الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[خلق الرحمة]
خلق الرحمة الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والعاملين بسنته، والداعين إلى شريعته، الرحماء فيما بينهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون: من الفضائل التي تحلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونادى بها الإسلام، فضيلة الرحمة، والرحمة رقة في الطبع تثمر الرفق والرأفة ولين الجانب، وهي خلق رفيع، يحرك عاطفة الإنسان بالخير والبر.
يمدح بها الله رسوله المبعوث بمكارم الأخلاق فيقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] كما - وهو المبعوث رحمة للعالمين - يعز عليه أن يحرم إنسان من نور الإسلام، وطمأنينة الإيمان.
يقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] والرحمة الشاملة الكاملة هي رحمة الله العزيز الرحيم فقد عمت الكائنات جميعها فما من موجود إلا وبرحمة الله يحيا، وفي ظلالها يعيش. قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] وقال سبحانه: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]
لقد خلقنا الله ولم نك شيئًا، ويسر لنا أسباب الحياة إلى حين - على أرضه وتحت سمائه - وأجرى لنا الأنهار، وأنبت لنا الزرع والثمار، وجعل لنا
الليل والنهار، وأفاض علينا من النعم والخير ما لا يحصى يقول عز وجل {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73] وقال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]
ولقد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاعل الهدى، وأنوار الإيمان، وأوضح للناس أسلوب العمل الذي يصلحهم في الدنيا، ويحقق فيها آمالهم، ويسعدهم في الآخرة ويؤمن فيها مستقبلهم فكان ذلك فضلًا من الله، ورحمة للناس من الضياع والضلال. قال تعالى لمريم في شأن ابنها عيسى عليه السلام:{قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} [مريم: 21]
ولما أراد الله أن يختم رسالاته إلى الناس، ويكمل لهم الدين، ويتم عليهم النعمة بعث خاتم المرسلين، وإمام المهتدين، فكان ذلك رحمة لمن اهتدى بل كان رحمة للعالمين.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]
وكان القرآن العظيم آية الله الكبرى، ومعجزة الإسلام الخالدة، شفاءً لما في الصدور وهدًى ورحمة، قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]
ومهمة الداعين إلى الله بما لها من خطر تستلزم طاقة فياضة من الرحمة وسعة الصدر ولين الجانب، ومن ثم فقد امتاز سيد الدعاة إلى الله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه بقلب يفيض بالرحمة، وينبض بالحنان، وحب الخير للعالمين، فقد كان يعامل بالرحمة الصغير والكبير والمؤمن والمشرك، وإن سيرته العطرة لتحمل من حسن خلقه وطيب معاملته ورقة عاطفته الشيء الكثير.
ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرحم الصغار ويحنو عليهم، ويداعبهم ويقربهم، روى الإمام أحمد عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال:«سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوسف، وأقعدني في حِجْره، ومسح على رأسي» . . وكان صلى الله عليه وسلم مع أعدائه ومعانديه جميل الصبر واسع الصدر، يتحمل أذاهم ويرجو صلاحهم ولو دعا عليهم لأفناهم من الوجود ولكن إذا اشتدوا في عداوته والكيد لدعوته، لم يزد على أن يقول: " اللهم اهد قومي فإنهم لا
يعلمون ".
ولقد دعا الإسلام إلى التحلي بهذا الخلق الكريم حتى تستقر الحياة بالناس ويجد كل فرد في المجتمع مكانه ومكانته وحقه وكرامته.
فعند الطبراني من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «لن تؤمنوا حتى ترحموا "، قالوا يا رسول الله كلنا رحيم. قال: " إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة» .
ويؤكد الإسلام تبادل الرحمة، إن جاوزت عالم الإنسان إلى أجناس الحيوان، فلا ينبغي أن يُؤذى حيوان أو يُضرب أو يُجوَّع أو يُظمأ، فعند أبي داود عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال:«كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حُمّرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تَفْرُش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها "، ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: " من حرق هذه "؟ قلنا: نحن، قال: " إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار» .
وعند البخاري ومسلم واللفظ له عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت جوعًا، فدخلت فيها النار، لا هي أطعمتها وسقتها إذ هي حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» .
أيها المسلمون: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] و «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» كما صح في الحديث.
ومن أسباب الشقاء في الدنيا وفي الآخرة قسوة القلب، وجمود العاطفة لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تنزع الرحمة إلا من شقي» .
فليكن لنا في رسول الله أسوة حسنة، ولنستمسك بتعاليم ديننا وليرحم كل منا نفسه فلا يعرضها لغضب الله ولا يورطها في معصيته. ألا تحب أن يحييك ربك بالسلام على لسان خير الأنام، وأن يعاملك برحمته وفضله في الدنيا والآخرة، إن الله تبارك وتعالى يقول:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] ويقول جل جلاله عن المتراحمين المتآلفين الذين امتلأت قلوبهم إيمانًا بالله ورسوله ورقت عواطفهم في معاملة الناس: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]
اللهم وفقنا للتوبة والإنابة وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة، اللهم أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك ونزه قلوبنا عن التعلق بما دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك وعافنا في الدارين من جميع المحن وأصلح منا ما ظهر وما بطن وألحقنا بالصالحين وارحم كافة المسلمين، اللهم آمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.