المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الجواب على الرسالة] - درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌[أولًا: في العقل، وفي أصل التحسين والتقبيح]

- ‌الأُولى: في لفظ العقل

- ‌المسألة الثانية: في حقيقة العقل

- ‌المسألة الثالثة: في مكان العقل

- ‌المسألة الرابعة: في فعلِ العقل وأثره

- ‌المسألة الخامسة: في تحقيق القول في التحسين والتقبيح

- ‌[مفهوم التحسين والتقبيح]

- ‌[مآخذ الخلاف في مسألة التحسين والتقبيح]

- ‌[المأخذان الكيّان]

- ‌[المآخذ الجزئيّة]

- ‌[أدلّة المعتزلة على التحسين والتقبيح]

- ‌[إبطال التحسين والتقبيح]

- ‌[ثانيًا: فروع التحسين والتقبيح في أصول الدين]

- ‌[وجوب النظر عقليِّ عند المعتزلة]

- ‌[إِنكارهم كلامَ النفس]

- ‌[قولهم: "يقبح من الله ما يقبح منّا

- ‌[إيجابهم رعاية مصالح الخلق على الله]

- ‌[إِنكارهم الشفاعةَ]

- ‌[قبول التوبة واجبٌ على الله عندهم]

- ‌[إنكارهم الاستثناء في الإيمان]

- ‌[إِيجابهم إِرسالَ الرسلِ، وإِيجابُ الرافضةِ نصبَ الأئمة، على الله عقلًا]

- ‌[قول أبي هاشم: "دفع الضرر عن النفس واجبٌ عقلًا، وعن الغير سمعًا

- ‌[المعدوم شيءٌ، أو ليس بشيءٍ]

- ‌[قولهم: "إِنّ البنية شرطٌ في الكلام

- ‌[حكموا بقبح الآلام في العالم إِلاّ لغرضٍ صحيحٍ]

- ‌[الأنبياء أفضل أم الملائكةُ

- ‌[إِنكارهم كرامات الأولياء]

- ‌[إِنكارهم السحرَ]

- ‌[إِنكارهم الجنَّ والشياطينَ]

- ‌[غايةُ الأجَلِ والرزقُ]

- ‌[إِنكارهم عذابَ القبر]

- ‌[إنكارهم أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن]

- ‌[ثالثًا: فروع التحسين والتقبيح في أصول الفقه]

- ‌[عندهم أنّ شكر المنعم واجبٌ عقلًا]

- ‌[حكم الأفعال الاختياريّة قبل ورود الشرع]

- ‌[تكليف ما لا يُطاق]

- ‌[القدرة مع الفعل أو قبلَه

- ‌[وقت العبادة مُضيِّقٌ أو مُوسَّع

- ‌[الفعل الواحد لا يكون مأمورًا به منهيًا عنه]

- ‌[تكليف الصبيّ والمجنون]

- ‌[تكليف المُلجأ]

- ‌[تكليف الحائض بالصوم]

- ‌[التكليف بفعلٍ عَلِمَ الآمرُ انتفاءَ شرطِ وقوعه]

- ‌[تأخير البيان عن وقت الحاجة]

- ‌[بقاء التكليف مع زوال العقل]

- ‌[تكليف المعدوم]

- ‌[إِبطال اليهودِ النسخَ]

- ‌[مَنعُ جمهور المعتزلة مِن نسخِ الحكمِ قبل دخول وقته]

- ‌[نسخُ وجوبِ معرفة الله وشكر المنعم وتحريم الكفر والظلم]

- ‌[رابعًا: فروع التحسين والتقبيح في الفروع الفقهيّة]

- ‌[النية في الوضوء]

- ‌[رؤية الهلال في الصحو]

- ‌[صحة إِسلامِ الصبيّ]

- ‌[صحة شهادةِ الكفّارِ بعضهم على بعضٍ]

- ‌[حكاية مسائل ذكرها العالميّ الحنفيّ نازعةٌ إِلى التحسين والتقبيح]

- ‌[لزوم النفلِ بالشُروع]

- ‌[نقاش كلامه في لزوم النفلِ بالشروع]

- ‌[قاعدته في الزكاة]

- ‌[فروع قاعدته في الزكاة]

- ‌[وجوب الزكاة على الصبيّ والمجنون]

- ‌[من مات وعليه زكاة]

- ‌[وجوب الزكاة على المديون]

- ‌[وجوب الزكاة في مال الضمار]

- ‌[وجوب الزكاة في الحليّ]

- ‌[الكلام على قاعدته في الزكاة]

- ‌ومِن قواعده قاعدةُ الصيام

- ‌[فروع قاعدته في الصيام]

- ‌[الكلام على قاعدته في الصيام]

- ‌ومنها قاعدته في الكفّارات والمقدَّرات

- ‌[فروع قاعتدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌[الكلام على قاعدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌ومنها قاعدته في الأنكحة

- ‌[فروع قاعدته في الأنكحة]

- ‌[الاشتغال بالنكاح أفضل من التخلّي للنوافل]

- ‌[إِجبار لمولى عبده على النكاح]

- ‌[إرسال الطلقات الثلاث جملةً]

- ‌[فسخُ النكاحِ بالعيب]

- ‌[الكلام على قاعدته في الأنكحة]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الأنكحة]

- ‌ومنها قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك

- ‌[فروع قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌[تصرفُّ العبدِ المأذون له]

- ‌[تصرُّف الصبيِّ المأذون له]

- ‌[تجزُّؤ العتقِ]

- ‌[الكلام على قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌ومنها قاعدته في الأملاك

- ‌[فروع قاعدته في الأملاك]

- ‌[استيلاء الكفّارِ على أموال المسلمين في دار الحرب]

- ‌[قسمة الغنائمِ في دار الحرب]

- ‌[تغيير الغاصب في المال المغصوب]

- ‌[الكلام على قاعتدته في الأملاك]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الأملاك]

- ‌ومنها قاعدته في وصف الفعل بأنّه ضربٌ أو قبيحٌ

- ‌[الكلام على قاعدته في وصف الفعل بأنّه ضررٌ أو قبيحٌ]

- ‌[خامسًا: مسألتا القدر وخلقِ الأفعال]

- ‌[بيان معنى "الكسب" و"الخلق

- ‌أمّا نقل المذاهب في المسألة

- ‌[مقدمّات المسألة]

- ‌[الكلام الساذج التقريبيّ في المسألة]

- ‌[الوجوه العقليّة التي أوردها أبو الحسين البصريّ المعتزليّ]

- ‌[الوجوه النقليّة التي للمعتزلة]

- ‌[كلامٌ على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبّار المعتزلىّ]

- ‌[رسالةٌ في القدر منسوبة للحسن البصري، أوردها القاضي عبد الجبّار]

- ‌[الجواب على الرسالة]

- ‌[سادسًا: الأدلّة النقليّة على القدر]

- ‌[آيُ إِثباتِ القدرِ مِن القرآن]

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال وبراءة

- ‌سورة يونس عليه السلام

- ‌سورة هودٍ عليه السلام

- ‌سورة يوسف عليه السلام

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إِبراهيم عليه السلام

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة بني إِسرائيل، على صالحيهم السلام

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم عليها وعلى ابنها السلام

- ‌سورة الحج

- ‌سورة المؤمنون

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الروم

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة السجدة

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة الملائكة

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة الزمر

- ‌آل حاميم

- ‌سورة المؤمن

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌أما سورة الجاثية

- ‌سورة محمدٍ عليه السلام

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌ سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌ سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌ سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقين

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌ومن سورة الملك

- ‌سورة ن

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة سائل سائلٌ

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌أمّا سورة المدّثّر

- ‌سورة الإِنسان

- ‌ سورة التكوير

- ‌ثم إلى سورة المطفّفين

- ‌ثمّ إِلى سورة البروج

- ‌[سورة الشمس]

- ‌ثم إِلى سورة الضحى

- ‌ثم إلى سورة الفلق

- ‌{استدلال القدريّة مِن أي القرآن]

- ‌[الجواب على استدلال القدريّة مِن أي القرآن]

- ‌[حجّةٌ على إِثبات نبوّة محمدِ صلى الله عليه وسلم؛ وهي نكتةٌ أجنبيةٌ عن الباب]

- ‌[أحاديث القدَر]

- ‌[مآخذ مسألة القدر]

- ‌[خاتمة: في أنّ المعتزلة هل يكفرون بمقالتهم هذه، أم لا

الفصل: ‌[الجواب على الرسالة]

وقال في الرسالة:

"ولا يَصِحُّ عَمَلُ الخيرِ إِلاّ بمعونة الله. ولذلك قال لمحمّدٍ صلى الله عليه وسلم: {ولوا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا}؛ وقال يوسف: {وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن}. فقد بيَّن وأمر ونهى، وجعل للعبد السبيل إلى عبادته، وأعانه بكلّ وجهٍ. ولو كان عملُ العبدِ يَقَعُ قسرًا، لم يَصِحّ ذلك".

هذا آخِر ما حكاه من رسالة الحَسَن.

[الجواب على الرسالة]

قلتُ: وهذه الرسالة، وإِن كان الحَسَنُ قد رُمِى بالقدَر مرّةً، وهي تُشبِه فصاحته وبيانَه، إِلاّ أنّ المشهورَ عنه إِبطالُ القدرِ، والطعنُ على أهلِه، كما بَيّنّا أوّلًا. فإِن ثَبَتت هذه عنه، فلعلّه قالها أوّلًا، حين كان يقول بالقدر؛ ثمّ عاد بآخِره عن ذلك. وإِلاّ، فهي منحولة عليه. ويُشبه أنها لواصل بن عطاءٍ، أو عمرو بن عُبيدٍ، أو مَعبدٍ، أو غَيلان، ونحوهم من أركان الاعتزال.

ولو صَحَّ أنّ الحَسًنَ خاطَب بهذه عبد الملك بن مروان، لفَعَلَ به كما فَعَلَ هشامٌ بغيلان: قَطَعَ يَدَيه ورِجلَيه، لغُلُوه في القدر، ودُعاءِ الناس إِليه. والحَسَن كان أشهر في الناس من عَلَمٍ؛ فلو صَحَّت هذه عنه، لما سَكَتَ عنه التابعونأن يعاتبوه عليها، أو يُنكِرون عليه ويُعارِضون ما قال.

ولكنّ هذه مِن كلامِ رجلٍ خاملٍ مِن القدريّة، أو مَن ليست شهرتُه كشهرةٍ الحَسَن. فأَعرَضَ الناسُ، فيما عَلمنا، عن معارَضَتها لأمرٍ ما، مع أنّ الرسالة هائلةٌ في بابها، والجواب عنه مُتَعيَنٌ؛ إِذ قد تَضَمَّنَت كلَّ حججِ القدرية في المسألة، أو جُلَّها. وهي راجعةٌ إِلى شُبَهِهم السابقة؛ لكن تحتاج إِلى جوابٍ خاص بها يُطابِقُها، ويَتَضَّمن جوابُها تقرير قواعدَ يُحتاج إِليها في الباب، وتكون تذكِرةً لأولى الألبابِ. فنقول، وبالله التوفيق:

ص: 207

قولُ هذا القائلِ، "أَرَكْنا السلفَ الذين قاموا بأمرِ اللهِ، لم يُبطلوا حقًّا، ولا أَلَحقُوا بالربّ باطلًا، إِلاّ ما ألحَقَ بنفسه". قلنا: كذلك كانوا، رحمهم الله. وهو الواجب عليهم وعلى غيرهم من المؤمنين. والقول بأنّ مع الله شركاءً خالقين ليس بحق حتى يكون خلافُه باطلًا. والربّ سبحانه أَلَحَقَ بنفسه خَلْقَ الأفعالِ، بقوله:{خالق كل شئ} ؛ {خلقكم وما تعملون} . ولم يُضف إِلى عِباده خَلْقَ شئ؛ إِنما أَضاف إِليهم كَسبَ أعمالهم. ولو كانوا خالقيها، لكان قولُه، "جزاءً بما كانوا يخلقون"، أَبلغ في الحجّة عليهم؛ لأنّ الخلق أبلغ في استحقاق الجزاءِ من الكسب. وقد بِيَّنّا الفَرقَ بينهما. فما أَلحَقُوا بالله إِلاّ ما أَلَحَقَ بنفسه مِن ذلك.

قوله، "ولا يحتَجُّون إِلاّ بما احتَجّ اللهّ به على خلقِه". قلنا: نعم؛ وكذلك يجب. وإِنما كانوا يحتَجُّون بكتاب الله وسنّة رسوله؛ وهما مملُوآن من إِثبات القضاء والقدر وخلقِ الأعمال. قال الله تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} ؛ وقال: {من يضلل الله فلا هادى له} ؛ ونحوها. وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يحزَن على أمرٍ يفُوتُه؛ بل يقول: "لو قُدِّرَ، لكان". وسبق قولُ عمر للنصرانيّ، كَذّبتَ! إِنّ الله هو الهادى المُضِلّ، وهو الذي أَضَلُّك وأَوجَب لك النارَ". فهذا وأمثاله كان حجّة السلفِ في إِثباتِ القدر.

فأمّا لومهم للعاصي، وذمّهم وعقوبتهم له، فذلك امتثالٌ لأمرِ الله فيه؛ إِذ جَعَل وقوعَ المعصيةِ على جَوارحِه دائرةً مع قَصدهِ وإِرادتِه وجودًا وعدمًا، عًلَمًا على وقوع ما قَدَّر عليه من العقوبة به. ولله التصرُّف في خلقِه بما يشاء. ومِن أصول أهلِ السنّة، الذين قام الدليلُ على أنهم هم الفرقة الناجية، إِن شاء الله، السكوتُ عن "كيف؟ " في صفاتِه، وهم "لِمَ؟ " في أفعالِه.

ص: 208

قوله، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ؛ ولم يَخلقهم لأمرِ، ثمّ حَالَ بينهم وبينه؛ لأنًه تعال ليس بظلامِ للعبيد". قلنا: أمَا قوله، "ما خَلَقْتُ الجْنًّ والإِنْسَ إِلاّ ليَعْبُدُونِ"، فهو حقٌ؛ لكنّ الكلام في تأويله. فنقول: لا يخلو إِمّا أن يكون معناه، "ما خَلَقتُم إِلاّ مُريدًا لوقوع العبادةِ منهم"، أو يكون معناه "ما خَلَقتُم إِلاّ لأُكَلِّفهم العبادةَ. والأوّل باطلٌ. لأنّه لو أراد منهم وقوعَ العبادةِ؛ وإِلاّ لم يُطابِق مرادُه ومعلومُه إِرادتَه وعلمَه؛ فيُفضِي إِلى انقلاب حقائقِ صفاته؛ لأنّ إِرادته لا تَتَعلّق بوقوع شيءٍ، إِلاّ وقد تَعَلَّق عِلمُه بذلك؛ إِذ متعَلَّق صفاته لا يَتَنافى، لما قَرَّرناه في أنّ ما تَعَلَّق عِلمُه بأنّه لا يكون غيرُ مقدورٍ. لكنّ العبادة لم تَقَع مِن جميع الجنّ والإِنس؛ فلا يكون المراد أنّه أراد وقوعَ العبادةِ منهم. فتعَيَّن أنّ معنى الآية إِلى "ما خَلَقتُهم إِلاّ لآمرَهم بالعبادة وأُكَلِّفهم بها".

والأمر عندنا لا يَستَلزِم الإِدارةَ، ولا هي مِن شَرطِه. وإِذا كان خَلَقَهم للتكليف، لم يَلزم منه أنّه خَلَقَهم لإِرادة وقوعِ العبادةِ. وحينئذٍ، لا تَنَافى بين تكليفهم بالعبادة وصَرفِهم عنها، بناءً على ما سبق مِن مِن تكليف ما لا يُطاق. والقُبح فيه عقليُّ؛ وقد أَبطلناه. ولا يَلزَم مِن ذلك ظُلمُه لهم؛ وهو سبحانه ليس بظلاّمٍ للعبيد، كما وَصَفَ نفسَه. غير أنّه سبحانه ليس في مُلكِه لعباده وتصرُّفه فيهم، كعبادة في أملاكِهم وتصرُّفهم فيها؛ لأنّه سبحانه. فقول القائلِ، "يَقبُح مِن اللهِ أن يُكلِّفني شيئًا، ويَصرِفني عنه، كما يَقبُح مني أن أُكلف عبدي شيئًا، وأَصرِفه عنه"، قياسٌ فاسدٌ؛ لأنّ شرطَ القياسِ استواءُ الأصلِ والفرعِ في القوّة والصفات، وغير ذلك، إِلاّ من حيث الإُلحاق، وهو الذكورة والأنوثة. ولا شكّ أنَ مُلكَ اللهِ في عباده أقوى من مُلكِ عبادِه بعضهم لبعضٍ. فقياس الأقوى على الأضعفِ لا يَصحّ في مسائل الفروع؛ فما الظنُّ به في هذا الأصل الذي قد عَمَّ الأديانَ والمِللَ؛ فهَدَى اللهُ فيه مَن هَدى، وأضلَّ مَن أضلَّ.

ص: 209

ويُوَضّح صحّةَ ما ذكَرناه أنّ أحدنا ليس له أن يَقتُل عبدَه بغير إِذنٍ شرعى، ولا يَقطع منه عضوًا؛ حتى قال بعضُ العلماء:"لو مَثَّل بعبدِه، مِثلَ أن جَبَّ ذَكَره، أو عضوًا غيره، أو حَرَقَ منه شيئًا بالنر، أنّه يُعتَق عليه بذلك؛ لأنّ الله سبحانه إِنما مَلَّكَه إِيّاه بشرطِ الإِحسانِ إِليه؛ فإِذا انتَفَى الإِحسانُ، انتَفَى شرطُ التمليكِ، فعاد إِلى مُلكِ الله الخالص، وهو الحرَّية".

والله سبحانه له أن يُهلِك الثقَلين وسائَر العالمِ في لحظةٍ واحدةٍ، وإِن كانوا طائعين لا يَعصونه طرفةَ عينٍ. فإن ادَّعى مدعٍ أنّ ذلك قبيحٌ، فهو تقبيحٌ عقلىُّ باطل. ويوَضح ذلك أنّ كلّ صانعٍ، إِذا اتقَن صنعتَه، كالنساج للثوب، والفَخَّار للجِرار، ونحوها، له بعد ذلك أن يُهلِكها، لا اعتراض عليه في ذلك لغيره. وإِنما امتَنَع ذلك شرعًا؛ لكونه تضييع مال، لحكمةٍ قررناها غير ها هنا.

وكذلك يَقبُح مِن أحدِنا أن يمكن عبدَه مِن أَمَته يزني بها، أو عبدَه مِن عبدِه يقتله. ولا خلاف أنّ الله سبحانه أَمكَن عبيدهَ مِن قتلِ بعضهم بعضًا، وزنا بعضهم ببعضٍ. إِذ لو شاء، لحال بينهم؛ لأنّه قادرٌ على ذلك. ولا نزاع أنّ هذا قبيحٌ مِن العبدِ، غيرُ قبيحٍ من اللهِ سبحانه. فإِذا جاز أن يَقبُح منّا مِثلُ ذلك، ولا يَقبُح من الله، فلِمَ لا يجوز مِثلُه في مسألة القدر؟

فهذا التقرير ها هنا كافٍ. وله مَزيد يبين فيما بعد، إِن شاء الله تعالى. وحاصل الأمرِ بيننا وبين المعتزلة أنهم هم مُستدلُون على نفي القدرِ وقُبحِ إِثباتِه بالقياس الفاسد المذكور، ليس لهم من جهةِ العقلِ سواء، وعليه مَدار شبههِم، ونحن قادِحون في قياسِهم، مانِعون لصحتّه بالفرق المذكور الذي قرّرناه بين الأصل والفرع. فيَحتاجون إِلى حجّةٍ غيره يُثبتون بها دَعواهم. ونحن مانِعون؛ والمانع مُستريحٌ. وإِنما قلنا:"إِنهم هم المستدلّون"؛ لأنّ دَعوانا نحن في إِثبات القدر على وَفق الأصل عقلًا وشرعًا. أمّا عقلًا، فلأنّه سبحانه ثَبَتَ أنّه خالق العالم وموجدُ، بالدليل العقلىّ؛ والعالمُ ما سوى اللهِ سبحانه؛ وأفعال العبادِ داخلةٌ في ذلك. ولِما قرّرناه من تمام مُلكِ اللهِ سبحانه، واقتضاءِ العقلِ تصَرُّف المالكِ كما يُريد. وأمّا شرعًا، فلِما ثَبَت في

ص: 210

الكتاب والسنّة، مّما يدٌلّ على ما قُلناه، ممّا يأتي استقراؤه.

فهم إِذا خالَفوا هذا الأصلَ في أفعال العباد، وَجَب عليهم في حُكمِ النظرِ بيانُ مستَنَدِ المخالَفةِ. فكانوا مستدلِّين بالقياس المذكور، وقد مَنَعناه. فإِن أَتَوْا بحجّةٍ صحيحةٍ غيره تلزمنا، لمانعناهم. وإِلاّ، فنحن على وَفق الأصلِ عقلَا وشرعًا. فهذه طريقةٌ جيّدةٌ في مناظرتهم.

قوله، "ولم يكن في السلف أحدٌ يُنكِر ذلك ولا يجادِل فيه؛ لأنهم كانوا على أمرٍ واحدِ متَّسقٍ". قلتُ: قوله ذلك إشارةٌ إِلى ما سبق من قولِه: "لم يُبطلوا حقََّا، ولا ألحَقُوا بالرب إِلاّ ما ألحَقَ بنفسه، ولا احتجّوا إِلاّ بما احتج اللهُ على خلقِه"؛ وقد بَيّتّا صحّةَ ذلك منهم، وأنهم كانوا مثبِتين للقدر. فإن أراد به هذا- وليس مرادَه- فصحيحٌ أنَه لم يُنكِره أحدٌ مِن السلفِ. وإِن أراد أنهم لم يكونوا يُنكرون الاعتزالَ والقولَ بنفيِ خلقِ الأفعالِ، فهو كذِبٌ عليهم، بما سيأتي من نصوص السنّة يجادِل فيه"، فخطأٌ صُراحٌ. وهو ممّا يَدُلَ على أنّ الرسالة ليست من كلام الحَسن. فإِنّه لم يكن يخفى عليه غالبًا، مع تَبَحرِه في علم الرواية، ما رَواه أبو هريرة. قال: فَرَج علينا رسُول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نَتَنازَع في القدر.

فغَضِب، حتى احمَرَّ وجهُه، حتى كأنما فُقيء في وَجنتيه الرمّانُ. فقال:"أبهذا أُمِرتم! أم بهذا أُرسِلتُ إِليكم! إِنما هَلَكَ مَن كان قبلَكم حين تَنَازَعوا في هذا الأمر. عَزَمتُ عليكم أن لا تَتَنازَعوا فيه". وهذا الحديث، وإِن كان الترمذيّ قد غَربَّه، وقال:"لا نَعرِفه إِلاّ مِن حديث صالحٍ المُرِّيّ، وله غراب يَنفَرد بها"، لكن قد رَوى مسلمَ في صحيحه نحوَه من حديث عمرو بن العاص. ومِثلُ هذه قضيّةٌ تَشتهِر، ولم تَقَع إِلاّ بَعدَ نِزاعٍ طويلِ، حتى اجتَمَعوا لها ليَستخرِجوا صوابها؛ فكيف يَصحُّ أن يُقال:"إِنهم لم يجادلِوا فيه"؟

ص: 211

وإِذا كان الأمر فيها مقطوعًا به، على ما زَعَمَت المعتزلةُ، من أنّ صحّة مذهبهم فيها ضروريٌ، فكيف يَنهاهم النبيُّ عليه السلام عن النزاع فيها، مع إِمكانه تصويبَ أحدِ القولين، فيرتفِع الخلافُ، وتَشتهِر فتواه فيها، وتُنقَل إِلى يوم القيامة! وهل كان النبيّ عليه السلام تخفَى عنه الضروريّاتُ، وتَعلَمُها المعتزلة! ما هذا إِلاّ كقولهم، "خَفِي على موسى أنّ رؤية اللهِ لا تجوز، حتى سَألها"، وظَهَر ذلك لهم! فهم إِذن أَعلَم بذات اللهِ وصفاته وأفعاله مِن موسى ومحمدًا! وكفى بذلك عليهم مَعَرّةً.

وأيضًا، لو كان القدرُ ممّا يُعلَم بالنظر فضلًا عن الضرورة، لَما هَلَكَ فيه الأممُ السالِفة، ولَما تَرَكَ النبي عليه السلام بيانه عند الحاجة. ألا ترى أنّه لما سُئِل عن رؤيتِه ربه تعالى، قال مرةً:"رأيتُه"، ومرةً "نو أني راه"؟ وكذا سائر ما كان يُسأل عنه، كان ييَقطَع فيه بنَفي أو إِثباتٍ. فلما تَرَك الأمرَ ها هنا على إِبهامِه، دِل على أنّ القدر سر لا يَطَّلِع على حقيقته البشرُ، حتى الأنبياء عليهم السلام؛ أو أنّ النبيّ عليه السلام عَلِمَ حقيقتَه، ولم يُؤذَن له فى إِطلاعهم عليها تحقيقًا للامتحان التكليفيّ. وقد نُقِلَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَه قال:"أفضَى إِليَّ ربّي ليلةَ أُسريَ [بي] بأسرارٍ لم يأَذن لي في إِفشائها". فلعلّ هذا السرّ منها. لكنّ القدريّة يَقدَحون في الحديث المذكور وأمثاله، بأنها آحادٌ لا تُفيد العلمَ. وهذه المسألة ونحوها عِلمِيّةٌ لا تَثبُت بمِثل ذلك.

وبمثل هذا أَجابوا عن أحاديث الشفاعة؛ وهو مَعَرةٌ عليهم أيضًا. فإِنّ النصوص في المسألتين- أعني مسألةَ القدر والشفاعة- إِن لم تَبلُغ التواترَ الحقيقيّ، فهي لا شكّ قد بَلَغت التوارتَ المعنَوي في ديِن الإِسلام، كسخاء حاتمٍ وشجاعة عليِّ، أو استَضافت استِفاضةً عاليةً يقبلها لأجلِها جميعُ الأمة، مع أنّ نصوص الكتاب وارِدةٌ بذلك.

قوله، "وإِنما أَحدثنا الكلامَ فيه حيث أَحدث الناسُ النكِرَةَ له". قلنا: إِحداث الكلامِ لتحقيق الحقِّ وكَشفِ الشُبَهِ واللبس واجبٌ على الكفاية، لكن إِذا كان له مُستندٌ من

ص: 212

مادةِ الحق، كالكتاب والسنّة وإِجماع مَن يُعتمَد عليه في الدين. وبهذا كان الأئمّة المتقدمون، كالإمام أحمد وأضاربه، يَنهون عن الكلام؛ فلمّا احتاجوا، تَكلّموا. أمّا الكلام بالعقل الصرِف، ونُقُول لا دلة فيها، فهذا غير جائزٍ.

قوله، "فلمّا أحدَث المحدِثون في دينهم ما أحدثوا، أحدَث اللهُ للمستكين بكتابه ما يُطفِئون به المحدَثات ويحذرون به من المُهلكات". قلنا: المتمسكون بكتاب الله هم أهل السنة المثبِتون للقدر. وأنتم المحدِثون في الدين. ولهذا سميتم "معتزلةً"؛ لأنّكم اعتَزَلتم ما عليه سَوادُ الأمّة الأعظم، وشذذتم عنه. وقد عُلِم ما قيل فيمن فَعَلَ ذلك.

قوله، "وكان الذي أَوقَعهم فيه سببه الأهواء وتَركُ كتابِ الله" قلنا: إِذا قابَلنا نصوصَ المذهبين بعضها ببعضٍ، تَبَيَّن تارِكُ الحجّةِ الشرعيّة ممن اتَّبَع هواه بغير هدى مِن الله، وتَرَكَ كتابَ الله. فإِنّا لا ننكِر أنّ على دعواكم آياتٍ من كتاب الله سبحانه، سواءٌ كانت حججًا أو شُبهًا؛ وغاية ما يُقال إِنها حججٌ. لكنّ مقابِلها ما هو أَنَصُّ وأَدَلُّ وأكثر منها. فلنَفرِض المسألأة اجتهاديّة- وكذا هي في الحقيقة- فأيّ الطرَفين أحق بالاتّباع؟ لا يختلِف أهلُ العقول أنّ الحَكم إِذا تجاذَبه حجّتان، كان الأخذ بأَقوالهما وأوضحهما متعيِّنًا. وسنبِّين أنّ حجّتنا من الكتاب أَنَص وأَدَلّ وأكثر، ونُركِّدها بالسّنة الصحيحة الصريحة المستفيضة. وحينئذٍ، يكون العادل عن الحجّة الراجحة هو متّبِع الهَوى، تارك كتابِ الله.

قوله، "ما نهى اللهُ عنه ليس منه" قلنا: أمّ الجواب من حيث الإِجمال من حيث الإِجمال، فلا نُسلِّم أنّه ليس منه؛ لقوله، {كل من عند الله}؛ والإِشارة إِلى السيئّة والحَسَنة المذكورين في قوله تعالى: {وإن تصبهم حسنة

وإن تصبهم سيئة}؛ وهما نَكرِتان في سياق الشرط؛ وهو ُفيد العمومَ. فدَلّ على أنّ كلّ سيئةٍ وكلّ حَسَنةٍ من الله.

ص: 213

أمّا من حيث التفصيل، فنقول: إِن عَنيتَ أنّ ما نهى اللهُ عنه ليس منه، بمعنى أنّه كَسَبَه، أو باشَرَه، أو أَمَر به، أو أَحبّه، فكلّ ضلك صحيحٌ. وإن عَنَيتَ أنه لم يُقدره، ولم يَقضِ به ولم يخلقه بواسطة الداعي الذي يجب الفعلُ عقيبه، فلا نُسلِّم؛ وهو محل النزاعِ.

قوله، "لأنّه لا يَرضى ما يَسخَط". قلنا: إِن عَنَيتَ أنّه لا يرضاهه عبادةً وقُربَةً إِليه، ولا يؤثِره إِيثارَ الطاعاتِ، فصحيحٌ. وإِن عَنَيتّ أنّه لا يرضاه واقعًا في الوجود والملكوت، فلا نُسَلِّم. وقد خَلَقَ إِبليسَ وجنودَه، وهو يَسخَطهم ويَسخَط عليهم. وخَلَقَ الحيواناتِ المؤذية، كالهواّم ذوات السُموم والسباع القاتلة، وهو يَسخط ما يَصدُر منها من الفسادَ وإِهلاك العِباد؛ لكنّه رَضي إِيقاعَ ذلك في الوجود، لحِكمةٍ عَلِمَها.

وعلى هذا التقرري، لا تَنافي بين سَخَطه للشيء لذاته، أو لأمرٍ صادرٍ عنه، وبين رضاه وقوعَه في الوجود؛ ولم يَمنعه؟ وإِلاّ، لكان كلّ واحدٍ مِن خلقِه أقدر منه، حيث غَلَبَت قدرتُه وإِرادتُه قدرة البارئ وإِرادَته، فأوقَع في ملكوت الله ما يَكرَهه اللهُ مراغَمَةً. فكذلك يجوز أن يَسخط الشئ ويخلقه؛ لأنّ خَلق القبيحِ وتَركَ مَنعِ وقوعِه، مع القدرة عليه، سواءٌ في حقيقة القُبحِ بالضرورة عند العقلاء. ألا تَرى أنّه لا فَرق في استحقاق مُسمَّى "القُبح" و "الذّم" بين من يزني ويظلِم الناس، وبين من يَرَى زَنًا أو ظلمًا، ويمكن إِزالتُه، فلا يَفعل؟ وحينئذٍ، تَنَافى بين سَخَطه للمعصية وخلقِها؛ كما لا تنافي بين سخطها وتَركِ المنعِ منها، لاستوائهما في القُبحِ شاهدًا. ولم يَقبُح الأخيرُ مِن اللهِ سبحانه، باتّفاقٍ؛ والأوّل مِثله؛ وحُكمُ المثلين واحدٌ.

والسر فى هذا المقام هو أنّ كلّ مالكٍ سوى الله سبحانه، فإِنما له فى مُلكِه التصرُّف الأمرِيّ؛ نحو "افعَل! "، "لا تَفعَل! " والله سبحانه له في خَلقِه التصرُّف الأمرِيّ، كما ذكرناه، وهو التكليفيّ، والتصرُّف التكويني الاستقلاليّ المقتضى عَدَمَ الاعتراضِ عليه بالكلّيّة. وهذا التصرُّف من خَوَاصّه سبحانه، لم يُشارِكه فيه غيرُه؛ لأّنه سبحانه اختَصّ بتكوين الكائنات ذاتًا وصفةً. فتَصرفه بذلك تَصرُّفٌ وراء التصرُّف الأمريّ. فلذلك، جاز أن يُكلِّف بالطاعات ويَنهى عن المعاصي بما استحقه من تصرفه الأمر؛ وجاز أن يَصرِف عَبدَه عمّا كلَّفَه بفِعلِه، ويخلق فيه خلافَه بما استَحَقَّه مِن تَصرُّفِه الكونيّ

ص: 214

الاستقلالىّ. ولو قُدر أنّ الله سبحانه جَعَلَ لغيره من الملاك هذا التَصرُّف الخاصّ، لجاز لهم ما جاز له مِن الأمرِ بالفِعل، والصَرفِ عنه، والنهي عنه، وتَقديِرِه.

وهذهنُكتةٌ يجب أن يُفزَع في مَضيق هذه المسألة إِليها، ويُعوَّل عليها، وتُعقَد عليها الحناجِرُ ويُعض عليها بالنواجذ وبعدها أخرى أحسن منها، وهي سر المسألة؛ والله أعلم.

قوله، "وهو يَعني ما نهى اللهُ عنه مِن العباد". قلنا: خَلقًا أو كسبًا؟ الأوّل ممنوعٌ؛ والثاني مُسلَّمٌ، وقد سبق تقريُره غيرَ موضعٍ.

قوله، "فإِنّه تعالى يقول:{ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم} . فلو كان الكفر من قضائه وقدره، لرَضي به ممن عَمِله". قلنا: قد بيّنّا أنّ معنى كونه لا يَرضَى لعباده الكفرَ، "لا يَرضاه لهم طاعةَ وعبادةً ولا سببًا يُقربون به".أمّا "لا يَرضى به، أو لا يَرضاه واقِعًا في الوجود"، فلا. وإِلاّ، لَزِم أن يَقَعَ في ملكوتِه ما لا يَرضَى به ولا يَقدِر على منعِه؛ وذلك تعجيزٌ له سبحانه عن ذلك.

قلتُ: فقد دار الأمُر بين لُزوم لعجزِ فى حقّه تعالى، على رأيهم، ولزوم الجَور عقلَا، على رأينا. لكنّ الثاني أَولى أن يُلتَزَم؛ لأنّا إِذا قلنا بما يَقتضي الجورَ، أمكَننا أن نقول:"هذا جورٌ"، بالإِضافة إِلى تَصرُّفاتنا في مُلكِنا. أمّا بالإِضافة إِلى تَصرُّف الله التامّ، فلا جور؛ بل كلّ ما يَصدرُ منه عَدلٌ. ونَستَنِد من السمع إِلى قوله، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} . أمّا لو قلنا بقولهم، الذي يَلزَم عليه عجزُه سبحانه عن نَفي المكروهاتِ الواقِعة في مُلكِه، فإِنّه لا يمكننا أن نقول:"هذا عَجزٌ"، بالإِضافة إِلينا، لا إِليه سبحانه؛ لأنّ العجز إِمًا عَدَم القدرةِ، أو معنى ملازَمة عَدَمِ القدرة؛ وهو أمرٌ حقيقي لا يختَلِف بتمام المُلك ونقصانه؛ بخلاف الجور.

قوله، "لو كان من قضائه وقدرِه، لرَضِي به ممن عَمله". قلنا: لَرضيَ به رضَا تكليفٍ، أو رِضَا تكوينٍ؟ الأوّل مُسلَّمٌ أنه لا يَرضَى به. والثاني ممنوعٌ. وقد بيّنّا أنَه لا تَنَافي بين

ص: 215

قضائه وتقديره، وبين أمرِه ونهيه، بما قرّرناه من التَصرُّفين التكليفيّ والتكوينيّ. وحينئذٍ، لا يلزم بين قضائه وعدم رضاه التكويني. فيجوز أن يَقضي تقديرًا، ويَرضَى تكوينًا. وأنتم عندكم أنّ الإِنسان مُوجدٌ لأفعاله، مع أنّ العقل لا يُقبح منه أن يقتل ولده أو قريبَه. ولمصلحةٍ راجحةٍ لنفسه، فهو يَرضَى بذلك عقلًا، لا طبعًا. وقد قَتَل قيسُ بن زُهَيرٍ العبسي بني بدرٍ، وهو بنو عمّه؛ لأنّه رأى مصلحتَه في قتلِهم، مِن حيث آذَوْه وناصَبوه العدواةَ، وإِن كان عليه فيه مفسدةٌ، مِن حيث إِنهم بنو العمّ والعشيرةُ، فنقَّص بهم عددَه. ولهذا كان الناسُ يَدخلون عليه، فيُهنؤنه بإِدراك الثأر، ويُعَزُّونه بمصيبته في بني عمّه. وقال شعرًا تَضَمَّن الأمرين، وهو قوله:

شَفَيتُ النفسَ مِن حَمَل بن بدرٍ .. وسيفي مِن حُذيفة قد شَفاني

فإِن أَكُ قد بَرَدْتُ غَليلي .. فإِنى قد قَطَعتُ بهم بَناني

فما النامع من أن يكون الله سبحانه يَرضَى بالكفر وجودًا وكَونًا، ولا يَرضَى به عبادةً ودِينًا؟ يَرجع حاصلُ الأمرِ إِلى أنّ الكفَر في الرَضَا به من ذَوات الجهتين، خصوصًا على مذهب المعتزلة في وجوب رعاية المصالح. فلعل في خلقِه الكفرَ مصلحةً لخلقِه وليس ذلك بأبعد مما يَلزمهم على هذا الأصل، وقد التَزَمه بعضُهم، مِن أنّ دخول الكفّارِ النارَ مصلحةٌ لهم. وإِذا كان دخولهم النارَ مصلحةً لهم، مع أنّ الله سبحانه قادرٌ أن يعفيهم منه، فخلقُ الكفرِ فيهم أَولى بجواز كونِه مصلحةً؛ لأنّه سببٌ لدخولهم النارَ وإِذا كان المسبب مصلحةً، فالسبب كذلك، وأولى؛ لأنّه لا تَتَوصُّل إِلى المسبب إِلاّ به.

قوله، {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}. قلنا: صَدَق اللهُ. لكنّ "قَضَى" لفظٌ يُطلَق بمعانٍ. "فقضى" بمعنى "أَمَرَ"؟ أو بمعنى "حَكَمَ وقَدَّرَ"؟ الأوّل مُسلمٌ، والثاني ممنوعٌ فالله سبحانه أَمَرَ خلقَه أن لا تَعبدوا غيره وحَكَم وقَدر على بعضهم أن يُشرِك به. وقد بيّنّا أنّه لا تَنافي بين أمرِه وتقديره باعتبار ما استِحقّه من تَصرفيه المذكورين قبلُ.

ص: 216

وقد قال سبحانه: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} . وقد ضَلَّ بعضُ الاتحاديّة في هذه الآية المذكورة؛ فحَمَل "قَضَى" فيها على معنى "حَكَمَ وقَدَّرَ"، حتى أَفضَى به ذلك إِلى أنّ كلّ معبودٍ عَبَده الخلقُ، من شمسٍ وقمرٍ ونجمٍ وحجرٍ وشجرٍ، وأنّ ودًّا وسُواعًا ويَغوثَ ويَعوقَ ونسرا وكلّ صنمٍ ووثنٍ، هو عين اللهِ سبحانه؛ لأنّه قَدَّر أن لا يُعبَد سواه؛ ولا خُلف في تقديره؛ فلَزم أنّ جميع المعبودات هي هو. وإِنما يَخفَى ذلك على مَن ليس بمحقِّقٍ. قلتُ: وهذا الجاهل إِنما أُتِي من عدم فهمِه لكتاب الله وغفلته عن إِجمال اللفظ. وقد قال بعضُ محقِّقي العلماء ومدقِّقي الفضلاء: "إِنّ أكثر اختلاف الرجال مِن جهة الاشتراك والإِجمال" هو صحيحٌ؛ ولذلك أمثلةٌ لسنا بصدد ذكرها.

قوله، {قدر فهدى} ، ولم يقل:"قَدَّر فأضَلَّ"؛ و {الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى} ، قال:"أعطى كلَّ شيءٍ ما يُضلِحه ثمّ هداه له". ومراده ومراد غيرهِ بذلك

ص: 217

أنّه أعطَى الأشياءَ مصالحَها الدنيويّةَ وهداها لها، مِن تناولِ المأكولِ والمشروب والملبوس والمنكوحٍ، وغيرِ ذلك من تحصيل المنافع ودَفعِ المضارّ بالعقل والحواسّ. ولا تَعرُّض في ذلك لسرِّ القدر بنفيٍ ولا إِثباتٍ.

ومما يدلَ على أنّ المراد ما ذكرنا أنّ القائل لذلك هو موسى لفرعون. فلو أراد به الهُدى الدينيَّ، لكان ذلك حجّةً لفرعون. مُفحِمةً لموسى؛ لأنّه كان له أن يقول لموسى:"قد زعمتَ أنّ ربَّك هَدى كلَّ شيءٍ، وأنا من جملة الأشياء، فإِن كل قد هَداني، فإِلى ما تَدعُوني؟ إِنما تَدعوني إِلى الضلال؛ إِذ ليس بعد الحقّ إِلاّ الضلال. وإِن لم يكن هداني، فقد كَذَبتَ في صفة ربِّك. ولستَ رسوله؛ لأنّ الرسول لا تخفى عليه صفاتُ مرسِلِه." لا يقال: "إِنّ فرعون كان أبلد مِن أن يَتَنبَّه لهذا السؤال"؛ لأنّا نقول: أليس هذا السؤال واردًا على التقدير المذكور؟ والله سبحانه لم يَبعّثرسلَه على وجهٍ يَرِدُ عليهم سؤالٌ مفحِمٌ. فدلَّ على أنّ الهدى مِن الله يُطلق بمعنيين: أحدهما: خلقُ الهدايةِ في قلبِ العبدِ. والثانيِ الإِرشاد إِلى سبيل الحقّ. ثمّ هو قسمان: هديً مجرَّدٌ، كما قال:{وهديناه النجدين} ، أي عَرَّفناه طريقَ الخير والشرِّ، وقوله، {وأما ثمود فهديناهم} . والثاني هديً مستجمعٌ لشروط الهداية، وانتفاء موانعها. فالاهتداء إِنما يَلزَم من هذا الهدى، وهو لمن سَبَقت له العنايةُ؛ لا من الذي قبله، وهو حجّةٌ على مَن سَبَقَت عليه الشقاوةُ.

ونظيره مِن المشاهَدات أن يَسأَلك رجلٌ ل كبه عنايةٌ عن طريق الموضع الفلانيّ؛ فتقول له: "هذا هو الطريق؛ وأنا أَكُون معك خفيرًا مما فيه، من لصِّ، أو سبعٍ". فتخفره وتجنِّبه المخاوفَ حتى يَبلُغ مقَصدَه. ويسألك آخرَ، هو عدوّك، أو لا عناية لك به، فتقول له:"هذا الطريق؛ واحذَر مّما تجد فيه". وندعه يَذهب وحدَه. فقد يأخذه اللصُّ، وقد يأكله السبعُ، وقد يَتَردَّى في بئرٍ لا يَتَنبَّه لها، وقد تلدغه هامَّةٌ، وغير ذلك من الآفات.

فلذلك، الله تعالى، مع خلقِه مَن سَبَقَت له عنده عنايةٌ، أَرشَده إِلى سبيل النجاة؛ ثمّ

ص: 218

صَحِبه بالعصمة والتوفيق؛ فنجَّاه. ومن سَبَقت له في علمِه الشقاوةُ، أَرشَده إِلى سبيل النجاة، حجّةً عليه. ثمّ أَرسَله وخلَاّه وما بين يديه. فتارةً يجتاله الشيطانُ عن الطريق، وتارةً يميل به الهوى والنفس الأمّارة عن سبيل التحقيق. فلا جرم يَصحَبه الخذلانُ، ويخذله التوفيقُ. وفي القسم، قال الله سبحانه:{لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون} .

إِذا ثبت هذا، فنقول: قوله، {قدر فهدى} ، إِن حلمناه على الهداية للمصالح الدنيوّية، لم تكن فيه حجّةٌ على محلّ النزاع، كالآية الأخرى. ولعلّه قول أكثر المفسِّرين. وإِن حملناه على "هَدَى"، نقيض "أَضَلَّ"، فإِن جعلناه بمعنى خَلَقَ الهدايةَ في قلبِ العبدِ"، لزم أن يكون قوله تعالى، {ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون}، {فلن تجد له وليا مرشدا}، {وأضله الله على علم}، ونظائر ذلك، بمعنى "خَلَقَ الضلالَ في قلبِ الضالِّ". وَيؤُول الأمرُ إِلى ما قلناه، مِن أنّه يهدي قومًا ويُضلّ آخرين. لكنّكم لا تقولون بذلك. وإِن حملناه على "هَدَى"، بمعنى "أَرشَد"، فقد بَيّنّا أنّ الإِرشاد يكون مجرَّدًا ومقيَّدًا باستكمال الشروط، وانتفاء الموانع، وتَخَلُّفَ الخذلانِ، وصُحبةِ التوفيقِ. فالأوّل للأشقياء، والثاني للسعداء. وكلاهما أيضًا منسوبٌ إِلى الله.

وتحقيق ذلك أنّ الله سبحانه خَلَقَ المكلَّفين، وخَلَقَ لهم نفوسًا مائلةً، وشهواتٍ مستميلةً، ونفسًا أمّارةً، وشيطانًا وغويًا، وعقلًا رادعًا، ودينًا وروحًا وازعًا. فالعقل والروح والدين في جانبٍ، والنفس والهوى والشيطان في جانبٍ. وهما كجيشين متقابِلَين يَقتتِلان. ولله سبحانه جندان، وهما التوفيق والخذلان خلقُ الدواعي الصارفة إِلى فِعلِ المعاصي وتركِ الطاعات. فإِن أَرسَل اللهُ التوفيقَ في صفِّ العقلِ،

ص: 219

غَلَبَ.؟ وإِن أَرسلَ الخذلانَ في صفِّ النفسِ، غَلَبَ، وأَوجَب لصاحبه الويلَ والحربَ.

فنقول حينئذٍ: قد ثَبتَ مِن رأيِ المعتزلة أنّ رعاية مصالح العباد واجبٌ على الله سبحانه جل جلاله. ولا فرق في استحقاق مُسمَّى "الذمّ" و"القبح"، عقلًا عندكم، وشرعًا عندنا، بين مَن أَوجَد سببَ القبيحِ والمعاصي، وبين مَن أَعدَم، أو مَنَع، سببَ الحَسَنِ والطاعات. حتى قال بعضُ علماءِ الشريعة: "لا فرق بين من أَوقَع إِنسانًا في هَلَكةٍ، فهَلك، وبين من رَأى إِنسانًا في هَلَكةٍ، وهو قادرٌ على إِنقاذه منها، فلم يَفعَل، حتى هَلَك، في أنَه يَأثم ويضمن.

وحينئذٍ نقول: سواءٌ كان إِصلالُ الكافِر بإرسال الخذلانِ عليه، أو بقطع التوفيقِ عنه، وسواءٌ كان معنى "إضلاله له" بتوفيقه للمعصية، أو بمنعِ توفيقه للطاعة؛ كلّ ذلك منسوبٌ إِلى الله. فنحن إِن جَعَلنا الإِضلالَ بمعنى خلقِ الداعي الموجِب للضلالِ، فقد دَلَّت عليه الأدلّةُ، وسبق تقريره. لكنّا نَفتقِر فيه إِلى الاعتصام بقوله:{لا يسأل عما يفعل} . وإِن جعلناه بمعنى قطعِ التوفيق عن الهداية، قّرب مأخذَ مذهبنا من جهة العقل. لكنّه يَقُرب من مذهبهم؛ إِذ يَلزَم منه أن تكون القدرةُ الحادثة هي المؤثِّرة في إِيجاد الفعلِ. وإِنما الحاصل من الله سبحانه في ذلك هو منعُ التوفيقِ لتركِ المعصية.

والتحقيق عندي في القدر أنّه اضطراراٌ إِلهيِّ كوني للعبد إِلى مواقَعةِ المقدور، وجريانِ ما كَتَب عليه من الأمور، بأسبابٍ حادةٍ وصوارفَ رادةٍ. وله من المشاهَدات أمثلةٌ.

منها القنطرة على البحر. فإِنّ الماء مِن جانبيه تَضطرُّ العبدَ إِلى الجواز عليها. فكذلك القدر قنطرةُ القدرةِ، والأسباب والصوارِف من جانبيه تَضطرُّ العبدَ إِلى المرور عليه.

ومنها فخُّ الصيّادِ للصيدِ. فإِنّ الصيّاد يجعَل الطُعمَ في الفخِّ؛ ثمّ يجعل إِليه طريقًا للصيد بين حائطين شاخِصَين، مِن حجارةٍ أو غيرها. أوّل ذلك الطريقِ واسعٌ. وكلّما جاء إِلى ضيقٍ ليَسعى الصيدُ إِلى الفخّ فيه، ويمنعه الحائطان عن العدول عنه يمنةً أو يسرةً. فلا جرم إِن لم يُلهَم الإِبكارَ، فيعتصِم بالفرار، وَقَعَ في الفخِّ، ثمّ صار إِلى النار.

ص: 220

فكذلك الإِنسان مع فخِّ الأقدار. فالمعاصي كالفخاخ، والشهوات كالطُعم الذي فيها، والقدر كالحائطين والطريق بينهما، والإِنسان كالطائر. فيجري في طريق القدر، حتى يَقف على فخِّ المعصيةِ. فإِن أُيِّدَ حينئذٍ بالتوفيق، راجَع عقلَه، فامتَنَع ورجع. وإِلاّ قارنَه الخذلانُ، فوقع.

ومنها ما يَفعله الملوكُ وأتباعُهم في الصيد أيضًا. فإِنهم تارةً يَحتوِشُون الصيدَ بالخيل والرجالِ مِن أقطاره، حتى يلزُّوه إِلى مضيقٍ، فيأخذوه. وتارةَ يَضرِبون عليه حلقةً دائرةً، ثمّ يَرمونه بالسهام، ويُلقُون عليه سباعَ الطيرِ والبهائم؛ ثمّ يأخذونه. وتارةً يجعلون الفهدّ خلفّ شجرةٍ، أو نحوها، ثمّ يضايِقون الصيدَ، أو يُهمونه أنهم يَطلبونه، حتى مَرَّ على الفهد، فيَثِب عليه، فيأخذه.

فهذا مثال القدرِ عندي. وأمثلته كبيرةٌ. ولا يَتَّجه على الله في ذلك لومٌ، ولا يَلزَمه منه جورٌ، تعالى الله المتَصرَّف في ملكوته بجبروته كمات يشاء. والله أعلم.

قوله، {قل إن ضللت فإنما أضل على نفسى وإن اهتديت فبما يوحي إلى ربي}. قلتُ: الجواب أنّ معناه: إِن لبستُ ضلالًا، فوَبال كَسبي على نفسي. وجعل اللهُ تعالى ذلك أمارةً على ما يُراد به، كما سبق غيرَ موضعٍ.

قوله، {إن علينا للهدي} ، ولم يقل:"إِنّ علينا للإضلال". قلنا: ظاهر الآية أنّ الهُدى واجبٌ على الله. وأنتم منازَعون فيه. ثمّ المراد "بالهدى" الإِرشاد. وقد سبق تحقيقُ الجوابِ على قوله، {قدر فهدى} .

قوله، "ولا يجوز أن يَنهي العبادَ عن شيءٍ في العَلانية، ويُقَدِّره عليهم في السرِّ. ربّنا أكرم من ذلك وأرحم". قلنا: لا يجوز عقلًا، أو شرعًا؟ الأوّل ممنوعٌ؛ إِذ لا يَلزَم منه

ص: 221

محالٌ لذاته. فإِن قيل: "بل يَلزَم منه الجورُ؛ وهو على الله محالٌ". والثاني ممنوعٌ. وقد بيّنّا أنّ لا جَورَ باعتبار ذلك. ثمّ لا نُسلِّم أنّ الجور لذاته محالٌ؛ وإِلاّ لَما صَحَّ مِن المخلوقِين. على أنّه لا يَلزمَ في حقِّ اللهِ سبحانه، سواءٌ استحال لذاته، أو لغيره. وأمّا جواز ذلك شرعًا، فقد دَلَّ عليه قوله، {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} ، {واعملوا أن الله يحول بين المرء وقلبه} ، كذلك زينا لكل أمة عملهم}. ولا معنى لتقديره الكفرَ ونحوَه في السرِّ إِلاّ تزيينه للكافر؛ وهو الاستدراج والمكر؛ وقد وَصَف اللهُ نفسَه بهما.

قوله، "ربّنا أكرم من ذلك وأرحم" قلنا: تَصرُّفه في مُلكِه بما يشاء بمقتضَى ملكِه التامّ لا يُنافي الكرمَ والرحمةَ. وقد ثَبَت كرمُه بإِقامة الوجود وتفويضه الخلقَ في ملكه.

ثمّ عاد يَفتَرض منهم. وأثاب الطائعَ منهم على ما لولا توفيقه لم يُوجَد منه، وهو مع ذلك مستحِقُّ له.

قوله، "لو كان الأمر كما قاله الجاهلون، لما قال: {اعملوا ما شئتم}، ولقال: "اعملوا ما قَدَّرتُ عليكم". قلنا: الجواب من وجوهٍ.

أحدها: أنّ هذا أمرّ تهديدٍ، لا تخييرٍ؛ فلا يَلَزم ما ذكرتم. ولو كان أمرَ تخييرٍ، كقوله:{فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} ، لكنّه تخييرٌ لفظي؛ وهو في المعنى تعجيزٌ كونيٌّ، كقوله:{كونوا حجارة أو حديدًا} ؛ والتقدير "اعملوا ما شئتم، فإنّكم صائرون إِلى ما قُدِّر عليكم".

الثاني: أنّه أمرُ بتكليفٍ؛ والتَصرُّف الكونيّ وراء ذلك. وهو معنى الجوابِ قبله.

الثالث: أنّه سبحانه قال: {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا} .

ص: 222

وهو نصٌّ صريحٌ في المسألة. وتكلُّفات المعتزلة في تأويله باللطف له، أو بتَسميته "حقًا"، لا "هباءً منثورٍا"، غير مسموعٍ.

ولَمَّا أَخبَر النبيّ عليه السلام أصحابَه بتقدير المقادير قَبلَ الخلقِ، قالوا:"فعلى ما نَعمَل، يا رسول الله؟ " قال: "اعملَوا على مواقع القدر". وهو معنى قوله، "اعملَوا ما قدَّرتُ عليكم، ومعنى الحديث أن، ّ كلّ مَن قُدِّرَ عليه شيءٌ في سابق عِلمِ اللهِ سبحانه، لابدّ أن يَقَعَ عليه.

وها هنا فائدةٌ جليلةٌ وتقريرٌ حَسَنٌ لمَنْ تدَبر. وهو أنّ الله سبحانه علاّم الغيوبِ، ما كان منها، وما يكون، لا يَعزُب عن عِلمِه مثقالُ ذرّةٍ في السماوات ولا في الأرض، كما أَخبَر عن نفسه سبحانه، وأنّه عَلِمَ مثقالُ ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض، كما أَخَبر عن نفسه سبحانه، وأنّه عَلِمَ الأشياءَ، جُزئيَّها وكلَّيها، فى الأزل. سَلَّمَت المعتزلةُ، أو جمهورُهم، ذلك [و] مَن مَنَعَه منهم، فالدليل بالمرصاد. والسبب في أنّ الله سبحانه عَلِمَ الأشياءَ، جُزئيَّها وكلّيها، في الأزل. سَلَّمَت المعتزلةُ، أو جمهورُهم، ذلك [و] مَن مَنعَه منهم، فالدليل بالمرصاد. والسبب في أنّ الله سبحانه عَلِمَ الغيبَ قَبلَ كونِه، وإِن تَطَاوَلَ زمنُه، هو [أنّ] الله سبحانه تامّ القدرةِ، نافذ المشيئة، لا مُغالِب له، ولا مُعاجِز، ولا مُعانِد له فى مُلكِه، ولا مُناجِز، لا مانع له عمّا أَراده، ولا دافعِ؛ وليس لمَنْ أَذَلّ وخَفَضَ مُعز ولا رافعٌ. وكل من قَدر في نفسه فعلًا في زمانٍ أو مكانٍ، وهو قادرٌ على ذلك الفِعل في زمنه ومكانه، لا صادَّ ولا دافع له عنه، عُلِمَ وقوعُه لذلك بالضرورة؛ لأنّه عازمٌ على إِيقاعه حالًا، ولا مانع له منه مآلًا.

وبيان ذلك بالمثال. وهو أنّ الله سبحانه قَدَّر في الأزل أنّه على رأس سنةِ كذا وكذا مِن إِهباط آدم، يَبعَثُ اللهُ نبيًا له يُسمي "نوحًا" إِلى قومٍ يُكَذِّبونه، ويجري له معهم ما قد عُلِم مِن تفاصيل قصتهم، ثمّ يغرقهم؛ وعلى رأس سنة كذا وكذا من طوفان نوحٍ، يَبعّثُ نبيًا له يقال له "إِبراهيم" إِلى جبّارٍ يُسمَّى "نمرود" يُكَذِّبه، ويجري له معه ما عُرِف من تفاصيل القصّة؛ وعلى رأس سنة كذا وكذا من بِعثة إِبراهيم، يُرسِا اللهُ نبيًّا له اسمه "موسى" إِلى جبّارٍ يُسمَّى "فرعون" أو "الوليد"، فيدعوه إِلى الإِيمان، فيكاد أن يُؤمِن، ثمّ يَستمرّ على الكفر، فيُغرقه الله وقومَه في البحر. وكذا الكلام في سائر الوقائع، صغارها وكبارها. فلمّا قَدَّر اللهُ سبحانه ذلك في الأزل، وعَلِم أنّه قادرٌ على إِيقاع ذلك في وقته المقدَّر له في عِلمِه، كان لا جرم عالمًا بتلك الغيوب.

ص: 223

ولو فَرَضنا أنّ واحدًا منّا فى سنتِنا هذه، وهي سنة ثمانٍ وسبعمئةٍ للهجرة المحمّدية، صلّى الله على صاحبها، عَزَم على أن يحجّ في سنة عشرٍ، أو خمس عشرة، أو عشرين وسبعمئةٍ إِلى البيت الحرام، بطريق كذا، ويَنزل يوم كذا في موضع كذا، ونحو ذلك من جزئيّات المسير، وعلِم جزمًا أنّه قادرٌ حينئذٍ على الحجّ، فذلك لا مانع له منه بوجهٍ مِن الوجوه؛ لعَلِمَ الآن قطعًا أنّه يحجّ في تلك السنة، ويَفعل تلك الجزئيّات التى قَدَّرها في نفسه. ولكن إِنما يَمنعنا من ذلك أنّا عاجِزون عن فِعل كلّ ما نُقدِّره في أنفسِنا.

وإِذا ثَبَت أنّ هذا هو الطريق في معرفة كيفيّة عِلم الله للغيوب، فلو فَرَضنا أنّ أفعال فرعون مخلوقةٌ له، مع أنّ عِلم الله تعالى تَعلَلَّق أزلًا باستمراره على كُفره وإِغراقه، لجاز أن يخالِف فرعونُ مقتضَى هذا العلم، فيؤمن؛ لأنّ إِيمانه وكُفره مِن فِعله عندهم، لا تَعَلُّق لقدرة الله به بوجهٍ؛ أو يَستمِرّ على كفره، لكنّه يَمتنِع عن نزول البحر عند انفِراقه، فيَسلَم، لأنه مختارٌ تامّ الاختيار عندهم. وفي ذلك كلّه انقلابُ العلم الأزليّ جهلًا؛ وهو محالٌ. وإِنما استمَر على كفره حتى غَرِق بخلق الله ذلك فيه واضطراره كونًا إِليه، كما ضَربنا أمثلتَه. فإِذا نَظَر العارفُ في مِثل هذه التقريرات والدقائق، علم أنّ المعتزلة على ترهاتٍ وشقاشق وجهلٍ بحقائق صفات الخالق.

قوله، "وقال:{لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر} ؛ لأنّه جَعَل فيه من القوّة ذلك، ليَنظر كيف يعملون" قلنا: قد سبق الجوابُ عن تخييرهم لفظًا. والقوّة إِنما جَعَلها على الكسب الدائر مع قُصودهم واختياراتهم، لا على الخلق. بدليل أنّه سبحانه قادرٌ على مَنعِ وقوع الفِعل عند إِرادة الإِنسان له، وعلى إِيقاعه عند عدم إِرادته له؛ كما في حركة النائم والمرتعش. فلمّا دار الفِعلُ مع إِرادة الله وجودًا وعدمًا بالاستحقاق، دَل على أنّ دورانه مع إِرادة العبد إِنما هو على سبيل الاتّفاق؛ حتى لو لم يُرِده، لكان في مقدور الله إِيقاعُه. ومَن أَنكَر قدرةَ الله على ذلك، فهو محجوجٌ بالنصوص والإِجماع؛ ولأنّه سبحانه قادرٌ على خَلقِ الحياةِ في الجمادات، وسلبِها في الحيوانات. وقد خَلَقَ الحياةَ في الحجَر، حتى أَخَذَ ثيابَ موسى وفرَّ.

ص: 224

قوله، "ولو كان الأمرُ كما قاله المخطئون، لما كان إِليهم أن يَتَقدموا ولا يتأخروا".

قلنا: لما كان إِليهم كسبًا، أو خَلقًا؟ الأوّل ممنوعٌ؛ والثاني مُسلمٌ. فإِنّ العبد إِنما يَفعَل التَقدُّم والتأخر وغيرهما عند خَلقِ داعي ذلك فيه؛ وعند ذلك يجِب الفعلُ، كما حُكي عن أبي الحسين. ولا يُعنى بالخلق إِلاّ هذا. فهو خلقٌ للفعل بواسطة الداعي.

قوله، "ولا كان لمتقدّمٍ حمدٌ فيما عَمِل، ولا على متأخرٍ ذم". قلنا: حمدُ المتقدِّمِ فَضلٌ مِن اللهِ؛ إِذ هو وتَقدُّمه وسائر أكسابِه مُلكٌ له، كما سبق. وإِنما تَفَضل عليه بالحمد والثواب تَفَضُّلًا محضًا، لا يَستحِقّ على الله من ذلك حبّةَ خردلٍ، كما سبق. وأمّا ذمُّه وعقابه، فهو عدلٌ من الله. وجُعِل كسبُه للمعاصي أمارةً عليه؛ والله الخالق لها، كما قُرِّر غيرَ موضعٍ.

قوله، "ولقال:"جزاءً بما عَمِلَ بهم"، ولم يَقُل:"بما عَمِلوا"، أو "بما كَسبوا" قلنا: أفتراه قَط قال: "جزاءً بما خَلَقوا"؟ ولو كانوا خالقين، لكانت هذه العبارةُ آكَدَ عليهم في الحجّة. وإِنما لم يَقُل:"بما عَمِلَ بهم"؛ لأنّه سبحانه إِنما جَعَلَ الأمارةَ على جزائهم كسبَهم، لا خلقَه؛ لأنّه يخاطِبهم من جهة تصرُّفه الأمريّ، لا مِن جهة تَصرُّفه الكونيّ؛ وقد سبق تقريرهما.

قوله، "وقال تعالى:{ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها} ؛ أي بَيَّن لها ما تأتي وما تَذَر". قلنا: "لا نُسَلِّم أنّ المراد "بألهَمَها": بَيَّم لها. وإِنما هذا قول قَتادة؛ قال: "قد بيَّن لها الفجورَ والتقوى". وخالَفه الضحّاكُ، فقال:"ألهمها الطاعةَ والمعصيةَ"؛ فحَمَل اللفظ على أصله. وإنما لاالإلهام أن يُلقِي اللهُ في النفس أمرًا يَبعثها على الفعل

ص: 225

والترك؛ ذَكَره ابن الأثير في النهاية. وهو مرادنا بخلق الداعي. واشتاق "الإِلهام" من قولهم "جَيشٌ لَهَّامٌ"، أي يَختطِف كل ما مَرَّ عليه. ويجوز أن يكون "الجيش اللهّام" مشتقًّا من "الإلهام"؛ لأنّ قوّة لفظِه تُفيد إِشرابَ النفسِ ما ألهتمته، وتغلغلَه في حقيقتها كتغلغل الماء فيما شَربه مِن شجرٍ أو حيوانٍ. ومنه، {وأشربوا في قلوبهم العجل} .

وأمّا قول قتادة، "بَيَّن لها"، فهو مخالفٌ لظاهر لفظ "الإِلهام". ولم أعلم في لغةٍ ولا اصطلاحٍ أنّ الإِلهام بمعنى "البيان"، إِلاّ فيما ذَكَره قتادةُ. وهو، وإِن كان إِمامًا، إلاّ إنّ له أقوالًا مرجوحةً. والعلم ما قام عليه الدليلُ. ثمّ هو غير صحيحٍ على رأي المعتزلة؛ لأنّ الفجور والتقوى بَيِّنان للنفس بالعقل عندهم، على ما مَرَّ. فلا حاجة فيهما إِلى بيانٍ غيره. فحمل الإِلهام على ما يُفيد فائدةً تأسيسيّةً. وحينئذٍ، صارت الآيةُ حجّةً لنا؛ لأنّ معناها إِذَن "خَلَقَ فيها داعي الفجور والتقوى"؛ وهما واجبات عند خلقِ الداعي؛ فصار الله سبحانه خالقَهما بواسطة خلقِ الداعيَّ، كما أنّه خالق كلِّ فرعٍ بواسطة أصلِه. والمعتزلة منازِعون في التولُّد.

قوله، "ثمّ قال:{قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} . فلو كان هو الذي دسّاها، ما كان ليُخيب نفسه". قلنا:"لو كان هو الذي دسّاها"، كسبًا، أو خلقًا؟ الأوّل ممنوعٌ؛ والثاني مُسلمٌ. ولا يلزم منه أن يُخيب نفسه؛ لأنّ ذلك من حيث تصرفه الكونى، لا التكليفيّ. وإِنما هذا كقوله، خَيبةً لأهل النار، لمِا صاروا إِليه من العذاب"، مع أنّه هو الذي أَدخلهموها.

قوله: "وقال تعالى: {قالوا بنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار}. فلو كان الله هو الذي قدَّم لهم الشرَّ، ما قال ذلك" قلتُ: هذا من كلام الكفّار الأتباع اللهُ هو الذي قدَّم لهم الشرَّ، ما قال ذلك" قلتُ: هذا من كلام الكفّار الأتباع لمتبُوعهم؛ حكام اللهُ عنهم. والمراد أنّ سادتنا وكبراءنا قدَّموا لنا سببَ هذا العذاب، لأنهم كانوا سببَ ضلالنا، حيث تابعناهم تقليدًا فيما قدّر عليهم من الضلال؛ كما

ص: 226

قالوا، {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا} ، بكونهم سببا لذلك.

أمّا قوله، "لو كان الله هو الذي قَدًّم لهم الشرَّ، لما قال ذلك"؛ قلنا: لو كان هو الذي قَدَّم لهم الشرَّ كسبًا، أو خلقًا؟ الأول مُسلَّمٌ؛ والثاني ممنوعٌ. بل هو قدَّمَه لهم تقديرًا وخلقًا، وأَجراه على جوارحهم اجتِراحًا وكسبًا. ثمّ إِنّه سبحانه ما قال ذلك، بل حكاه عمّن قاله من الكفّار ولا شكّ أنّ الكفّار خَفيَ عنهم وجهُ استدراجِ الله لهم وتزيينه لكفرِهم؛ فظنُّوا كما ظننتم ظنَّ الجهّال أنّ الساداتِ والكبراءَ هم الذين خَلَقوا الضلالَ. والاحتجاج إِنما يصحّ بكلام الله، أو بما أقرّ عليه. وهذا كاملا الكفّار. ولم يُعلَم أنّه أقرَّهم عليه.

قوله: "فالكبراء أَضلُّوهم دون الله". قلنا: أضلّوهم بالتَسبُّب والكسب، لا بالإِيجاد والخلق.

قوله: "بل قال: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفروا}. قلنا: قد سبق معنى "هَدَيناه"؛ والمراد الإِرشاد المجرَّد، لا الإرشاد الكامل، ولا خلق الهدايةِ في الناس. إِذ لو كان كذلك، لوجبَت هدايتُه، واستحال انقسامُه إِلى شاكرٍ وكفورٍ.

قوله: {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه} . قلنا: المراد "من شكر، ففائدة شكر عائدةٌ إِلى نفسه"؛ كقوله، {من عمل صالحا فلنفسه} ، و {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} . والله سبحانه هو الذي خلق فيه الشكرَ بواسطة الدَّاعي، ثم أثابه عليه تفضُّلا، لسبق العناية له بالسعادة؛ والكافر بخلاف ذلك.

قوله: {وأضل فرعونقومه وما هدى} ، {وما أضلنا إلا المجرمون} ، و {أضلهم

ص: 227

السامرى}، و {إن الشيطان ينزغ بينهم} ، {وزين لهم الشيكان أعمالهم}. قلنا: أضلَّهم في ذلك كله بالتسببِ، لا الخلق. ولو كان فرعونُ أَضَلَّ قومَه، لكان موسى هو الذي هَدَى قومَه. وإِن فَتَحنا هذا البابَ، نَسَبنا هدايةَ المؤمنين إِلى أنبيائِهم وأئمّتِهم، وضلالَ الكفّار إِلى طُغاتهم وفراعنتهم، وانعَزَا الإِلهُ عن التصرف في خلقِه، تعالى عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا.

فإِن قيل: "نعم. موسى هو هَدَى قومَه، بمعنى أرشدهم إِلى الطريق الحقّ"؛ قلنا: لا نُسَلِّم. بل الله أَرشَدهم بواسطته. ولهذا، لَمَّا أضلَّهم السامريُّ، بنسبته إِلى عَملِ العِجلِ، لم يملِك له موسى ولا هارون، وكان معهم حاصلٌ، هدى ولا رشدًا.

وقد رَوَى حربٌ الكِرمانيّ في مسائله، عن إِسحاق بن راهويه، ثنا محمّد بن الوزير الدمشقيّ، ثنا يوسف بن السَفر، ثنا الأوزاعيّ، ثنا يونس بن يزيد الأيليّ، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله لَمَّا وَعَد موسى أن يُكَلّمه، خَرَج للوقت الذي وقته اللهُ. قال: "فبينا موسى يُناجي ربَّه، إِذ سَمع خلفَه صوتَا؛ فقال:"إِلهي؛ أني لأسمع خلفي صوتًا. لعلّ قومي ضلُّوا". قال: "نعم، يا موسى". قال: "إِلهي؛ فمَن أَضَلَّهم؟ " قال: "صاغ لهم عِجلًا جسدًا، له خُوارٌ". قال: "إِلهى؛ هذا السامرى. قال: إِلهي؛ وما أَضَلَّهم؟ قال: "صاغ لهم عِجلًا جسدًا، له خُوراٌ". قال:"إِلهى؛ هذا السامريّ صاغ لهم العِجل، فمَن نَفَخ فيه الروح حتى صار له خوارٌ. قال: "أنا يا موسى". قال: "فوعزِتّك إِلهي، ما أَضَلَّ قومي أحدٌ غيرك" .. قال:"صَدَقتَ يا حكيم الحكماء؛ لا يَنبغى لحكيمٍ أن يكون أَحَكَم منك".

ص: 228

قلتُ: هذا سيّدٌ كما نراه جيّدٌ. وقد نَسَب اللهُ سبحانه الإِضلالَ فيه تارةً السامريّ، وتارةً إِلى نفسه تعالى. وليس ذلك إِلاّ باعتبار الكسب والتَسبُّب مِن السامريّ؛ والخلق من الله تعالى بخلق الحياة في العِجل وخلقِ داعي عبادته في نَفسِ مَن عَبَدَه. ولا معنى للخق المتنازَع فيه إِلاّ هذا.

فإشن قيل: "هذا الحديث، بتقدير صحّةِ سندهِ في إصطلاح المحَدِّثين، في متنِه أمران قادحان فيه.

أحدهما: أنّه على خلاف ما صَحَّ عن موسى أنّه لام آدمَ، وقال:"خيَّبتنا، أخرَجَتنا من الجنة". فإِنّه يَقتضِي أنّ موسى، في هذا الحديث، قدّريىٌّ بنسبِته الإِخراجَ إِلى آدم، ولومِه عليه؛ وفي حديث إِسحاق، هو جبريٌّ بنسبتِه إِضلا قومِه إِلى الله سبحانه فأحد الحديثين باطلٌ قطعًا. وهذا أَولى بالبطلان؛ لأنّ ذاك أصحُّ منه.

الأمر الثاني: أنّ فيه أنّ الله قال لموسى: "لا يَنبغي لحكيمٍ أن يكون أَحكم منك"؟ ومِن المعلوم أنّ محمَدًا والمسيح أَحكَم مِن موسى. فإِن لم يكن المسيح أحكم منه، فمحمّدٌ متفَقٌ عليه في ذلك. وهذا يَدلّ على وهنِ الخبر.

فالجواب عن الأوّل أنَ الحديثين لا تَنَافى بينهما؛ لأنّه، في مناظرة آدم، نَسَبَ الإِخراجَ إِلى تَسببِه وكسبِه، حيث أَكَل مِن الشجرة. ولهذا لَمَّا احتَجّ عليه آدمُ بقدرِ الله عليه، وسبقِ عِلمه فيه، انقَطَع موسى؛ حتى قال النبيّ عليه السلام:"فحَجَّ آدمُ موسى" وفي هذا الحديث، نَسَبَ الإضلالَ إِلى الله بالخلقِ والتقدير. فاندَفَع السؤالُ.

وعن الثاني، بأنّ معناه:"لا يَنبغي لحكيمٍ من أهل عصرك، أو من عالمك"؛ لحكيمٍ سوى محمّدًا؛ لقيام الدليلِ عليه. أو "لحكيمٍ موجودٍ"؛ ومحمّدٌ عليه السلام لم يكن حينئذٍ موجودًا. وبالجملة، هو عامٌّ خُصَّ بالدليل.

قوله، {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} ، فكان بدءُ الهُدى من

ص: 229

الله، واستحباب العمى بأهوائهم". قلنا:"هَدَيناهم" يعني "أرشدناهم إِرشادًا مجردًا وقَطعنا عنهم خفيرَ التوفيق، فزلوا عن سواء الطرق". وأمّا "العمى"، فكأنْ يخلق اللهُ داعي استحبابه فيهم؛ فأهواؤهم التي يدّعونها هي نفس الداعى المخلوقِ لله المرجِّح لأحد طرفي الممكِن على الآخر.

قوله، "وظَلَّم آدمُ نفسَه، ولم يُظَلّم ربَّه؛ فقال: {ربنا ظلمان أنفسنا}. قلنا: نعم، لأنّا بَيَنا أنّ الله، على ما كان منه إِلى عبادهِ، ليس بظالمٍ لهم؛ وآدم كان عاقلًا. قال بعضُ العلماء: "لو وُزِنَ عقلُ آدم بعقلِ جميع ذريته، إِلاّ محمّدًا صلى الله عليه وسلم، لرَجَح به".فلذلك، فهِمَ حقيقةَ القضيّة؛ فاعترَف على نفسِه بالظلم، باعتبار كسبِه، واحتَجَّ على موسى لمَّا ناظره بتقدير الله وخلقه. ويَدُلّ على هذا قولُه سبحانه، {إِنى جاعلى في الأرض خليفة} . فما خَلَقَ آدمَ إِلاذ ليستخلِفه في الأرض، بسبب مخالفته ومعصيته، لئلاّ يخرِجه من دار الكرامة بغير سببٍ ظاهرٍ. فلو جمَعتم بين طرّفي القضيّة كما جَمَع آدمُ لأَصَبتم وسَلَّمتم؛ ولكن أَخَذتم تعارِضون الحكمةَ الإِلهيّة، كما فَعَلَ إِبليسُ، فكأنكم وقد بان لكم خطأُ رأيِكم وندمتم.

قوله، "وقال موسى:{هذا من عمل الشيطان} . قلنا: نعم؛ أَقَترونه قال: "هذا مِن خلقِ الشيطان"؟ وقد سبق الفرقُ بين الكسب والخلق. فأَضاف العَمَلَ إِلى الشيطان، باعتبار كسبِه بوسوستِه. أو إِنّه مِن جنسِ عَمَل الشيطان؛ لأنّه يأمر بالفساد وسفكِ الدماء وقَتلِ النفوس؛ والشرائع إِنما تأمر بانتظام العالَمِ واستبقاء صحةِ مزاجه. قوله، "قال أهلُ الجهل:"إِنّ الله يُضِلّ ويَهدي من يشاء" قلنا: نعم. نقول ذلك؛ والله قاله. وإِنما الجاهل مَن يَنفى بعقله ما أَثبت الله بُحكمه وشرعه.

قوله، "ولم يَنظروا إِلى ما قبلَ الآية وبعدَها ليَستبين لهم أنّه تعالى لا يُضلّ إِلاّ بتقدُّم

ص: 230

الفسق والكفر، كقوله، {ويضل الله الظالمين} ، وقوله، " {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} ، وقوله، {وما يضل به إلا الفاسقين} ، قلنا: بلى، قد نظرنا في ذلك؛ فما رأيناه منافيًا لمِا نقول نحن، ولا مُوافيًا لما تقول أنت. فإِنّا نعود معك إِلى الأوّل، ونقول: الفسق والكفر المتقدّمان على إضلاله إِيّاهم، مَن خَلَقَه فيهم؟ وتعود المسألة مِن أوّلها. والنزاع فيه.

ثمّ نقول: سَلَّمنا أنّ فِسقهم المتقدِّم خَلقٌ لهم. لكن ما وجه اقتضاءِ فسقِهم لإِضلالهم؟ أَعَلى جهة استراجهم، لتكمُل شبه العقوبة؟ أم على جهة العقوبة على فسقِهم؟ إِن كان الأوّل، فجَورٌ وَافَى الفِسق المتقدِّم ذلك؛ ولا فرق. وإِن كان الثانى، فلِم عاقبهم عليه بالإِضلال؟ وهلاّ عاقبهم بالإِهلاك والمصير إِلى النار، على ما هو القياس في العقبات! وكيف يَسُوغ في العقل أن يجعل عقوبةَ الزانى زِنًا مِثلَه، أو الشاربِ شربًا مِثلَ شُرِبه، أو اللائط لواطًا مِثل فِعله! .

ما هذا إِلاّ كما يُحكَى في النوادر أنّ بعض مغفَّلى القضاة كان إِذا حَضَرَ بين يديه زانٍ، أو نحوه، قَدَّم له صحنَ قطائفٍ بعسلٍ. ثم ّ قال له:"كُلْه جميعَه! وإِلاّ بعبعتُك أو جَعجَعتُك! " فإِن أَكَلَه، سَلم. وإِن بقي منه شيءٌ، أَركَبه القاضي حمارًا؛ ثمّ تَعَرّى القاضي، وكَشَف رأسَه، وسود وجهه بسخام قدر أو نحوه؛ ثم كشر عن أسنانه، وشَرَع عينيه في وجه ذلك المعاقَب. وقال له "بُعْ بُعْ"! أو "جَعْ جَعْ! " فتلك بعبَعتُه وجعجعتُه؛ وهي عقوبته. فهذا مَثَله سواءٌ بزِنا الشخصِ بامرأةٍ مرّةً، فيعاقبه اللهُ سبحانه بأن يُسلّم إِليه أولادَ الناسِ ذكورًا وإِناثًا، فيَستمتع بهم باقي عمرِه. هذه عقول القدريّة الصحيحة. ولكن عقولٌ نَفَذَ فيها قَدَرُ الله، ففسَدَت. ونفَقَت عقولُ المؤمنين في سُوق الملكوتِ، وكَسَدت.

فإِن قيل: "مال وجه التشنيعِ علينا في هذا، وعقوبة الذنبِ قد تكون مِن جنسِه

ص: 231

وبذنبٍ مثلِه؟ " قلنا: العقوبة تَستلزِم الإِيلامَ، إِمّا للبدن، أو للنفس. فكونها مِن الجنسِ مِثل قوله:{يستهزءون} ، {الله يستهزئ بهم} ، {إن تسخروا منا فإِنا نسخر منكم} ، و {ومكروا ومكرنا مكرا} ، ونحوه ممّا ذَكَرنا من أمثلته جملةٌ في القواعد الصغرى. وأمّا كونها بِمثلِ الذنب، فإِنما قال ذلك العارفون. وهو مَرويُّ عن الحَسَن البصرىّ أنّ عقوبة الذنبِ مِثله؛ بمعنى أنّ الله يعاقب فاعلَ الذنب، بأن يَقضى عليه بفعل مثله، ليكون سببًا لعقوبته في الآخرة، تكميلًا لسبب العقوبة؛ لا أنّه يجعل العقوبةَ الحقيقيّة على شُربِ كأسٍ من الخمر شُربها باقي العُمر. ولئن جاز ذلك، فجِوَّزوا أن تَكون عقوبةُ الفُساق والفُجّار في الآخرة بمِثل ذلك. فيكون فرعون في الجنّة أعظم نعيمًا منه في الدنيا بما لا نهاية له.

ثمّ نقول: أنتم توجِبون على الله رعاية مصالحِ عباده، كما يجب على الأب رعايةُ مصالح أولاده. وحينئذٍ، تَقَدُّم الكفرِ والفسوقِ مِن العبدِ يَقتضي على ذلك أنّ الله تعالى يَكفُّه عنه ويُنقذه منه رعايةً لمصلحته. كما إِذا رأى الأبُ في نار مُحرق، أو ماءٍ مُغرقٍ، فإِنّه يُنقِذه منه. فأمّا أنّه سبحانه يزيد العبدَ ضلالًا إِلى ضلالته، وفسقًا إِلى فسقه، فهذا يُنافي أصلكم وكَرَم اللهِ ورحمتَه التي تحتجُّون بها علينا في نَفيِ خلقِ الفِعلِ.

قوله في الوعيد: {أفمن حق عليه كلمة العذاب} ، {كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا}. قلنا: نعم؛ حَقَّت عليهم كلمةُ اللهِ بقدَرِ اللهِ عليهم أن يَفعلوا المعاصى. ثمّ الآية حجّةٌ عليكم؛ لأنّ المراد "بكلمة ربّك" هي قوله: {لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين} ؛ وهذه الكلمة ازليّةٌ، أو أنها قَبلَ خلقهم، ولابّد. وقد سبق

ص: 232

علِمُ اللهِ فيهم بأنهم مِن أهلِ الشقاء بما يجري على أدواتهم من الأعمال؛ ولا مبَدِّل لكلمات الله. وقد سبق أنّ ما تَعلَّق عِلمُ الله بأنّه لا يكون، خَرَج عن كونه مقدورًا. وإِيمانُ الكافرِ وطاعةُ العاصي كذلك؛ فهي محالٌ. فصار ضدُّها، وهو الكفر والمعاصي، واجبةً منهم، بخلقِ دواعي ذلك فيهم. وهذا هو المطلوب.

قوله، "قال الله تعالى:{ادخلوا في السلم كافة} ؛ كيف يدعوهم إِلى ذلك، وقد حال بينهم وبينه! " قلنا: قد سبق أنّه لا تَنافي بينهما عقلًا ولا شرعًا. فيدعوهم إِليه بمقتضَى تَصرُّفه التكليفىّ، ويحول دونه بمقتضَى تَصرُّفه التكوينيّ؛ كما أنّه، عندنا، أَمَرَ بكسبِ الحلال، ثمّ حال دونه في حقَِ بعض الناس، ورَزَقَه الحرامَ. وهذا ما تُنازِه فيه المعتزلةُ، كما سبق. إِلاّ إِنّ الدليل عليه ما مَرَّ هناك، وأنّ الله أَعانه على كسبِ الحرامِ، باتّفاقٍ، بخلقِ الدواعي إِليه والقدرةِ عليه. ولا يعني بأنّه رَزَقَه الحرامَ إِلاّ هذا؛ وإِلاّ فقد كان قادرًا أن يمنعه عن كسبِه؛ وتَرك المنعِ من القبيح للقادر عن المنع قبيحٌ، كما سبق.

قوله: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإِذن الله} ؛ كيث يجوز ذلك، وقد مَنَعَ خلقه من طاعته! " قلنا: هذه اللام مِثلُها في قوله: {إلا ليعبدون} ؛ وقد سبق الكلامُ عليها. ثمّ نقول: هنا اللام، إِمّا للعاقِبة فقد قيَّدَها "بإِذن الله"؛ فلا مُطيع للرسل إِلاّ مِن أَذِن له في ذلك إِذنًا كونّيًا زاشدًا على أَمرِه التكليفيّ. وإِن كانت لامَ "كَيْ"، فالمراد معنى الأمرِ والتكليفِ، لا الإِرادة الكونيّة. فالتقدير "ما أَرسَلنا مِن رسولٍ إِلاّ وكَلَّفنا الناس بطاعته وأَمرنا ليُطيعوه". وقد بَيّنّا أنّه لا تَنافى في حَقِّ الله بين تكليفه

ص: 233

لهم وحيلولته دونهم، وإِن قَبُح ذلك مِن غيره؛ لِمَا بَيّنّا [ما] بينه وبين غيره مِن الفَرقِ بقوةّ المُلكِ وضعفه، وغير ذلك.

قوله، "والقوم يُنازِعون في المشيئة، وإِنما شاء اللهُ الخيرَ قَبل أن نَشاءه". قلتُ: لا أعلم ما وجه استدلالِه بهذا. إِلاّ إِنّه يُشير إِلى قوله: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} . ونحن نقول: إِنّ الله سبحانه شاء الخيرَ والشرَّ، وقدَّرَهما قبلَ خلقِ السماوات والأرض بدهورٍ وأزمانٍ، كما سيأتى في الحديث.

قوله: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} . قلنا: هذا، إِن خَصَّصناه بسببِه، فهو في إِفطار المسار في رمضان. وإِن لم نَخُضّه، فهو في عموم أحكام التكليف. ونحن في مسألةٍ تكوينيّةٍ؛ لأنهم يقولون:"العبد يُكَوِّن أفعاله"؛ ونحن نقول: بل الله يُكونها. فأين هذا مِن هذا! .

ثمّ هي لازمةٌ عليكم؛ لأنّه خَلَق العُصاةَ وأحياهم، حتى استًكمَلوا معاصيهم؛ ثمّ أَدخلهم النارَ؛ وأَوقَع الآلامَ والمكارِهَ في العالم، وخلَقَ إِبليسَ وجنده وأعوانه، مِن نفوسٍ وشهواتٍ وكلّ ذلك عُسرٌ ومَشقةٌ، شابت فيها النَواصِي، وعادت الظهُورُ منها كالصياصى.

قوله في الزنا، "ليس من خلق الله؛ وإِنما الزانى نظفتَه في غير حقَِها، فتَعدَّى أَمرَ الله؛ والله يخلِق مِن ذلك ما يشاء. وكذلك صاحب البذر، إِذا وَضَعه في غير حقِّه". قلنا: الزاني وَضَع نظفتَه في غير حقَِها بكسبِه؛ وتعدَّى أمرَ اللهِ، ولم يَتَعَدَّ قدَر اللهِ. وأمَا أنّ الله يخلق من ذلك وغيره ما يشاء، فلا نزاع فيه. وأمّا البذر، فمَن هي عن فِعلِه، وهو مقدورُ الله على فاعله.

ص: 234

قوله، "الله أعدل وأرحم مِن أن يُعمِي عبدًا، ثمّ يقول له: "أَبصِر، وإِلاّ عذَّبتُك! " فكيف يُضِلّه، ثمّ يقول له: "اهتَدِ، وإِلاّ عذَّبتُكّ" قلنا: هذا أوّلًا قياسٌ لعَمَى البصرِ على عمى البصيرة؛ وهو من عمى البصيرة. فإِنّه فاسدُ الاعتبارِ، مع قوله تعالى:{يضل من يشاء} ، {ويختار} .

وأمّا ثانيًا، فقد بَيّنّا أنّه لا تَنافي بين تَصرُّف التكليف والتكوين. والفَرق بين إِعماء البصر والبصيرة أنّ الله سبحانه أراد استدارجَهم من حيث لا يَعلمون، والمكرَ بهم من حيث لا يَشعُرون. فلذلك أَعمى بصائرهم، لخفاءِ عماهم عنهم؛ ولم يُعمِ أبصارَهم، لظهور عماهم، ولتَكُون حجَّةً عليهم؛ كما قال:{ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين} ، وقال:{وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء} ، الآية. وقد سبق الجوابُ عن باقيها.

قلتُ: وقد خَطَر لى في هذا المقام نكتةُ القدرِ. وهو أنّ الله سبحانه حَكَم في الطائفتين في نفسِ الأمرِ بعلمِه. لأنّه لَمَّا خَلَقَهم مِن مادّتين، طيَبةٍ وخبيثةٍ، وطبيعتين، عاصيةٍ ومطيعةٍ، عَلِمَ ما سيكون منهم. {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} ! فعَلِم أنّ هذه الطائفة لا يكون منها إِلاّ الخيرُ والطاعةُ ولو تُرِكَت على اختيارها، خالِقةً لأفعالها؛ وأنّ هذه الطائفة لا يكون منها إِلاّ الشرُّ والمعصيةُ، ولو تّرِكت على اختيارها، خالقةً لأفعالها؛ لما طَبَعَ عليه نفوسَ كلِّ واحدةٍ من الطائفتين، مِن اقتضاءِ الخير والشرّ، كهبوط الحجَر وتَصاعُد النارِ.

فلمّا استَوى في عِلمِه الأمران- أعني تركَ النفوسِ على اختيارِها، وخلقَه لأفعالها- وبنفوذ مشيئتِه واقتدارها، رَجَّح سبحانه أحدَ الأمرين، وإِن استَوَيا في التقديرين؛ لِمَا

ص: 235

وَجَب له من العظمةِ والاقتدارِ واتّصافِه بالعزيز الجبّار. فإِنّ المُلك التامّ يَقتضِي عمومَ التصرُّف؛ فكون المِلكِ بَتَصرَّف في بعضِ مُلكهِ دون بعضٍ يكون نوعَ قُصورٍ في المُلك. فجَعَل اللهُ تعالى أفعالَ العبادِ مِن جملة مخلوقاته إِيهامًا لتَصرُّفه في مُلكِه؛ عِلمًا بأنّه لو فَوَّض خلقَها إِليهم، لكانت كما لو خَلَفها. وقد نَبَّه اللهُ على هذه النكتة بقوله:{ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} ، وبقوله، {ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه وإنهم لكاذبون} .

أو يقال: اختار أحدَ الأمرين، وهو خلقُ الأفعالِ، دون تركِها، على الختيار فاعليها، لمرجِّحٍ ما غير ما ذَكرنا. فلو اعتَرَض معترِضٌ، وقال:"فهلاّ اختار الأمرَ الآخَر! " قلنا: هو سؤالٌ دَورِيٌ؛ لأنّه لو اختار تَرْكَهم على اختيارِهم، لقال هذا القائلُ:"حيث استَوى الامران، فهلاّ اختار الأمرَ الآخر، وكان أكمل لمُلكِه! ".

ومما يَدُل على أنّه حَكَم فيهم بعلِمه، أو يُستشهد على ذلك، أنّه حَكَم في أطفال الكفّار بعلِمه؛ حيث قال:"الله أعلم بما كانوا عاملين".

وقد رُوِي في الحديث، مُستندًا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"إِذا كان يومُ القيامة، جِيءَ بأهل الفترة وبأطفال المشركين (أو قال: "أطفال الناس")؛ فيُؤمَر بهم إِلى النار؛ فيقولون: "ربنَا! كيف تعذِّبنا، ولم تُرسِل إِلينا، ولا قامَت علينا حججُك؟ " فيقول:"لو أَرسلنا إِليكم، أكنتم مطيعي؟ " فيقولون: "نعم" فيقول: "فإِني مرسِلٌ إِليكم الآن". فيَبعَث فيهم رسولًا أو رسلًا منهم؛ ثم تُؤجَّج لهم نارٌ؛ ويقال للرسل: "مُرُوهم، فليَدخُلوها؛ وادخُلوا بين أيديهم" فيَدخُل الرسلُ؛ فيَتبَهم قومٌ، فيكونون مِن أهل الجنّة. ويأبى آخرون، فيكونون من أهل النار". أو كمال قال.

فهذا حُكمٌ في هؤلاء بالعِلم؛ فلا يَبعد أنّه حَكَم في جميع العصاة بعلِمه، ورَجَّحَ جانبُ خلقِه أفعالَهم طردًا لتصرفه في كلّ شيء مِن مُلكِه؛ لئلا يكون معه شركاءٌ

ص: 236

مستقِلّون بتَصرُّفٍ ما.

هذا الكلام باعتبار نفسِ الأمر. أمّا في ظاهر الحُكمِ، فلَم يحكُم فيهم بعِلمِه؛ بل بالحجج والبراهين، تحقيقًا لعداله في الظاهر، ولقدرته وكمال تَصرُّفه في الباطن. فقال:{رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} ؛ وقال: {ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبه آياتك من قبل أن نذل ونخزى} ؛ وقال: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فلما جاءهم الحق} ، الآية؛ وقال:{ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون} ؛ ونظائر ذلك من الكتاب.

وأمّا من السنّة، فقد ثَبَت في الحديث أنّ قوم نوحٍ يَقولون يوم القيامة:"ما أَرسَلتَ إِلينا أحدًا، وما أتانا من نذيرٍ". فيؤتى بنوحٍ، فيقول:"قد بَلَّغتُهم". فيقول: "مَن يَشهَد لك؟ " فيقول: "محمّدٌ وأمّتُه". فيُؤتَى بأمّة محمّد؛ فيقولون: "قد بلَّغَهم". فيقال لهم: "كيف تَشهَدون على ما لم تُشاهِدوا؟ " فيقولون: "أَرسَلتَ إِلينا رسولَك بكتابك؛ فآمنّا وصدَّقنا". فيؤتى بالنبىّ صلى الله عليه وسلم، فيقال:"بما تَشهَد؟ " فيَقرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الَّرحِيمِ {إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك} ، السورة إِلى آخرها. فيقول الله سبحانه حينئذٍ:"صَدَق نوحٌ، وصَدَقَت أمّةُ محمَدٌ". ثمّ يُؤمَر بقوم نوحٍ إِلى النار.

فهذا عدلٌ ظاهرٌ ليس له غايةٌ. وذلك اقتدارٌ باطلٌ ليس له نهايةٌ. فهذا شيء قد فَتَحَ اللهُ سبحانه به في أمرِ القدرِ، فيه لِذي اللُبِّ معتَبرٌ، وعن الآراء الشيطانيّة الشِركِيّة

ص: 237

مُزدَجَرٌ. وهي النكتى التي وَعَدنا بها قبل.

قوله، "وقال لآدم وحوّاء:{فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} ؛ فغَلَبه الشيطان على هواه؛ ثمّ قال: {يا بني آدم لا يفتنكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} ؛ وليس للشيطان عليهم سلطانٌ، {إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة مممن هو منها في شك}. قلنا: غَلَبَه الشيطانُ بالوسوسة، وطاوَعَه آدمُ بالكسبِ. والخلقُ لله؛ بدليل احتجاج آدم بسبقِ عِلمِ الله فيه بذلك. وبالضرورة، يَلزَم أن يَقَع المقدورُ على وَفقِ المعلوم؛ وإِلاّ انقَلَبت حقائقُ صفاتِه سبحانه، كما سبق؛ وهو محالٌ. وإِضافةُ الفتنةِ والإِخراجِ إِلى الشيطان بالوسوسة والإِغواء. وأمّا كونه ليس له سلطانٌ، فصحيحٌ؛ إِلاّ أنْ دَعاهم، فاستجابوا بكسبِهم المتَفَرع على خلقِ ربهم؛ كما حَكَى عنهم، وكما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"بُعِثتُ مبَلِّغًا، وليس إِلىّ من الهداية شيءٌ؛ وخُلِق إِبليسُ موسوِسًا، وليس إِليه من الغواية شيءٌ". وهذا كلامٌ صحيحٌ يَشهَد له نصُّ القرآنِ. أمّا الأوّل، فلقوله:{إِنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء} . وأمّا الثاني، فلقوله:{وأضله الله على علم} ؛ {ومن يضلل الله فما له من سبيل} ؛ ونحوها.

فإِن قيل: "نفيُ كونِ الهداية إِليه، والغوايةِ إِلى إِبليس، لا يَدُلّ على إِضافتها إِلى الله؛ فجاز أنّه عليه السلام أراد استقلالَ العبيد بها، كما هو مذهبنا"؛ قلنا: يُبطِل ذلك نصوصُ الكتاب والسنّة، وأنّه عليه السلام كان يقول دائمًا:"لو قُدِّر، لكان"؛ "قَدَر

ص: 238

اللهُ، وما شاء فَعَل". وهذا شيء كان مشهورًا في الجاهليّة، وجاء الإِسلامُ بتقريره. أمّا شهرته في الجاهليّة، فحسبك بلبيد بن ربيعة حيث يقول:

إِنّ تَقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ

وبإِذنِ اللهِ رَيثى وعَجَلْ

أَحَمدُ اللهَ فلا نِدَّ لهُ

بيديه الخيرُ ما شاء فَعَلْ

مَن هداه سُبُلَ الخيرِ اهتَدى

ناعمَ البالِ، ومَن شاء أَضَلْ

ولولا اشتهار ذلك فيهم، لما صار إِلى لبيدٍ، ولأُنكِر عليه. وأمّا تقرير الإِسلام، فهذه نصوص الكتاب والسنّة على ما تأتي إِن شاء اللهُ تعالى.

قوله، "قال:{استجيبوا لله} ، {استجيببوا لربكم} ، {أجيبوا داعى الله} ، {هذا صراطى مستقيما فاتبعوه} ، {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} ؛ فكيف يَفعل ذلك، ثمّ يُعميهم عن القبول! وقال تعالى:{إِن الله يأمر بالعدل} ، وأين هي عمّا أَمَر به الشيطانُ. "قلنا: هذا سؤالٌ واحدٌ، وقد تكرَّر جوابُه.

قوله، "قال في الشيطان:{يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير} ؛ فمَن أَجاب الشيطانَ، كان مِن حزبِه. ولو كان كما قاله الجاهلون، لكان إِبليسُ أصوَبَ من الأنبياء؛ إِذ دَعَى إِلى إِرادة الله وقضائه، ودَعَى الأنبياءُ إِلى خلاف ذلك، وإِلى ما عَلِموا أنّ الله قد حال بينهم وبينه". قلنا: هيهات! فإِنّ هذه شُبهةٌ مبنيّةٌ على أصلٍ فاسدٍ؛ وهو أنّ إِرادة المأمور شرطٌ في كون الأمر أمرًا، وأنّ الطاعة موافَقةُ الإِرادةِ؛ وقد أَبطَلنا ذلك. وإِنما

ص: 239

الطاعة موافَقةُ الأمرِ. فالأنبياء دَعوا إِلى موافَقة أمرِ اللهِ؛ فهو طاعةٌ، وإِن كان خِلاف مرادِه وتقديره. وإِبليس دَعَا إِلى خلاف أمرِ الله؛ فهو معصيةٌ، وإِن كان وَفقَ مرادِه وتقديره. وقد قَرّرنا أنّ الله سبحانه يَستحِقّ غى خلقِه تَصرُّفين، تكليفيًا وكونيًّا. فهو بالأوّل مُكَلَِفٌ، وبالثاني متَصرَِفٌ. وقد بَيّنّا بذلك أنّه لا تَنافى بين دعائه إِلى شيء وحيلولتِه دونه.

قوله، "وقال القومُ فيمن أَسخَطَ الله:"إِنّ الله حَمَلَه على إِسخاطه"؛ وكيف يَسخَط إِذا عَلمِوا بقضائه عليهم وإِرادته؟ والله يقول: {ذلك بما قدمت يداك} ؛ وهؤلاء الجُهَّال يقولون: "إِنّ الله قَدَّمه لهم، وما أضَلَّهم سواه"! قلنا: الله حملَهم على إِسخاطه بقضائه وقدره بمقتضى تَصرُّفه الكونيّ ويَسخَطه منهم بمقتضَى تَصرُّفه التكليفيّ. وقد بَيّنّا أن لا تَنافي بينهما. وهذه مِن سنّة إِبليس؛ قال: "ربّ لِم أغويتني؟ وإِنما فَعَلتُ ما أَردتَ". فكان جوابه ما سبق، من أني لا أُسأَل. ثمّ قد ثَبَت في القرآن أنّ إِبليس قال:{قال رب بما أغويتنى} . فأثَبتَ أنّ الله أغواه، أي أضلَّه. وأقرَّه اللهُ على ذلك. ومع ذلك، سَخِطَ فِعلَه، لمخالَفة أمرِه. فجوابه عن إِبليس هو جوابنا عن سائر العصاة.

وأمّا قوله: {بما قدمت يداك} ؛ فالمراد "كَسَبتَ، بتقدير الله سبحانه". فالله قَدَّمه، بمعنى "خَلَقَه وقَدَّره". والعبد قَدمَّه، بمعنى "كَسَبَه واجتَرَحه". وما أضَلَّهم سواه، لقوله، {وأضله الله} .

قوله: {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم} ، إِلى قوله، {ولو شاء الله ما فعلوه} . فلو كان الأمر كما زعموا، لكان الدعاء والأمر لا تأثير له؛ لأنّ الأمر مفروغٌ منه. قلتُ: أمّا تزيين الشركاء، فمعارَضٌ بقوله، {كذلك زينا لكل أمة

ص: 240

عملهم}. والجمع بينهما بأنّ الله سبحانه زَيَّن للشركاء ذلك التزيين، فزيَّنوه للكفّار. فكان تزيين اللهِ لهم عملَهم بواسطة تزيين شركائهم لهم.

أمّا قوله، {لو شاء الله ما فعلوه} ، فحجّةٌ عظيمةٌ لنا؛ لأنّه أَخبر أنّ أفعالهم دائرةٌ مع مشيئته وجودًا وعدمًا؛ وذلك دليلُ استقلالِه بالتَصرُّف. وبدليل قوله، {وما تشاءون إلا أن يشاء الله} ؛ أي مشيئتكم تابعةٌ لمشيئة الله، إِن شاء شئتم، وإِلاّ فلا. {ولو شاء الله ما اقتتلوا} ! ؛ ونحو ذلك.

فأمّا قوله: "يلزم أن لا تأثير للدعاء والأمر" هذا فاسد الاعتبار؛ لأنّه مقابَلة نصِّ الشرع القاطع بعقلٍ سخيفٍ ضعيفٍ. ثم نقول: لا تأثير للأمر ظاهرًا بالنسبة إِلى التَصرُّف التكليفيّ، أو باطنًا، بالنسبة إِلى التَصرُّف الكونيّ؟ الأوّل ممنوعٌ؛ لأنّ بمخالَفة التكليف تَقُوم الحجّةُ ظاهرًا، وبرَبطِهم على حُكمِ المقدور تَظهر القدرةُ باطنًا وظاهرًا. وبهذا يَظهَر الإِعجازُ الإِلهيّ، حيث جمَع اللهُ سبحانه بين إِقامة رَسمِ القدرة ونشرِ علم العدلِ باعتبار الباطن والظاهر. وأمّا أنّ الأمر مفروغٌ منه، فممّا لا شكّ فيه، ولا مرية تعتريه؛ وهو مقطوعٌ به في دين الإِسلام.

قوله: {ذلك يوم مجموع له الناس} ، إِلى قوله:{فمنهم شقى وسعيد} ؛ والسعيد ذلك اليوم هو المتمسِّك بأمرِ اللهِ، والشقيّ هو المضيِّع". قلنا: هكذا نقول. لكنّ هذا إِطلاقٌ لا نرتضيه؛ بل السعيد هو المتمسِّك بأمرِ الله بنعمة الله، والشقيّ هو المضيِّع". قلنا: هكذا نقول. لكنّ هذا إِطلاقٌ لا نرتضيه؛ بل السعيد هو المتمسِّك بأمرِ الله بنعمة الله، والشقيّ هو المضيَِع لأمر الله بتقدير الله.

قوله، "هؤلاء قومٌ يُعَوَِلون على القدر في أمرِ دينهم، ولا يُعوِّلون عليه في أمرِ دنياهم. فلو قيل لأحدهم: "لا تَستوثِق مشن أمورِك، ولا تُغلِق حانوتَك، واتَّكِل على القضاء والقذر"، لم يَقبَل ذلك". قلتُ: هذا ضربٌ مِن الخروج عن حقيقة الكلام في المسألة.

ص: 241

والجواب عنه أنّ أدلّة مذهبِنا في القدر تقتضب محضَ التفويضِ والتسليمِ في أمور الدنيا والدين. لكنّ الشرع وَرَدَ بالحزم والاحتياط فيهما، وتعاطب الأسباب لهما؛ كقوله "اعمَلوا على مواقع القدر"؛ "اعمَلوا فكلُّ ميسر لما خُلق له"؛ "اعلم أنّ ما أَصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك"؛ وقوله في الناقة، "اعقِلها وتَوَكََل"؛ وظاهَرَ النبي عليه السلام يومَ أُحدٍ بين دِرعين؛ ونحوه كثيرٌ. وذلك كلّه إِمّا تنبيهٌ مِن الشارعِ على أنّ حظّ العبدِ مِن هذا الباب إِنما هو الاكتساب؛ أو على أنّ الأسباب والأكساب لا تُلغَى في نظر الشرعِ في هذا الباب ولا غيره؛ أو لأنّه عَلِم أنّ الإِنسان خُلِق مِن ضَعفٍ، فلا تَثُبت نفسُه للتسليم المحض، لخفاء سرَِ القدرِ الذي لا يدرِكه إِلاّ أولوا الألباب، وظهورِ أمرِ الوسائل والأسباب. فأَمَرَ بالجزم والاحتياط، ليكونوا مِن أمرِهم على طمأنينةٍ بالنسبة إِلى قواهم؛ وقدر الله من وراء ذلك. ولهذا نَرى كثيرًا من الناس يَسلَم مّن حيث فَرط وكثيرًا منهم يَهلِك من حيث احتاط؛ حتى قال الشاعر:

قد يَهلك الإِنسانُ مِن بابِ أَمنِه

ويَنجو بإِذن اللهِ مِن حيث يَحذَرُ

وقال آخر:

إِذا كان غيرُ اللهِ للمرء عُدّةً

أَتَته الرزايا مِن وجوهِ الفَوائد.

فقد جَرَّت الحنفاءُ حَتْفَ حُذيفة

وكان يراها عدة للشدائدِ

والحنفاء فرسُ حُذَيفة بن بدرٍ، كان للمضائق، ينجو عليها. فلمّا هَرَب مِن قيس ابن زهيرٍ، ونَزَل على جَفْر الهَباءةِ، اقَتص بنو عبسٍ أَثَرَ الحَنفاءِ، حت وَقعوا عليه، فقتلوه. وقال الله سبحانه:{وعسى أن تكوهوا شيئًا وهو خير لكم} ، الآية. وقال البحتريّ:

ص: 242

وربما كان مكروهُ الأمورِ إِلى

محبوبها سببًا ما مِثله سببُ

وقد كان موسى عليه السلام مِن أُولي العزمِ مِن الأنبياءِ. ولَمَّا قال الله: {خذها ولا تخف} ، لَفَّ كُمَّ مِدرَعَتِه على يده ليَتناولها بها؛ فقا له المَلِكُ:"أرأيتَ لو أَذِن اللهُ لِمَا تحذَر؛ أكانت كُمُّك تنفعك؟ "فقال: " لا؛ ولكني ضعيفٌ، ومِن ضَعفٍ خُلِقتُ".

فهذا السرِّ، شُرِع الاحتياطُ والحزمُ وتعاطي الأسبابِ؛ إِذ ليس كلّ أَحدٍ يَصبر قلبُه للتفويض؛ وإِنما يوجَد ذلك نادرًا. كإِبراهيم حين أُلقِي في النار، فعَرَ له جبريلُ في الهواء؛ فقا له:"ألك حاجةٌ؟ " فقال: "أمّا إِليك، فلا". فلا جرم اتَّخَذه اللهُ خليلًا.

ثمّ الناس بعد إِبراهيم على طبقاتٍ في التفويض والتوكُّل. فالذي يمنحه اللهُ عقلًا يَعكِسُ ما عليه الأكثرون؛ فيُفوِّض في أمور الدنيا غايةَ التفويضِ حتى لا يَهتَمّ لها أصلًا، اعتمادًا على أنّ ما قُدِّر منها واصلٌ؛ ويحتاط ويَدأَب في أمور الآخرة غايةَ الاحتياطِ والدأبِ، لا لاعتقاده أن اختياطه يزيده عمًا في عِلم الله، ولا أنّ تفريطه يُنقِصه عنه- إِذ قد وُجِد مَن عاش مؤمِنًا مجتهدًا إِلى آخر نفَسٍ، ثمّ مات كافرًا، كبرصيصا العابد، ومن عاش كافرًا إِلى آخر نفَسٍ، ثمّ آمَنَ، كاليهوديّ الذي عادَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والأعرابي الذي وَقَصته ناقُته عقيب إِسلامه، فقال النبيّ عليه السلام:"هذا مِنَّن عَمِل قليلًا وأُجِرَ كثيرًا"- بل لإِزالة اللائمة عن النفس؛ كما حُكِي عن عامر بن عبد قيسٍ أنّه قال: "لأُجهِدَنّ نفسى، فإِن سَلمَت، فذاك؛ وإِلاّ، فلا أَلومنّها على تقصيرٍ"، أو كلامًا هذا معناه. وكما قال الشاعر:

لأطلبنّ العُلى جَهدِي طِلابَ فتًى

يَدوسُ بالعزم هامَ السبعةِ الشُهُبِ

فإِن أَنَلْ، فبسَعيي ما أَتَيتُ بِه

بِدْعًا، وإِلاّ فقد أَعذَرتُ في الطَلَبِ

ص: 243

غير أنّ هذا الشاعر غَلا في قوله، "بسعيي"، إِلاّ أن يريد السببيّةَ. وأَوفَق مِن هذا لما نحن فيه قولُ الآخَر،

سأَطَّرِحُ التعلُّلَ والتَواني

ولا أُصغِى إِلى عَرِّ لَحاني

وأُطلِقُ في طِلابَتِها عناني

فإِن أَدرَكتُها فهي الأماني

وإِن فاتَت فذاك عذيرُ حالي

قوله، "ومِمَّا يحتجّون به أنّ الله قَبَض قبضةً، فقال: "هذه هي الجنّة، ولا أبالي"، وقَبَض أخرى، وقال: "هذه في النار، ولا أبالي؛ كأنهم يَرون أنّ ربهم يَصنَع ذلك كالمصارع بينهم المحارِب، تعالى اللهُ عمّا يَصِفونه". قلتُ: هذا الحديث، إِنّ صَحَّ، فهو حجّةٌ في الباب. وإِن لم يَصحّ، فقد صَحّ، فهو حجّةٌ في الباب. وإِن لم يَصحّ، فقد صَحّ غيره بمعناه مِن غير وجهٍ، كما سيأتي، إِن شاء الله. ووجه الحجّة منه أنّه إِذا سبق عِلمُه بإِيمان زيدٍ وكفرِ عمروٍ، صار خلافُ ما عَلِمَه فيهما محالًا، غير مقدورٍ، كما سبق تقريره، وما عَلِمه فيهم واجبًا منهم بتقديره ومُقتضَى علمِه السابق.

قوله، "وإِن كان الحديث حقًّا، فقد عِلِم اللهُ أهلَ الجنّةِ وأهلَ النارِ قبلَ القبضتين وقبلَ أن خَلَقَهم، فإِنما قَبَضَ أثرَ أهلِ الجنّةِ الذين في عِلمِه أنهم يَعلمون بما عَلِموا مُمَكَّنين غير مجبَرين؟ "قلنا: إِذا سَلَّمتَ أنه عَلِم أهلَ الجنّة والنار في الأزل، رَجَع النزاعُ معك إِلى أنّ خلاف معلومه مقدورٌ، أو غير مقدورٍ؟ وقد سبق الدليلُ على أنّه غير مقدورٍ؛ فصار مكلِّفًا لهم بالمحال؛ وما صَدَر منهم واجبُ الوقوع لغيره؛ فيَلزَم ما ذكرنا.

أمَا قولك، "أثر مّن كان في علمِه مطيعًا مَمكَّنًا غير مجبَرٍ". قلنا: لم لا يجوز أن

ص: 244

يكون عَلِمَ استواءَ حالتهم في الاختيار وعدمه، فرَجَّحَ خلقَ الأفعالِ فيهم، لما سبق تقريره؟ واحتمال هذا ممّا لا يمكن القطعُ بنفيه. وحينئذٍ، لا يمكنك القطعُ بصحّة ما ذَكَرتَ، وأنت في مقام الاستدلال. ونعود إِلى ما مَرَّ من النزاع.

قوله، "وكان يجب على ما روُوه أن تكون أعمال الناس هباءً منثورًا من حيث قد فُرِغ مِن الأمر". قلنا: قد مَرَّ الجوابُ عن هذا؛ وهو أنها متعبرَةٌ مِن حيث تَصرُّف اللهِ التكليفيّ الاستقلاليّ تحقيقًا لقدرتِه باطنًا.

ويُروَى في الآثار أنّه سبحانه أَوحَى إِلى داوود: "يا داوود؛ خَفني كما يُخَاف الأسدُ".

قال بعض العلماء: "معناه أنّ الله سبحانه، لاستقلاله بالتَصرُّف في خلقِه، لا يُبالى بما فَعَل فيهم من خيرٍ أو شر؛ كالأسد لا يُؤثِّر في سبعيَّتِه افتراسُ، كائنًا ما كان، عالمًا أو جاهلًا بقدرته الغالِبة باطنًا؛ لأنّه غالبٌ على أمرِه، بالِغٌ ما أَراد مِن خلقِه.

ثمّ يُقال لهم: لا يخلو إِمًا أن يكون اللهُ قادرًا على إِضلال الكافر، أو لا يكون، فإِن لم يكن قادرًا على ذلك، لَزم عجزُه عمّا قدر عليه المجرمون ونحوهم. فإِنّ الكفّار يقولون يوم القيامة:{وما أضلنا إلا المجرمون} ، {فأضلونا السبيلا} ؛ يعني سادتهم وكبراءهم. وفي هذا مِن القُبحِ والجرأةِ على الله، والاستخفافِ بقدرته، ما لا يَخفى على عاقلٍ. وإِن كان قادرًا عليه، فهو مقدورٌ له؛ وقد صَرَّح بأنّه خالقُ كلِّ مقدورٍ. فأمّا قولهم، "ما أَضَلَّنا إِلاّ المجرمون"، فقد سبق جوابه.

قوله، "وكيف يَصِحّ ذلك مع قوله، {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا}؛ وهو الذي حملهم عليه! " قلنا: يَصحّ ذلك

ص: 245

بالنظر إِلى تَصرُّفه الكونيّ التامّ فيهم؛ ويُنكر عليهم ويُقيِم الشناعات عليهم بالنظرِ إِلى تَصرُّفه التكليفيّ. ثمّ كيف [يُنكِرُ] عاقلٌ أنّه حَمَلَهم على ذلك بالقضاء والقدر، وهو يَبعَث إِلى النصارى عيسى مِن غير أن يحيي الموتى، ويُبرِئ الأكمهَ والأبرصَ، ويَنفخ في فُخّارٍ جمادٍ، فيطير، ويمشي على الماء، ويزجر الريح العاصف فيسكن، ويَضرِب برجله الأرضَ فتتفجّر عيونها وتظهر كنوزها، وعلى أي قبرٍ مَرَّ ضَرَبَه بعصاه، فقام صاحبُه يخبِره سالِفًا أو آنِفا، ويقول لهم مع ذلك كلّه:"أَرسَلني أبي"، و "كنت عند أبي"، و"أمشى إِلى أبي". وهل يَثبُت على هذا عقلٌ إِلاّ بعصمة الله! ولولا أنّ الله أَرسل محمّدًا صلى الله عليه وسلم، فكَشَف شبهةَ التثنية والتثليث، بما جاء به من التوحيد، لكان الناس كلّهم يَدعون لله ولدًا أو شريكًا، سبحانه وتعالى عن ذلك.

والدليل على هذا أنّ العرب، مع حِكمتهم ووفور أحلامهم إِلى زمنِ البعثة، لم يَزالوا يَتهافتوت على التَنَصُّرِ. وكان ذلك مشهورًا في غسّان وتَنُوخ وفِهرٍ وتغلب؛ وأحكامهم موجودةٌ في الإِسلام. ولَمَّا أراد عمر ضَربَ الجزيةِ على تغلب، أَنِفُوا منها، وأَذعنوا للزكاة. وخِيفَ من شكوتهم؛ فأُخِذَت الزكاةُ منهم ضعفب ما يؤخذ من المسلمين. فقال عمر:"ما رَأيتُ أجهل من هؤلاء؛ رَضوا المعنى، ونازعوا في الاسم". ونحن لا نعنى بأنّ الله حملهم عليه إِلاّ هذا، وهو خالق الدواعي الباطنة بتحريك الأسباب الظاهرة.

قوله، "وما معنى قوله، {فما لهم لا يؤمنون}، وقد مَنَهم؟ " قلنا: معناه ما سبق غيرَ مرّةٍ.

قوله، "وكيف يقول:{ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله} ؟ وكان يجب أن يقول: "ما كان لهم أن يَعلموا بما قَضَيتُ عليهم". قلنا:

لأنّه محالٌ أن لا يَعلموا بما قَضَى عليهم، لوجوبه منهم. والحجّة لا تَقوم علهيم من حيث القضاء والقدر. إِنما تَقوم عليهم من حيث التكليف. فعاتَبَهم من حيث تَقُوم

ص: 246

الحجّة عليهم. وأمّا من حيث لا يَلزَمهم ظاهرًا، لم يعاتِبهم؛ لأنّه سرُّ انفَرَد به، وتَصرُّفٌ كوني لا يُشارَك فيه.

قوله، "وكيف يقول:{فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض} ، وهو الذي حال بينهم وبين الطاعة! " قلنا: سبق جوابُه غير مرّةٍ.

قوله، "وإِذا كان الأمر مفروغًا منه، فكيف يقول: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج}! وكيف ابتلى العبادَ، فعاقَبَهم على فِعلِهم! " قلنا: الأمر مفروغٌ منه مِن حيث التكوين، أو من حيث التكليف؟ الأوّل مُسَلَّمٌ؛ لكنّه لا يُنافي المعاتَبةَ والمعاقَبة على مخالَفة التكليف؛ لأنّا بَيّنّا أنّ التكليف والتكوين أمران متَفاضِلان متفاكّان مِن أحد الطرَفين، بالنسبة إِلى كلّ واحدٍ مِن الله والعبد. فالله سبحانه يُكَوِّن ما لا يُكَلَِفه، كالجمادات والبهائم. والعبد يُكلِّف ما لا يُكونَِه، كغُلامه. وأمّا بالنسبة إِلى الله والعبد، فهما متفاكّان مِن الطرفين. فالله يُكَوِّن ما لا يُكلَِف؛ والعيد يُكَلِّف ما لا يَكَون وإِذا كان التكوين والتكليف حقيقتين متفاكَّتين، فلا تَعَلُّق لإِحداهما بالأخرى؛ والفراغ من إِحدامهما لا يَستلزِم الفراغَ مِن الأخرى. هذا أمرٌ معقولٌ عند ذوي العقول.

بقَيِت شبهتُهم الفاسدة، "وإِنّ ذلك جَورٌ"؛ وقد سبق الجوابُ عنها بأنها قياسٌ فاسدٌ، للفرق بين أصله وفرعه، بما فيه كفايةٌ.

قوله، "وكيف يقول:{إنا هدناه السبيل إِما شاكرا وإِما كفورا} ! وكيف يقول: {قدر فهدى} ، ولم يقل:"فأَضَلّ"! "قلنا: كما سبق جوابه.

قوله، "وكيف يَصِحّ أنّه خَلَقهم للرحمة والعبادة، لقوله، {فطرت الله التي فطر الناس

ص: 247

عليها}، وقوله:{فطركم أول مرة} ، وقوله: {إلا من حرم

ولذلك خلقهم}! فإِذا خلقهم لذلك، فكيف يَصحّ أنْ لا يجعل لهم سبيلًا، ويَقسرهم على السعادة والشقاء، على ما يَذكرون! " قلتُ: هذا السؤال فيه تخبيطٌ وتخليطٌ. وذلك لأنّ المفسِّرين اختَلَفوا في قوله تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} . فرَوى عبدُ الرزّاق، عن مَعمَرٍ، عن قتادة، أنّ معناه "للرحمة خَلَقَهم". وروَى ابن التيميّ، عن جعفرٍ، عن عِكرمة، عن ابن عباسٍ، قال:"ولا يزالون مختلِفين، إِلاّ أهل رحمته، فإِنهم لا يختلِفون، ولذلك خَلَقَهم". وروى جعفر بن سليمان، عن عمرو بن عبيدٍ، عن الحَسَن، قال:"للاختلاف خَلَقَهم".

قلتُ: فانظر إِلى هذا الخبطِ. عمرو بن عبيدٍ، رئيس المعتزلة، وأشدّهم في الاعتزال، يَروى عن الحسن الذي ادَّعوه منهم، ونَسَبوا إِليه هذه الرسالة؛ يقثول:"إِنّه خَلَقَهم للاختلاف: . وإِذا كان للاختلاف خَلَقَهم للاختلاف". وإِذا كان للاختلاف خَلَقَهم، فالاختلاف ليس إِلاّ كُفرًا وإِيمانًا. فحينئذٍ، قد خَلَقَ الكافرَ للكفر، والمؤمنَ للإِيمان. وهذا هو الذي نقوله، والذي يليق بعقلِ الحَسَن، وما اشتُهر مِن مذهبه في السنّة. واتَّضح أنّ الرسالة موضوعةٌ عليه، منسوبةٌ إِليه.

وقال بعضُ المفسرين: "ولذلك"، أي للرحمة والاختلاف، "خَلَقَهم جميعًا" بين القولين. وهو حَسًنٌ جيدٌ مطابقٌ. غير أنّ الاختلاف واقعٌ بالنسبة إِلى المجموع بين المجموع، والرحمة واقِعةٌ بالنسبة إِلى المجموع لبعض المجموع، كما يقال:"خَلَقَ ذريّةَ آدم للجهاد"؛ وإِنما هو بالرجال؛ وهم بعض مجموعِ الذرّيّة. أو يكون بالنسبة إِلى الرحمة عامًّا مخصوصًا.

وأمّا توجيه القولين الأوّلين، فمَن قال:"للرحمة خَلَقَهم"، قال: "لأنها أقرب

ص: 248

المذكورَين؛ فجُعِلت الإِشارة إِليها"؛ واعتبار القربِ موجودٌ في لغة العرب، كما في تَنازُعِ العامِلَين. وتَعارَضَ هذا بمذهب الكوفيّين في إِعمال الأوّل. ومَن قال: "للاختلاف خَلَقَهم"، احتَجَّ بوجهين. أحدهما أنّ اللفظ بتقديره يَكُون على عمومِه؛ لمِا عُرِف مِن أنّ الاختلاف عام لجميع الناس؛ بخلاف الرحمة، لأنها لبعضهم قليلٍ منهم. الثاني أن اللفظ المُشار به، وهو قوله: "ولذلك"، مكتَنَفٌ بالخلاف قَبلَه وبَعدَه. أمّا قَبلَه، فقوله، {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} . وأمّا بَعدَه، فقوله، {وتمت كلمة ربك لأملان جهنهم من الجنة والناس أجمعين} . وهذا خلافٌ في المال، حيث كان فريقٌ محكومًا عليه بالتكفير. وهذان الوجهان أقوى من مناسَبة اعتبارِ القرب، مع كنها معارَضة بما ذَكَرَه. وأيضًا، فإِنّه سبحانه في سياق تخفيفِ هم النبي عليه السلام اللاحق له بسبب اختلاف الناس عليه، فبَيَّن له أنّه خَلَقَهم للاختلاف؛ فلا يَستطيع أن يجمَعهم على مقالةٍ واحدةٍ، كما قال له، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان نلفس أن تؤمن إلا بإذن الله} ، الآية. وكقوله:{وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت} ، إِلى قوله:{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين} .

وقد شَهِدَت هذه الآيةُ بجهلِ المعتزلة وأتباعهم؛ لأنّ الله سبحانه أخبر بأنّ المانع مِن جمعِ الناسِ على الهُدى هو كونه لم يُرِد ذلك؛ وسَمَّى مّن أَنكَر ذلك "جاهلًا". وهم يُنكِرونه، ويَقولون:"إِنما المانع لاجتماعهم على الهُدى إِرادةُ الضالّين منهم، وخَلْقُهم الضلالَ في أنفسهم". ولو لم يكن على المعتزلة إِلاّ هذه الحجّة، لكانت لهم قامِعةً، ولترّهاتهم قاطِعةً.

ص: 249

وإِذا اتّضَح أنّه للاختلاف، فقد جَعَل لهم السبيلَ إِلى ما خَلَقَهم له. فأمّا قَسرُهم على السعادة والشقاء، فذاك مِن حسث القدرة والإِدارة، لا من حيث الأمر والنهى.

وقد رَوى عبد الرزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة، قال:"الجبّار جَبَرَ خَلقَه على ما شاء". قلتُ: يُريد مِن الجهة التي ذكرناها.

فإِن قيل: "هذا تصريحٌ بالجبر"، قلنا: هو من جهة التَصرُّفِ الكونيّ لازمٌ لأهل السنّة، لا يَنفَضُّون عنه، ولو استغاثوا بالجنّ والإِنس ومَن سِوى الله! وأمّا مِن جهة التَصرُّف الأمريّ التكليفيّ، فهم أهل عدلٍ وقسطٍ، يَقطَعون السارقَ، ويَرجمون الزاني، ويَقتُلون القاتلَ؛ وبالجملة يقيمون إِليه بَعدُ بما يَحتاج إِليه من المصالح. وقد بَيّنّا أنّه لا تَنافى بين التَصرُّفين، وأنّ الجَور غير لازمٍ، لقيام الفَرق بين الصورتين.

وأمّا قوله: {فطرت الله التي فطر الناس عليها} ، فرَوى عبد الرزّاق، عن معمرٍ، عن الحَسَن، أنّه كان يقول:"فطرةُ اللهِ الإسلامُ". وهو منافٍ لِما نَسَبَه السائلُ إِلى الحَسَن، مِن الاحتجاج بالفطرة. لأنّ مُراده "بالفطرة" أنّ الله تعالى فَطَرَ خلقَه عن الهُدى، أي أَلهَمهم إِيّاه، وجَعَله غريزةٌ لهم؛ ولكنّهم ضَلّوا أنفسَهم. وتفسير "الفطرةِ" بالإسلام يُنافي ذلك؛ لأنّ الناس ما دَخلوه إِلاّ بالسيف؛ فكيف يكون معلومًا بالضرورة والبديهة، مركوزًا في الجِبِلَّة والغريزةِ؟ وقد سبق تقرير المعتزلة أنّ مِن شرائع الإِسلام ما لا يُدرك للعقلِ حُسنُه ولا قُبحُه، فحيتاج إِلى توقيف الشرعِ. وحينئذٍ، يكون اللهُ سبحانه قد أَمَرَ نبيَّه بإِقامة الإِسلام؛ فساعَدَه ومَن تابَعه التوفيقُ، فأقاموه، وباعَدَ غيرَهم الخذلانُ عنه، فأضعوه وأناموه. فالأوّل بفضلِ اللهِ، والثاني بقدر الله، سبحانه وتعالى عن أن يُنسّب إِلى الجور، أو يُضاف إِليه الجور بعد الكوْر، وجلَّ أن يتطرق إِليه العجزُ، أو يَتَردَّى عنه رداءُ العظمةِ والعزّ.

قوله، "وكيف يَبتَلِي إِبليسَ بالسجود لآدم؛ فإِذا عَصَى، يقول:{اهبط منها} ،

ص: 250

ويجعله شيطانًا رجيمًا! كيف يقول: {فما يكون لك أن تتكبر فيها} ! وكيف يُحَذِّر آدمَ عدواتَه، لتقوم عليه الحجّةُ، إِن كان الأمرُ مفروغًا منه، كما يقولون! " قلتُ: قد سبق جوابُ مِثلِ هذا. وأمّا إِبليس، فقد بَيّنّا أنّ الله لعلّه عَلِم أنّه لو تَرَكَه واختيارَه، لعَصَى فرَجَّح جانبَ القسرِ الكونيّ الباطِن إِقامةً لرسمِ القدرة، وتنزُّهًا عن مشارِكٍ في الخلقِ. ويكون حاكمًا فيه وفي غيره بعلمِه في نفس الأمرِ. وهو الذي خَلَقَ فيه داعي الكبرِ والامتناعِ من السجود وسؤال النظرة إِلى يوم يُبعَثون؛ بدليل قوله:{رب بما أغويتني} . ولا شكّ أنّ الأمر مفروغٌ منه في سر القدرة، غير مفروغٍ منه في ظاهر الصورة.

قوله، "والله سبحانه لم يَخْفَ عليه بقضائه شيءٌ، ولم يَزدَدْ علمًا بالتجربة؛ بل هو عالمٌ بما كان وما لم يكن"، إِلى آخِر كلامِه. قلنا: هذا اعترافٌ بما نقول.

قوله، "والعلم ليس بدافعٍ لهم إِلى معاصيه؛ لأنّ العلم غير العمل؛ فتبارَكَ اللهُ أحسن الخالقين". قلنا: لا نُسَلَّم أنّ العلم ليس بدافعِ لهم إِلى المعاصي. لِمَا بَيّنّا من أنّ العلم إِذا تَعَلَّق بعدم الطاعة، صارت غيرَ مقدورةٍ، والتكليف بها محالًا، وصارت المعاصي منهم واجبةً لغيرها، كما سبق تقريرُه. وليس ذلك إِلاّ بتقدير الله سبحانه؛ وبه احتَجَّ آدمُ على موسى.

وأيضًا، لو تُرِكوا على اختيارهم في نفس الأمر، مع تَعَلُّقِ عِلمِ الله بصدور المعاصي منهم في الأزل، لكانوا عند وجودهم إِمّا أن لا يجوز عُدُولهم إِلى الطاعات؛ فتكون المعاصي منهم واجبةَ الوقوع، وهو المطلوب؛ أو يجوز؛ فيَلزَم انقلابُ العلمِ الأزلىّ جهلًا لعدم مطابَقته للواقع.

فإِن قيل: "لا يجوز عدولهم إِلى الطاعات؛ والعلم الأزلىّ لم يَتَعلَّق بعدم الجواز؛ إِنما

ص: 251

تَعَلَّق بعدم الوقوع. وإِنما يَتَحقَّق عدمُ مطابَقةِ العلم في الواقع بتقدير وقوع الطاعات منهم؛ ولكنّها لم تقع"؛ قلنا: حاصل ما ذكرتم أنها لم تقع منهم، مع جواز أن تقع وحينئذٍ، صارت الطاعاتُ منهم مِن المحالات العاديّة، والمعاصى مِن الواجبات العاديّة. ويحصُل المقصودُ؛ إِذ لا فرق في حقيقة الوجوب والاستحالة بين أن يكون بالذات أو بالعدة. وإِنما الفرق بينهما في أمرٍ خارجٍ عن حقيقة الوجوب والاستحالة؛ وهو أنّ المحال لذاته يَلزَم مِن فرضِ وقوعِه محالٌ لذاته؛ والمحال عادةً لا يَلزَم مِن فرضِ وقوعه محالٌ لذاته. وهذا أمرٌ وراء حقيقة المحالأ. فحينئذٍ، تَعَلُّقُ عِلمِ اللهِ سبحانه بوجود المعاصي منهم استَلزَمَ أن تكون الطاعاتُ محالًا منهم في العادة؛ فتكون المعاصى واجبةً منهم في العادة. وليس ذلك إِلاّ بانضمام تأثير القدرة إِلى تَعَلُّقِ العلم؛ إِذ العالم نفسه لا تأثير له في المعلومات. والله أعلم.

قوله، في قوله تعالى:{ولو شاء ربك لامن من في الأرض} ؛ {ولوشاء الله لجمعهم على الهدى} ، "إِنّ المرادَ بذلك إِظهار قدرته على ما يريد، كقوله: {لإن نشأ نخسف بهم الأرض}، {ولو نشاء لمسخناهم}، {ولو شئنا لبعثنا في كل قريةٍ نذيرا}؛ إنما دَلّ رسوله بذلك على قدرته؛ وذلك غير الذي شاءه منهم". قلتُ: يريد بهذا أنّ قوله، {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} ، ونحوه من آيات المشيئة في هذا الباب، إِنما المراد به بيان أنّه قادرٌ على جمعهِم على الهُدى؛ لأنّه مَنَعَهم من الهُدى.

واعلم أنّ هذا تأويلٌ ساقطٌ. أمّا أوّلاً، فلأنّه عليه السلام وغيره من المؤمنين لم يكونوا في شكِّ من قدرةالله على كلّ شيء. وقد صَرَّح اللهُ سبحانه لهم بذلك بما هو صريحٌ في إفادته؛ فقال في غير موضعٍ من القرآن:{إن الله على كل شيء قدير} . فأيّ حاجةٍ كانت لهم إِلى تعريفهم قدرتَه بألفاظٍ محتمَلةٍ؟ فإِن قيل: "النصوصيّة على هذا المقدور

ص: 252

المعيَّن، وهو هداية الكفّار وجمعُهم على الهُدى؛ وذلك أقوى من استفادته من عموم {إن الله على كل شيء قدير}؛ قلنا: فكان يجب أن يَنُصّ لهم بصريحٍ لا يحتمِل غيرَ ذلك. ونحن سنبيِّن أنّ اللفط مجملٌ في معنييه، أو أنّه فيما نَدَعيه أظهر. ثمّ إِنّا قد بَيّنّا قَبلُ أنّ قوله:{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} ، {لآمن من في الأرض} ، ونحوه، في سياقٍ لا يحتمِل ما ذكرتموه. إِنما هو للتخفيف عن قلبِ النبي عليه السلام، بأنّ الله تعالى قَدَّر الخلافَ، مِن كُفرٍ وإِيمانٍ، وقَضى به. ثمّ نقول: إِذا كان المرادُ بيانَ قدرته على هدايتهم، فهلاّ هداهم، لأنّ ذلك أصلح لهم، وأنتم توجِبون عليه رعايةَ الأصلحِ لخلقِه! وحينئذٍ، أحدُ الأمرين لازمٌ لكم مِن الآية: إِمّا كونه مَنَعَهم الهُدى ومَنَحَهم الضلالَ، وهو يُبطِل أصلَكم في القدر؛ أو تَركُه رعايةَ الأصلحِ لهم، وهو يَنقُض رأيَكم في رعاية المصالح. وإِن كان لكم مِن هذا الإِشكال مَخلَصٌ، فانفُذوا، ولا تَنفُذون إِلاّ بسلطانٍ.

أمّا مقتضَى قوله، {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض} ، في اللغة، فهو امتناعُ الإِيمان لامتناعِ مشيئةِ اللهِ له. فدَلَّت هذه الآيةُ على أنَ مَن لا يشاء اللهُ إِيمانَه لا يؤمِن. ودَلَّت بمفهومِها ومنطوقِ قوله تعالى:{فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يؤد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا} ، على أنّ مَن شاء إِيمانَه آمَنَ. وقد جمَع بين الأمرين في قوله:{من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} . وحينئذٍ، قد دار الضلالُ والهُدى مع مشيئته وجودًا وعدمًا. فذاك إِمّا أن يقتضي أنها مع القدرةِ مؤثرةٌ في وجود الضلال، أو غير مؤثِّرةٍ، أو موثرةٌ مع قدرة الآدمي وإرادته. والأوّل تسليمٌ لقولنا. والثاني يُبطل استدلالكم المتقدِّم على أنّ العبد موجِدٌ لأفعاله، تَدُورُ بها مع قصدِه وإِرادتِه وجودًا وعدمًا؛ وهو ما زَعمتُموه ضروريًا. والثالث يقتضي وقوعَ المقدورِ بين قادرَين؛ وأنتم لا تقولون به.

ص: 253

قوله، "إِنّ الله تعالى رَدَّ قولَ الكافرِ يوم القيامة، {لو أن الله هدانى لكنت من المتقين} بقوله: {بلى قد جائتك آياتى فكذبت بها}، الآية. فلو قامعذرُه بأنّ الله لم يهدِه، لم يُكَذِّبه".قلنا: التكذب وَقَعَ لدعواه أنّ الله لم يَهدِه؛ ولا شكّ أنّه كَذِبٌ باعتبار أحدِ معنَيى "الهُدى" اللَذين قَرَّرناهما قَبلُ، وهو الإِرشاد إِلى طريق الحقِّ. فإِنّ الله أَرشَده إِلى ذلك بالرسل والكتب وإِظهار المعجزات؛ فوَقَعَ تكذيبُه بهذا الاعتبار. وإِنما وَقَعَ منه التقصيرُ مستنِدًا إِلى القضاء والتقدير مِن العزيز القدير. أمّا "الهُدى" بالمعنى الآخرَ الذي يَصحَب الإِنسانَ فيه خفيرُ التوفيق، فلم يحصل له، ولا هو واجِبٌ على أحد المجملّن. ولعلّه الذي أراده الكافر نَفَى الهُدى نفيًا مجمَلًا؛ فخَرَج التكذيبُ له على أحد المجملَين. ولعلّه الذي أراده الكافرُ؛ لأنّه لم يرَ الرسلَ والكتبَ تَهدِي. وأمّا المجمل الآخَر، فلم يكن يَعترِف به.

قوله، "ولَمَّا قالوا:{لو شاء الرحمن ما عبدناهم} ، أكذَبهم اللهُ، فقال:{كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} ؛ فنعوذ بالله مِمَّن أَلحَقَ الكذبَ بالله". قلتُ: الوارد في القرآن مِن هذا الباب فيما أَستحضِر ثلاثُ آياتٍ: في الأنعام: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيءكذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} ؛ وفي النحل: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم} ؛ وفي الزخرف: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} .

وليس تكذيبهم في هذه الآيات لكونهم أَضافوا إِشركاهم إِلى مشيئة الله، أو امتناعَهم إِلى امتناع مشيئة الله ضدّه، وهو الإِيمان واتوحيد؛ لأنّه لو كَذَّبهم لأجل ذلك، لاقتَضَى

ص: 254

أنْ لا تَعَلُّق لمشيئته بضلال الضالّين. لكنّ ذلك يُناقِض قوله: {من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على ضراط مستقيم} ؛ والتناقُض في القرآن محالٌ باتفاقٍ. فَثَبَت أنّ تكذيبهم لأجلِ أمرٍ وراء ذلك؛ وهو أنهم قالوا ذلك على جهةِ التهَكّم، أو العنَت، أو المدافَعَةِ. كأنهم قالوا:"أنت، يا محمّدٌ، تَزعُم أن ربَّك هو الذي يُضِلّ مَن يشاء ويَهدى مَن يشاء؛ فإِذن نحن بمشيئته أَشرَكنا؛ ولو شاء لَما أَشركنا. وإِذا كان إِشراكُنا بمشيئته وإِرادته، فأنت في دعائنا إِلى غيره متكلَّفٌ؛ لأنّ الله يَرضَى منّا بما يوافِق إِرادته". فدَخَلَت عليهم شبهةُ القدريّة في أنّ الطاعة موافَقة الإِرادة؛ فأَكذَبهم اللهُ سبحانه في إِخراجهم هذا الكلام في صورة التفويض والتسليم واعتقاد نفوذِ مشيئة الله وإِرادته فيهم، وإِنما هم مجادِلون معانِدون، يُلزِمونك على مقتضَى إِخبارك ما يَظُنون به إِفحامَك. وهذا كما في قوله تعالى:{وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} ؛ معناه أنهم لَمَّا أُمِروا بالصدقة، قالوا للمؤمنين:"أنتم تُزعمون أنّ الله هو الرازّق، وأنّ مَن شاء اللهُ أطعَمَه؛ ومَن لا، فلا فأىّ حاجةٍ إِلى أمرِنا بالإِنفاق"، إِلزامًا لهم على ما يَعتَقِدون. فلا شكّ أنّ الله لو شاء، ما أشركوا. ولكن أَكذّبهم في زعمِهم التفويضَ إِليه، كما أكذَبهم حين قالوا:"إِنّك رسول الله". ولم يَكذُبهم في هذا القول؛ لأنّه حقٌّ؛ وإِنما أكذبهم في أنهم يَعتقِدون صحّة ذلك القول؛ فهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وباعتبار تَصرُّفه التكليفىّ، ومخالَفتِهم خطابَه الأمريّ، فإِنّه أَمرَهم بالتوحيد، فخالَفوه وأشرَكوا. قال بعض المفسَِرين:"وقد يُذَمُّ الإِنسانُ على العنت والعناد، وإِن كان حقًّا؛ كقولهم، "أنزِلْ علينا كتابًا"، و "فَجِّر لنا ينبوعًا"، ونحوه مّما حُكِي عنهم في سورة بني إِسرائيل وغيرها، ذمَّهم اللهُ عليه، لا لكونه سؤالًا معجِزًا على جهة الاسترشاد، بل لكونه سؤالَ تعجيزٍ وعنادٍ. ولَمّضا قالت الخوارجُ لعليِّ: "لا حُكم إِلاّ لله"، قال: "كلمة حقِّ

ص: 255

أُريد بها باطلٌ".

قوله، "وجعلوا القضاء والقدر معذرةً. وكيف يَصِحّ ذلك، مع قوله: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين}! "قلتُ: إِن أَراد أنّ أهل السنّة يجعلون القدَر عذرًا في استباحة مُواقعة المحظورات، أو إِسقاط الحدود الشرعيّة عن فاعِلها، وتأثيمهم إِيّاه، فهذا محالٌ عليهم. بل العاصى هو نفسه يُقدِدم عليها، وهو يُلزِم نفسَه، وبعلمه فعَلها، يظلم نفسه، ويَستغفِر ربَّه. وإِن أراد أنهم يجعلونه عذرًا في دفعِ لائمة المخلوقِين وتوبيخهم عنهم، بمعنى أنّ ذلك واجب الوقوع منهم بالتقدير الأزليّ، وأنّ القوّة البشريّة لا تستطيع الخروجَ عن مقدور القدرة الإِلهيّة، فهو حقُّ. وبذلك احتًج آدمُ على موسى، فصَوب النبيّ عليه السلام احتجاجه؛ ولم يَكُن لموسى ولا لغيره تقريعُ عاصٍ وتوبيخُه ما لم يكن ذلك حدًّا مشروعًا. وبهذا جَعَلَ النبيّ صلى الله عليه وسلم موسى محجوجًا.

فإِنّ الله سبحانه عَدلٌ لا يَظلِم أحدًا. فإِذا رَتَّب على جناية العاصي حدًّا، عاجلًا أو آجلًا، كان ذلك مسقِطًا لحُكمِ المعصية بالنسبة إِلى الآدميّين، حتى يَعود العاصي بعد معصيته كحالِه قبلَها. والجميع عِبادُ الله؛ فليس لأحدٍ منهم أن يؤذِي أحدًا بتوبيخٍ ولا تقريعٍ. ولهذا، لَمَّا رُجِمَت الغامِدّةُ، سبها خالدٌ، فنهاه النبيّ عليه السلام. ولَمَّا جيء بشارب خمرٍ ليُجلَد، فلَعَنَه بعضُهم، فنهاه النبيّ عليه السلام، وقال:"إِذا زَنَت أَمَةُ أحدِكم، فليَجلِدها ولا يُثرب"، أي لا يَلومها ويوبِّخها. وهذا جَرَى على قاعدة العدل، والفرق بين تَصرُّف اللهِ التكليفيّ، وتَصرُّفه الكونّى. فباعتبار الأوّلِ، رَتب الحدودَ على المعاصي، وباعتبار الثاني، مَنَع من توبيخ العاصي، جمعًا بين عدلِ اللهِ وقدرته ونفوذ مشيئته وإِرادته.

ص: 256

وأمّا قوله: {وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين} "، ونظائرها، فأمْرها واضحٌ باعتبار تَصرُّف الله في خلقِه، كونًا باطنًا، وتكليفًا ظاهرًا.

قوله، وكيف يَصحّ أن يقال:{وما أصابك من سيئة فمن نفسك} ، أي العقوبة التي أصابتك إِنما هي مِن قِبلِ نفسِك بعملِك. ولو شاء اللهُ أخْذَهم بالعقوبة من غير معصيةٍ، لقَدرِ على ذلك؛ لكنّه رؤوف رحيمٌ"؛ إِلى آخِر كلامه في هذا المعنى. قلتُ: قد سبق نحوُ هذا البحث، أو هو بعينه. وقبل هذه الآية، {قل كل من عند الله} ، يعني الحسنات والسيئات. وقال الله تعالى:{وبلوناهم بالحسنات والسيئات} ، {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} . وإِن كان في الاستدلال ببعض هذا نظرٌ، لكن، بالجملةِ، الحَسنة والسيئّة مِن عندِ اللهِ، أي بخلقه وتقديره.

وأمّا قوله: {فمن نفسك} ، فمعناه "سَبَب السيئّةِ من نفسك"؛ وهو الكسب الصادر على وِفقِ قصدِك بتقدير الله ومشيئته. لكنّ تصرُّف التكليفِ مقصورٌ على مراعاة الاكتساب. وتقدير الله لها، مضافًا إِلى تَصرُّف التكوين، فليس من هذا الباب.

قوله، "لو شاء الله، عاقبهم من غير معصيةِ" قلنا: نعم. ولو فَعَل، لكان عادلًا في ذلك حقيقةً معقولةً. لا نقول ذلك بَغتىً، ولا جمودًا على التفويض التقليدىّ؛ بل هو معقولٌ واقعٌ. أمّا أنّه معقولٌ، فلِما قرَّرنا قبُ مِن أنّه خَلَقَ النفوسَ، وعَلِم ما يَصدُر منها من خيرٍ وشر. فلو عاقب بعضَها بدون صدورِ ذنبٍ منها، وقلنا بتحسين العقل وتقبيحه، كما تقولون لأمكننا، بقول الله تعالى: {ولا يظلم

أحدا}؛ وعقابه لهذا بدون ذنبٍ ظلمٌ؛ وهو منّزهٌ عنه. فدَلَّ على أنّه عِلِم مِن جِبِلَّته وطبيعةِ نفسِه

ص: 257

الشرَّ، فأهلَكَه، أو عاقَبَه، لدفعِ شرَّه. ونَزَّلنا علمَه سبحانه المحقَّق منزلِةَ صدورِ المعصيةِ مِن ذلك الشرّير بالفعل، كما اتّفق العقلاُء على قتلِ الحيّة، حتى الصغير الذي لا يؤذِي، لخُبثِ نفسِه وشرِّ طبيعتِه.

وقد قال ابن قتيبة في قوله تعالى: {وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالأجرة ممن هو منها في شك} ، الآية:"إِنّ عِلم اللهِ على ضربين: خاصُّ به لا يُظهِر عليه غيرَه؛ فهذا، لعدل الله، لا يُحتَجّ به على خلقِه. والضرب الثاني مشترَكٌ بينه وبين خلقِه، وهو الذي تقوم به الحجّة الظاهرة عليهم. فقوله، {إلا لنعلم}، يعني العلمَ المشترَك الذي تقوم به الحجّةُ عليهم وإِلاّ، فقد عَلِم اللهُ تعالى قبلَ خلقِهم مَن يؤمِن ممّن لا يؤمِن". هذا معنى كلامه.

وقد صَرح الله سبحانه بنحو هذا فيما صَحَّت به عنه السنّةُ، حيث قال:"إِنّ مِن عبادي مَن لا يُصلِحه إِلاّ الفقر. ولو أغنيتُه، لأفسَدَه الغنى. وإِنّ مِن عبادي مَن لا يُصلِحه إِلاّ الغنى. ولو أفقرتُه، لأفسَدَه الفقرُ". وذَكَر مِثلَ ذلك في المرض والصحّة. ثمّ قال: "إِنى أدَبِّر عبادي بعلمي فيهم؛ أني عليمٌ خبيرٌ".

وأمّا أنّه واقعٌ، فلأنّ الله سبحانه أَذِنَ للخضر في قتلِ الغلامِ، لعلمهِ أنّه إِن عاش، أرهَق أبويه طغيانًا وكفرًا. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إِنّ الغلام طُبِع كافرًا؛ ولو عاش، لأرهَق أبويه طغيانًا وكفرًا"، غَضِب، وقال:"وما يدريك؟ إِنّ الله خَلَقَ للجنّة والنار خلقًا وهم في أصلاب آبائهم. "قالت: "أرأَيتَ مَن لم يَبلُغ الحُلُمَ؟ " قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين". وهذا حُكمٌ فيهم بالعلم. وقد ورد أنّه بالآخرة تُؤجَّج لهم نارٌ يُمتحَنون بها.

ص: 258

ومِن باب الحُكمِ بالعلم، ما قاله بعضُ أصحابنا في الساحر يُقتل، قال:"لأنّه صار له قدرةٌ على أذى الناس في أموالهم وأنفسهم وحريمهم؛ والشهوات تحمله على ذلك؛ فصار كالكلب العقور، يُقتَل لتَهَيُّئه لأذى الناسِ". وهو توجيهٌ حَسنٌ.

فأمّا خلقُه الأفعالَ فيهم، ثمّ يعاقبهم، فلِما قرّرناه مِن أنّه علِمَ استحقاقَهم لذلك لو تَرَكَهم باختارهم. فلمّا استوى حالُ الاضطرارِ والاختيارِ، غَلَّب الأوّلَ، محافَظةً على رسمِ القدرةِ وكمالِ التصرُّف.

قوله، "لكنّه رؤوفٌ رحيمٌ". قلنا: رأفته ورحمته لا تنافى تصرُّفه في خلقِه التصرُّفَ الكونيّ الاستقلاليّ. أمّا التصرُّف التكليفيّ، فلم يعاقَب فيه أحدٌ، إِلاّ بحجّةٍ بالغةٍ.

ومّما يوضِّح إِثباتَ التصريفين المذكورين، وعليهما مدارُ مناظَرَتنا للقدريّة، هو أنّ بين الله سبحانه وبين عباده قدْرًا مشتركًا، وهو الوجود؛ إِذ كل موجودٌ. وقد قَسَّمَ المتكلّمون الموجودَ إِلى قديمٍ ومحدثٍ. وله سبحانه خاصّةٌ ليست لبعاده، وهي الإِلهيّة. فباعتبارِ القدْرِ المشترَك، وهو الوجود، ثَبَتَ التَصرُّف المشتَركُ، وهو التصرّف الخطابيّ التكليفيّ؛ كقوله سبحانه، {أقيموا الصلاة} ، {ولا تقربوا الزنى} ؛ وقولِ أحدِنا لعبده، "قُمْ! " و"لا تخرُج! " وباعتبار خاصّة الإِلهيّة، اختصّ الله سبحانه بالتَصرُّف الإِيجادي الكونيّ؛ وقد فُهِم هذا مّما قرّرنا قبلُ.

وقد بقي في الرسالة كلماتٌ، الجواب عنها معلومٌ مّما قرّرنا في جواب ما سبق منها. ومّن حقّق ما ذكرناه في جواب هذه الرسالة، راح عنه الباطلُ، وحلّ بوادٍ مِن الحقِّ غيرِ ما حلٍ.

ص: 259