الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِلى تقليد المتّهم الموصوم؛ إِذ العقل يعرض له الأغلاطُ، فينزلّ عن سواء الصراط.
فإِن قيل: "لو اتُهم العقلُ بعد النبوّة في نظره، لاتُهم في ذلك قبلَها في تقرير مقدّماتها؛ فلم يكن به وثوقٌ. ثمّ تزلزلت قواعدُ النبوّات، وكان أهلُها بانين على الماء، أو على متن الهباء".
قلنا: قبلَ النبوّة، لم يكن له معارِضٌ يرجُح عليه. وبعدها، هي أقوى منه. ولا يلزم مِن اتهامِ الشاهدِ مع من يخالفه اتهامه إِذ كان وحده لا مخالف له. وهذا من أصعب أسئلتهم. وجوابه ما ذكرنا. فحاصل هذا المأخذ أنّ الشرع مؤكدٌ عندهم، وعندنا مؤسسٌ. والقاعدة المتّفق عليها أنّه إِذا تعارض التأكيدُ والتأسيسُ، كان التأكيدُ أولى، لأنّه أكثر فائدةً.
وممّا يشبه هذا المأخذَ اختلافُ الأصوليّين فيما إِذا وَرَد حديثان، أحدهما مخالفٌ للأصل، ناقلٌ عن حُكمه، والآخر موافقٌ له مقررٌ لحُكمه. فقال قومٌ:"يُقدَّم المقرِّرُ؛ لأنهما دليلان يعضد أحدُهما الآخر". وقال آخرون: "يُقدَّم الناقلُ؛ لأنّه أفاد فائدة زائدة".
ومن فروع هذا الأصل النزاعُ في تقديم بيِّنةِ الداخل والخارج؛ لأنّ بيّنة الداخل كالحديث المقرّر للأصل؛ لأنها مقوّيةٌ لدلالة اليد. وبيّنة الخارج كالحديث الناقل عن حكم الأصل.
فهذان مأخذان كليّان للمسألة
[المآخذ الجزئيّة]
أمّا الأدلّة الجزئيّة، فلنذكر منها وجوهًا.
أحدها: لو اقتضى العقلُ قُبحَ شيء من الأفعال، لكان قبحه لمّا من الله، أو من العبد.
والأول باطلٌ؛ إِذ لا يقبُح من الله شيء، بإتفاقٍ. وإِن نوزع فيه، فبرهانه في موضعه. والثاني أيضًا باطلٌ؛ لأنّ فِعل العبد إِمّا اضطراري أو اتفاقي؛ ولا قُبح في واحد منهما. وبيان انحصاره في الاضطرار والاتفاق أنّ فِعل العبد إِن صدر منه عند خلقِ الله سبحانه داعى الفعل فيه، صار وقوعُه واجبًا بالضرورة؛ فكان اضطراريًّا. وإِن صدر عند استواء داعي الفعل والترك، وجاز الترجيحُ من غير مُرجِّحٍ، كان ذلك بالاتّفاق؛ فكان اتّفاقيًّا.
أو نقول في تقريره: إِن فِعل العبدِ للشىس أو تركه لابدّ فيه مِن خلقِ الله سبحانه داعيَةً فيه. فإِن ترجَّح داعي الفعل، صار واجبًا اضطراريًّا. وإِن ترجَّح داعي الترك، صار واجبًا، والفعلُ ممتنعًا. وإِن استوى داعيهما، وجاز الترجيحُ بلا مرجِّحٍ، كان الفعل اتفاقيًا. وإِن لم يجُز، كان ممتنعًا، لامتناع الترجيح بلا مرجِّحٍ. وإِذا دار فعلُ المكلَّفِ، بين أن يكون واجبًا أو ممتنعًا أو اتّفاقيًا، فلا قُبح في شيء من ذلك.
ويَرِد على هذه الحجّة أمران.
أحدهما: أن يمنعوا توقًّف فِعل العبد على خَلقِ الرب. فقد حَكى ابن بَرهان عن بعضهم أنّ العبد خالقٌ على الحقيقة كالربِّ. وقال بعضهم: "الخالق على الحقيقة هو العبد، والله خالقٌ على جهة المجاز". وحينئذٍ، يكون القبح من العبد لاستقلاله بالخلق. وهو مطلوبهم.
الأمر الثاني: أن يقال: سَلَّمنا أنّ فِعل العبد متوقّفٌ على خلق الله الداعي. لكن لا نٌسَلِّم أنّ خلق الداعي مستقلٌ بوجوب وجود الفعل إِنما حصل من جهة العبد. فيكون القبيحُ منه من هذه الجهة. ويحصل المطلوبُ. وهذا سؤالٌ قوىٌ على هذه الحجّة. غير أنّه يقتضي وقوعَ المقدور بين قادرين؛ وهم لا يقولون به.
الوجه الثاني من صور النزاع: تكليفُ ما لا يطاق. فنقول: لو كان قبيحًا، لما فَعًله الله سبحانه؛ وقد فًعًله؛ فلا يكون قبيحً. وبيان أنّه فَعَله أنّه كلَّف الكفارَ الذين عَلِم أنهم يمونون كفّارًا بالإِيمان بالرسل وما جاءهم. ومن جملة ما جاءهم أنّ أولئك لا يؤمنون؛ كقوله:{وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} ، وقول موسى:{ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الآليم قال قد أجيبت دعوتكما} وقوله لمحمّد عليه السلام: {إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون ولو جائتهم كل آية} ، {كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم