الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[غزوة بدر الكبرى]
غزوة بدر الكبرى الحمد لله القوي القادر، العزيز الحكيم، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ينصر المؤمنين بفضله، ويؤيدهم بقوته ويمدهم بملائكته، ما أخلصوا له النية، وأقاموا له الدين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد المجاهدين، وإمام الشجعان المقاتلين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، الذين باعوا أنفسهم لله، وقدموا أموالهم فداءً لدينه ونصرة لدعوته، ودفاعًا عن الحق، فكانوا من المهتدين.
أما بعد: فيقول الحق سبحانه في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ - بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ - وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 123 - 126](1) .
أيها المسلمون: إن غزوة بدر الكبرى، أول معركة حربية كبيرة خاض غمارها المسلمون بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سبقتها في الواقع عدة أعمال عسكرية صغيرة كان المقصود منها تدريب الصحابة، وجس النبض، واختبار الموقف في نواح متفرقة من الجزيرة العربية، وبخاصة حول المدينة،
(1) سورة آل عمران: من 123 - 126.
غير أن غزوة بدر كانت البداية الحقيقية للجهاد بالسلاح، الذي خاضه المسلمون ضد أعداء الدعوة الإسلامية، وليس يعنينا هنا أن نسرد عليكم تاريخ هذه الغزوة المباركة، فأحداث هذا التاريخ يطول عرضها، ولاشك أن المسلم الذي يرد المسجد ملم بعض الإلمام بتفاصيل هذه الآيات، لأنها جزء من بناء دينه المتين، وفصل من فصول التاريخ العريق لأمتنا الإسلامية المجيدة.
وإنما الذي يعنينا هو أن نقف بكم على المعالم البارزة في ذلك التاريخ، وهي المعالم التي تحمل في طياتها دروسًا في الكفاح، وعظات تفيدنا في حاضرنا، الذي هو نقطة انطلاق إلى مستقبلنا.
وأول درس نتلقاه من بدر هو الدرس الذي حدثنا عنه الله سبحانه في قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123] فهو يمتن على النبي وصحابته بنعمة النصر التي أنعم عليهم بها، برغم أنهم لم يكونوا متهيئين له، ولا أعدوا له عدته، بل إنهم لم يكونوا على استعداد نفسي لخوض معركة، بل لقد كانوا يتمنون ألا يلقوا حربًا، ولا يخوضوا معركة، وكان فريق منهم يكره ذلك كراهية شديدة، وكل ما كانوا يريدون هو أن يظفروا بالغنيمة التي خرجوا في مطاردتها، وذلك ما حدثتنا عنه الآيات الكريمة:{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ - يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ - وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ - لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 5 - 8](1) .
(1) سورة الأنفال: من 5 إلى 8.
فموقف المسلمين قبل بدر كان موقف الاستضعاف والذلة، إذ لم تكن قلوبهم متوحدة قبل المعركة حول هدف واحد، ولم تكن عزائمهم مشحوذة لقتال العدو، وهو موقف الذلة لأن عدتهما للمعركة لم تكن عدة حرب، بل كانت عدة غارة على قافلة، فإذا هم يواجهون بحرب لا مفر منها مع عدو مستعد غاية الاستعداد.
وكان الموقف محرجًا حين صرفوا عن هدفهم الأحب إلى قلوب أكثرهم حين فاتتهم القافلة وواجهتهم العاصفة، كانوا يريدون غنيمة فإذا هم مطلوبون للبذل والتضحية.
وكان الموقف عصيبًا حين نظروا إلى العدو الذي فاقهم عددًا، حتى بلغ ثلاثة أضعاف عددهم، وقد توافرت للعدو المؤنة والسلاح، أي أن عناصر النصر من ناحية الحساب المادي كانت في جانب المشركين، على حين كان عكس ذلك في جانب المسلمين.
وكان الموقف يفرض على قائد المعركة صلى الله عليه وسلم أن يعالج نواحي الضعف في صفوفه، قبل أن ينشب القتال، وأول ثغرة واجهها كانت تحويل وجهتهم عن الغنيمة السهلة إلى خوض المعركة المقبلة، ولم يلق القائد في هذا التحويل صعوبة تذكر، فسرعان ما استجابت نفوس المهاجرين والأنصار للوضع الطارئ الجديد، حتى لقد بلغ الأمر قمة روعته في كلمة سعد بن معاذ سيد
الأنصار بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم: " قد آمنا بك وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودًا ومواثيق على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أمرت، ولعلك يا رسول الله خرجت لأمر فأحدث الله غيره، فامض لما شئت وصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت، وسالم من شئت، وعاد من شئت، وخذ من مالنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لحضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى عدونا غدًا، إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ".
بهذه الكلمات الحاسمة وضع سعد بن معاذ أرواح الأنصار بين يدي القائد الذي جمع جنوده ليوحد وجهتهم ويقوي جبهتهم، وقد تولى الله سبحانه دعم هذه الصفوف المؤمنة حين صدقت عزيمتها على مقاتلة أعدائه، فإذا بكل ما كان عامل ضعف وذلة أصبح مصدر قوة ونصر، فأما قلة عدد المؤمنين وكثرة عدد المشركين فقد شاء الله أن يدعم القلة ويهون شأن الكثرة، حين أصبح اللقاء محتمًا، وعلى ذلك فمن المفيد أن يرى المشركون عدد المسلمين قليلًا فيستهينوا بهم، والاستهانة أول عوامل الانتكاس والهزيمة، فأما المؤمنون فبرغم أنهم كانوا يعلمون أن أعداءهم كثرة، فإن الله جلت حكمته قد خيل إليهم أن هذه الكثرة قليلة الشأن، طائشة الوزن، تافهة الأثر؛ لأن عشرين صابرين يغلبون مائتين، ومائة صابرة يغلبون ألفًا من الذين كفروا.
وهكذا صورت لنا الآية الكريمة حل مشكلة العدد في قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44](1) .
وأما مشكلة السلاح فأمرها أهون من ذلك، إذا صح عزم المؤمن على منازلة عدوه، ومتى كان هدفه أن يموت شهيدًا في سبيل الله ورسالته، لقد كان السلاح الماضي هو الإيمان المكين واليقين الثابت في نصر الله والصبر على قساوة الصراع، وتلك هي العوامل التي تقف من وراء إمداد الله للمؤمنين بجنده الذي لا يغلب:{بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ - وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 125 - 126](2) .
ولعلنا نزداد تصورًا وفهمًا لهذا الموقف الذي كان عليه المؤمنون حين نذكر دعاء الرسول ساعة الزحف، وهو يناجي ربه ويلح عليه:«اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض، اللهم أنجز ما وعدت، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، وعراة فاكسهم، وجياع فأشبعهم، وعالة فأغنهم من فضلك» ، ولم يكن هذا التوجه إلى الله شأن النبي القائد وحده، بل كانت دعوات الاستغاثة متصاعدة إلى عنان السماء، تجأر إلى الله تناشده النصر
(1) سورة الأنفال: 44.
(2)
سورة آل عمران: 125 - 126.
والتأييد، فكانت الاستجابة لهذا الدعاء أسرع مما تصور الداعون، وهو قوله تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9]
لقد تبدلت الحال بعد توحد العزائم على القتال، فازداد المؤمنون توجهًا إلى الله، وتشبثًا بصدق الوجهة، وحرصًا على الموت من أجل الدعوة، على حين تراخت عزائم المشركين حين استهانوا بالمؤمنين، وزادهم البطر والرياء ضعفًا على ضعف، كما قال تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ} [الأنفال: 48](1) فامتلأوا غرورًا، وتلك هي المقدمات الطبيعية للهزيمة التي ذاقوا ويلاتها على يد المؤمنين، فأشبعوهم قتلًا وأسرًا وإذلالًا، وهكذا - أيها المسلمون - ذاق أصحاب نبيكم حلاوة النصر في أول معركة وعاينوا النتيجة العملية لإيمانهم بالنبي وانتصارهم له، فهذا هو الدرس الأول من دروس غزوة بدر الكبرى.
والدرس الثاني أن بدرًا قد وضعت الإيمان والكفر وجهًا لوجه، فأحس المؤمنون أن الأمر لم يعد يحتمل مساومة أو مطلًا، وأنه لا سلام مع وجود الكفر في جزيرة العرب، وقد آن للإيمان أن يدخل أول امتحان عملي يؤكد أصالته، فإن إيمان المؤمنين كان حتى قبيل غزوة بدر اقتناعًا نظريًا بمعاني الغيب وقيمه، وكانت بدر بما عاينوا فيها من تأييد الله أعظم تأكيد لدور الغيب في حياة المؤمنين، وفي اقتناعهم. لم يعد الغيب سرًّا أو تسليمًا، بل صار ملائكة تهبط من السماء إلى الأرض، ونصرًا لا تضمنه أسباب
(1) سورة الأنفال: 48.
الدنيا، وإنما تصنعه أقدار الغيب الذي به يؤمنون، ولهذا يخاطبهم الله سبحانه بهذا القول الحاسم، بعد أن صور لهم ذلتهم وعجزهم:{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ - ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 17 - 18](1)(2) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
(1) سورة الأنفال: 17 - 18.
(2)
انظر خطب الجمعة والعيدين للجنة من كبار علماء الأزهر ص 332.