الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الكلام على قاعدته في الصيام]
قلتُ: الكلام على ما قرَّره أوّلَ قولِه، "لا يجوز أن يكلّفنا الشرعُ بفعلٍ لا مصلحة فيه". إِن أرادَ:"لا يجوز عقلًا"، فهذا تقبيحٌ عقليُّ، وقولٌ بلزومِ رعاية المصالح لله تعالى؛ وقد أبطلناه. وإِن أراد:"لا يجوز شرعًا"، فمن أين استفاده مِن الشرع؟
ولو لَزِمَ أنّ الشرعَ لا يكلِّفنا إِلاّ بما فيه مصلحةٌ، لكن تلك المصلحة يلزَم أن تكون بيِّنةً ظاهرةً لنا، أم لا؟ فإِن لَزِم ذلك، بَطَلَت فائدةُ التعبُّداتِ في الشرع؛ إِذ فائدتها امتحانُ المكلَّفين بالانقياد لفعلِ ما لا يعلمون حكمتَه، تحصيلًا لمعنى الإِيمان بالغيبِ ونحوِه. ومتى ظَهَرَ وجهُ المصلحة في الفعل للمكلَّف، زال ذلك المعنى، ولم يَبق عنده فرقُ بين إقامة العبادة، وبين سفره في تجاراته ومعايشه؛ لاشتراك الأمرين في المصلحة الظاهرة له. وإِن لم يَلزم كونُ المصلحة ظاهرةً للمكلَّفين، فمِن أين لك أنّ مصلحةَ الضوم ما ذَكَرتَ؟ فإِن قلتَ:"بالاستدلال"، قلنا: وخصمُك يُبيِّن غيرَ المصلحة التي ادّعيتها بالاستدلال؛ فما المرجِّح لدعواك؟ فإِن قال: "صحّة استدلالي، دون استدلالِ خصمي"، قلنا: هو دعوى؛ فهاتوا برهانَكم إِن كنتم صادقين.
قوله، "ومصلحة الصوم ما اشتَمَل عليه من صيانة النفس المفضي إِلى بقائها، لاستدامة التوحيد، لدفعِ العقاب عن المكلِّف".
قلنا: أمّا أوّلًا، فهذا إِشارةٌ إِلى ما سَبَقَ من لزوم رعايةِ المصلحة، وتعليل أحكام الله. إِذ عَلَّلتَ إِيجابَ التوحيدِ بدفعِ العقاب. وهما أصلان منازَعٌ فيهما.
وأمّا ثانيًا، فإِنّه لو كانت مصلحة الصوم وحكمتُه صيانةَ النفسِ، كما ذكرتَ، لكان يجب صيامُ الدهر، أو أكثرِه؛ لأنّ الإِنسان، لغلبة شهواته وملازمتها لذاته على الدوام، يَحتاج إِلى ما يصونه عنها على الدوام؛ لأنّ دوام المقتضِى يقتضي دوامَ الحُكمِ. ولم يوجِب الشرعُ عليهم إِلاّ شهرًا في السنة؛ فما عسى أن يُحَلِّل صيامُ ذلك الشهر من صيانة النفس في باقي العام؟ بل نحن نشاهد الناسَ في رمضان يُصَيِّرون ليلَهم نهارَهم. ثمّ يفعلون فيه من قضاء الشهوات أكثرَ مِمَّا يقضونه في نهارٍ غيره؛ لأنهم، لتوقُّعِ المنعِ منها بمجيء النهار، يَعُدُّون الليلَ فرصةً ينتهزونها، وخُلسةً يغتنمونها، خصوصًا
فيما شاهدناه بمدينة القاهرة. وما مَثَلُ مَن جَعَلَ صومَ شهرٍ مِن سنةٍ صائنًا للنفوس عن الشهوات، إِلاّ مَثَلُ من أراد إشباعَ الأسد بِبقّة، أو إِرواءَ الجملِ بمَذقةٍ. ونحن نشاهد أنّ كثيرًا من المنقطعين للرياضة يصوم الدهرَ، ويواصل في بعضه، ثمّ تكون غايتُه أن يَعجَز عن ضبط نفسه؛ فتجمح به، فتَصرعُه صرعاتٍ أقبح من صرعات العوامّ الذين لا رياضة لهم، بل لا يصومون رمضان أصلَا. والحكمة تقتضي أن يكون الفِعلُ صالحًا لِما قَصَدتَه من الحكمة والمصلحة. وإِلاّ، كان كمن ادَّعى أنّ الله سبحانه خَلَق الثعالبَ والضباعَ لإِهلاك النمورِ والسباعِ، وخَلَق الحمامَ في الدُورِ لحراسة الطيور من العُقبانِ والصقورِ، وخلَق الذُبّانَ لإِهلاكِ كلِّ حيّةٍ وثعبانٍ! وذلك مِمَّا تجب صيانةُ العامّةِ، فضلًا عن الحكماء، عنه.
وأمّا ثالثًا، فما ذكرتَه معارضٌ بأنّ مصلحةَ الصوم حصولُ الثواب في الآخرة، أو تصفيةُ النفس لإِدراك المعارف؟ فإِنّ للجوع أثرًا في الفهم والإِدراك. ولهذا قيل: البِطنة تُذِبُ الفِطنةَ؛ والجوع يورِث العلمَ الدقيقَ، أو إِذاقةَ الإِنسان ألمَ الجوعِ، ليَسمح للمساكين، ولا يبخل.
ومِثل هذا، حُكي أنّ معلِّمًا لأنوشِروان ضَربه ذات يومٍ ضربًا وجيعًا بغير ذنبٍ؛ وذلك عندما بَرَع فيما أراد من العلم، وأراد الخروج من عند المعلِّم. فحقد عليه أنوشروان. فلمّا وليَ الملكَ، أحضر المعلِّمَ، فقال:"لمِ ضربتني ذلك اليوم، ولم يكن لي ذنبٌ؟ " فقال له: "ظننتُ أنّك ستَلي الأمرَ بعد أبيك، لما رأيتُ من نجابتك. فأرَدت أن أُذيقَك مرارة الظلم، لئلاّ تظلم أحدًا". فقال أنوشروان: "تحسينًا لِما قصدَه المعلِّمُ.
وقد ذُكِر للصوم فوائدُ غير هذه. فجاز أن تكون مصلحةُ الصوم جميعَ تلك الفوائد.
وجاز أن يكون بعضها غير التي عَنيتَها أنت من الصيانة. وجاز أن يكون ما عنيتَه. فما ذكرتَه إِنما يصحُّ على تقديرٍ من ثلاث تقادير. وهو مرجوحٌ مغلوبٌ؛ فلا يُعوَّل عليه. لأنّ المرجوح في الشرعيّات كالمعدوم.
أمّا قوله، "لا يجوز أن تكون مصلحةُ الصوم حصولَ الثواب، بل دفع العقاب"، ففيه نظرٌ؛ لوجهين:
أحدهما أنّ النصوص تُقارِب التواترَ في الوعد بالثواب على الصيام؛ وهي أكثرُ من
نصوص الوعيد على تركِه. بل لا أعرِفُ نصَّا في ذلك إَلاّ قولَه عليه السلام، "مَن تَرَك يومًا مِن رمضان، لم يَقضِ عند صومُ الدهرِ على ما فيه".
الثاني: أنّ حقيقة الوجوب عند الأصوليّين مركَّبةٌ من أمرين: مَطلُوبِيَّة الفعلِ، والمنع من التِركِ. فباعتبار المطلوبيّة، يترتَّب الثوابُ. وباعتبار المنعِ، يترتَّب العقابُ. وصحّ في الحديث:"ما تقرَّب إِليّ عبدي بشيء مثل أداء ما افترضتُ عليه". والإخبار بالقُرَبِ كنايةٌ عن الوعد بالثواب، لأنّ بينهما رابطًا سببيًّا.
وإِذا ثَبتَ أنّ حصولَ الثواب مصلحةٌ في الصوم، فإِن عُورِض بها ما ادّعيتَه من دفعِ العقاب، وقفت. وإِن ادُّعِيَ أنّ مصلحة الصوم هي مجموع الأمرين، حصولِ الثواب ودفعِ العقاب، لم يصحّ حصرُك للمصلحة في أحدهما.
ثمّ قد سَبَق في قاعدة الزكاة، جوابًا له عن هذا بعينِه، أنّ العبادات أضرارٌ عاجلةٌ لتحصيل منافع آجلةِ. والنفع تارةً يكون بتحصيل خيرٍ، وتارةً بدفعِ شرِّ.
قولُه، "لا يجوز أن يُجبر الإنِسانُ على تحصيل نفعه، كما لا يُجَبر على عقدِ الإِجارة لتحصيل الأجرة. ويَجوز أن يُجبَر عليها لينتفي عنه الأجرةُ التي استغلّها واستحقّها". قلنا: هذا قياس تصرُّفِ اللهِ سبحانه على تصرُّق غيره. وهو غير صحيحٍ. فإِنّا نقول: المجبِر، إِن كان هو الله سبحانه، جاز أن يُجبِر على الأمرين. وإِن كان غيره، لم يجُز على الأمرين. فإِنّ الواحد منّا ليس له إِجبارُ الأجنبيّ منه على جلبِ نفعهِ، ولا على دفعِ ضررِه. إِلاّ أن يكون تحت حجرِه؛ فيصير كتصرُّفِ اللهِ في خَلقِه يملكهما.
أمّا المؤجِّر، حيث أجبرناه على عقد الإِجارة، فإِنّا لم نجبره من حيث أنّ ذلك دفعُ ضررٍ عنه؛ بل من حيث هو حقُّ عليه، وَجَبَ وفاؤُه؛ كما يُجبَر البائعُ على تسليم المبيع. ثم يقول المجبِرُ في ذلك:"هو الشرع؛ وهو من تصرُّف اللهِ سبحانه". وقد بيّنّا أنّ له إِجبارَ خلقِه على الأمرين.
قلتُ: فحيث يَطلب مقدّمات قاعدتِه، لم تصحّ له الدعوى في فروعها؛ وهو صحّة صومِ الفرضِ بنيّةٍ من النهار، أو بمطلَق النيةِ. وهذه الصورة أسهل؛ لأنّ قرينة رمضان تعيّن المطلقة بما وَجَب في الشرع.
وقوله، "إِنّ الصوم يكون عادةً وعبادةً؛ فوجب أصل النيّةِ للتمييز"، كلامٌ صحيحٌ. لكنّه يَلزمهم في اشتراط النيّة للوضوء؛ ولم يقولوا به هناك. ونحن اشترطناها بغير هذا التقرير، كما سبق. وقرّر الزنجاتيُّ مذهبَهم في هذه المسألة بغير هذا التقرير، وإِن قَرُبَ منه في حالٍ ما. وذلك أنّ الصوم عبادةٌ قُصِدَ بها إِلحاقُ المشقةٍ بالمكلَّف. ومشقّة الصوم إِنما تَلحَق غالبًا بعد مضي جزءٍ صالحٍ من النهار؛ لأنّ الإِنسان يُصبِح شعبانَ ريّان؛ فإِذا تعالى النهارُ، انهضم الطعامُ، وتراقت الأبرخةُ من المعدة إِلى الفم؛ فحصلَت مشقّةُ الجوع والعطش. فحينئذٍ، يتحقّق وجودُ مقصودِ العبادة، وهو المشقّة. فاعتُبرت قبل الزوال، لا ليلًا. ةوهذا، على ما فيه، أصلح من الأوّل.
ومعتمَدنا في اشتارط النيّة قبل طلوع الفجر أنّ الصوم عبادةٌ محضةٌ؛ فاشتُرطَت لها النيّةُ تمييزًا لها من العادة والتداوى، كما سبق. وشأن الشرطِ أن يعُمَّ أجزاءَ المشروط؛ كما قلنا في نيّة الوضوء: يجب تقدُّمُها على أوّل واجبات الصلاة. فأمّا الاكتفاء بسوم الماء
…
السنة، مع أنّه شرطٌ لوجوب الزكاة فيها، فخارجٌ عن قاعدة الشروط، لعارض طلب الاحتياط للفقراء.
فأمّا قوله عليه السلام، "لا صيام لمن لم يُبيِّت الصيامَ من الليل"، وفي لفظٍ، "مَن لم يُبيِّت الصيامَ من اليل، فلا صيام له"، فهو من أدلّتنا في المسألة. لكنّه متردِّد الدلالةِ، من جهة أن"؛