الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الفصل الخامس الرقائق]
[التوبة من المعاصي]
الفصل الخامس
الرقائق
التوبة من المعاصي الحمد لله الملك الوهاب الرحيم التواب، خلق الناس كلهم من تراب، وهيأهم لما يكلفون به بما أعطاهم من الألباب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بلا شك ولا ارتياب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآب وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الناس اتقوا ربكم وتوبوا إليه فإن الله يحب التوابين واستغفروه من ذنوبكم فإنه خير الغافرين، توبوا إلى ربكم مخلصين له بالإقلاع عن المعاصي والندم على فعلها والعزم على أن لا تعودوا إليها فهذه هي التوبة النصوح التي أمرتم بها:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: 8] ليست التوبة أن يقول الإنسان بلسانه أتوب إلى الله أو اللهم تب عليّ وهو مصر على معصية الله. وليست التوبة أن يقول ذلك وهو متهاون غير مبال بما جرى منه من معصية وليست التوبة أن يقول ذلك وهو عازم على أن يعود إلى معصية ربه ومخالفته.
أيها الناس: توبوا إلى ربكم قبل غلق باب التوبة عنكم فإن الله يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر بروحه فإذا بلغت الروح الحلقوم فلا توبة: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا - وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 17 - 18]
فبادروا أيها المسلمون بالتوبة فإنكم لا تدرون متى يفاجئكم الموت ولا تدرون متى يفاجئكم عذاب الله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ - أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ - أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 - 99]
عباد الله: هل أمنتم مكر الله، يمدكم بالنعم المتنوعة وأنتم تبارزونه بالمعاصي، أما ترون ما وقع في العالم في كثير منهم من الضيق في العيش والمحن. إن المجاعة والطوفان ونقص المحاصيل والقحط أحاطت بكثير من البلاد ولا يزال المفكرون يبحثون في تأمين الغذاء للعالم، ألا تخافون أن يحل ذلك بكم. إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]
إن من أعظم العقوبات قسوة القلوب ومرضها وإن الكثير الآن قلوبهم قاسية يسمعون المواعظ والزواجر ويقرأونها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكأنهم لا يسمعون، الجيد منهم إذا سمع الموعظة وعاها حين سماعها فقط فإذا فارقها خمدت نار حماسته واستولت الغفلة على قلبه وعاد إلى ما كان عليه من عمل يسمع المواعظ تقرع أذنيه في عقوبة ترك الصلاة وإضاعتها:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا - إِلا مَنْ تَابَ} [مريم: 59 - 60] ولكنه لا يتوب وكأنه لا يسمع. يسمع المواعظ في عقوبة مانع الزكاة ومن يتتبع الرديء من ماله فيزكي به:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ - الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6 - 7] زكاة النفس بالبراءة من الشرك وزكاة المال حيث قدموا الشح على البذل في طاعة الله: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267] يسمعون هذا كله وهم مصرون على منع الزكاة يحرمون أنفسهم خيرات أموالهم ويدخرونها لغيرهم وفي الحديث " «ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدوًّا من غيرهم فيأخذ بعض ما لا أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل بأسهم بينهم» ، نعم يسمعون المواعظ في النهي عن شهادة الزور وما ورد فيها ومع ذلك يقدم عليها الناس كأنهم لم يسمعوا ولم يعوا وقد قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20]
أيها الناس: إنه لا توبة مع الإصرار، كيف يكون الإنسان تائبًا من ذنب وهو يصر عليه وكيف يكون تائبًا من الغش وهو لا يزال يغش في بيعه وإجارته وجميع معاملاته كيف يكون تائبًا من الغيبة من أكل لحوم الناس وهو يغتابهم في كل مجلس سنحت له الفرصة فيه، كيف يكون تائبًا من أكل أموال الناس بغير حق وهو يأكلها تارة بدعوى ما ليس له وتارة بإنكار ما عليه وتارة بالكذب في البيع وغيره وتارة بالبقاء في ملك غيره بغير رضاه وتارة بالربا الصريح أو التحيل عليه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان لأخيه عنده
مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار أو درهم إلا الحسنات والسيئات» .
أيها المسلمون: إن التوبة الكاملة كما تتضمن الإقلاع عن الذنب والندم على فعله والعزم على ألا يعود إليه تتضمن كذلك العزم على القيام بالمأمورات ما استطاع العبد فبذلك يكون من التوابين الذين استحقوا محبة الله ورضاه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] فتوبوا أيها المسلمون إلى ربكم واستغفروه بطلبكم للمغفرة منه بألسنتكم وقلوبكم: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] بادروا بالتوبة قبل أن يأخذكم الموت فيحال بينكم وبينها وتموتون وأنتم على معصية الله. إن بعض الناس تغره الأماني ويغره الشيطان فيسوّف بالتوبة ويؤخرها حتى يقسو قلبه بالمعصية والإصرار عليها فتغلق دونه الأبواب أو يأخذه الموت قبل المهلة في وقت الشباب.
اللهم وفقنا للمبادرة بالتوبة من الذنوب والرجوع إلى ما يرضيك عنا في السر والعلانية فإنك علام الغيوب.
اللهم طهر قلوبنا من الشقاق والنفاق والسمعة والرياء، اللهم باعد عنّا وعن المسلمين الغش وشهادة الزور وارزقنا الصدق في المعاملات وجنبنا الحرام وفعل الآثام ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمين والحمد لله رب العالمين.