الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو مِثلُ قوله: {فزادهم الله مرضا} ، {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} . وإِذا جاز أن يَتَسِّبب إِلى زيادة الضلالة، جاز أن يَفعل. إِذ لا فرق بين فاعل القبيح والمتسِّبب إِليه في استحقاق أصلحِ القُبحِ. وإِذا جاز أن يفعل زيادةَ الضلالِ، جاز أن يفعل أصل الضلال.
ومنها قوله سبحانه: {واتقوا الله وأسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين} . والاستدلال بها كما سبق.
ومنها قوله سبحانه، حكايةً عن المسيح:{إن تعذبهم فإنهم عبادك} . جعل السببَ المصحِّح للتعذيب هو العبوديّة، ولم يعلِّل بمعصيةٍ ولا غيرها. فدَلّ ذلك على مذهب أهل الحقّ، مِن أن الله إِن يَرحم العاصي ويُعذِّب الطائعَ، بعلّةِ العبوديّة وكونِه مالكًا لا غير، فإِن انضَمّ إِلى ذلك صفُ طاعةٍ أو معصيةٍ، كان مؤكدًا، أو علّةً ثانيةً. وإِنّ لله سبحانه أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
سورة الأنعام
فمنها قوله سبحانه: {ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون} . وهو نصٌّ صريحٌ في أن الله سبحانه [ما] إِن يلبس على العبد أمرَه حتى يُضلّه. وقد وقع هذا تحقيقًا في المسيح؛ فإِنّه يقال إِنّ الروح الذي أُرسل إِلى مريم كان مَلَكًا؛ فحَمَلته؛ ثمّ ظهر رجلًا. فهذا ملَكٌ قد جعله اللهُ رجلًا. ويَدلّ على ذلك أخلاقُه وأفعاله؛ فإِنها كانت كأخلاق الملائكة وأفعالهم. وكقوله: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا} ، الآية، فيما بعد؛ وقوله:{وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبئ إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} ، إِلى قوله:{ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض} . فهذا صريحٌ
فى أنّه يَنصب لهم أشراكَ الضلال ليقعوا فيها. وإِن لم يكن هذا نصًّا فيما ذكرنا، فما ورد الشرعُ بنص في حكمٍ أصلًا.
ومنها قوله تعالى: {وجعلنا على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} . ولها نظائر في سورة الكهف وغيرها. وهي في معنى قوله: {ختم الله على قلوبهم} ؛ وقد سبق.
ومنه قوله تعالى، عقيب قولهم:{يا ليتنا نرد ولا نكذب} ، {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} . ومن المحال أنهم يعودون لما نُهوا عنه بعد معاينتهم النارَ ومشاهَدة أمور الآخرة، إلاّ بأن يُنسيهم ملك ويَضطرّهم إِلى الكفر والمعاصي؛ وهو إِضلالٌ لهم بالتسببِ أو المباشرةِ؛ وهو المطلوب. وقد سبق.
واعلم أنّا قد قدّمنا أنّ بعض المعتزلة غلا في وجوب رعاية الأصلح، حتى التزم أنّ دخول الكفّار النارَ أصلح لهم. قلتُ: ولا يتّجه في ذلك مصلحةٌ، إِلاّ أن يكون هذا القائل شذ عن أصحابه، وتخيل أنّ العالم يعود دورًا آخر إِلى دار التكليف؛ فيكون قد تأدّب بالنار، حتى إِذا كُلِّف ثانيًا أطاع. وهذه الآية ونحوها تردّه من وجهين:
أحدهما: أنها تضمَّنت أنهم يَسألون أن يُردوا، فلا يُجابون؛ بدليل قوله:{ولو ردوا لعادوا} ؛ فاقتضى امتناعَ العودِ، لامتناع الردِّ على ما هو مقتضَى "لو".
الثاني: أنّه، على تقدير الرد، أخبر أنهم يعودونه للكفر؛ فلا يَنفعهم التأديبُ.
ومنها قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} . وقد سبق الاستدلالُ بها في جواب الرسالة.
ومنها قوله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم} .
ومنها: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتى فإذا هم مبلسون} ؛ أي: آيسون متحسرون. وهذا معنى قوله: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} . قيل: "معناها: كلّما جَدَّوا معصيةً، جَدَّدنا لهم نعمةً". وهذا مكرٌ مِن الله بهم، كمكرِ الصائدِ بالصيد حتى يصيده. وهو إِصلالٌ بالخلقِ والتسبب؛ لأن خالق السببِ خالقُ المسبب؛ ولا خالق إِلاّ الله.
ومنها قوله تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا} .
قلتُ: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يجالِس المستضعَفين مِن المؤمنين، كبلالٍ وعمّارٍ وصهيبٍ وسلمان. فازدَراهم الكفّارُ، وقالوا:"هؤلاء مَنَّ اللهُ عليهم مِن بيِننا! لو كان هذا الأمر حقًّا، لما خُص به هؤلاء". وكان ذلك فتنةً مِن الله لهم؛ كقول قومِ نوحٍ له: {ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} .
ومنها قوله تعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين} . والاستدلال بها ها هنا أقوى منه بالتي في البقرة وآل عمران، بدلالة ما في سياقها.
ومنها قول إِبراهيم، حين رآى القمر بازغًا، ثمّ أَفَلَ:{قال لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الظالمين} . وتأويله على "لئن لم يَلطُف لى حتى أهتدي"، لا دليل عليه. واللفظ وافٍ بمقصود أهل السنّة. وقال بعده:{وحاجة قومه قال أتحاجونى في الله وقد هدان} ؛ فَنَسَب الهدايةَ إِلى الله سبحانه.
ومنها قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل} ، إلى
قوله: {واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده} ، إِلى قوله:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتدى} .
ومنها قوله سبحانه: {ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظًا وما أنت عليهم بوكيل} . ومشيئة الله سبحانه إِرادتُه، وتعلُّقها بالمرادات موجِبٌ لوقوعها، بشرط تأثير القدرة فيها؛ لئلاّ تتناقَض مقتضياتُ صفاته تعالى؛ وهو محالٌ، كما سبق. وبهذا يندفِع قولهم، "لو شاء مشيئة إِلجاءٍ"؛ فإِنّ على ما قررناه لا تكون مشيئتُه ِلاّ ملجِئةً موجبِةً.
ومنها قوله سبحانه: {كذلك زينا لكل أمة عملهم} . أي حَسًّنّاه في نفوسِهم، ليعملوه. والميل إِلى ما زَيّنه اللهُ سبحانه واجِبٌ، كما قال:{زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} . وعلى ذلك تُقَطَّع الأعناقُ. وسبب ذلك أنّ الله سبحانه خَلَقَ الطِباعَ، وعَلِم ما تميل إِليه ميلًا واجبًا؛ فخلَقَه لها. فصار ذلك بمثابة من يُقرب الحطبَ من النار، والحديدَ من المغناطيس. فإِنّه بالضرورة يؤثِّر فيه، مع زوال المانع. وعكسُ هذه الآية قولُه تعالى للمؤمنين:{ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان} . الآية.
ومنها قوله تعالى: {قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم إنها إذا جاءت لا يؤمنون} ؛ على قراءة مَن كَسَرَ الهمزةَ، وهو أبو عمروٍ وأبو بكرٍ، عن عاصمٍ. فإِنّه قد أَخبر أنهم لا يؤمنون عند مجيء الآياتِ. ومعلومُ اللهِ واجبُ الوقوعِ، كما سبق غير موضعٍ.
ثمّ قال: {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لو يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمون} . واختلف في هذه الجملة. فقيل: "مستأَنَفَةٌ إِخبارًا مِن اللهِ سبحانه أنّه يُقَلِّب قلوبهم عن إِدراك الحقِّ، فلا يتَّبعوه: كقوله عليه السلام، "يا مقلُّب القلوبِ، ثبِّتني على دينك" وتقليب القلوبِ يحتمل أن يكون حقيقةً، بأن تَتَلبَّس، أو يُختَم عليها، فلا يَدخلها نورُ العقل؛ أو مجازًا، بمعنى خلقِ داعي ما يشاء اللهُُ فيها، على ما سبق تقريره في أوّل البقرة وغيره." وقيل: "الجملة حاليّةٌ متّصِلةٌ بما قبلها"؛ أي "كيف يؤمنون، ونحن نُقَلِّب أفئدته عن الهدى". وقد سبق الجواب عن كونه مرتَّبًا على عدم الإِيمان به أوّل مرّةٍ.
ومنها قثوله سبحانه: {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كان ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون} . وذلك [أنهم] سألوا النبيَّ عليه السلام أن يُنزَّل لهم مَلَكَا يُصدِّقونه. فأخبر اللهُ سبحانه أنّه لو فَعَلَ ذلك، وأحيى لهم كَّل ميتٍ، ما آمنوا إِلاّ بمشيئة الله. ولكنّهم جاهلون في التزامهم الإِيمانَ، إِّا ظَهَرَت الآياتُ التي اقترحوها؛ لأنهم يَظنّون أنّ هدايتهم إِليهم. وليس كذلك؛ وإنما هي إلى الله. وهذا مِن أبلغِ ما يكون؛ لأنّ العاقل إِذا رأى الملَكَ وإِحياءَ الميّتِ يُضطرّ إِلى الإِيمان؛ ومع ذلك أخبر اللهُ أنهم لا يؤمنون لا يقال:"هذا مبالَغةٌ لا تُراد حقيقتُه"؛ لأنّا نقول: هو مبالَغةٌ بأمرٍ مقدورٍ لله. وقد خبر اللهٌ بنفيِ إيمانهم على تقدير وقوعِه في حالٍ؛ فلا مانع مِن حملِه على إِرادة حقيقتِه.
ومنها قوله تعالى: {أو من كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس} ، إِلى قولهن {وكذلك زين للكافرين} ، على أنّ ضلاله بقدر اللهِ.
ومنها قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء} .
روى عبد الرزّاق، عن سفيان الثوريّ، عن عمرو بن قيسٍ، عن عمرو بن مُرّة، عن أبي جعفرٍ، قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، كيف يَشرَح صدرَه؟ قال:"نورٌ يُقذَف فيه فينَشرِح ويَنفسِخ". قالوا "فهل لذلك مِن أمرَةٍ يُعرَف بها؟ ""نعم الإِنابة إِلى دار الخلود، والتجافى عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت".
ورَوى أيضًا عن مَعْمرٍ، عن عطاء الخرسانيّ والكلبيّ، في قوله:{يجعل صدره ضيقا حرجا} . قالا: "ليس للخير فيه مَنفَذٌ".
{كأنما يصعد في السماء} . قلتُ: أي يجد لقبول الإِيمان مشقّةً وتَكَلُّفًا، كما يجد الذي يَصَّعَّد في السماء؛ أي يريد الصعودَ، ولا يمكنه.
ثمّ قال: {كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون} . و "الرجس" اللعنة والعذاب. وقيل: الكفر. وقيل: الشيطانُ، يُسّلَّط عليه، فيُفضِلّه.
ومنها قوله تعالى: {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} ، إِلى قوله:{ولوشاء الله ما فعلوه} ، وقبلها:{ولو شاء ربك ما فعلوه} . والاستدلال بمِثل هذا سبق.
ومنها قوله: {ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدى القوم الظالمين} . وسبق مثلُها والكلام عليه.