الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فسخُ النكاحِ بالعيب]
ومنها أنّ النكاح لا يُفسَخ بالعيب. لأنّه ثَبَتَ مع وجود المنافي ضرورة إِقامة للمعنى الواجبِ. وما ثبت للضرورة تقدَّرَ بقدْرِها في خصوصيّة المعنى المقتضى له؛ فلا يَظهر أثرُه في غيره. وما يتضمّنه الفسخ، من زوال الضرر وإِقامة العدل، قد جُعِل له طريقٌ يَحصُل به، وهو الطلاق.
[الكلام على قاعدته في الأنكحة]
قلتُ: هذه القاعدة ليس نزوعهُا إِلى التصرُّف العقليّ كغيرها. لكنّه يُناقَش فيها تَفقُّهَا؛ فيقال: المعنى الذي ذكرتَ أنّ النكاح تضمَّنه، يجب عقلًا، أو طبعًا، أو شرعًا؟ إِن قلتَ:"عقلًا"، فقد أبطلنا قاعدةَ ذلك. وإِن قلتَ:"طبعًا"، فالطبيعيّات لا مدخَل لها في الشرعيّات. ولهذا، لم يُقدِّر بعض بعضُ العلماء المدّة التي يَلزمُ الزوج وطء الزوجةِ فيها اجتزاءً بداعي الطبع. وإِن قلتَ "شرعًا"، فأين دليله؟ وقوله عليه السلام:" تناكحوا، تناسلوا؛ ومَن رغب عن سنّتي، فليس منّي"، ونحوه، قد حُمِل على الندب، لا الوجوب.
بدليل قولِه: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} ؛ ولو وَجَب، لما عُلِّق باستطابتهم له؛ وقوله تعالى:{وأن تصبروا خير لكم} . وأيضًا، فإننّ العلماء قالوا:"الاقتصار على واحدةٍ أفضل". ولو كان واجبًا، لكان الإِكثارُ منه أفضل، ولوجبَت الأربعُ؛ لأنها غاية الواجب، كالصلاة الرباعيّة. وإِذا لم يجب النكاحُ، لم يجب المعنى الذي تضمَّنه؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجبُ إِلاّ به واجبٌ. فإِذا لم يجب ما لا يتمّ غيرُه إِلاّ غيرُه إِلاّ به، عُلِم أنّ ذلك الغير ليس بواجبٍ.
وأمّا قوله، "ثبت النكاحُ مع وجود المنافي"، فله اتَجاهٌ. لكن لو عَكَس عاكسٌ، وقال: إِنما ثّبتَ مع وجود الملائم المناسب، وذلك لأنّ الله سبحانه خَلَق الزوجين الذَّكر والأُنثى على تفاوتٍ في الدين والعقل، كما صحّ به نقلُ الشرعِ، أنّ النساء ناقصاتُ عقلٍ ودينٍ؛ ولذلك كان شهادةُ امرأتين وإرثهما بشهادةِ رجلٍ وإرثِه. والدِّين والعقل
هما اللذان يحمِلان على صيانة النفوس عن الشهوات وملابسة المحظورات؛ وذلك أجدر أن يُبقِى النفسَ لإقمة التوحيد. وذلك لما سبق من أنّ العقل مشتقٌ من عقال البعير المانع له من النُدود والشرود عن مالكه. و "الدين" مشتقٌ من "دان يدين"، إِذا خَضع وذلَّ. ومنه "الدَّين"؛ لأنّ المديون يذِلّ لصاحبه. فالإنِسان يمتنعِ عمّا لا يحلّ بمقتضى العقلِ طاعةً لربّه بمقتضى الديِن. والمرأة لَمَّا نَقصَ حظُّها من هذين المعنيين الشريفين، ناسَبَ أن تثبت عليها ولايةُ الزوجِ، لمصلحته باستمتاعه بها، ولمصلحتها بحبسها عن الشرود والتسارع إِلى ما لا ينبغي.
ولهذا رأَينا النسوان في زمننا هذا قد استخرَجن بمكرِهنّ طريقةً يَتوصّلُ بها أكثرُهن إِلى الشرود عن قيدِ الأزواجِ. فإِذا أرادت المرأةُ تخرُج لقضاء وطرٍ ما إِلى بعض المواسم والفُرَج، كالقرافة بالقاهرة، وموسى والجواد ببغداد، وكان زوجُها فقيرًا [لا] يُطمَع في جانِنه، ادَّعَت عليه عند القاضي بكسوةٍ ونفقةٍ ماضيةٍ، وجَعَلَت دعواها عند من يَقبل قولَها، مع تمنِّيها في عدم الإنفاق عليها، استصحابًا للحال، وتمسّكًا بالأصل دونَ الظاهر، كالحنبليّ. فتحبسه على ذلك. ثمّ تذهب حيث شاءت. فإِذا عادت، أخرجَته. فإِذا كان هذا فعلُنّ مع رابطة الزوجيّة، فما الظنُّ لو خَلَون عنها! وحينئذٍ، لم يَثبُت النكاحُ إِلاّ مع الملائم المناسِب، بمقتضى الحكمة الشرعيّة.
وأمّا حديث "النحاك رقٌ"، فلا يثبت عند أهل النقل. وأمّا عدوله عن لفظ "الرق" إِلى "الاختصاص"، فغير مجدٍ؛ لأنّا بيّنّا أنهما جميعًا ما ثبتا. إِلاّ مع الملائم المناسِب.
وأمّا قوله: "إِن شَرَفَ الحرّيّة وخَلَقَ الآدمىِّ لإِقامة العبادات يقتضي الاستقلالَ وعدمَ الاعتراض". قلنا: هي مستقلةٌ بنفسها فيما يتعلَّق بإِقامة العبادات، لا اعتراض عليها في ذلك. ولهذا قلنا: إِنّ له الاستمتاع بها ما لم يَضربها، أو يَشغلها عن واجبٍ. فليس له اعتراضٌ عليها في صلاة الخَمس، وصوم الشهرِ، وحجّ الفرضِ، إِذا وُجِدَت شروطُه. وأمّا ولايته عليها فيما عدا ذلك، فهو بمقتضى عقدِ النكاح الواجب الوفاءُ به، بموجب
قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} . وذلك لا يَغُضّ من منصب الإِنسانيّة، ولا الحرّيّة. كما أنها هي تتسلط عليه بحكم العقدِ؛ فتحبسه على مهرها ومؤونتها، ويمتنِع عن التزوُّج والتسرّي عليها، وإِخراجِها من دارها او بلدها بشرطها؛ عملًا بقوله عليه السلام:"المؤمنون على شروطِهم"، ونحوه. وليس ذلك قادحًا في شرفِ حرّيّته، ولا إِنسانيّته.
وأمّا قوله: "لو لم يتضمّن النكاحُ معنًى تجب إِقامتُه، لما كان إِطلاقه أولى من حظرِه"، فليس بلازمٍ؛ لجواز ترجُّحِ إِطلاقه تَجُّح ندبٍ واستحبابٍ، لا ترجُّحَ عزمٍ وإِيجابٍ.
وأمّا قوله: "إِنّ المعنى الذي تجب إِقامتُه عو التوالد والتناسل"، فهو ضعيفٌ؛ لأنّ ذلك لو وَجَب شرعًا، لوجبَت نيّتُه عند عقدِ النكاحِ، أو عندَ الوطءِ. ولا نعلم خلافًا بين المسلمين في أنّ للرجل أن يتزوّج ويطأَ، وإِن لم يخطُر بباله الولدُ. بل أبلغ من هذا أنّ النصوصَ صحَّت بجواز العزلِ لمنع الوالدِ؛ وأجاز العلماءُ شُربَ دواءٍ لقطع الحيضِ، مع إِفضائه إِلى منعِ الحمل. وإِنما الله سبحانه أجرى العادةَ، بأنّ هذا النوع الإِنسانيّ متّصل الوجودِ إِلى اليوم الموعود، بحُكمِ الدواعي الطبيعيّة الحيوانيّة، كسائر أنواع الحيوان من البهائم والطير والحشرات.
وأما الازدواج والسكن، فهو أيضًا حاصلٌ بفضل إِلهي. ولهذا امتنّ به عليهم، فقال:{وجعل بينكم مودة ورحمة} ، ونحوه. وذلك لِمَا يحصُل لكلِّ من الزوجين من اللذّة بالآخر. حتى لو أراد أحدُهما أن لا يحب صاحبَه، لغلبه قلبُه، ولم تطاوِعه نفسُه. فانجذاب قلبِ كلِّ منهما إِلى الآخر كانجذاب الحديد إِلى المغناطيس. وليس ذلك بكسب الإنسانِ، حتى يكون من معاني النكاح الواجبة. وإمّا استيفاء النفس، بصيانتها عن الهلاك، لاستدامة التوحيد، فدعواه من أضعف ما يكون. وقد تقرّر ضعفُها في نظير ذلك في الصوم. وذلك لأنّ الشهوات دائمةٌ ملازمةٌ؛ فلو كان المقتضي للوجوب ما ذكر، لوَجَبَ استدامةُ النكاحِ ما دامت الشهواتُ