعماله فى الأشراف وأولى الخطر.
===
من حيث الوجود، واعترض أيضا بأن أهيلا يمكن أن يكون تصغيرا ل" أهل" لا ل" آل"؛ وحينئذ فلا يصح الاستدلال، وأجاب بعضهم بأن آل هذا مكبر ولا بد له من مصغر، ولم يسمع إلا أهيل دون أويل حتى يكون أصله أول ولا أئيل حتى يكون أصله أول، ولا أييل حتى يكون أصله أيل فدل على أن أهيلا تصغير له، وهذا لا يمنع من كونه تصغيرا ل" أهل" أيضا لكن ما ذكره ذلك البعض من أنه لم يسمع أويل فيه نظر؛ ففى" المطول" عن الكسائي:(1) سمعت أعرابيّا فصيحا يقول: " أهل وأهيل وآل وأويل" فالأولى فى الجواب أن يقال: إن أهيلا وإن كان يحتمل أنه تصغير لأهل لكن أهل اللغة ثقات، وقد قام الدليل عندهم على أنه تصغير ل" آل" أيضا، فإن قلت: إن الآل مختص بأولى الخطر والشرف، والتصغير على" أهيل" ينافى ذلك لدلالة التصغير على التحقير قلت:
معنى قول الشارح: " خص استعماله
…
إلخ" أنه لا يدخل إلا على من له شرف، والتصغير إنما اعتبر فى المضاف الذى هو الآل وليس معتبرا فى المضاف إليه كالشرف فلا تنافى لاعتبار كل منهما فى غير ما اعتبر فيه الآخر، سلمنا أن كلا من التصغير والشرف معتبر فى المضاف لكون الشرف سرى من المضاف إليه إلى المضاف، فلا نسلم التنافي؛ لأن التحقير باعتبار لا ينافى الشرف باعتبار آخر فاختصاصه بأولى الشرف ولو من بعض الوجوه، والتحقير من بعض الوجوه، وأما الجواب بأن تصغيره يجوز أن يكون للتعظيم فلا يمنع من اختصاصه بالإشراف فقد يناقش فيه بأن تصغير التعظيم فرع عن تصغير التحقير كما صرّحوا به.
(قوله: خص استعماله فى الأشراف
…
إلخ) يريد الشارح أن" آل" وقع فيه بحسب الاستعمال تخصيصان، وإن كان عاما باعتبار أصله وهو أهل، الأول: أنه لا يضاف لغير العقلاء فلا يقال: آل الإسلام ولا آل مصر وأمثالهما، ويقال: أهل الإسلام
(1) هو الإمام شيخ القراءة والعربية أبو الحسن على بن حمزة بن عبد الله الكوفى الملقب بالكسائى لكساء أحرم فيه، له تصانيف، منها:" معانى القرآن" و" كتاب فى القراءات" و" مختصر فى النحو"، سار مع الرشيد فمات بالرّى سنة 189 هـ عن سبعين سنة. انظر: سير أعلام النبلاء (9/ 131)، والأعلام (4/ 283).
(الأطهار) جمع طاهر، كصاحب وأصحاب
…
===
وأهل مصر، الثاني: أنه لا يضاف للعاقل إلا إذا كان له شرف وخطر فلا يقال: آل الجزار ويقال: أهله؛ قيل: والسبب فى ذلك أنهم لما ارتكبوا فى الآل التغيير اللفظى بتغيير الهاء ارتكبوا التخصيص الأول قصدا للملاءمة بين اللفظ والمعنى، ولما كانت الهاء حرفا ثقيلا بكونه من أقصى الحلق تطرق إلى الكلمة بسبب قلبها إلى الألف الذى هو حرف خفيف نقص قوى فارتكبوا التخصيص الثانى جبرا لهذا النقص.
(قوله: فى الأشراف) فى القاموس: الشرف محرّكا العلو والمكان العالى والمجد، ولا يكون إلا بالآباء أو علو الحسب أ. هـ. إذا علمت هذا، فقول الشارح: و" أولى الخطر" أتى به لدفع توهم تخصيص الأشراف بشرف الآباء أو بعلو الحسب أفاده عبد الحكيم، وقوله:" الخطر"- بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة- معناه العظم أى: سواء كان فى أمر الدين والدنيا كآل النبىّ أو الدنيا فقط كآل فرعون.
(قوله: جمع طاهر) فى القاموس: الطهر- بالضم- نقيض النجاسة كالطهارة، وطهر كنصر وكرم فهو طاهر وطهور والجمع أطهار وطهارى وطهر. إذا علمت هذا تعلم أن ما ذكره الشارح هنا من أن أطهار جمع لطاهر لا يخالف ما قاله فى شرح الكشاف من أنه جمع لطهر- بكسر الهاء- كنمر وأنمار لما علمت أن المفرد من هذه المادة ثلاثة ألفاظ كل واحد منها يجمع على هذه الجموع الثلاثة فكون أطهار جمعا لطاهر لا ينافى أنه جمع لطهر. نعم ما نقله فى شرح الكشاف عن الجوهرى (1) من أن جمع فاعل على أفعال لم يثبت، لا يسلم كما علمت من كلام القاموس، وما قاله العلامة الفنرى من
(1) هو أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهرى أول من حاول الطيران ومات فى سبيله، لغوى، من الأئمة وخطه يذكر مع خط ابن مقلة، أشهر كتبه" الصحاح"، وله كتاب فى" العروض" و" مقدمة فى النحو"، قال الثعالبى: كان الجوهرى من أعاجيب الزمان وهو إمام فى اللغة أخذ الجوهرى العربية عن أبى سعيد السيّرافى وأبى على الفارسى وخاله صاحب ديوان الأدب أبى إبراهيم الفارابي.
توفى سنة 393 هـ مترديا من سطح داره بنيسابور لمحاولته الطيران! انظر: سير الأعلام للذهبى (17/ 80)، والأعلام للزركلى (1/ 313) والمزهر (1/ 97).
(وصحابته الأخيار) جمع خيّر بالتشديد.
===
الجواب عن التخالف بين كلامى الشارح هنا وفى شرح الكشاف من أنه قد يقال:
مراد الشارح هنا أن الأطهار جمع لطاهر بحسب المعنى فلا مخالفة بين كلاميه لا حاجة إليه، ويخالفه القياس بصاحب وأصحاب هذا محصل ما قاله العلامة عبد الحكيم.
(قوله: وصحابته الأخيار) أى: المختارين، والصحابة فى الأصل مصدر يقال: صحبه صحبة وصحابة أطلق على أصحاب خير الأنام، ولكنها أخص من الأصحاب؛ لأنها لغلبة استعمالها فى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم صارت كالعلم لهم، ولهذا نسب الصحابي إليها بخلاف الأصحاب فيصدق بأى أصحاب كانوا. ثم المختار عند جمهور أهل الحديث أن الصحابى كل مسلم رأى الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل: وطالت صحبته، وقيل: وروى عنه، والظاهر أن مراد المصنف هنا كل مسلم مميز صحب النبى صلى الله عليه وسلم ولو ساعة، وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم عند وفاته مائة ألف وأربعة عشر ألفا كلهم أهل رواية عنه، وفى قول المصنف" الأطهار" التلميح لقوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (1) كما أن فى قوله: " الأخيار" التلميح لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ (2) بناء على أن الخطاب خطاب مشافهة، ولقوله صلى الله عليه وسلم:
(خيركم قرني)(3) وقد تبين بما قلناه من التلميح للآيتين والحديث وجه تخصيص الآل بالوصف بالأطهار وتخصيص الأصحاب بالوصف بالأخيار.
(قوله: جمع خيّر بالتشديد) أراد بهذا أن الأخيار صفة مشبهة واحدها هنا خيّر بالتشديد لا بالتخفيف لما فى القاموس من أن المخففة فى الجمال والميسم، والمشددة فى الدين والصلاح. كذا قال عبد الحكيم ومحصله: أن خيّرا إذا كان صفة مشبهة سواء كان مشددا أو مخففا يجمع على أخيار لكن الشارح إنما قيد بالتشديد؛ لأنه المناسب للمقام،
(1) الأحزاب: 33.
(2)
آل عمران: 110.
(3)
رواه البخارى في" الشهادات" باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2651) ومسلم في فضائل الصحابة باب: فضل الصحابة .. (2535).
(أما بعد) هو من الظروف المبنية المنقطعة عن الإضافة؛ أى: بعد الحمد والصلاة، والعامل فيه أما لنيابتها عن الفعل،
…
===
وقال الفنارى: قيد بالتشديد احترازا عن خير المقصور عن أخير أفعل تفضيل فإنه لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث لكونه فى التقدير: أفعل من، وأفعل من لا يتصرف فيه؛ لكونه مشابها لفظا ومعنى لأفعل التعجب غير المتصرف فيه كما يقرر فى النحو، وهذا لا ينافى أن خيرا الواقع صفة مشبهة إذا كان مخففا يجمع على أخيار كالمشدد، وعلى هذا، فيقال: قول الشارح: " جمع خير بالتشديد" أى فى الحال أو فى الأصل فاندفع ما يقال:
إن ظاهر كلام الشارح يقتضى أن خيرا المخفف الواقع صفة مشبهة لا يجمع على أخيار وليس كذلك.
(قوله: أما بعد)" أما" هنا للفصل أى: لفصل ما بعدها عما قبلها مع التأكيد، ووجه إفادتها للتوكيد أنك إذا أردت الإخبار بقيام زيد قلت: زيد قائم، وإذا أردت تأكيد ذلك وأنه قائم ولا محالة قلت: أما زيد فقائم أى: مهما يكن من شىء فزيد قائم فقد علقت قيام زيد على وجود شيء فى الدنيا، وذلك محقق والمعلق على المحقق محقق فإن قلت: إن مضمون الجزاء وهو كون علم البلاغة وتوابعها موصوفا بالأوصاف الآتية محقق لا إنكار له، ولا شك فيه، والتأكيد يكون لدفع الإنكار أو الشك قلت: يكفى فى صحة التأكيد الإنكار التنزيلى الادعائى على أن التأكيد قد يكون لمجرد الاعتناء بالحكم وتقريره فى النفوس كما سيأتى إن شاء الله.
(قوله: هو) أى: لفظ" بعد" هنا، وإنما قيدنا ب" هنا" لأجل قوله:" المبنية"، وإلا فلفظ" بعد" فى حد ذاته قد يكون معربا.
(قوله: من الظروف) أى: الزمانية نظرا للنطق أو المكانية باعتبار الرقم لكن فى الثانى بعد، وقوله:" المبنية" أى: على الضم.
(قوله: المنقطعة
…
إلخ) هذا إشارة لعلة البناء والمراد لانقطاعها لفظا لا معنى، وإلا فمطلق الانقطاع لا ينتج البناء؛ لأن الانقطاع قد يجامع الإعراب، وحاصله أنه لما حذف المضاف إليه ونوى معناه، وهو النسبة الجزئية، وأدى ذلك المعنى بالمضاف، وهو الظرف صار مشابها للحرف فى المعنى فلذلك بنى.
(قوله: أى: بعد الحمد
…
إلخ) أراد بالحمد هنا وفيما يأتى الثناء فتدخل البسملة فإنها من جملة الثناء، وقد أتى بها المصنف، (وقوله: لنيابتها عن الفعل) علة لكونها عاملة
والأصل: مهما يكن من شىء بعد الحمد والصلاة،
…
===
فى الظرف أى: أن عملها ليس من ذاتها بل لنيابتها عن الفعل، وهو" يكن" الذى هو فعل الشرط، وفى هذا إشارة إلى أن العامل فى الظرف حقيقة الفعل، وأما" أما" فبطريق المعروض، وذلك لأن الظرف من متعلقات الشرط الذى نابت عنه" أما" فتكون نائبة عنه معنى وعملا.
(قوله: والأصل
…
إلخ) هذا فى قوة العلة لما قبله أى: لأن أصل التركيب الذى نابت عنه فيه" أما" مناب الفعل مهما
…
إلخ أو أنه مستأنف جواب عن سؤال مقدر تقديره: أين الفعل الذى نابت عنه" أما" ثم إن المراد بالأصل: ما حق الكلام أن يكون عليه، وليس المراد أن الكلام كان مطولا ثم اختصر واعترض بأنه لا دلالة على هذا الأصل؛ لأن الفاء غاية ما تقتضى شرط أما لا خصوص مهما، ويجاب بأن غير مهما لما كان خاصا بشيء لأن" من" لمن يعقل" وما" لغيره" ومتى" للزمان" وأين" للمكان، والمقصود هنا التعميم، وإذ ما" ومهما" عام إلا أن المناسب لمقام التوكيد" مهما" فلذا اختيرت. لا يقال إن" إن" أيضا عامة قلت: نعم إلا أنها للشك فلا تناسب المقام ثم إن مقتضى هذا الأصل الذى ذكره أن الظرف المتوسط بين أما والفاء من متعلقات الشرط المحذوف وما بعد الفاء جملة مستقلة ويرشح ذلك قوله سابقا، والعامل فيه" أما" لنيابتها عن الفعل وهو قول بعضهم وقيل: إن الواسطة بين أما والفاء من متعلقات الجزاء مطلقا أى: ظرفا كان أو غيره، وقدمت تلك الواسطة عليه لتكون كالعوض عن فعل الشرط الملتزم حذفه بعد" أما" لجريه على طريقة واحدة، وعليه مشى الشارح فى" المطول" فى متعلقات الفعل، وقيل: إن كانت الواسطة مما يصح عمل ما بعد الفاء فيها بأن كانت ظرفا فهى من متعلقات الجزاء وإن لم يصح عمل ما بعد الفاء فيها، فهى من متعلقات الشرط المحذوف. والذى عليه المحققون القول الثانى؛ لإفادته تعليق الجواب على محقق وهو وجود شيء ما فى الدنيا بخلافه على القول الأول فإنه يكون معلقا على وجود شيء مقيد بكونه بعد الحمد وتعليق الشىء على المطلق أقرب لتحققه فى الخارج من التعليق على المقيد، وإن كان الأمران بالنظر لما فى المقام سيان؛ لتحقق ما علق عليه فيهما.
" ومهما" هنا مبتدأ والاسمية لازمة للمبتدأ، " ويكن" شرط، " والفاء" لازمة له غالبا
…
===
(قوله: ومهما هنا) أى: فى هذا التقدير الذى قدره الذى هو أصل" أما" وإنما قيد ابتدائية مهما ب" هنا"؛ لأنها قد تكون فى غير هذا المكان مفعولا كقولك: مهما تعطنى من شيء أقبل.
(قوله: والاسمية لازمة للمبتدأ) إنما لم يقل له مع أن المقام مقام إضمار لئلا يتوهم رجوع الضمير إلى خصوص هذا المبتدأ الذى هو" مهما" فأشار به إلى أن الاسمية لازمة للمبتدأ أى مبتدأ كان.
(قوله: ويكن شرط) أى: فعل شرط و" كان" هنا تامة بمعنى يوجد فاعلها ضمير يعود على" مهما"، وهو الدال على اسميتها و" من شيء" بيان ل" مهما" فى موضع الحال فإن قلت: لا فائدة لهذا البيان؛ لأن مهما عامة فهى نفس الشيء ففيه بيان للشيء بنفسه ولا فائدة لهذا البيان قلت: فائدته التنصيص على عمومها وأنها غير خاصة بزمان ولا مكان ولا بغير ذلك فهى ليست واحدة بخصوصه، فهذا البيان مفيد لتأكيد العموم، ويجوز جعل" مهما" للزمان والشرط، وفاعل" يكن"" من شيء". على جعل" من" زائدة؛ لأن الشرط فى حكم غير الموجب، والمعنى: أى: زمان يوجد فيه شيء
(قوله: والفاء لازمة له) أى: لجوابه، وقوله: غالبا أى: فى أغلب أحوال الجواب، وذلك فيما إذا كان الجواب لا يصلح لمباشرة الأداة بأن يجعل شرطا كما لو كان جملة اسمية أو طلبية أو فعلها جامد أو منفى بما أو لن أو مقرون بقد أو السين أو سوف، وأما إذا صلح لمباشرة الأداة بأن كان ماضيا غير مقرون بقد أو مضارعا مثبتا أو منفيا بلا، فلا يلزمه الفاء بل اقترانه بها جائز، وأما حذفها فى حديث:" وإلا استمتع بها"(1) فنادر، وفى قوله:
من يفعل الحسنات الله يشكرها (2)
(1) أخرجه البخارى في" اللقطة" باب: هل يأخذ اللقطة ولا يدعها .. (2437).
(2)
صدر بيت من البسيط، وينسب لعبد الرحمن بن حسان الأنصاري في ديوانه وفي" خزانة الأدب" ص 1557، وبلا نسبة في" العمدة" ص 1316، والمفصل في صنعة الإعراب للزمخشري ص 448، ويروى عجزه:
" والشر بالشر عند الله مثلان".
فحين تضمنت" أما" معنى الابتداء والشرط لزمتها الفاء ولصوق الاسم
…
===
(قوله: فحين تضمنت أما
…
إلخ) المراد بالتضمن القيام والحلول محل المبتدأ، وفعل الشرط بجعل الابتداء بمعنى المبتدأ، وإضافة" معنى" إليه بيانية، ويجعل الشرط بمعنى فعل الشرط أو فى الكلام حذف مضاف أى: معنى ملزوم الابتداء وملزوم الشرط وملزومهما هو" مهما"، ويكن أعنى المبتدأ وفعل الشرط أى: فحين قامت" أما" مقام المبتدأ، وهو" مهما" لزمها لصوق الاسم، وحين قامت مقام فعل الشرط وهو" يكن" لزمتها الفاء. ففى كلام الشارح لف ونشر مشوش وبما ذكرنا من أن المراد بالتضمن القيام والحلول، والمراد بالابتداء المبتدأ، وبالشرط الفعل اندفع ما يقال: إنها لو تضمنت ذلك المعنى حقيقة لكانت اسما وفعلا، وهو باطل.
(قوله: لزمتها الفاء) أى: لزوما عرفيا أى غالبا لا عقليا فلا ينافى أنها قد تحذف قليلا فى غير ضرورة كحديث: " أمّا بعد ما بال أقوام
…
إلخ" (1) وكثيرا عند تقدير القول فى الجزاء كقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ (2) أى: فيقال لهم: أكفرتم، وعند الضرورة كقول الشاعر:
فأما القتال لا قتال لديكم
…
ولكنّ سيرا فى عراض المواكب (3)
(قوله: ولصوق الاسم) اعترض بأن اللازم للمبتدأ إنما هو الاسمية لا لصوق الاسم؛ فكان الواجب أن يكون اللازم ل" أما" الاسمية اللازمة ل" مهما" لقيامها مقامها لا لصوق الاسم، ويجاب بأن لصوق الاسم، وإن لم يكن لازما للمبتدأ إلا أنه أعطى هنا حكم اللازم، وأقيم مقامه لمقتض، وذلك أنه يلزم على جعل الاسمية لازما له خروجها عن الحرفية المتعينة لها؛ فجعل لصوق الاسم أى: وقوعه بعدها بلا فصل بدلا عنها إذ ما لا يدرك كله لا يترك كله، والحاصل أن لصوق الاسم قائم مقام لازم المبتدأ، وفى حكمه
(1) أخرجه البخارى (750).
(2)
آل عمران: 106.
(3)
البيت من الطويل، وهو للحارث بن خالد المخزومى فى ديوانه ص 45، وخزانة الأدب (1/ 452)، وشرح شواهد الإيضاح ص 107.
إقامة للازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره فى الجملة
…
===
فهو اسمية حكما، وأجاب العلامة عبد الحكيم بأن لصوق شيء لشيء أعم من أن يكون باعتبار مفهومه، وذلك كلصوق الاسم للمبتدأ، أو باعتبار تحققه كلصوقه ل" أما" فإن الملاصق لها فرد من أفراد الاسم، وحينئذ فلا اعتراض، واعترض على لزوم لصوق الاسم بقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (1)، وأجاب فى الكشاف بأن التقدير: فأما المتوفى إن كان
…
إلخ، فالاسم ملاصق تقديرا.
(قوله: إقامة للازم) أى: الذى هو الفاء والاسمية الحكمية أعنى لصوق الاسم، (وقوله: مقام) بضم الميم أى: فى موضع الملزوم، وهو المبتدأ والشرط، وقوله: " إقامة
…
إلخ" الظاهر أن كلا من الإقامة والإبقاء تعليل لكل من لزوم الفاء ولصوق الاسم، وإن قوله: " فى الجملة" راجع لكل من الإقامة والإبقاء أى: لزمت" أما" الفاء إقامة" للازم" مقام" الملزوم" فى الجملة وإبقاء لأثره فى الجملة، ولزم" أما" لصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم فى الجملة وإبقاء لأثره فى الجملة، وبيان ذلك أن الفاء وإن قامت مقام الشرط وهو ما قبل الجزاء إلا أنها ليست فى مقامه حقيقة؛ لأن مقامه حقيقة ما قبل الظرف وهو المحل الذى فيه" أما"؛ فلما كانت الفاء قريبة من" أما" فكأنها حلت محل ملزومها، فهى حالة محله فى الجملة لا فى التحقيق، وكذا لصوق الاسم لم يقم فى مقام المبتدأ؛ لأن مقامه حقيقة هو موضع" أما"؛ لأنها نابت عنه ووقعت فى موضعه، لكن لما كان الاسم ملاصقا لها فكأن الاسمية حلت محل ملزومها فهى حالة محله فى الجملة لا فى التحقيق. (وقوله: وإبقاء لأثره
…
إلخ) أثر مفرد مضاف يعم فكأنه قال: وإبقاء لآثاره أى: علاماته ولوازمه فى الجملة فآثار المبتدأ الاسمية والخبر والحمل بينهما فآثاره ثلاثة والاسمية أى: الحكمية بعض تلك الآثار فقد بقيت آثاره فى الجملة من حيث بقاء بعضها، وآثار فعل الشرط الفاء والجزاء والشرط، والفاء بعض تلك الآثار فبقيت آثاره فى الجملة من حيث بقاء بعضها.
(1) الواقعة: 88.
(فلما) هو ظرف
…
===
بقى شيء آخر، وهو أن قوله:" إقامة" لا يصح جعله علة للزمتها لاختلافهما فى الفاعل؛ لأن فاعل لزمت" الفاء" وفاعل إقامة الواضع، وأجيب بأنا نؤول لزمت بألزمت؛ وبهذا اتحدا فى الفاعل وهو الواضع أى ألزم الواضع، أما" الفاء" لأجل إقامته فهو على حد قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً (1) أى: ليجعلكم خائفين.
(قوله: هو ظرف) أى: إذا وقع بعده جملتان، وإلا كانت حرف نفى كلم نحو: ندم زيد ولما ينفعه الندم، أو بمعنى إلا نحو: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (2)، وما ادعاه الشارح من ظرفيتها أى: فيما إذا وليها جملتان هو أحد قولين للنحويين، وقال ابن هشام (3) وابن خروف (4): إنها حرف شرط لما وقع لوقوع غيره عكس لو فإنها شرط لما لم يقع لانتفاء
(1) الرعد: 12.
(2)
الطارق: 4.
(3)
هو الإمام الذى فاق أقرانه، وشأى من تقدمه، وأعيا من يأتى بعده: أبو محمد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن هشام الأنصارى المصرى، ولد بالقاهرة سنة 708 هـ، ولزم الشهاب عبد اللطيف بن المرحل، وتلا على ابن السراج، قال ابن خلدون:" ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه".
من مصنفاته: " أوضح المسالك"، و" مغنى اللبيب"، و" قطر الندى"، و" شرح الشواهد الكبرى"، و" شذور الذهب".
توفى- رحمه الله فى ليلة الجمعة- وقيل: الخميس- الخامس من ذى القعدة سنة 761 هـ، 1360 م.
انظر: الأعلام (4/ 147)، وترجمة ابن هشام فى كتاب أوضح المسالك بتحقيق محمد محى الدين عبد الحميد].
(4)
هو على بن محمد بن على بن محمد الحضرمي، أبو الحسن: عالم بالعربية أندلسى، من أهل إشبيلية.
نسبته إلى حضرموت، ولعل أصله منها، قال ابن الساعي: كان ينتقل فى البلاد ولا يسكن إلا فى الخانات ولم يتزوج قط ولا تسرّى، توفى بإشبيلية 609 هـ- 1212 م، له كتب منها:" شرح كتاب سيبويه" سماه" تنقيح الألباب فى شرح غوامض الكتاب"، و" شرح الجمل للزجاجي"، وله كتاب فى الفرائض". انظر: الأعلام (4/ 330)، و" بغية الوعاة"(2/ 202).
بمعنى إذ
…
===
غيره، واستدل ابن هشام على حرفيتها بقوله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ (1)
…
الآية، فقال: لو كانت ظرفا لاحتاجت لعامل، ولا جائز أن يكون قضينا لأنها مضافة إليه على جعلها ظرفا، والمضاف إليه لا يعمل فى المضاف، ولا جائز أن يكون دل؛ لأن ما النافية لها الصدارة، وما له الصدارة لا يعمل ما بعده فيما قبله، وليس فى الكلام ما يعمل فيها غيرهما، وإذا انتفى العامل انتفت الاسمية وثبتت الحرفية إذ لا قائل بغيرهما وأجيب باختيار كون العامل قضينا، ونمنع كونها مضافة كذا قال: يس، لكنه مخالف لكلامهم إذ كل من قال بظرفيتها قال: إنها تضاف لجملة فعلية ماضوية وجوبا فالأحسن فى الجواب أن يقال: إن العامل فيها جوابها، وهو دل، والظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع فى غيرها، واستدل ابن خروف على حرفيتها بأنه لو كان ظرفا ما جاز:" لما أكرمتنى أمس أكرمتك اليوم"؛ لأنه إذا كان ظرفا كان عامله الجواب، والواقع فى اليوم لا يكون واقعا فى أمس، وأجيب بأن هذا المثال مؤول، والمعنى لما ثبت اليوم أكرامك لى فى الأمس أكرمتك اليوم فهو مثل قوله تعالى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ (2) فإن الشرط لا يكون إلا مستقبلا، والمعنى:
إن ثبت أنى كنت قلته.
(قوله: بمعنى إذ) هذا أحسن من قول الشارح فى" المطول": إنها بمعنى إذا؛ لأن" لما" ظرف لما مضى من الزمان" وإذ" كذلك بخلاف" إذا" فإنها للمستقبل فالملاءمة بينها وبين" إذ" أقوى وأحسن من قول أبى على الفارسي (3)، وابن جنى (4)
(1) سبأ: 14.
(2)
المائدة: 116.
(3)
هو أبو على الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسى الأصل، أحد الأئمة فى علم العربية، من مصنفاته" الإيضاح" فى قواعد العربية، و" التذكرة"، و" جواهر النحو"، و" العوامل" وغيرها، توفى- رحمه الله سنة 377 هـ وانظر:" الأعلام"(2/ 179).
(4)
هو أبو الفتح عثمان بن جنى الموصلى من أئمة الأدب والنحو، وله شعر، كان أبوه مملوكا روميا لبنى الأزد، قال ابن ماكولا: وكان نحويّا حاذقا مجودا، وقال الثعالبى: هو القطب فى لسان العرب وإليه انتهت الرياسة فى الأدب، وله مصنفات كثيرة، منها:" الخصائص"، و" سر صناعة الإعراب"، و" التمام"، و" تفسير ديوان المتنبى"، و" المقتضب"، توفى- رحمه الله سنة 392 هـ. (الأعلام (4/ 204)، ومقدمة الخصائص بتحقيق محمد على النجار).
يستعمل استعمال الشرط يليه فعل ماض لفظا أو معنى.
(كان علم البلاغة) هو علم المعانى والبيان (و) علم (توابعها) هو البديع
===
إنها بمعنى" حين"، ولذا سميت حينية؛ لأنه يلزم عليه أن تكون" لما" ظرفا محضا، ولا تكون لازمة الإضافة للجملة كحين وليس كذلك إذ كل من قال بظرفية" لما" قال بوجوب إضافتها للجملة بعدها.
(قوله: يستعمل استعمال الشرط) أى: من حيث إفادتها التعليق فى الماضى.
(قوله: يليه فعل) أى: ولو تقديرا كما فى قوله:
أقول لعبد الله لمّا سقاؤنا
…
ونحن بوادى عبد شمس وهاشم (1)
فإن (سقاؤنا) فاعل فعل محذوف يفسره (وها) بمعنى سقط، والجواب محذوف تقديره: قلت، بدليل (أقول) وقوله:(شم) أمر من شمت البرق إذا نظرت إليه، والمعنى:
لما سقط سقاؤنا قلت لعبد الله: شمه.
(قوله: ماض لفظا) أى: فى اللفظ كالواقع فى المتن،
و(قوله: أو معنى) أى: أو ماض فى المعنى نحو: لما لم يكن زيد قائما أكرمتك.
(قوله: وعلم توابعها) أى: والعلم الذى له تعلق بتوابعها، وهى الوجوه المحسنة للكلام البليغ كالجناس والتلميح وغير ذلك، وتعلق العلم بتلك الوجوه من حيث البحث فيه عنها ثم إن الشارح لم يرد بتقديره علم أن المضاف هنا مقدر عطفا على المضاف السابق أعنى علم البلاغة، وإن لفظ" توابعها" مرفوع بإقامته مقام المضاف فى الإعراب كما هو المشهور أو مجرور على تجويز سيبويه إبقاءه على إعرابه؛ لأن إفراد الضمير فى قوله: إذ به يعرف لا يلائمه بل أراد أن توابعها عطف على المضاف إليه السابق أعنى البلاغة، والعلم المضاف فى الأول مسلط عليه ثم إنه يرد إشكال بأن علم البلاغة إن كان المراد به المعنى العلمى كان تفسير الشارح له بقوله:
هو علم المعانى والبيان ظاهرا إلا أنه يشكل عليه العطف على جزء العلم وعود الضمير عليه وهو لا يجوز؛ لأنه ليس له معنى مستقل، وإن كان المراد به المعنى الإضافى أى
(1) البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى شرح الأشمونى (2/ 316)، وشرح شواهد المغنى (2/ 682)، ومغنى اللبيب (1/ 281)، وانظر: المعجم المفصل فى شواهد النحو الشعرية (2/ 932).
والقياس في الفعل" وها" أن يكتب بالياء" وهى"، ولكنه رسم بالألف لقصد الإلغاز.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
العلم الذى له تعلق بالبلاغة فلا يصح تفسير الشارح؛ لأن العلم الذى له تعلق بالبلاغة يشمل النحو والصرف واللغة، وإن صح العطف، ويجاب باختيار الثاني، ويراد بعلم البلاغة علم له زيادة تعلق بالبلاغة بأن دون لأجلها، وحينئذ فلا يشمل غير العلمين المذكورين أو يختار الأول، ويقال: الأعلام الإضافية قد يعامل عجزها حكم كلها كما أن صدرها كذلك، ولذا منعوا عجزها من الصرف فى" أبى هريرة" للعلمية والتأنيث هذا، وقال العلامة الخطابي (1): يمكن أن يدعى أن العلم هو لفظ البلاغة فقط ثم أتى بعلم وأضيف إليه من إضافة العام للخاص كعلم النحو، وحينئذ فالعطف على العلم لا على جزئه، واعترض عليه بأن توابع البلاغة عبارة عن المحسنات البديعية كما مر، وهى ليست تابعة للبلاغة بمعنى العلم بل توابع لها بالمعنى المصدرى، وهى مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وقد يجاب بأنه لا مانع من أن يجعل فى العبارة استخدام بحيث يقال: إنه ذكر البلاغة أولا بمعنى العلم وأعاد عليها الضمير بمعنى آخر، وهو المطابقة. قال العلامة عبد الحكيم: وهذا القول مع ما فيه من التكلف لا يتم إذ لم يثبت أن البلاغة علم لهذين العلمين، وقول المصنف فيما يأتي: وسموهما بالبلاغة المراد بالتسمية فيه الإطلاق لا الوضع.
بقى شيء آخر، وهو أن السيد فى شرح المفتاح نقل عن صاحب الكشاف أن البديع ليس علما مستقلا بل هو ذيل لعلمى البلاغة وكذا السكاكى فلم عده المصنف فنا برأسه، وجعله مع فنى البلاغة من أجل العلوم معللا ذلك بأن كشف الأستار عن وجوه الإعجاز بها مع أنه لا مدخل له فى الكشف المذكور ولا فى معرفة دقائق اللغة العربية؟ وأجيب بأن الحق مع المصنف فى عده له علما إذ البديع له موضوع يتميز به عن
(1) هو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطابي البستى، فقيه محدث من نسل زيد بن الخطاب، له" معالم السنن"، و" بيان إعجاز القرآن"، و" إصلاح غلط المحدثين"، و" شرح البخاري"، وله شعر، ولد سنة 319 هـ، وتوفى سنة 388 هـ. انظر:" الأعلام"(2/ 273).
(من أجل العلوم قدرا وأدقها سرّا إذ به) أى: بعلم البلاغة وتوابعها لا بغيره من العلوم كاللغة والصرف والنحو (تعرف دقائق العربية وأسرارها)
…
===
موضوع علم البلاغة بالحيثية المعتبرة فى موضوعات العلوم وله غاية أيضا؛ فجعله علما مستقلا من العلوم الأدبية أوجه، ولما كان تابعا للمعانى والبيان غلبا عليه فى الحكم بالأجلية والأدقية، وأجرى التعليلين بناء على ذلك.
(قوله: من أجل العلوم) أتى ب" من" للإشارة إلى أنه ليس أجل العلوم على الإطلاق بل من الطائفة التى هى من أجل العلوم، وهذا لا ينافى أن من تلك الطائفة ما هو أجل منه كعلم التوحيد وعلم الشرائع.
(قوله: قدرا) أى: منزلة ومرتبة، وهو تمييز محول عن الفاعل وهو اسم كان أى: لما كان قدر علم البلاغة وسره من أجل أقدار العلوم ومن أدق أسرارها، وقال عبد الحكيم: إنه تمييز من نسبة الأجل إلى العلوم محول عن الفاعل أى: فلما كان علم البلاغة من طائفة علوم أجل قدرها من العلوم، وكذا قوله:" سرّا" أى: من علوم أدق سرها من المعلوم، ولا يلزم عمل اسم التفضيل فى الظاهر، فإنّ التقدير مجرد اعتبار لا استعمال.
(قوله: سرّا) أى نكات فأسراره ونكاته من جملة الدقيق من أسرارها، وفى الأجل والأدق صنعة الطباق، وفى" قدرا" و" سرّا" من عيوب القافية المطلقة الاختلاف بالتخفيف والتشديد.
(قوله: إذ به تعرف
…
إلخ) هذا الدليل على غير ترتيب اللف، وإنما لم يسلك ترتيب اللف لكون الكشف عن وجوه الإعجاز متوقفا على معرفة دقائق العربية المذكور فى هذا الدليل.
(قوله: لا بغيره) إشارة إلى الحصر المستفاد من تقديم المعمول، وقوله:" من العلوم" إشارة إلى أن الحصر إضافي، وإلا فقد تعرف دقائق اللغة العربية بغير علم كإلهام أو سليقة كالعرب.
(قوله: دقائق العربية) أى دقائق اللغة العربية ونكاتها.
(قوله: وأسرارها) عطف تفسير إن كان الضمير فيه راجعا إلى العربية أى دقائق العربية وأسرار العربية، والمراد بهما المعانى المدلول عليها بخواص التراكيب من التقديم والتأخير والتأكيد وعدمه، وهى مقتضيات الأحوال، وعطف مغاير إن كان الضمير راجعا للدقائق أى دقائق العربية وأسرار تلك الدقائق، وعلى هذا فيراد بالدقائق الأحوال وبالأسرار النكات التى تقتضيها تلك الأحوال، والأول: كالشك وخلو الذهن، والثاني: كالتأكيد وعدمه.
فيكون من أدق العلوم سرا (ويكشف عن وجوه الإعجاز فى نظم القرآن أستارها)
…
===
(قوله: فيكون من أدق العلوم سرا) أى: فيكون من طائفة أدق العلوم سرّا، وفيه أن هذا التفريع مشكل؛ لأن دقة المعلوم تستلزم دقة العلم لا أدقيته، فالمناسب أن يبدل" أدق" فى التفريع ب" دقائق"، وأجيب: بأن قوله: " فيكون" مفرع على محذوف فى كلام المصنف، والأصل: ودقائق العربية من أدق الدقائق فيكون
…
إلخ؛ وذلك لأن ما يعرف به أدق الدقائق لا يكون إلا أدق؛ لأن أدقية المعلوم تستلزم أدقية الطريق الموصّل إليه، وأجاب القرمى بأن اختصاص معرفة دقائق العربية وأسرارها- مع كثرتها على ما يشعر بها صيغة الجمع بهذا الفن- يوجب عدم معرفتها بما سواه، وأن ما سواه وإن كان لا يخلو عن إفادتها إلا أنه أدنى مرتبة فى إفادة معرفة تلك الدقائق، وحينئذ فيكون هذا العلم من أدق العلوم سرّا، كما لا يخفى وتأمله. ثم اعلم أن هذا الإشكال إنما يرد على جعل قوله:" وأسرارها" عطف تفسير على الدقائق، وأن ضمير أسرارها للعربية، وأما على جعل الضمير للدقائق، وأن المعنى: أسرار الدقائق أى: دقائق الدقائق فلا يرد؛ وذلك لأن دقائق الدقائق عبارة عما هو أدق وأخفى، فيكون تقدير الكلام: إذ به تعرف المعلومات الدقيقة والمعلومات التى هى أدق، ومن المعلوم أن أدقية المعلوم تستلزم أدقية الطريق الموصلة إليه، وحينئذ فيكون علم البلاغة وتوابعها من أدق العلوم سرّا، واستقام أمر التفريع من غير احتياج لشىء مطوى فى كلام المصنف.
(قوله: ويكشف عن وجوه الإعجاز) أى: عن أنواع البلاغة، وطرقها المشتمل عليها القرآن التى هى سبب فى إعجازه، أى كونه معجزا، بحيث لا يمكن معارضته والإتيان بمثله، والمراد بتلك الطرق خواص التراكيب.
(قوله: فى نظم القرآن) حال من" وجوه الإعجاز" أو من" الإعجاز"؛ لصحة إقامة المضاف إليه مقام المضاف بأن يقال: وبه يكشف عن الإعجاز فى نظم القرآن، فهو مثل قوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً (1)،
(1) النحل: 123.
أى: به يعرف أن القرآن معجز؛
…
===
وقوله: (ويكشف) على صيغة المجهول عطف على" يعرف" مشارك له فى الظرف المتقدم، وفى الصيغة. وإلى هذا يشير قول الشارح: (أى: به يعرف
…
إلخ)، وليس على صيغة المعلوم مسندا لضمير علم البلاغة؛ لأن نصب الأستار يأباه السجع.
(قوله: أى به يعرف أن القرآن معجز) المراد بالمعرفة: التصديقية، وأشار الشارح بذلك إلى أن مراد المصنف بكون هذا العلم يكشف به الأستار عن وجوه الإعجاز التى فى القرآن، معرفة أنه معجز على طريق الكناية؛ لأنه يلزم من كشف الأستار عن وجوه الإعجاز وطرقه التى فى القرآن معرفتها، ويلزم من معرفتها معرفة أنه معجز.
واعترض بأنه لا وجه لذلك الحصر؛ لأن معرفة أن القرآن معجز، كما تستفاد من هذا العلم تستفاد من علم الكلام، وكذا معرفة أن إعجازه لكمال بلاغته، فهو إن أراد بقوله: " أى به يعرف
…
إلخ" معرفة نفس إعجاز القرآن، فالحصر لا يسلم، وإن أراد به معرفة أن إعجازه لكمال بلاغته فكذلك؛ لما علمت أن كلّا منهما مستفاد من علم الكلام، وأجيب بأن يقال: يصح أن يراد الأول لكن المراد معرفة أن القرآن معجز على سبيل التحقيق والإثبات بالدليل، ولا شك أن هذا إنما يحصل بعلم البلاغة؛ لأن ذكر إعجاز القرآن فى علم الكلام إنما هو على سبيل التقليد والتسليم. ويصح أن يراد الثانى لكن المراد معرفة إعجازه لكمال البلاغة على سبيل التفصيل والتعيين، وذلك إنما يحصل بعلم البلاغة؛ إذ به يعرف أن القرآن مشتمل على الخواص والمقتضيات الخارجة عن قدرة البشر، فيلزم من ذلك أن يكون فى غاية درجات البلاغة، فيكون معجزا، وذكر أن القرآن معجز لكمال بلاغته فى علم الكلام، إنما هو على سبيل الإجمال؛ إذ لا يعلم منه ما وجه بلاغته، فضلا عن وجه كمالها، على أن معرفة الإعجاز فى علم الكلام؛ لأنه- إذ (1) علم الكلام- إنما يعرف به الإلهيات والنبوات والسمعيات، وإعجاز القرآن ليس منها، فذكره فيها إنما هو على سبيل الاستطراد وسيلة لثبوت النبوة له عليه الصلاة والسلام، بخلاف علم البلاغة فإن معرفة الإعجاز به لا فيه، فلا ورود للإشكال من أصله.
(قوله:
(1) كذا بالمطبوعة، ولعلها: أي.
لكونه فى أعلى مراتب البلاغة؛ لاشتماله على الدقائق والأسرار الخارجة عن طوق البشر. وهذا وسيلة إلى تصديق النبى صلى الله عليه وسلم، وهو وسيلة إلى الفوز بجميع السعادات فيكون من أجل العلوم؛ لكون معلومه وغايته من أجلّ المعلومات والغايات.
===
لكونه فى أعلى مراتب البلاغة) علة لكونه معجزا، وفيه أن القرآن كله ليس فى أعلى مراتب البلاغة؛ لأن بعضه أبلغ من بعض فيكون بعضه فى أعلى مراتب البلاغة وبعضه دونه، ولكن كله فى مرتبة الإعجاز، وظاهر الشارح خلافه وأن كله فى أعلى مراتب البلاغة، ويجاب: بأن" أعلى" بمعنى" عالى"، وهو يصدق على الأعلى وما دون الأعلى؛ لأن" عالى" مقول بالتشكيك على سائر مراتب العلو، أو أن" أعلى" باق على حاله، ولكن المراد أنه فى أعلى مراتب البلاغة بالنسبة لغيره من سائر كلام البلغاء، وهذا لا ينافى أن يكون بعضه أعلى من بعض فى البلاغة.
(قوله: لاشتماله على الدقائق والأسرار) هذا علة لكون القرآن فى أعلى مراتب البلاغة، وعطف" الأسرار" على" الدقائق" مرادف، والمراد بهما خواص التراكيب التى تقتضيها الأحوال، ثم إن ما ذكره الشارح من أن إعجاز القرآن لاشتماله على الدقائق والأسرار التى ليست فى طوق البشر وقدرتهم هو التحقيق عندهم، وقيل: إن إعجازه من جهة صرف ومنع قدرة البشر عن الإتيان بمثله، وقيل: لاشتماله على الإخبار عن المغيبات، وقيل: لسلامته عن الاختلاف والتناقض، وقيل: لمخالفته لكلام العرب من الرسائل والخطب والأشعار فى الأسلوب، ولا سيما فى المطالع والمقاطع.
(قوله: وهذا) أى: معرفة إعجاز القرآن وسيلة.
(قوله: وهو) أى:
تصديق النبى وسيلة إلى الفوز بجميع السعادات، أى الدنيوية والأخروية.
(قوله: لكون معلومه) أى: ما يعلم من هذا العلم وهو كون القرآن معجزا، وقوله: و" غايته" أى: وهى الفوز بالسعادات، وفى الكلام حذف، أى: وجلالة العلم بجلالة معلومه وغايته، وبهذا تم التعليل، وبما ذكرنا من أن المراد بمعلوم العلم ما يعلم منه اندفع ما يقال: إن معلوم العلم عبارة عن قواعده الكلية، ككل حكم منكر يجب توكيده، وكل فاعل مرفوع، وحينئذ فيلزم تعليل الشيء بنفسه؛ لأن العلم نفس القواعد الكلية التى هى معلومات الفن، وحاصل الجواب: أن مراده بمعلوم هذا العلم ما يعلم منه، ولا شك أن إعجاز القرآن يعلم
وتشبيه وجوه الإعجاز بالأشياء المحتجبة تحت الأستار استعارة بالكناية، وإثبات الوجوه استعارة تخييلية، وذكر الوجوه إيهام.
وتشبيه (*) الإعجاز بالصور الحسنة استعارة بالكناية، وإثبات الوجوه استعارة تخييلية، وذكر الأستار ترشيح. ونظم القرآن تأليف كلماته
…
===
منه بواسطة أنه يعرف منه أسرار القرآن ونكاته التى ليس فى طوق أحد من البشر الإتيان بها، وليس المراد بالمعلومات المعلومات الاصطلاحية، أعنى قواعد الفن، ويدل لذلك قول الشارح:
" معلومه" بالإفراد ولم يقل: معلوماته بالجمع كما هو العادة.
(قوله: وتشبيه وجوه الإعجاز) أى أنواع البلاغة وطرقها التى حصل بها الإعجاز وهى خواص التراكيب، وقوله:" بالأشياء المحتجبة" أى بجامع الخفاء فى كلّ إلا عن القليل ممن يصلح للاطلاع على جمالها بكشف أستارها.
(قوله: استعارة بالكناية) خبر عن" تشبيه" وجعل التشبيه المضمر فى النفس استعارة بالكناية بناء على مذهب المصنف، وقوله:" وإثبات الأستار تخييل" أى على مذهب المصنف والجمهور.
(قوله: وذكر الوجوه) أى: والتعبير عن هذه الطرق بالوجوه إيهام أى تورية، وهى أن يطلق لفظ له معنيان: قريب وبعيد، ويراد منه المعنى البعيد أى القليل فى الاستعمال اعتمادا على قرينة خفية، وذلك كما هنا، فإن إطلاق الوجوه على الجارحة أقرب وأكثر استعمالا بخلاف إطلاقه على الطرق والأنواع فإنه بعيد، والقرينة على إرادة هذا المعنى البعيد هنا استحالة أن يكون الإعجاز له وجوه بمعنى الجارحة.
(قوله: أو تشبيه الإعجاز بالصور الحسنة) أى: بجامع ميل النفوس وتشوقها إلى كلّ.
(قوله: وذكر الأستار ترشيح) أى: لأنه من ملائمات المشبه به، وإنما لم يجعل إثبات الأستار تخييلية على هذا التقرير كالأول؛ لأن الصور المستحسنة من حيث هى ليست الأستار من لوازمها الخاصة، بخلاف الأشياء المحتجبة تحت الستر كما فى التقرير الأول، ولا يقال: إن الترشيح يجب أن يقارن لفظ المشبه به، وليس في المكنية والتخييل ذكر المشبه به، وحينئذ فلا ترشيح؛ لأنا نقول: هذا غير لازم، فقد صرح العلامة السيد بأن الترشيح يكون للمكنية كما يكون للتشبيه وللمجاز المرسل، وتعريفه بما يقترن بلفظ المشبه به من لوازمه تعريف لترشيح المصرحة فقط.
(قوله: تأليف كلماته)
(*) كذا في المطبوعة، وفي شرح الدسوقي- كما يأتي-: أو استكشاف.
مترتبة المعانى متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل، لا تواليها فى النطق وضم بعضها إلى بعض كيفما اتفق.
(وكان القسم الثالث
…
===
أى: جمعها على الصفة التى ذكرها، وحيث كان المراد من نظمه ما ذكر، فيكون التعبير عنه بالنظم الذى هو إدخال اللآلئ فى السلك استعارة مصرحة، أو بالكناية، بأن شبه القرآن بعقد الدرر على طريق المكنية، وإثبات النظم تخييل أو شبه تأليف كلمات القرآن بإدخال اللآلئ فى السلك ثم استعير لفظ النظم له.
(قوله: مترتبة المعاني) أى: حال كون الكلمات مترتبة المعاني، بحيث يكون كل معنى فى مرتبته التى تليق به، فإذا كان أحد المعنيين لازما أو مسببا عن المعنى الآخر، أتى أولا بالمعنى الملزوم أو السبب، ثم بالمعنى اللازم أو المسبب، وكذا إذا أريد الحصر قدم المعمول على عامله؛ لأجل إفادة ذلك، فالمرتبة التى تليق بالمعمول حينئذ التقديم، وبالعامل التأخير، وإذا أريد عدم الحصر عكس الأمر.
(قوله: متناسقة الدلالات) المراد بالدلالات: الدلالات الاصطلاحية، وهى المطابقية والتضمنية والالتزامية، والمراد بتناقسها: تشابهها وتماثلها فى المطابقة لمقتضى الحال، أى: حال كون تلك الكلمات دلالتها متماثلة فى المطابقة لمقتضى الحال؛ فإذا كان الحال يقتضى دلالة المطابقة أتى بها، وهكذا، ولا يرد أن هذا المعنى هو الذى فسر به ترتيب المعانى فيما مر، فيلزم عليه التكرار؛ لأن الأول فى المعاني، والثانى فى الدلالات، وبينهما فرق.
(قوله: على حسب ما يقتضيه العقل) أى: على قدره.
(قوله: لا تواليها فى النطق) أى: فلا يقال لذلك نظم القرآن، والحاصل: أن نظم القرآن لا يطلق على جمع كلماته كيف اتفق، أى: من غير رعاية المناسبة فى المعنى الذى وجوده فى القرآن محال.
(قوله: وضم بعضها إلى بعض) مرادف لما قبله.
(قوله: كيفما اتفق) أى: على أى وجه وأى حال اتفق، سواء كان بين المثانى ترتيب أم لا، كان بين الدلالات تناسق أم لا.
(قوله: وكان القسم الثالث) الواو عاطفة لما بعدها على قوله: " كان علم البلاغة" لا للحال لأمرين:
أولهما: أن الأصل فى العطف الواو. والثاني: أن الحال يقتضى أن الحامل له على التأليف كون علم البلاغة من أجلّ العلوم، المقيد ذلك بكون القسم الثالث غير
من" مفتاح العلوم" الذى صنفه الفاضل العلامة أبو يعقوب يوسف السكاكى أعظم
…
===
مصون عن الحشو، مع أن الحامل له أمران: كون علم البلاغة من أجل العلوم، الثانى كون القسم الثالث غير مصون عن الحشو.
(قوله: من مفتاح العلوم)" من" بيانية مشوبة بتبعيض لا بيانية محضة؛ إذ ليس القسم الثالث هو المفتاح، بل بعضه، ثم إن الجار والمجرور إما حال من القسم الثالث بناء على مذهب سيبويه من جواز مجيئها من المبتدأ، أو صفة له، فإن قلت: إنّ جعله صفة له مشكل؛ لأن الجار والمجرور إذا وقع صفة، فإما أن يكون متعلّقه نكرة هى الوصف فى الحقيقة، فيلزم نعت المعرفة بالنكرة، وإما أن يكون ذلك المتعلق معرفة، أى: الكائن، فيلزم حذف الموصول وبعض الصلة؛ لأن (أل) الداخلة على اسم الفاعل موصول، وذلك لا يجوز. قلت: نختار الأول، لكن نقول: إن تعريف القسم الثالث لفظى؛ بناء على أن (أل) الداخلة عليه جنسية، والمعرف ب (أل) الجنسية معرفة لفظا نكرة معنى؛ فيجوز فى الجار والمجرور بعده أن يكون صفة نظرا للمعنى، وأن يكون حالا نظرا للفظ، ولك أن تختار الثاني، وهو جعل الجار والمجرور متعلقا بمعرفة، ولا يرد ما سبق؛ لأن الوصف المحذوف صفة مشبهة؛ لأنه لم يرد به التجدد والحدوث، بل الدوام. و (أل) الداخلة على الصفة المشبهة معرفة على الصحيح.
(قوله: السكاكى) نسبة لسكاكة قرية بالعراق أو باليمن أو بالعجم، تقريرات.
والذى ذكره السيوطى (1) أنه نسبة لجده، كان سكاكا للذهب أو الفضة.
(قوله: أعظم)
(1) هو عبد الرحمن بن أبى بكر بن محمد بن سابق الدين، الخضيرى السيوطى، جلال الدين: إمام حافظ أديب له نحو (600) مصنف ولد سنة 849 هـ، ونشأ فى القاهرة يتيما، إذ مات والده وعمره خمس سنوات، ولما بلغ أربعين سنة اعتزل الناس، وخلا بنفسه فى روضة المقياس على النيل، منزويا عن أصحابه جميعا. ومن كتبه: الإتقان فى علوم القرآن، والاقتراح فى أصول النحو، والإكليل فى استنباط التنزيل، وبغية الوعاة فى طبقات اللغويين والنحاة، وتاريخ أسيوط وكان أبوه من سكانها. وتوفى سنة 911 هـ. انظر: الأعلام للزركلى (3/ 301، 302).
ما صنف فيه) أى فى علم البلاغة وتوابعها (من الكتب المشهورة) بيان لما صنف (نفعا) تمييز من" أعظم"؛ (لكونه) أى القسم الثالث (أحسنها) أى: أحسن الكتب المشهورة (ترتيبا) هو
…
===
خبر كان، وقوله:" ما صنف فيه"، لا يصح أن تكون ما موصولا حرفيّا؛ لأن القسم الثالث أعظم المصنفات لا أعظم التصنيف؛ فهى إما نكرة موصوفة أو اسم موصول واقعة على الكتب، بدليل تبيين المصنف لها بجمع لا على كتاب؛ لعدم التطابق بين البيان والمبين.
(قوله: بيان لما صنف) أى أعظم الكتب المشهورة التى صنفت فيه، وفيه أن هذا يستلزم أن يكون القسم الثالث كتابا؛ لأن أفعل التفضيل بعض ما يضاف إليه، مع أنه جزء كتاب، وأجيب بأجوبة:
الأول: أن جعله كتابا باعتبار المعنى اللغوى؛ إذ الكتب لغة: الضم والجمع.
الثاني: أنه أفرد بالتدوين؛ فإن بعضهم كالعلامة السيد نقل القسم الثالث بحروفه، وسلخه عن القسمين وشرحه، فقد خرج بالإفراد المذكور عن كونه جزء كتاب إلى كونه كتابا بالمعنى العرفى أيضا.
الثالث: أن القسم الثالث لما كان هو العمدة من" المفتاح"، صار كأنه الكتاب كله.
(قوله: تمييز من أعظم) أى: لأعظم، أى: تمييز لنسبة" أعظم" إلى" ما صنف" محول على الفاعل، أى: أعظم نفعه ما صنف فيه، ولا يقال: إن فيه رفع" أفعل" للظاهر، لأنا نقول: هذا مجرد تقدير لا استعمال؛ فإن قلت: لأى شيء جعله تمييزا من" أعظم" دون" المشهورة"، مع أنه أظهر لدلالته على أن نفع القسم الثالث مما اشتهر بين الأقوام وتقرر لدى الخاص والعام؟ قلت: لأنه لا يكون نصّا فى المقصود حينئذ، وهو أن الأعظمية باعتبار النفع؛ لجواز أن يكون باعتبار آخر، وإنما اعتبر المصنف الوصف بالمشهورة؛ لأنه إذا كان أعظم المشهورة نفعا فغيرها أولى.
(قوله: أحسنها ترتيبا) أى: فتركيب الكتب المشهورة حسن؛ وترتيب القسم الثالث أحسن؛ لوضع مسائله فى المراتب العليا؛ وذلك لأن كل مسألة بل كل كلمة يجوز أن يكون لها مراتب تناسب أن توضع فيها، وبعض تلك المراتب أحسن من بعض، ولهذا جاز أن يكون تأليف أحسن من آخر فى ترتيب كلماته
وضع كل شىء فى مرتبته، (و) لكونه (أتمها تحريرا) هو تهذيب الكلام، (وأكثرها) أى: أكثر الكتب (للأصول) هو
…
===
وفصوله ومسائله، فاندفع ما يقال: إن الترتيب شيء واحد وهو جعل كل شيء فى مرتبته، وإذا كانت الكتب المشهورة مشتملة عليه كما يقتضيه أفعل التفضيل- أعني:
أحسن- لم يتصور أن يكون القسم الثالث أحسن ترتيبا، ثم إن اشتمال القسم الثالث على الحشو والتطويل- كما يصرح به- لا يخلّ بحسن الترتيب؛ لجواز أن تقع المسألة موقعها اللائق بها جدّا، وتكون مع ذلك مشتملة على زيادة، لا سيما إذا كان ذلك الحسن بالقياس إلى كتب أخر.
(قوله: وضع كل شيء فى مرتبته) هذا التعريف مشكل؛ لأن الضمير فى" مرتبته" إن عاد على" كل" لزم أن يكون كل شيء فى مرتبة كل شيء، فيكون الشيء موضوعا فى مرتبته ومرتبة ما سواه، وهو لا يصح، وإن كان عائدا على" شيء" لزم أن تكون جميع الأفراد موضوعة فى مرتبة شيء واحد، وهو لا يصح أيضا، وأجيب: بأنا نختار أن الضمير راجع ل" كل"، وإضافة المرتبة للعموم؛ لأنه مفرد مضاف، والمراد: المراتب اللائقة بها، فالمعنى: وضع الأشياء فى مراتبها اللائقة بها، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، فيقتضى القسمة على الآحاد، فكأنه قيل: وضع هذا الفرد فى مرتبته اللائقة به وهكذا، وهو ظاهر، وأجاب العلامة عبد الحكيم بما حاصله: أن الضمير راجع ل" شيء"، والعموم المستفاد من" كل" يعتبر بعد إرجاع ضمير" مرتبته" إلى" شيء"، فالمعنى: وضع شيء فى مرتبته، أىّ شيء كان.
(قوله: أتمها تحريرا) هذا يفيد أن غيره من الكتب موصوف بتمام التحرير، وأن القسم الثالث موصوف بزيادة التمام، ويرد عليه أن تمام التحرير ينافى وقوع الحشو والتطويل والتعقيد فيه، وأن التمام لا يقبل الزيادة؛ لأنه نهاية الشىء، وحينئذ فلا يصح التفضيل؛ على أن اسم التفضيل إنما يصاغ مما يقبل الفضل والزيادة، والجواب عن الأمرين:
أن المراد بالتمام الثابت لتلك الكتب: القرب إليه، مجازا، والقريب إلى التمام يقبل الزيادة، فلا ينافى وقوع الأمور الثلاثة، ولا صوغ اسم التفضيل.
(قوله: هو تهذيب الكلام) أى: تخليصه من الزوائد، وكونه أتم بالنسبة إليها لا ينافى اشتماله على الحشو والتطويل فى نفسه كما سيذكر، وما ذكره من أن التحرير: وهو
متعلق بمحذوف يفسره قوله: (جمعا) لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه، والحق جواز ذلك فى الظروف؛ لأنها مما يكفيه رائحة الفعل
…
===
تهذيب الكلام، فهو معنى اصطلاحى، وأما فى اللغة: فهو تخليص العبد من الرّقّيّة.
(قوله: متعلق بمحذوف يفسره قوله: جمعا) أى: والأصل: وأكثرها جمعا للأصول جمعا، واعترض هذا بأنه يلزم عليه عمل المصدر محذوفا مع أنه لا يعمل محذوفا، كما لا يعمل فى متقدّم، وأيضا ما لا يعمل لا يفسّر عاملا، ويجاب بأنه من باب حذف العامل لا من باب عمل المحذوف، وقولهم ما لا يعمل لا يفسر عاملا قاصر على باب الاشتغال، وما نحن فيه ليس منه.
(قوله: لأن معمول
…
إلخ) علة لمحذوف أى: وليس متعلقا ب" جمعا" المذكور؛ لأن معمول
…
إلخ.
(قوله: لا يتقدم عليه) أى: لأنه يؤوّل بالموصول الحرفى وصلته، ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول؛ لأنه كتقديم جزء الشيء عليه، فكذلك ما أوّل بهما لا يتقدم معموله عليه، وهذا مذهب الجمهور.
(قوله: والحق جواز ذلك) أى: جواز تقديم معمول المصدر عليه فى الظروف كما هنا، وهذا مذهب الرضى. قال: لأن المؤول بالشيء لا يعطى حكمه من كل وجه؛ لأن تقدير عامل للظرف فيه تكلف، ومما يدل للجواز قوله تعالى:
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ (1) وقوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ (2)، واعترض العصام بأنه ليس هنا ظرف، وإنما هو مفعول به زيدت فيه اللام لتقوية العمل. قال يس: وهو من العجب العجاب؛ لأنه اشتهر كنار على علم أن الظرف والجار والمجرور أخوان، يطلق كل منهما على الآخر، وأنهما إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، كالفقير والمسكين عند الفقهاء.
(قوله: يكفيه رائحة الفعل) أى: ما له أدنى ملابسة بالفعل كالمصدر؛ فإنه يدل على الحدث وهو أحد جزأى مدلول الفعل، وهذا هو المراد برائحة الفعل، فاندفع اعتراض ابن جماعة بأن قولهم: رائحة الفعل غير صحيح؛ لأن الرائحة عرض والفعل عرض فيلزم قيام العرض بالعرض، وإنما كان الظرف يكفيه رائحة الفعل؛ لأن للظرف شأنا ليس لغيره؛ لتنزله من الشيء منزلة نفسه؛ لوقوع الشىء فيه وعدم انفكاكه عنه.
(1) الصافات: 102.
(2)
النور: 2.
(ولكن كان) أى: القسم الثالث (غير مصون) أى: غير محفوظ (عن الحشو) وهو الزائد المستغنى عنه (والتطويل) وهو الزيادة على أصل المراد بلا فائدة، وستعرف الفرق بينهما فى بحث الإطناب (والتعقيد)،
…
===
(قوله: ولكن كان
…
إلخ) هذا استدراك على وصف القسم الثالث بالأوصاف السابقة، وذلك أنه لما وصفه بالأوصاف السابقة توهم أنه مصون عن الحشو والتطويل والتعقيد، فرفع هذا التوهم بقوله: ولكن
…
إلخ.
(قوله: هو الزائد المستغنى عنه) أى: اللفظ الزائد فى الكلام المستغنى عنه فى أداء المراد، سواء كان لفائدة أم لا، كان متعينا أم لا، كما فى قوله: كذبا ومينا.
(قوله: والتطويل) هو مصدر بمعنى اسم المفعول؛ لأن المراد به الكلام الزائد على أصل المراد المستغنى عنه بلا فائدة؛ وقول الشارح: وهو الزيادة، المراد بها الزائد، أو فى الكلام حذف مضاف أى: ذو الزيادة، ثم إن فى كلام الشارح احتباكا حيث حذف من كلّ قيدا أثبته فى الآخر، فحذف من الحشو قوله: على أصل المراد؛ لذكره فى التطويل، وحذف من التطويل: المستغنى عنه؛ لذكره فى الحشو.
(قوله: وستعرف الفرق بينهما) أى: الفرق المعتد به، وإلا فالتفسير الذى ذكره يؤخذ منه فرق أيضا؛ لأنه يقتضى أن يكون بينهما العموم والخصوص المطلق؛ وذلك لأنه قيد التطويل بكونه لغير فائدة، وأطلق فى الحشو، فيجتمعان فى زائد لا لفائدة، وينفرد الحشو فى زائد لفائدة، وحاصل الفرق الآتي: أن الحشو هو اللفظ الزائد المتعين زيادته، كقوله:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله
…
ولكنّنى عن علم ما فى غد عمى (1)
فلفظ" قبله" زائد قطعا، فهو حشو. والتطويل هو الزائد على أصل المراد مع عدم تعينه، كما فى قوله (2):
(1) البيت لزهير، وهو في: ديوانه ص 29، الإشارات ص 144، ونهاية الأرب 7/ 138، والإيضاح 175، 317 بتحقيق د/ عبد الحميد هنداوى.
(2)
البيت من الوافر، وهو لعدى بن الأبرش، وهو فى: الإيضاح ص 174، وأورده الجرجانى فى الإشارات ص 143. قددت: قطعت. الراهشان: عرقان فى باطن الذراعين. والضمير فى" راهشيه" وفى" ألفى" لجزيمة بن الأبرش، وفى" قددت" وفى" قولها" للزباء.
وهو كون الكلام مغلقا لا يظهر معناه بسهولة (قابلا) خبر بعد خبر؛ أى: كان قابلا (للاختصار) لما فيه من التطويل (مفتقرا) أى محتاجا (إلى الإيضاح) لما فيه من التعقيد (و) إلى (التجريد)
…
===
وقدّدت الأديم لراهشيه
…
وألفى قولها كذبا ومينا
فالكذب والمين بمعنى واحد، فأحدهما زائد لا بعينه، وهذا الفرق الآتى يقتضى أن يكون بينهما التباين، وما ذكره الشارح هنا فرق بينهما بحسب اللغة، وما يأتى فرق بحسب ما وقع عليه اصطلاح أهل هذا الفن.
(قوله: وهو كون الكلام مغلقا
…
إلخ) أشار بذلك إلى أن التعقيد هنا مصدر المبنى للمفعول، أى: عقّد الكلام، لأجل أن يكون وصفا للكتاب، وأما التعقيد بمعنى جعل الكلام معقدا الذى هو مصدر المبنى للفاعل فهو وصف للفاعل، ولا تحسن إرادته هنا، وأورد على الشارح أن التطويل وكذا الحشو ليسا وصفين للكتاب إذا جعلا مصدرى المبنى للفاعل، بل إذا جعلا مصدرى المبنى للمفعول، فكان ينبغى التأويل فيهما أيضا ليكونا وصفين للكتاب؛ إلا أن يقال: إنه ترك التأويل فيهما اتكالا على المقايسة، أو ترك ذلك استغناء بتفسيرهما السابق؛ لأنه قد فسر كلا منهما باللفظ الزائد، وهذا يفيد حملهما على المحشوّ والمطوّل به، وأن المصدر بمعنى اسم المفعول، لا أنه باق على مصدريته حتى يحتاج إلى أن يؤولهما بما أول به التعقيد، ثم إن كون الكلام مغلقا: إما بسبب خلل فى اللفظ، وهو التعقيد اللفظى، أو خلل فى الانتقال، وهو التعقيد المعنوى، أو بسبب ضعف التأليف؛ لأن مخالفة النحو فى الكلام توجب صعوبة فهم المراد بالنسبة لمن تتبع قواعد الإعراب، فالتعقيد هنا فى كلام المصنف شامل لضعف التأليف بخلافه فيما يأتي؛ فإنه خاص بالأمرين الأولين. بدليل عطف ضعف التأليف عليه، كما أفاده الحفيد.
(قوله: خبر بعد خبر) أى: بناء على جواز تعدد خبر الناسخ، وإنما سكت عن جعله حالا من ضمير" غير مصون"؛ لأن الخبرية أظهر وأقرب؛ لأنه يوهم أن مغايرته للمصون مشروطة بملاحظة قبوله للاختصار مع أنه ليس كذلك؛ فإنه فى نفسه مغاير للمصون وإن لم يلاحظ ذلك، فيكون أدعى للقدوم على اختصاره، وما قيل فى" قابلا" من الإعراب يقال فى" مفتقرا"، واختار فى جانب الاختصار التعبير ب" قابلا"، وفى جانب الإيضاح والتجريد التعبير ب" مفتقرا"؛ إشارة إلى أن الاهتمام بالاختصار دون الاهتمام بالإيضاح والتجريد، فالتحرز عنهما أهم من التحرز عنه.
عما فيه من الحشو، (ألفت) جواب لما (مختصرا يتضمن ما فيه) أى: فى القسم الثالث (من القواعد) جمع قاعدة، وهى حكم كلى ينطبق على جميع جزئياته
…
===
(قوله: عما فيه) لم يقل: لما فيه على طريقة ما قبله، إذ لا يعلم حينئذ أن المجرد عنه ماذا، بخلاف ما قبله، فلا يلزم فيه مثل ذلك، ولم يرتب النشر على نمط اللف؛ لأجل السجع.
(قوله: ألفت مختصرا) لم يقل: اختصرته، مع أنه أخصر؛ إشارة إلى أنه ليس مطمح نظره اختصار القسم الثالث لأمر دعاه إليه، بل تأليف مختصر يتضمن ما فيه مما يحتاج إليه، ويخلو عما يستغنى عنه، وأيضا تعبيره ب" اختصرته": يقتضى أن ما فى هذا المختصر فى القسم الثالث، وليس للمصنف إلا مجرد الاختصار مع أن له غير الاختصار التجريد والإيضاح، وبعض اجتهادات له مخالفة لمذهب السكاكى.
(قوله: يتضمن ما فيه
…
إلخ) إشارة إلى أنه مختصر جامع، ثم إن المراد بتضمن ما فى القسم الثالث من القواعد تضمنه معظم ما فيه منها، فلا يرد عدم تضمنه المباحث المذكورة فى علم الجدل والاستدلال، وعلمى العروض والقوافي، ودفع المطاعن عن القرآن؛ لأن المباحث لواحق لعلمى المعانى والبيان.
(قوله: وهى حكم) كان الأولى وهو حكم؛ لأن الضمير إذا وقع بين مرجع وخبر مختلفين بالتذكير والتأنيث فالأولى مراعاة الخبر؛ لأنه محط الفائدة.
(وقوله: حكم) يطلق الحكم على المحكوم به، وعلى النسبة الحكمية، وعلى الإيقاع والانتزاع، أعنى: إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة، المسمّى ذلك عند المناطقة ب" التصديق"، والمراد هنا القضية الدالة على النسبة الحكمية من إطلاق اسم المدلول وإرادة الدال، فساوى قول غيره: قضية كلية، إن قلت: هذا مجاز، وهو لا يدخل التعاريف. قلت: هذا مجاز مشهور، أو أن هذا ضابط لا تعريف، على أن بعضهم ذكر أن الحكم يطلق على القضية نفسها إطلاقا حقيقيّا عرفيّا، كإطلاقه على ما مر. وقولهم: كلية أى: محكوم فيها على كل فرد من أفراد موضوعها، أو المراد موضوعها كلى. (وقوله:
ينطبق
…
إلخ) هذا القيد على الثانى ليس لبيان الواقع، بل للاحتراز عن القضية الطبيعية، نحو: الإنسان نوع، والحيوان جنس؛ فإن المحكوم عليه بالنوعية أو الجنسية الماهية الكلية بقطع النظر عن الانطباق على الجزئيات بخلافه على الأول، فإنه لبيان الواقع،
ليتعرف أحكامها منه، كقولنا: كل حكم منكر يجب توكيده
…
===
والاحتراز عن الطبيعية بقوله: كلية، والمراد بالانطباق: الاشتمال، واعترض بأن الجزئيات إنما تضاف للكلى المفرد لا للقضية الكلية، والذى يضاف إليها إنما هو الفروع، وهى القضايا التى تحت تلك القضية الكلية، بأن يحكم بمحمولها على جزئيات موضوعها وأجيب: بأنه استعار الجزئيات للفروع بجامع الاندراج فى الجملة، أو أن فى العبارة حذف مضاف، أى: على جميع جزئيات موضوعه، أو أن فى العبارة استخداما، فأطلق الحكم أولا بمعنى القضية، وأعاد عليه الضمير بمعنى المحكوم عليه، ولا شك أن المحكوم عليه وهو الموضوع أمر كلى تحته جزئيات، وعلى هذا فلا حذف أصلا، كذا قالوا. قال العلامة عبد الحكيم: وهذه تكلفات لا تليق بمقام التعريفات، وإن ذهب إليه الجم الغفير، فالأولى أن يقال قوله: حكم كلى أى: على كلى؛ فإن كلية الحكم بكون المحكوم عليه كليّا، والضمير فى" ينطبق" و" جزئياته" راجع إلى" الكلى"، ومعنى انطباقه:
صدقه عليه، وهو احتراز عن القضية الطبيعية.
(قوله: ليتعرف
…
إلخ) اللام للغاية والعاقبة. أى: أن غاية ذلك الانطباق وثمرته تلك المعرفة، وليست للتعليل؛ لأن الانطباق لا يعلل بالمعرفة، بل الأمر بالعكس. أى: أن الانطباق يكون علة للمعرفة؛ وذلك لأن الانطباق أمر ذاتى للقضية، فلا يعلل بشيء، والمعرفة لأحكام الجزئيات من القضية أمر عارض لها، وكيفية معرفة أحكام جزئيات الموضوع منها أن تأتى بقضية سهلة الحصول؛ لكون موضوعها جزئيات من جزئيات موضوع القاعدة، ومحمولها نفس موضوع القاعدة، وتجعل هذه القضية السهلة الحصول صغرى، وتجعل القاعدة كبرى لهذه الصغرى، فينتظم قياس من الشكل الأول منتج للمطلوب؛ كأن يقال: ثبوت القيام لزيد حكم منكر، وكل حكم منكر يجب توكيده، فثبوت القيام لزيد يجب توكيده، ولما كانت معرفة أحكام الجزئيات من القاعدة فيها كلفة للاحتياج إلى شيء آخر إليها- عبر بقوله:" ليتعرف"، ولم يعبر ب" يعرف".
بقى شيء آخر، وهو أن القاعدة يتعرف منها أحكام الجزئيات، والشاهد جزئى من جزئيات القاعدة، فيكون متوقفا عليها، والشاهد مثبت لها، فتكون متوقفة عليه، فيلزم
(ويشتمل على ما يحتاج إليه من الأمثلة) وهى الجزئيات المذكورة لإيضاح القواعد (والشواهد) وهى الجزئيات المذكورة لإثبات القواعد فهى أخص من الأمثلة،
…
===
الدور، وأجاب بعضهم بمنع توقف الشاهد على القاعدة، وإنما هو متوقف على الموثوق به، فيقال: التوكيد فى جواب المنكر فى قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً (1)، سمع من الموثوق به، وكل ما سمع من الموثوق به فهو مستحسن فى البلاغة، فالتوكيد فى جواب المنكر فى هذه الآية مستحسن فى البلاغة، ورد هذا الجواب بأنه مبطل للعموم فى قولهم فى تعريف القاعدة: على جميع جزئياته، فالأولى فى الجواب أن يقال إن توقف القواعد على الشواهد بالنسبة للمجتهدين المستنبطين للقواعد، وتوقف الشاهد على القاعدة بالنسبة لغيرهم؛ لأنهم هم الذين يريدون تعرف أحكام الجزئيات، وحينئذ فالعموم باق على حاله.
(قوله: على ما يحتاج إليه من الأمثلة والشواهد) أى: لا على ما يستغنى عنه منها، وإلا كان حشوا وتطويلا، وفى هذا إشارة إلى أن القسم الثالث فيه أمثلة وشواهد مستغنى عنها.
(قوله: فهى أخص) أى: باعتبار الصلاحية، أى أن كل ما صلح أن يكون شاهدا صلح أن يكون مثالا من غير عكس، وسرّ ذلك أن الشاهد لا بد أن يكون من كلام من يعتد بعربيته بخلاف المثال، فبينهما العموم والخصوص المطلق لا باعتبار الإثبات والإيضاح؛ لأن هذا خارج عن حقيقة الأمثلة والشواهد؛ لأن الجزئى لا يلزم أن يكون مذكورا بعد القاعدة فضلا عن كونه مثالا أو شاهدا، فكونه مذكورا للإيضاح أو للإثبات عارض مفارق، لا يمكن اعتباره فى حقيقتهما، وحينئذ فلا ينبنى عليه أخذ النسبة بينهما، ولئن سلمنا دخول ذلك فى مفهوميهما؛ لأنه الجزئى من حيث إنه جزئى لا يكون الإثبات ولا الإيضاح داخلا فى مفهومه، ومن حيث إنه مثال أو شاهد يكون الإثبات والإيضاح داخلا فيه، فلا ينتج العموم والخصوص المطلق، بل يكون
(1) نوح: 1.
(ولم آل) من الألو وهو التقصير (جهدا) أى: اجتهادا، وقد استعمل الألو فى قولهم:
لا آلوك جهدا، متعديا إلى مفعولين
…
===
بينهما إما التباين الكلى؛ لأنه قد اعتبر فى كل غير ما اعتبر فى الآخر، أو التباين الجزئي:
وهو العموم والخصوص الوجهى بأن يقال: المثال ما قصد به الإيضاح أريد معه الإثبات أم لا، والشاهد ما قصد به الإثبات أريد معه الإيضاح أم لا. إن قلت: يعمم فى الأول دون الثاني؛ بأن يقال: الشاهد جزئى يذكر للإثبات ليس إلا. قلنا: قال العلامة يس:
التعميم فى الأول دون الثانى تحكم لأنه لا دليل عليه.
(قوله: ولم آل) عطف على ألفت، ويجوز أن يكون حالا من فاعله، وأصل آل أالو بهمزتين الأولى للمتكلم والثانية فاء الكلمة فقلبت الهمزة الثانية ألفا وفاء بقاعدة: أنه إذا اجتمع همزتان فى أول كلمة والثانية منهما ساكنة، فإنها تقلب مدة من جنس حركة التى قبلها، وحذفت الواو للجازم؛ لأنه معتل وماضيه ألا يألو وأصل ألا ألو كنصر، تحركت الواو وانفتح ما قبلها قلبت ألفا (قوله من الألو) بفتح الهمزة وسكون اللام كالنصر، أو بضم الهمزة واللام كالعنق على ما فى القاموس
(قوله: وهو التقصير) أى: التواني، فالتقصير من قصر عن الشيء توانى عنه لا من قصر عن الشيء بمعنى انتهى أو عجز عنه، ثم إن تفسير الشارح الألو بالتقصير بيان لمعناه فى أصل اللغة، وأما كونه بمعنى المنع فمجاز، وإنما حمل الشارح كلام المصنف على المعنى المجازى، حيث قال: واستعمل الألو إلخ؛ لأن آل بمعنى أقصر فعل لازم، فجهدا الواقع بعده إما نصب على التمييز أى: من جهة الاجتهاد، أو على الحال أى: حال كونى مجتهدا، أو على نزع الخافض أى: فى اجتهادى، والأول باطل إذ لا إبهام فى نسبة التقصير إلى الفاعل، ولا يصح جعله محولا عن الفاعل؛ لأن الأصل فى المحول أن يكون الإسناد إليه حقيقيا وهنا مجازى، وأما الثانى والثالث فبعيدان؛ لأن مجىء المصدر حالا سماعى، وكذلك النصب على نزع الخافض، وحينئذ فجعل آل فى كلام المصنف بمعنى أقصر بعيد، فلذا عدل عنه الشارح إلى المعنى المجازى.
(قوله: وقد استعمل إلخ) أى: على طريق التضمين، فقد ضمن آل معنى أمنع المتعدى لاثنين، أو استعير الألو بمعنى التقصير للمنع بعد تشبيهه به، واشتق من الألو
وحذف المفعول الأول هاهنا، والمعنى: لم أمنعك جهدا (فى تحقيقه) أى: المختصر (وتهذيبه) أى: تنقيحه، (ورتبته) أى: المختصر (ترتيبا أقرب تناولا)
…
===
آل بمعنى أمنع على طريق الاستعارة التبعية. (فقوله: وقد استعمل إلخ: ) إضراب عما تقدم الذى هو المعنى الحقيقى إشارة إلى أن المراد من الألو هنا معناه المجازى، وهو المنع لما قلناه ولاشتهاره فيه، والمجاز المشهور مقدم على الحقيقة الغير المشهورة عند بعض الأصوليين.
(قوله: وحذف إلخ) عطف على محذوف أى: واستعمله المصنف هنا كذلك وحذف إلخ، والمراد بالحذف هنا لازمه وهو الترك فلا يقال: إن الحذف يقتضى ذكر الشيء أولا، فيقتضى أن المصنف قد ذكر المفعول الأول ثم حذفه بعد ذلك وليس كذلك، وإنما حذف المصنف المفعول الأول وهو الكاف لكونه غير مقصود بخصوصه، فحذف للعموم؛ لأن المعنى لم أمنع أحدا، فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون آل فى كلام المصنف متعديا لمفعول واحد لتضمينه معنى أترك، أو التجوز بالألو عنه فى تحقيقه، ولا يكون فى الكلام حذف على ما هو الأصل؟ قلت: المانع من ذلك أمران: الأول:
اشتهار استعمال الألو بمعنى المنع، وعدم اشتهار استعماله بمعنى الترك. الثاني: أنه لو كان الألو هنا بمعنى الترك لكان المعنى لم أترك اجتهادى فى تحقيقه بل اجتهدت فيه، وهذا لا يفيد أنه بذل كل الاجتهاد فى ذلك وهذا خلاف المقصود؛ إذ المقصود أنه بذل كل الجهد فى تحقيقه، وهذا إنما يفيده جعل آل بمعنى أمنع، تأمل
(قوله: لم أمنعك) الخطاب لغير معين أى: لم أمنع أحدا اجتهادى فى تحقيقه، بل بذلت وسعى وطاقتى فى ذلك.
(قوله: فى تحقيقه) متعلق بلم آل باعتبار أن معناه بذلت وسعى لا بجهدا لعدم جزالة المعنى كذا قال بعضهم وتأمله
(قوله: فى تحقيقه) أى: المختصر وفيه أن التحقيق هو إثبات المسألة بالدليل، والمختصر ألفاظ لا تثبت بدليل؛ إذ الذى يثبت به إنما هو المعانى، وأجيب بأن فى الكلام حذف مضاف، أى: فى تحقيق مدلوله، فالتحقيق من أوصاف المعانى كما أن التهذيب من أوصاف اللفظ؛ لأنه تخليص اللفظ من الحشو.
أى: أخذا (من ترتيبه) أى: من ترتيب السكاكى أو القسم الثالث؛ إضافة المصدر إلى الفاعل أو المفعول (ولم أبالغ فى اختصار لفظه؛ تقريبا) مفعول له لما تضمنه معنى: لم أبالغ؛ أى: تركت المبالغة فى الاختصار؛ تقريبا (لتعاطيه) أى: تناوله
…
===
(قوله: أى أخذا) التناول فى الأصل مد اليد لأخذ الشيء أريد به هنا لازمه وهو الأخذ، فهو من إطلاق اسم الملزوم وإرادة اللازم، والمراد بالأخذ هنا اختيار النفس للمسائل. أى أن اختيار الشخص للمسائل المرتبة من هذا المختصر أقرب من اختياره لها من القسم الثالث، بمعنى أنه يميل إلى أخذها منه أكثر؛ لكونه جعل مسائله وفصوله فى رتب هى منها أسهل أخذا من مسائل القسم الثالث لكونها يستعان ببعضها على فهم بعض، وينبنى إدراك بعضها على إدراك بعض، أو المراد بالتناول الأخذ للمعانى من الألفاظ المرتبة، أى: أن أخذ الشخص للمعانى من الألفاظ المرتبة من هذا المختصر أقرب من أخذها من الألفاظ المرتبة من القسم الثالث.
(قوله: إضافة المصدر) أى: أضيف إضافة المصدر أو وهذه الإضافة إضافة المصدر، فهو إما منصوب على المفعولية المطلقة، أو مرفوع خبر لمحذوف، وقدم إضافته إلى الفاعل على إضافته للمفعول لما تقرر فى كتب النحو من أن الأول أكثر وأولى.
(قوله: لما تضمنه) أى: معمول لما تضمنه إلخ، أى: فهو علة لذلك المتضمن بالفتح، أى وليس علة للنفي؛ لأن المفعول له هو ما فعل لأجله الفعل، وعدم المبالغة ليس بفعل، ولا للمنفى وهو المبالغة؛ لأنه ينحل (1) المعنى: أن المبالغة فى اختصار لفظه لأجل التقريب منتفية، فيقتضى أن المبالغة فى اختصار لفظه لغير التقريب كسهولة الحفظ حاصلة وليس هذا المعنى بمراد؛ لأن المراد نفى المبالغة فى الاختصار مطلقا وإنما كان المعنى ما ذكر على جعله متعلقا بأبالغ؛ لأن النفى إذا دخل على كلام فيه قيد شأنه أن يكون النفى فيه موجها إلى القيد مع بقاء أصل الفعل، ثم إن ظاهره أن العمل لما تضمنه المعنى وهو الترك وليس كذلك، وإنما العمل للفعل الدال عليه وهو تركت؛ فالكلام على حذف مضاف أى: معمول لدال ما تضمنه معنى لم أبالغ، ثم إن هذا الكلام يحتمل أن يكون إشارة إلى أن العمل إنما هو لذلك الفعل، وأنه إذا جعل العمل لمعنى حرف النفى
(1) كذا بالمطبوعة.
(وطلبا لتسهيل فهمه على طالبه) والضمائر للمختصر.
وفى وصف مؤلفه بأنه مختصر منقح سهل المأخذ تعريض
…
===
وجب تأويل النفى بفعل مثبت يصلح للتعليل وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون إشارة إلى أن العمل لحرف النفي باعتبار ما يستفاد منه، وما ذكره بيان لعمل حرف النفي، وأن القيد له، وتوضيح لحاصل المعنى، وإنما أدرج الشارح المعنى للإشارة إلى أن ترك المبالغة ليس عين معنى" لم أبالغ" لوجوب تغاير المتضمّن والمتضمّن، ولو لم يذكر المعنى لصح أيضا؛ لأن اللفظ يتضمن معناه فيتضمن ما يتضمنه؛ لأن متضمّن المتضمّن لشيء متضمّن لذلك الشيء، لكن يصير الكلام خاليا عن إفادة أن ترك المبالغة ليس عين معنى" لم أبالغ"، وإنما كان معنى" لم أبالغ" متضمنا ومستلزما للترك؛ لأن معنى قوله:" لم أبالغ" نفى المبالغة ويلزمه تركها
(قوله: وطلبا إلخ) إن قلت: هذا عين ما قبله فلا حاجة له. قلت: أما أولا فقد يمنع ذلك؛ إذ لا يلزم من قرب تناوله فهمه؛ إذ قد يقرب ما هو فى غاية الصعوبة ولا يصل إلى السهولة، فإن فى مجرد تقليل الصعوبة تقريبا لا يقال، فكان ينبغى أن يستغنى بها عما قبله؛ لأنا نقول: إغناء المتأخر عن المتقدم لا يضر؛ لأن الأول قد وقع فى مركزه على أن المقام مقام خطابة، وأيضا فقد يكون قصد من الأول تسهيله فى نفسه، وأنه مستحسن مع قطع النظر عن تحقيق الطلاب له، ومن الثاني: الإشارة إلى أن له طلابا وأنه راعى حالهم.
(قوله: بأنه مختصر) أخذه من قوله:
ألفت مختصرا ومن قوله: ولم أبالغ فى اختصاره. وقوله: منقح أخذه من قوله: فى تحقيقه أو تهذيبه. وقوله: سهل المأخذ أخذه من قوله: وطلبا إلخ.
(قوله: تعريض) هو كناية مسوقة لموصوف غير مذكور، ويسمى تلويحا كقول المحتاج للمحتاج إليه: جئتك لأسلم عليك، فكأنه أمال الكلام إلى عرض يدل على المقصود، وإنما يسمى تلويحا؛ لأن المتكلم يلوح به لما يريده. وقوله:" تعريض" يعنى ثانيا، وإلا فهو قد عرض بالقسم الثالث أولا بقوله: قابلا للاختصار مفتقرا للإيضاح والتجريد، كما أنه صرح بذلك أولا فى قوله:
ولكن كان غير مصون إلخ. قال فى المطول: لعمرى قد أفرط المصنف فى وصف القسم الثالث بأن فيه حشوا وتطويلا وتعقيدا وتصريحا أولا، وتلويحا ثانيا، وتعريضا ثالثا.
بأنه لا تطويل فيه ولا حشو ولا تعقيد كما فى القسم الثالث (وأضفت إلى ذلك) المذكور من القواعد وغيرها (فوائد عثرت) أى: اطلعت (فى بعض كتب القوم عليها) أى: على تلك الفوائد (وزوائد لم أظفر) أى: لم أفز (فى كلام أحد بالتصريح بها) أى: بتلك الزوائد (ولا الإشارة إليها)
…
===
(قوله: بأنه لا تطويل فيه) أى: لأنه مختصر، وقوله: ولا حشو، أى: لأنه مهذب، وقوله: ولا تعقيد، أى: لأنه سهل المأخذ فهو نشر على ترتيب اللف.
(قوله: المذكور من القواعد وغيرها) أى الأمثلة والشواهد، وأشار الشارح بذلك إلى أن اسم الإشارة ليس راجعا للمختصر، وإلا لاقتضى أن هذه الفوائد زائدة على المختصر ومضمومة إليه وليس كذلك، وأول القواعد والشواهد والأمثلة بالمذكور لأجل صحة الإشارة إليها بذلك مع إفراده وتذكيره.
(قوله: عثرت) من العثور وهو الاطلاع على الشيء من غير قصد، وفى تعبير المصنف ببعض إشارة إلى عزة تلك الفوائد؛ لأنها لم تكن ثابتة فى كل كتب المتقدمين
(قوله: وزوائد إلخ) قال في المطول: ولقد أعجب المصنف فى جعل ملتقطات كتب الأئمة فوائد، وفى جعل مخترعات خواطره زوائد، ووجه الإعجاب أن كلامه موجه محتمل للمدح وللذم، فيحتمل أن مخترعات خواطره زوائد. الشأن فيها أن تطرح ولا تقبل فتسميتها زوائد تواضع منه، ويحتمل أن يكون المراد أن مخترعات خواطره زوائد فى الفضل على الفوائد التى التقطتها من كتب الأئمة، وبين فوائد وزوائد الجناس اللاحق لاختلافهما بحرفين متباعدى المخرج لتباعد مخرج الفاء من مخرج الزاى، وبين إليها وعليها جناس مضارع لاختلافهما بحرفين متقاربى المخرج؛ لأن مخرج الهمزة قريب من مخرج العين، ثم إن تلك الزوائد مثل اعتراضاته على السكاكي، ومثل مذهبه فى الاستعارة بالكناية، فإنه لم يسبق به، واعترض بأن هذه الزوائد إن كانت غير موجودة فى كلام أحد لا بطريق التصريح، ولا بطريق التلويح كانت باطلة إذ لا مستند إليها على أنها إذا كانت خارجة عن كلامهم فلا معنى لإدخالها فيه مع كونها أجنبية مما قالوه. فكيف تدخل فى فنهم وتضاف إلى ما قالوه ويجرى عليها حكمه وأجيب بأن المراد
بأن يكون كلامهم على وجه يمكن تحصيلها منه بالتبعية وإن لم يقصدوها (وسميته: تلخيص المفتاح) ليطابق اسمه معناه (وأنا أسأل الله تعالى) قدم المسند إليه قصدا إلى جعل الواو للحال (من فضله)
…
===
إنها لا توجد فى كلام أحد بالنظر للقواعد، وهذا لا ينافى إنها تؤخذ بالتأمل فى القواعد، والمأخوذ من القواعد لا يضاف إلا لمستنبطه، وحينئذ يصح إدراجها فى الفن، وأجاب العلامة يس: بأن المراد بقوله فى كلام أحد أى: من أهل هذا الفن المتصدين لتدوينه وتقريره، وهذا لا ينافى أنها تؤخذ من كلام نحو مفسر، وإدراجها فى كلامهم من حيث مناسبتها له وكونها على طريقته ومشابهتها له فى الفائدة.
(قوله: بأن يكون إلخ) هذا تصوير للمنفى وهو الإشارة.
(قوله: وسميته إلخ) لأنه تلخيص لأعظم أجزائه هذا، وقد اشتهر أن أسماء الكتب من قبيل الأعلام الشخصية، وأسماء العلوم من قبيل الأعلام الجنسية، واعترض بأن هذا تحكم، فالأولى أن يقال إن قلنا: إن الشيء يتعدد بتعدد محله، كان كل من قبيل علم الجنس، وإن قلنا إن الشىء لا يتعدد بتعدد محله كان كل من قبيل علم الشخص، ومما يؤيد ذلك أن الكتاب جزء من العلم، فما جرى على الكل يجرى على الجزء. (قوله ليطابق اسمه) أى: ليكون معنى اسمه العلمى وهو الألفاظ المخصوصة الدالة على المعانى المخصوصة مطابقا ومناسبا لمعناه الأصلى وهو التنقيح والتهذيب، ووجه المناسبة أن هذه الألفاظ المخصوصة مشتملة على التنقيح والتهذيب، فسميت هذه الألفاظ بالتلخيص لاشتمالها عليه، فالحامل للمصنف على هذه التسمية تملك المناسبة نظير ما قيل فى الصلاة من أنها لغة الدعاء، ثم جعلت فى الشرع اسما للأقوال والأفعال المخصوصة لتلك المناسبة؛ لأن الصلاة بالمعنى الشرعى مشتملة على الدعاء، وليس المراد بقوله ليطابق اسمه معناه أن ذات الاسم مطابقة لمعناه، إذ لا مناسبة بين حروف التلخيص وبين الألفاظ المخصوصة أو التنقيح
(قوله: قدم المسند إليه) أى: ولم يكتف بالضمير المستتر المؤخر.
(قوله: قصدا إلخ) وذلك لأنه لا يناسب جعل الواو للعطف عند عدم تقدمه؛ لأن من محسنات الوصل تناسب المعطوفين فى الماضوية والمضارعية، ولا يصح جعلها للحال
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
بدون التقديم؛ لأن المضارع المثبت إنما يربط إذا كان حالا بالضمير لا بالواو، فتعين أن يكون التقديم لأجل أن تكون الجملة اسمية مرتبطة بواو الحال، والقصد من جعل هذه الجملة حالية تقييد جميع الأفعال من التأليف وما عطف عليه، فإن قلت: يصح جعلها للعطف، ومحل مراعاة المناسبة فى العطف إذا لم توجد نكتة، وقد عدل هنا إلى المضارعية لقصد الاستمرار التجددى؛ لأن الماضوية تفيد الانقطاع. قلت: هذه النكتة حاصلة مع التقديم وجعل الواو للحال، فالأولى ما ذكره فرارا من عدم تلك المناسبة، فإن قلت لا حاجة فى جعل الجملة حالية لزيادة واو؛ إذا الجملة الإسمية يصح أن تكون حالا بالضمير وحده. قلت: يلزم على حذفها توهم الاستئناف فزادها دفعا لذلك التوهم فظهر من هذا أن التقديم إنما هو من أجل ما ذكر من النكتة؛ إذا لا يعرف للتقديم هنا نكتة غير ذلك؛ وذلك لأن تقديم المسند إليه على المسند الفعلى الذى لم يل حرف النفى قد يأتى للتخصيص، وقد يأتى لتقوى الحكم لتكرر الإسناد كما يأتي، ولا يعرف لشيء منهما حسن هنا، إذا لا حسن فى قصر السؤال عليه، بل الحسن فى الشركة فى السؤال ليكون أقرب للإجابة لاجتماع القلوب وأبعد عن التحجير فى الدعاء، ولا حسن فى تأكيد إسناد السؤال إليه، إذ لا إنكار ولا تردد فيه من السامع.
قال بعضهم: يمكن أن يكون التقديم هنا لإفادة الحصر أو التقوى، ويوجه الأول: بأن المصنف من تواضعه رأى أن كتابه لا يلتفت إليه غيره، فضلا عن كونه يسأل النفع به إذا كان كذلك فلا يسأل النفع به إلا هو. فكأنه قال: وأنا أسأل النفع به دون غيرى فالقصر حقيقى، أو أنه إضافى باعتبار الحاسدين له من أهل عصره أى: وأنا أسأل الله لا غيرى من الحاسدين، ورد الوجه الأول: بأن جعله قصرا حقيقيا ينافى ما أسلفه من مدح مختصره وترجيحه على القسم الثالث، فإن ذلك المدح ينافى أنه يرى أن غيره لا يعتد به، ورد الوجه الثاني: بأن القصر المذكور إنما يكون للرد على معتقد الشركة، وليس هنا من يعتقد أن أهل عصره الحساد يشاركونه فى السؤال حتى يرد عليه، وكونه يدعى أن هنا معتقدا للشركة أمر بعيد، ويوجه الثانى بأن تقوى الحكم وتأكيده بتكرار
حال من (أن ينفع به) أى: بهذا المختصر (كما نفع بأصله) وهو المفتاح، أو القسم الثالث منه (إنه) أى: الله تعالى (ولى ذلك) النفع (وهو حسبى) أى:
محسبى
…
===
الإسناد ليس بلازم أن يكون للرد على منكر، بل قد يكون لمجرد الاعتناء بالحكم ولظهور الرغبة فيه، أو لاستبعاد الحكم، فالتقديم هنا للاعتناء بالسؤال والاهتمام به أو لظهور الرغبة فيه، فتوجه إلى الله يتضرع فى الإجابة مجتهدا بأقصى وسعه، مشيرا إلى أنه لا يعتمد على ما بلغ به فى وصف مؤلفه، بل يسأل الله النفع به، أو لاستبعاده السؤال، ولذا علله بقوله: إنه ولى النفع به فتأمل ذلك.
(قوله: حال من أن ينفع به) أى: حال من المصدر المؤول الواقع مفعولا. أى:
أسأل الله النفع به حال كونه كائنا من فضل، فهو من تقديم الحال على صاحبها، وليس من فضله من معمولات أن ينفع به حتى يلزم تقديم معمول الصلة على الموصول، أو تقديم معمول المصدر عليه، وكلاهما ممنوع.
(قوله: وهو المفتاح أو القسم الثالث) جعل القسم الثالث أصلا له ظاهر وأما جعل جملة المفتاح أصلا ففيه نظر؛ لأن القسمين الأولين منه لا تعلق للمختصر بهما حتى يجعلا مثلا له، ويجاب بأن ما كان جزؤه أصلا لغيره، فالكل أصل لذلك الغير بهذا الاعتبار.
(قوله: إنه ولى) بفتح الهمزة على حذف لام الجر علة لقوله: أسأل، وبكسرها على الاستئناف البيانى جوابا عما يقال لأى شيء سألته دون غيره، وقوله ولى ذلك ولى فعيل بمعنى فاعل. أى: متولى ذلك النفع ومعطيه، فله أن يتصرف فيه كيف يشاء.
(قوله: أى محسبى) يشير إلى أن حسب: بمعنى محسب، فهو اسم فاعل لا اسم فعل كما هو الصحيح، وحاصل ما فى المقام: أن حسب فى الأصل اسم مصدر بمعنى الكفاية، ولذا يخبر به عن الواحد وعن المتعدد، فيقال: زيد وعمرو حسبك، ثم استعمل اسم فاعل بمعنى محسب، وكاف. وله حينئذ استعمالات فتارة تستعمل استعمال الصفات، فتكون نعتا لنكرة كمررت برجل حسبك من رجل، وتارة تستعمل استعمال الأسماء الجامدة غير تابعة لموصوف، نحو حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ (1)
(1) المجادلة: 8.
وكافى (ونعم الوكيل) عطف: إما على جملة: وهو حسبى والمخصوص محذوف، وإما على: حسبى؛ أى: وهو نعم الوكيل، فالمخصوص هو الضمير المتقدم على ما صرح به صاحب المفتاح وغيره فى نحو: زيد نعم الرجل
…
===
فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ (1) بحسبك درهم. وهذا يرد على من زعم أنها اسم فعل، فإن العوامل اللفظية لا تدخل على أسماء الأفعال باتفاق، وأما قول صاحب الصحاح حسبك درهم أى: كفاك، فهو بيان للمعنى بالمآل؛ لأن مآل المعنيين واحد لا بيان؛ لأنه اسم فعل.
(قوله: وكافى) عطفه على ما قبله عطف تفسير، ثم يحتمل أن المراد كافى فى جميع المهمات حتى فى إجابة هذا السؤال، ويحتمل الكفاية فى ذلك وعليه فتكون الجمل منتظمة
(قوله: عطف إلخ) إنما جعل الواو عاطفة؛ لأن الأصل فيها العطف، ولعدم صحة جعلها للحال؛ لأن الجملة الحالية لا تكون إنشائية ولا يصح جعلها اعتراضية؛ لأن الاعتراض لا يكون فى آخر الكلام، ولعدم تضمنه نكتة جزيلة.
(قوله: إما على جملة: وهو حسبى وإما على: حسبى) إنما انحصر العطف فى هذين؛ لأن المتقدم ثلاث جمل لا يصح العطف على الأولى منها لعدم الجامع، ولكونها حالا؛ والإنشائية لا تكون حالا. ولا على الثانية؛ لأنها معللة، وهذه لا تصلح للتعليل فتعين الثالثة، فإما أن يكون العطف عليها بتمامها، أو على جزئها
(قوله: والمخصوص) أى: بالمدح محذوف والأصل: ونعم الوكيل الله، وعلى هذا فيجعل المخصوص إما مبتدأ والجملة قبله خبر، أو خبره محذوف، أو يجعل خبر المحذوف
(قوله: وإما على حسبي) أى: وإن لزم عليه عطف الجملة على المفرد؛ لأنه يجوز إذا تضمن المفرد معنى الفعل كما هنا؛ لأن حسبى فى معنى يحسبني.
(قوله: فالمخصوص هو الضمير) أى: الواقع مبتدأ؛ لأن ونعم الوكيل عطف على الخبر.
(قوله: على ما صرح إلخ) إنما صرح بهذا العزو؛ لأن تقدم المخصوص خلاف الشائع إذ الشائع أن المخصوص يذكر بعد والجملة قبله خبر، أو خبره محذوف، أو يجعل خبر المحذوف، وهنا قد وقع مبتدأ مقدما، فلما كان هذا الوجه خلاف الشائع.
(1) الأنفال: 16.
وعلى كل تقدير قد عطف الإنشاء على الإخبار. والله أعلم.
===
قال الشارح: على سبيل التبرى منه على ما صرح به صاحب المفتاح
(قوله: وعلى كل تقدير) أى: من التقديرين أعنى: عطف جملة ونعم الوكيل على جملة وهو حسبي، أو عطفها على حسبى وحده.
(قوله: قد عطف الإنشاء على الإخبار) هذا ظاهر على التقدير الأول لا على الثاني؛ لأن حسبى بالمعنى الذى ذكره الشارح: وهو محسبى مفرد لا يفيد إخبارا إلا أن يقال: إنه فى تأويل يحسبنى ويكفيني، ثم إن قول الشارح:(وعلى كل تقدير قد عطف الإنشاء على الإخبار) يحتمل أن المراد وهو جائز، كما صرح به الشارح فى غير هذا المحل وفاقا للصفار، فالقصد بذكر هذا الكلام تحقيق المقام، ويحتمل أن المراد وهو غير جائز، كما ذهب إليه البيانيون وجمهور النحاة، وحينئذ فالقصد الاعتراض على المتن، وعلى هذا الاحتمال فيجاب باختيار التقدير الأول. أعني: عطف الجملة على الجملة، لكن يمتنع كونه من عطف الإنشاء على الإخبار، بل من عطف الإنشاء على الإنشاء؛ لأن الجملة الأولى لإنشاء المدح بالكفاية، والثانية لإنشاء المدح العام، أو أن قوله: وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ليس عطفا، بل معمول لخبر مبتدأ محذوفين، والأصل وهو مقول فى حقه نعم الوكيل، فالمعطوف جملة خبرية اسمية متعلق خبرها جملة إنشائية فعلية، فيكون من عطف الإخبار على الإخبار، ونختار التقدير الثاني. وهو عطف الجملة على الخبر، لكن لا نسلم أن فيه عطف الإنشاء على الإخبار؛ لأن الجملة عطف على حسبى بدون اعتبار تأويله بيحسبني، فهو من عطف الإنشاء على المفرد لا على الإخبار، سلمنا أنها عطف على حسبي، وأنه مؤول بما مرّ، لكن عطف الإنشاء على الإخبار لا يمتنع هنا؛ لأن عطف الإنشاء على الإخبار جائز إذا كان المعطوف عليه له محل من الإعراب، كما هنا فإن قوله حسبى: خبر عن الضمير، ورد الجواب الأول:
بأن جعل الجملة الاسمية للإنشاء أقل من القليل، فلا ينبغى حمل الكلام عليه، ورد الجواب الثاني: بأن فيه تقدير أمور ثلاثة لا دليل عليها، وهى مقول فى حقه، والمبتدأ الذى وقع الإخبار عنه بمقول، فالإنصاف أنه لا يفهم من قولنا وهو نعم الوكيل معنى