المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فإن قيل: "لا نُسلَّم أنّ ما ذكرتموه، مِن خلقِ الداعي - درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌[أولًا: في العقل، وفي أصل التحسين والتقبيح]

- ‌الأُولى: في لفظ العقل

- ‌المسألة الثانية: في حقيقة العقل

- ‌المسألة الثالثة: في مكان العقل

- ‌المسألة الرابعة: في فعلِ العقل وأثره

- ‌المسألة الخامسة: في تحقيق القول في التحسين والتقبيح

- ‌[مفهوم التحسين والتقبيح]

- ‌[مآخذ الخلاف في مسألة التحسين والتقبيح]

- ‌[المأخذان الكيّان]

- ‌[المآخذ الجزئيّة]

- ‌[أدلّة المعتزلة على التحسين والتقبيح]

- ‌[إبطال التحسين والتقبيح]

- ‌[ثانيًا: فروع التحسين والتقبيح في أصول الدين]

- ‌[وجوب النظر عقليِّ عند المعتزلة]

- ‌[إِنكارهم كلامَ النفس]

- ‌[قولهم: "يقبح من الله ما يقبح منّا

- ‌[إيجابهم رعاية مصالح الخلق على الله]

- ‌[إِنكارهم الشفاعةَ]

- ‌[قبول التوبة واجبٌ على الله عندهم]

- ‌[إنكارهم الاستثناء في الإيمان]

- ‌[إِيجابهم إِرسالَ الرسلِ، وإِيجابُ الرافضةِ نصبَ الأئمة، على الله عقلًا]

- ‌[قول أبي هاشم: "دفع الضرر عن النفس واجبٌ عقلًا، وعن الغير سمعًا

- ‌[المعدوم شيءٌ، أو ليس بشيءٍ]

- ‌[قولهم: "إِنّ البنية شرطٌ في الكلام

- ‌[حكموا بقبح الآلام في العالم إِلاّ لغرضٍ صحيحٍ]

- ‌[الأنبياء أفضل أم الملائكةُ

- ‌[إِنكارهم كرامات الأولياء]

- ‌[إِنكارهم السحرَ]

- ‌[إِنكارهم الجنَّ والشياطينَ]

- ‌[غايةُ الأجَلِ والرزقُ]

- ‌[إِنكارهم عذابَ القبر]

- ‌[إنكارهم أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن]

- ‌[ثالثًا: فروع التحسين والتقبيح في أصول الفقه]

- ‌[عندهم أنّ شكر المنعم واجبٌ عقلًا]

- ‌[حكم الأفعال الاختياريّة قبل ورود الشرع]

- ‌[تكليف ما لا يُطاق]

- ‌[القدرة مع الفعل أو قبلَه

- ‌[وقت العبادة مُضيِّقٌ أو مُوسَّع

- ‌[الفعل الواحد لا يكون مأمورًا به منهيًا عنه]

- ‌[تكليف الصبيّ والمجنون]

- ‌[تكليف المُلجأ]

- ‌[تكليف الحائض بالصوم]

- ‌[التكليف بفعلٍ عَلِمَ الآمرُ انتفاءَ شرطِ وقوعه]

- ‌[تأخير البيان عن وقت الحاجة]

- ‌[بقاء التكليف مع زوال العقل]

- ‌[تكليف المعدوم]

- ‌[إِبطال اليهودِ النسخَ]

- ‌[مَنعُ جمهور المعتزلة مِن نسخِ الحكمِ قبل دخول وقته]

- ‌[نسخُ وجوبِ معرفة الله وشكر المنعم وتحريم الكفر والظلم]

- ‌[رابعًا: فروع التحسين والتقبيح في الفروع الفقهيّة]

- ‌[النية في الوضوء]

- ‌[رؤية الهلال في الصحو]

- ‌[صحة إِسلامِ الصبيّ]

- ‌[صحة شهادةِ الكفّارِ بعضهم على بعضٍ]

- ‌[حكاية مسائل ذكرها العالميّ الحنفيّ نازعةٌ إِلى التحسين والتقبيح]

- ‌[لزوم النفلِ بالشُروع]

- ‌[نقاش كلامه في لزوم النفلِ بالشروع]

- ‌[قاعدته في الزكاة]

- ‌[فروع قاعدته في الزكاة]

- ‌[وجوب الزكاة على الصبيّ والمجنون]

- ‌[من مات وعليه زكاة]

- ‌[وجوب الزكاة على المديون]

- ‌[وجوب الزكاة في مال الضمار]

- ‌[وجوب الزكاة في الحليّ]

- ‌[الكلام على قاعدته في الزكاة]

- ‌ومِن قواعده قاعدةُ الصيام

- ‌[فروع قاعدته في الصيام]

- ‌[الكلام على قاعدته في الصيام]

- ‌ومنها قاعدته في الكفّارات والمقدَّرات

- ‌[فروع قاعتدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌[الكلام على قاعدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌ومنها قاعدته في الأنكحة

- ‌[فروع قاعدته في الأنكحة]

- ‌[الاشتغال بالنكاح أفضل من التخلّي للنوافل]

- ‌[إِجبار لمولى عبده على النكاح]

- ‌[إرسال الطلقات الثلاث جملةً]

- ‌[فسخُ النكاحِ بالعيب]

- ‌[الكلام على قاعدته في الأنكحة]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الأنكحة]

- ‌ومنها قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك

- ‌[فروع قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌[تصرفُّ العبدِ المأذون له]

- ‌[تصرُّف الصبيِّ المأذون له]

- ‌[تجزُّؤ العتقِ]

- ‌[الكلام على قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌ومنها قاعدته في الأملاك

- ‌[فروع قاعدته في الأملاك]

- ‌[استيلاء الكفّارِ على أموال المسلمين في دار الحرب]

- ‌[قسمة الغنائمِ في دار الحرب]

- ‌[تغيير الغاصب في المال المغصوب]

- ‌[الكلام على قاعتدته في الأملاك]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الأملاك]

- ‌ومنها قاعدته في وصف الفعل بأنّه ضربٌ أو قبيحٌ

- ‌[الكلام على قاعدته في وصف الفعل بأنّه ضررٌ أو قبيحٌ]

- ‌[خامسًا: مسألتا القدر وخلقِ الأفعال]

- ‌[بيان معنى "الكسب" و"الخلق

- ‌أمّا نقل المذاهب في المسألة

- ‌[مقدمّات المسألة]

- ‌[الكلام الساذج التقريبيّ في المسألة]

- ‌[الوجوه العقليّة التي أوردها أبو الحسين البصريّ المعتزليّ]

- ‌[الوجوه النقليّة التي للمعتزلة]

- ‌[كلامٌ على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبّار المعتزلىّ]

- ‌[رسالةٌ في القدر منسوبة للحسن البصري، أوردها القاضي عبد الجبّار]

- ‌[الجواب على الرسالة]

- ‌[سادسًا: الأدلّة النقليّة على القدر]

- ‌[آيُ إِثباتِ القدرِ مِن القرآن]

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال وبراءة

- ‌سورة يونس عليه السلام

- ‌سورة هودٍ عليه السلام

- ‌سورة يوسف عليه السلام

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إِبراهيم عليه السلام

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة بني إِسرائيل، على صالحيهم السلام

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم عليها وعلى ابنها السلام

- ‌سورة الحج

- ‌سورة المؤمنون

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الروم

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة السجدة

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة الملائكة

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة الزمر

- ‌آل حاميم

- ‌سورة المؤمن

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌أما سورة الجاثية

- ‌سورة محمدٍ عليه السلام

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌ سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌ سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌ سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقين

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌ومن سورة الملك

- ‌سورة ن

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة سائل سائلٌ

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌أمّا سورة المدّثّر

- ‌سورة الإِنسان

- ‌ سورة التكوير

- ‌ثم إلى سورة المطفّفين

- ‌ثمّ إِلى سورة البروج

- ‌[سورة الشمس]

- ‌ثم إِلى سورة الضحى

- ‌ثم إلى سورة الفلق

- ‌{استدلال القدريّة مِن أي القرآن]

- ‌[الجواب على استدلال القدريّة مِن أي القرآن]

- ‌[حجّةٌ على إِثبات نبوّة محمدِ صلى الله عليه وسلم؛ وهي نكتةٌ أجنبيةٌ عن الباب]

- ‌[أحاديث القدَر]

- ‌[مآخذ مسألة القدر]

- ‌[خاتمة: في أنّ المعتزلة هل يكفرون بمقالتهم هذه، أم لا

الفصل: فإن قيل: "لا نُسلَّم أنّ ما ذكرتموه، مِن خلقِ الداعي

فإن قيل: "لا نُسلَّم أنّ ما ذكرتموه، مِن خلقِ الداعي ونحوه، هو خلقُ المعصيةِ؛ بل خلقُها هو قوله، "كُنْ"، فيكون، كما يكون غيرُها مِن الأعيان والأفعال". قلنا: هو يُكَون المعاصي كذلك، لكن مرتَّبةً بحكم عادته في خلقِه، على الأسباب المذكورةٍ. فإِن نازعتم في قوله لها، "كنْ"، قلنا: ليس فراركم من ذلك إِلاّ من لزوم القبحِ عقلًا؛ وهو باطلٌ، كما سبق. ثمّ هو لازمٌ عليكم، بخلقِ الشيطانِ والنفوس والشهوات، وتركِ منعِ العصاةِ مواقَعةَ المحظوراتِ. وحينئذٍ، لا فائدة في منعِكم قبيحًا واحدًا يَلزَمكم مِن جنسِه قبائح.

ومنها قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} . هو طريق الحقِّ. ووجه الدلالة أنهم سألوا الهدايةَ منه. فلو لم تكن إِليه، لما سألوها؛ إِذ هم مستقِلّون بها، على زعمِ الخصم فإِن قيل:"ظاهر الآية محالٌ؛ لأنهم طَلَبوا الهدايةَ منه؛ وطالب الشيء لا يكون ذلك الشيء حاصلًا له؛ وإِلاّ لكان طلبُه له، مع حصوله له، تحصيلًا للحاصل؛ وهو محالٌ"؛ قلنا: فلابدّ للطلب من فائدةٍ، فإِن كان لحقيقة الهداية، حصل مقصودُ الدليل. وإِن كان للاستمرار على الهداية، أو لزيادة الهداية، حصل أيضًا. لأنّ الاستمرار على الشيء والازدياد منه فعلٌ، ولابدَّ. فإِمّا أن يكون مِن العباد، كما زعمتم؛ فهو محالٌ، لبطلان فائدة السؤال؛ أو من الله سبحانه؛ فهو المطلوب.

قوله، {أنعمت عليهم} . يعني بالهداية. فأضافوها إِليه؛ فاقتُضِيَ استقلالُه بها. وهو خلاف قول الخصم، "إِنّ العبد يهدى نفسَه ويُضِلّها".

‌سورة البقرة

فمنها قوله: {أولئك على هدى من ربهم} . "مِن" لابتداء الغاية؛ أي "منشأُ الهدى وابتداؤه هو ربّهم؛ فهو صادرٌ عنه، وحاصلٌ منه". وليست للتبغيض؛ لاستحالته على الربّ سبحانه. ولا للجنس؛ إِذ ضابطُ الجنسيّةِ أن يكون ما بعدَها أعمَّ مّما قبلها وجنسًا

ص: 261

له؛ نحو "ثوبِ من خزٍّ"، و "خاتمٍ مِن حديد"، و "بابٍ مِن خشبٍ". وليس بين العبيد والربّ اتّصالٌ بعمومٍ ولا خصوصٍ. وبهذا ضَعُفَ قولُ مَن زعمن أنّ "مِن" في قوله:{فاجتنبوا الرجس من الأوثان} ، جنسيّةٌ؛ لأنّ الأوثان ليست أعمّ مِن الرجس، ولا جنسًا له. بل هي لابتداء الغاية، كهذه التي نحن فيها؛ أي "الرجس الحاصل، أو الناشئ، مِن الأوثان". وإِذا ثبت أنّ الرب سبحانه مبدأُ الهدى، فما ذلك إِلاّ لأنّه خالقه وموجِده.

ومنها يقوله سبحانه: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة} . ونظريها في النحل، {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} ، وفي الجاثية، {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصر غشاوة فمن يهديه من بعد الله}. قلتُ:"الختم" و "الطبع" و"الرَّين"، في قوله تعالى:{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} ، أي "غطّى عليها"، هي عندنا أعراضٌ يخلقها اللهُ في قلوب الأشقياء، يمنَعهم بها من الإِيمان، بالإِعراض والصرفِ عن النظر في آياته وتدُّبر علاماته. ومن هذا الباب، "الأكِنّة"، في قوله:{وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه} .

أمّا المعتزلة والقدريَة، فزعمَ أنّ الختم والطبع مجرَّد تسميةِ الله العبدَ "كافرًا" و "ضالًا" و "مختومًا، أو مطبوعًا، على قلبه". وهو فاسدٌ، لوجهين. أحدها أنّ الله سبحانه ذكر ذلك في معرضِ التَّضرُف فيهم بما يَصرِفهم عن الإيمان؛ ومجرَّد التسميةِ لا تُؤثر في ذلك. الثاني أنّا نحن قادرون على تسميةِ الكافر "كافرًا"، ولسنا قادرين على الختم والطبع على قلبه؛ دَلَّ ذلك على تغايرهما. وأيضًا، لو صحّ ما ذكروه، لكان أقبح

ص: 262

القبيحِ؛ لأنّه يَذمّهم على مجرَّد تسميتِه لهم بذلك؛ وورود الختمِ والطبعِ في سياق الذمّ ظاهرٌ.

وقال بعضهم: " هي سماتٌ وعلاماتٌ يجعلها اللهُ على قلوب الكفّار". وهو باطلٌ؛ لأنّ شأن السِّمة والعلامة أن تَدُلّ على الشيء، لا أنها تمنعه وتَصرِفه عمّا ينبغي له. والله سبحانه ذكرها في معرض ذلكّ بدليل قوله، {أكنة أن يفقهوه} ؛ أي "يمنعهم مِن أن يفقهوه"، أو "لئلا يَفقهوه".

وقال بعضهم: "الختم والطبع عقوبةٌ من الله، يجازي بها أهلَ المعاصي. وهي إنما تُضادّ الإخلاصَ، لا الإِيمان؛ فيصِحّ اجتماعُه معها" وهو باطلٌ؛ لأنّ الله سبحانه لم يَذكُرها إِلاّ في حقّ الكفّارِ. ولعلّهم أَخَذوا ذلك من نحو قوله تعالى: {بل طبع الله عليها بكفرهم} ؛ أي "بسبب كفرهم"؛ فدلّ على أنها عقوبةٌ على المعصية. لكنّا قد بيّنّا بطلانَ العقوبةِ على الذنب بذنبٍ مثله، أو بما يُفضي إِلى مثله، فيما سبق، بيانًا شافيًا. والباء في الآية، وإِن كانت ظاهرةً في السببيّة، إِلاّ إِنها مُؤولةٌ عند العلماء على الحاليّة؛ أي "طَبع اللهُ على قلوبهم متلبِّسين بكفرِهم"، أي حالَ كفرهم". ويفيد ذلك تَقَيُّدَ الطبع بحال كفرهم، ولا طبْع عليها حال إِيمانهم.

والتحقيق في الباب أنّ "الختم" و"الطبع" و"الوَسمَ" متقاربةٌ في المعنى، وهي الاستيثاق على الجسم المجوَّف بالسدّ ونحوه، لئلاّ يَدخله شيءٌ؛ كختم الكيسِ والإِناءِ ونحوه. فالختم على القلب يحتمل أنّه حقيقةٌ، بأن يَكون، كما قيل، شكلًا صنوبريًا مجوّفًا، يَعقل الأشياءَ بانطباعها فيه، كانطباع الأِشياء المحسوسة في الحواسّ، كالمبصَرت في جليديّة العين، ونحوها، إِن قلنا إِنّ العقل في القلب؛ أو بواسطة فيضِ نورِه عليه من الدماغ، على ما مّر في ذلك. فيمنع اللهُ سبحانه دخولَ المعقولاتِ وانطباعَها فيه بشيءٍ محسوسٍ يُغطّيه. كما قيل، "إِنّ للقلب غَيايَة القمر، إِذا تَغًشَّته بشيءٍ ما سمع، وإِذا تجلَّت عنه ذكر". و"الغيايَة"، بعينٍ معجَمةٍ، ويائين آخر الحروفِ: السحابة. وقال مجاهدٌ: "القلب كالكفّ، يُقبَض منه بكلّ ذنْبٍ أصبعٌ، ثمّ يُطبَع".

ص: 263

قلتُ: الأحاديث الصحيحة دلّت على أنه حقيقةٌ. فروى أبوهريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّه قال:"إِنّ العبد إِذا أَخطَأَ خطيئةً نُكِتَت في قلبه نُكنةٌ سوداء. فإِذا هو نَزَعَ واستغفَر وتابَ، سُقِل قَلبُه. وإِن عادَ، زيدَ فيها، حتى تُغلِق قلبَه. وهو الران الذي ذَكَرَ اللهُ؛ {كلا بل ران على قلوبهم}، الآية". رواه ابن ماجه والنسائىّ، وصحّحه الترمذىّ.

وفي حديث حُذَيفَة، "إنّ الأمانى نَزَلَت في جَذرِ قلوبِ الرجالِ"؛ إِلى قوله، ثمّ حَدثنا، يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم، عن رَفع الأمانةِ، فقال:"يَنام الرجلُ النَومَةَ، فتُقبًضُ الأمانةُ مِن قلبِه؛ فيَظلّ أَثَرُها مِثلَ المجلِ كحمرٍ دَحرَجتَه على رِجلك، فَنفِطَت؛ فتراه مُنتبِرًا". حديثٌ صحيحٌ متّفقٌ عليه.

وفي بعض الأحاديث، يَصِفُ القلبَ أنّه إِذا اكتَسَبَ الخطايا، [صار] مَنكُوسًا كالكُوز، مُجخيًا مُربادًّا، لا يَعرِفُ مَعروفًا ولا يُنكِر مُنكرًا. وكّل هذه صفات الأجسام المجوَّفة.

ويُحتمَل أن يكون الختم والطبع مجازًا عن خلقِ اللهِ سبحانه داعي الكفرِ في القلب، أو عدم خلقِ داعي الإِيمان فيه. فيكون امتناعُ قيامِ الإِيمان بالقلب لعدم خلقِ داعيه فيه، أو لقيام ضدِّه به، وهو الكفر، كامتناع قيامه به لوجود ما يُغطّيه، فيمنعه من الانطباع فيه لو كان مجوَّفًا.

وربما رجح هذا الوجهُ بدليل السمع والبصر المقارِنين للقلب في الآية. فإِنّ الختم والغشاوة عليهما غير محسوسين، بل معقولان، كما ذكرنا وهو معنى قوله تعالى:{واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} .

والمقصود على الاحتمالين حاصلٌ، وهو أنّ "الختم" و "الطبع" و "الأكنة" و"الغشاوة"

ص: 264

و "الأخذ"، في قوله:{قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم} ، موانع تمنع مَن قامت به من الإِيمان بإِرادة الله وتقديره وخلقه.

واعلم أنّ ها هنا تنبيهًا ليس مِن مُهمّات ما نحن فيه؛ لكنّه متعلِّقٌ بالآيات المذكورة. وهو أنّ آية النحل شَرَكَت بين القلوب والسمع والإِبصار في الطبع؛ وهو وبمعنى الختم وآية الجاثية خَصَّت الغشاوةَ بالبصر. وآية البقرة هذه هو فيها متردِّدٌ بين أنّه مختومٌ عليه، أو عليه غشاوةٌ. والأوّل أظهَرُ لفظًا. وبدليل باقي الآيات، واختلاف ألفاظِ هذه الآي في الحائل دون القلب والسمع، يقوي الاحتمال الثاني، وأنّ ذلك مجازٌ.

وقال بعض الفضلاء: "القلوب والأسماع مجوَّفةٌ. فالختم بها أشبَه. والأبصار بارزةٌ والإِدراك بظاهرها. فكان الغشاء بها أليَق". وهذا بناءٌ على أنّ ذلك حقيقةٌ، أو بيانٌ لمناسبة الاستعارة.

ومنها قوله تعالى: {فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا} . "المرض" إِمّا الشكّ أو الضلال عن الهداية. وقد أخبر أنّه زادهم إِيّاه، مضافًا إِلى ما في قلوبهم منه. وهو كقوله:{فزادتهم رجسا إِلى رجسهم} . وإِذا جاز أن تكون الزيادةُ منه، جاز أن يكون الأصل منه. وجميع ذلك إِنما خو بخلقِ الدواعي وإِقامة الشبهات والصوارف. وقد أَجَبنا عن قولهم، "إِنما الزيادة منه عقوبةٌ على أصل المرض الذي في قلوبهم".

ومنها قوله سبحانه: {الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} . و {يمدهم} ، أي "يملى لهم". {فى طغيانهم} ، أي غُلُوِّهم في الكفر. {يعمهون}: يَتردّدون في الضلالة ويَتَحيّرون. والعمه في القلب كالعمى في البصر. فيقال للخصم: إِمّا أن يكون الله قادرًا على إِنقاذهم من الحيرة، بكشف شبهتهم واللبس عنهم، أو لا.

فإِن كان قادرًا، فلِم لم يفعل، وهو من المصالح الواجبة عليه؟ فكما جاز أن لا يُنقذهم منها، جاز أن يُوقِعهم فيها ابتداءً؛ إِذ كلا لأمرين قبيحٌ شاهدًا. فإِذا جاز أحدهما في

ص: 265

حقّه، وجب أن يجوز الآخرُ؛ إِذ حُكم المثلين واحدٌ. وقد سبق هذا البحثُ. وإِن لم يكن قادرًا على إِنقاذهم منها، لزم أن يكون عاجزًا عمّا فعلوه هم بأنفسهم، وساعد عليه الشيطانُ؛ فيكونون أقدر منه. وحينئذ، لا يُؤمَن أن يكون الشياطين وبعض الكفّار قد اتّفقوا على أن غَلَبُوا على ملكوت السماوات والأرض، فصاروا آلهةً، أو على الأرض فقط، وعَزَلوا البارئَ عن الإِلهيّة فيها، تعالى الله عن ذلك.

ومنها قوله: {فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} . والخصم زعم أنّ الإِنسان يهدي نفسَه ويُضِلّها؛ فما بالهم لم يكونوا مهتدين؟ وإِنما ذلك عندنا لأنّ الله لم يَهدهم الهُدى المصاحَب بخَفير التوفيق. أمّا الإِرشاد المجرَّد، فقد حصل.

ومنها قوله: {ذهب الله بنورهم} . وليس الضمير راجعًا إِلى الممثًَّل به، وهو المستوقِد للنار. بل إِمّا إِلى صاحب المَثَل، وهم المنافقون، ذهب اللهُ بهدايتهم؛ أو إِليهم وإِلى المستوقِد على جهة المزج والاستخدام، كما قرّرناه في التفسير. وإِذا جاز أن يَذهب بهدايتهم، فما المانع من أن يأتي بضلالتهم؟ وهذا على تقدير أنّ ذهابه بنورهم، وهو الهُدى والإِيمان، في الدنيا. أمّا إِن أُريد به في الآخرة، فلا تكون هذه الآية ممّا نحن فيه.

ومنها قوله: {وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا} . ثمّ قال الله تعالى: {يضل به كثيرا ويهدى به كثير} . فصرّح بإِضافة الإِضلال والهدى إِليه. والجواب عن قولهم، "إِنما أضلّهم بعد فِسقِهم، بدليل باقى الآية"، قد سبق. وكان سبب الآية [أنّ] الكّفارُ: "الله أَجَلّ مِن أن يَذكُر هذه الحشرات الخسيسة؛ وإِنما هذا من كلام محمّدٍ. فأنزل الله سبحانه: {إِن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها} .

ص: 266

ووجه إِضلالهم وهداية غيرهم أنّ الله سبحانه أَلهمهم الشبهةَ المذكورة بسبب الأمثال المضروبة، وضَلّوا، وعَضَم منها الآخَرين، فلم يَضِلّوا، فاهتدوا؛ إِذ لا واسطة بين الضلال والهدى.

ومنها قوله: {إنى جاعل في الأرض خليفة} . ووجه الاستدلال بها ما سبق، من [أنّ] الله تعالى خلق آدم ليكون خليفةً في الأرض على الوجه الذي أهبط به إِليها، وهو المعصية. فقد تعلَّق علمُه بها قبل خلقِه. وخلاف ما تَعلَّق علِمه، قد بيّنّا أنّه غير مقدورٍ. فما تعلَّق به علمُه يكون واجب الوقوع. وبذلك احتَجّ آدمُ على موسى.

ومنها قوله: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى} ، الآية، إِلى قوله:{قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا} . وجه الاستدلال؛ ثم وَبَخَهم بقوله: {ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض} . فكذلك، يجوز أن يَضطَرّ العبدَ إِلى فِعلِ ما يَذمّه ويُوبِّخه عليه. ولا فرق بينهما في الحقيقة؛ إِلاّ أن يقال:"إِنّ فِعل اللهِ سبحانه مع الملائكة يَحسُن فِعلُه في الشاهد؛ بخلاف فِعله مع العبد، على زعكم" لكنّ جوابه من وجهين. أحدهما منعُ جوازِ السؤال تعجيزًا في الشاهد. لأنّه عنتٌ؛ والعقل والشرع يُقبحانه. فقد جاء في الحديث، "إِياكم وأعلُوطات المسائل"؛ وهي المسائل الصعبة. ولذلك، كلّ عاقلٍ، إِذا سُئل سؤالَ امتحانٍ، يجِد في نفسه لذلك؛ لإِشعار السؤال باستجهال السائلِ له واستقصائه عن معرفته. إِلاّ إِنّه قد يقال:"إِنّ سؤال التعجيز في مِثل قضيّة الملائكة يجوز، بل يحسُن، بل ربّمما وَجَب قياس قولِ المعتزلة في رعاية الأصلح؛ لأنّه خَرَج مخرجَ التأديبِ لهم عن تعاطي الإِنكار فيما لا عِلم لهم به". الوجه الثاني أنّ الفرق المذكور اجعٌ إِلى التحسين والتقبيح وقياس الغائب على الشاهد؛ وهما

ص: 267

أصلان باطلان.

ومنها قوله تعالى: {اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} . وجه الاستدلال بها أنّه عَلم أنّ إِبليس لا يَسجُد؛ بدليل قوله، {أعلم غيب السموات والأرض}. وقال بعض المفسّرين: "إِنّ الإِشارة بقوله: {إنى أعلم مات لا تعلمون} ، إِلى امتناع إبليس من السجود. فأراد أن يُبيِّن سرَّة المكنون فيه؛ لأنهم كادوا يَفتنون في إِبليس لكثرةعبادته. وقد ثبت أنّ خلاف معلومه محالٌ؛ فمعلومه واجبٌ. فتركُ إِبليس للسجود واجبٌ؛ وقد كَلَّفه به. وتمام الاستدلال ظاهرٌ؛ وقد سبق. وكذلك الاستدلال بكلّ تكليفٍ عَلِمً اللهُ مِن المكلُّف خلافَه؛ وهو كثيرٌ. فلنكتفِ بذِكرِ قاعدته ها هنا، ولا نعيده حيث تكرّر، إِلاّ يسيرًا.

ومنها قوله تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون} . و"اللعن" هنا راجعٌ إِلى معنى الختم والطبع. ونظيرها في سورة النساء: {بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} . وقد سبق الكلامُ في معنى قوله، "بكفرهم".

ومنها قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} ، على الصحيح في تأويله. وإِنّ المرادَ "أُشربوا في قلوبهم حُبَّ العِجل". ووجه دلالته أنّه حذَف الفاعلَ في قوله:{واشربوا} ، وبناه لمّا لم يُسمَِ فاعلَه. ولو كان الفاعل "هُمْ"، لقال:"وشَرِبُوا"، كما قال قَبلَه:{قالوا سمعنا وعصينا} . فلمّا قطعه عن نظائره، وما عطَف عليه في تسمية

ص: 268

الفاعل، دَلَّ على أنّ الفاعل غيرهم. وليس إِلاّ أنّه سبحانه أَشَربَ قلوبَهم حُبَّ العِجلِ، أي أَلهمها إِيّاه حتى شَرِبَته وتَشَرَّبته وتغلغَل فيها تغلغُلَ الماء في الشجرة، ونحوه. وقد سبق قول موسى، "ربّ أنت أضللتَ قومى".

ومنها قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} . وجه دلالتها أنّه امتَحَن الناسَ بتحويل القِبلة، ليَعلَم المتابعَ مِن المنازِعِ، مع عِلمِه بأنّ منهم مَن يُنازِع ولا يُتابِع. وتمام الاستدلالِ بها كما سبق في سجود إِبليس وغيره. وقوله، {إلا لنعلم} ؛ يعني العلمَ المشتَرك بنيه وبين الخلق، كما سبق.

ومنها قوله تعالى: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} . وما ذاك إِلاّ لأنّه مَنَعَهم عن اتِّباعِه بخلق الدواعي وإِقامة الصوارف. وإِلاّ، فلا خلاف في أنّه قادرٌ على أن يَلطُف لهم ويُزيل عنهم الشبه، حتى يَعلموا صحّتها، فيتابعوها. فما صار المنعُ إِلاّ من قِبله. ومِن بابه، قوله تعالى:{إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون} ، {ولو أننا نزلنا إِليهم الملائكة} ، إِلى قوله:{كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله} .

ومنها قوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} . وذلك إِعانةٌ لهم على الكفر والطغيان، وإِمدادٌ لهم فيه. وقد كان الأصلح لهم أن يُزَهِّدهم فيها كما زَهَِد فيها أولياءَه. وإِذا جاز أن يُعينَهم على الكفر، جاز أن خلقه فيهم. وقد صرّح اللهُ تعالى بقوله:{كذلك زينا لكل أمة عملهم} .

ومنها قوله تعالى: {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من

ص: 269

يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ}. ودلالتها من وجهين:

أحدهما: قوله: {فهدى الله الذين آمنوا} ؛ خَصَّهم بالهداية. وتلك الهداية إِمّا الإِرشاد المجرَّد، أو الإِرشاد المقيَّد بصحبة التوفيق. والأوّل باطلٌ؛ لأنّه لم يُختَصّ به المؤمنون. بل الله سبحانه أَرشد الفريقين إِلى طريق الحقّ، بدليل قوله:{وهديناه النجدين} ، {وأما ثمود فهديناهم} . فتعَّن أنّ الهدى الذي اختُصّ به المؤمنون هو الهدى المصاحِب للتوفيق إِلى غاية التحقيق؛ وذلك بخلق دواعى الاتّباع، ونفي دواعي الامتناعِ.

الوجه الثاني: قوله، {والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم}. والهدى فيما هو المذكور في الوجه قبله؛ وقد خصّ به من يشاء. وقد صرّح اللهُ سبحانه بالدعاء عامًّا والهداية خاصًّا في قوله:{والله يدعو إِلة دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم} .

ومنها قوله تعالى: {لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} ، إلى قوله:{ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد} . تقدير الآيةِ ونظائرِها: "لو شاء الله أن لا يفعلوا، أو أن لا يقتتلوا، لما اقتَتَلوا". فقد أقرّهم سبحانه على الاقتتال مع قدرته على رفعِه عنهم وصرفِهم عنه؛ وعلّل بأنّه يفعل ما يريد. والقبح فيها لازمٌ على المعتزلة؛ حيث لم يراعِ مصلحةَ المقتتلين بصرفِهم عن الاقتتال؛ ولا مصلحة فيه بحال ذلك عليها.

قال ابن المنير: "ومن عادة الزمخشريّ في تفسيره أن يُؤول أي الإِثبات على ما يوافِق رأيَه في الاعتزال. لكن أَعرضَ عن الكلام على المشيئة ها هنا، لاعتيِاصِه عليه. وهو دليلٌ على فساد مذهبِه". قلتُ: والذي ذكر الزمخشريّ في الكشّاف أن قال: "لو شاء

ص: 270