المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[كلام على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار المعتزلى] - درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌[مقدمة]

- ‌[أولًا: في العقل، وفي أصل التحسين والتقبيح]

- ‌الأُولى: في لفظ العقل

- ‌المسألة الثانية: في حقيقة العقل

- ‌المسألة الثالثة: في مكان العقل

- ‌المسألة الرابعة: في فعلِ العقل وأثره

- ‌المسألة الخامسة: في تحقيق القول في التحسين والتقبيح

- ‌[مفهوم التحسين والتقبيح]

- ‌[مآخذ الخلاف في مسألة التحسين والتقبيح]

- ‌[المأخذان الكيّان]

- ‌[المآخذ الجزئيّة]

- ‌[أدلّة المعتزلة على التحسين والتقبيح]

- ‌[إبطال التحسين والتقبيح]

- ‌[ثانيًا: فروع التحسين والتقبيح في أصول الدين]

- ‌[وجوب النظر عقليِّ عند المعتزلة]

- ‌[إِنكارهم كلامَ النفس]

- ‌[قولهم: "يقبح من الله ما يقبح منّا

- ‌[إيجابهم رعاية مصالح الخلق على الله]

- ‌[إِنكارهم الشفاعةَ]

- ‌[قبول التوبة واجبٌ على الله عندهم]

- ‌[إنكارهم الاستثناء في الإيمان]

- ‌[إِيجابهم إِرسالَ الرسلِ، وإِيجابُ الرافضةِ نصبَ الأئمة، على الله عقلًا]

- ‌[قول أبي هاشم: "دفع الضرر عن النفس واجبٌ عقلًا، وعن الغير سمعًا

- ‌[المعدوم شيءٌ، أو ليس بشيءٍ]

- ‌[قولهم: "إِنّ البنية شرطٌ في الكلام

- ‌[حكموا بقبح الآلام في العالم إِلاّ لغرضٍ صحيحٍ]

- ‌[الأنبياء أفضل أم الملائكةُ

- ‌[إِنكارهم كرامات الأولياء]

- ‌[إِنكارهم السحرَ]

- ‌[إِنكارهم الجنَّ والشياطينَ]

- ‌[غايةُ الأجَلِ والرزقُ]

- ‌[إِنكارهم عذابَ القبر]

- ‌[إنكارهم أنّ الجنّة والنار مخلوقتان الآن]

- ‌[ثالثًا: فروع التحسين والتقبيح في أصول الفقه]

- ‌[عندهم أنّ شكر المنعم واجبٌ عقلًا]

- ‌[حكم الأفعال الاختياريّة قبل ورود الشرع]

- ‌[تكليف ما لا يُطاق]

- ‌[القدرة مع الفعل أو قبلَه

- ‌[وقت العبادة مُضيِّقٌ أو مُوسَّع

- ‌[الفعل الواحد لا يكون مأمورًا به منهيًا عنه]

- ‌[تكليف الصبيّ والمجنون]

- ‌[تكليف المُلجأ]

- ‌[تكليف الحائض بالصوم]

- ‌[التكليف بفعلٍ عَلِمَ الآمرُ انتفاءَ شرطِ وقوعه]

- ‌[تأخير البيان عن وقت الحاجة]

- ‌[بقاء التكليف مع زوال العقل]

- ‌[تكليف المعدوم]

- ‌[إِبطال اليهودِ النسخَ]

- ‌[مَنعُ جمهور المعتزلة مِن نسخِ الحكمِ قبل دخول وقته]

- ‌[نسخُ وجوبِ معرفة الله وشكر المنعم وتحريم الكفر والظلم]

- ‌[رابعًا: فروع التحسين والتقبيح في الفروع الفقهيّة]

- ‌[النية في الوضوء]

- ‌[رؤية الهلال في الصحو]

- ‌[صحة إِسلامِ الصبيّ]

- ‌[صحة شهادةِ الكفّارِ بعضهم على بعضٍ]

- ‌[حكاية مسائل ذكرها العالميّ الحنفيّ نازعةٌ إِلى التحسين والتقبيح]

- ‌[لزوم النفلِ بالشُروع]

- ‌[نقاش كلامه في لزوم النفلِ بالشروع]

- ‌[قاعدته في الزكاة]

- ‌[فروع قاعدته في الزكاة]

- ‌[وجوب الزكاة على الصبيّ والمجنون]

- ‌[من مات وعليه زكاة]

- ‌[وجوب الزكاة على المديون]

- ‌[وجوب الزكاة في مال الضمار]

- ‌[وجوب الزكاة في الحليّ]

- ‌[الكلام على قاعدته في الزكاة]

- ‌ومِن قواعده قاعدةُ الصيام

- ‌[فروع قاعدته في الصيام]

- ‌[الكلام على قاعدته في الصيام]

- ‌ومنها قاعدته في الكفّارات والمقدَّرات

- ‌[فروع قاعتدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌[الكلام على قاعدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الكفّارات والمقدّرات]

- ‌ومنها قاعدته في الأنكحة

- ‌[فروع قاعدته في الأنكحة]

- ‌[الاشتغال بالنكاح أفضل من التخلّي للنوافل]

- ‌[إِجبار لمولى عبده على النكاح]

- ‌[إرسال الطلقات الثلاث جملةً]

- ‌[فسخُ النكاحِ بالعيب]

- ‌[الكلام على قاعدته في الأنكحة]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الأنكحة]

- ‌ومنها قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك

- ‌[فروع قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌[تصرفُّ العبدِ المأذون له]

- ‌[تصرُّف الصبيِّ المأذون له]

- ‌[تجزُّؤ العتقِ]

- ‌[الكلام على قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الماليّة وأهليّة الأملاك]

- ‌ومنها قاعدته في الأملاك

- ‌[فروع قاعدته في الأملاك]

- ‌[استيلاء الكفّارِ على أموال المسلمين في دار الحرب]

- ‌[قسمة الغنائمِ في دار الحرب]

- ‌[تغيير الغاصب في المال المغصوب]

- ‌[الكلام على قاعتدته في الأملاك]

- ‌[الكلام على فروع قاعدته في الأملاك]

- ‌ومنها قاعدته في وصف الفعل بأنّه ضربٌ أو قبيحٌ

- ‌[الكلام على قاعدته في وصف الفعل بأنّه ضررٌ أو قبيحٌ]

- ‌[خامسًا: مسألتا القدر وخلقِ الأفعال]

- ‌[بيان معنى "الكسب" و"الخلق

- ‌أمّا نقل المذاهب في المسألة

- ‌[مقدمّات المسألة]

- ‌[الكلام الساذج التقريبيّ في المسألة]

- ‌[الوجوه العقليّة التي أوردها أبو الحسين البصريّ المعتزليّ]

- ‌[الوجوه النقليّة التي للمعتزلة]

- ‌[كلامٌ على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبّار المعتزلىّ]

- ‌[رسالةٌ في القدر منسوبة للحسن البصري، أوردها القاضي عبد الجبّار]

- ‌[الجواب على الرسالة]

- ‌[سادسًا: الأدلّة النقليّة على القدر]

- ‌[آيُ إِثباتِ القدرِ مِن القرآن]

- ‌سورة الفاتحة

- ‌سورة البقرة

- ‌سورة آل عمران

- ‌سورة النساء

- ‌سورة المائدة

- ‌سورة الأنعام

- ‌سورة الأعراف

- ‌سورة الأنفال وبراءة

- ‌سورة يونس عليه السلام

- ‌سورة هودٍ عليه السلام

- ‌سورة يوسف عليه السلام

- ‌سورة الرعد

- ‌سورة إِبراهيم عليه السلام

- ‌سورة الحجر

- ‌سورة النحل

- ‌سورة بني إِسرائيل، على صالحيهم السلام

- ‌سورة الكهف

- ‌سورة مريم عليها وعلى ابنها السلام

- ‌سورة الحج

- ‌سورة المؤمنون

- ‌سورة النور

- ‌سورة الفرقان

- ‌سورة الشعراء

- ‌سورة النمل

- ‌سورة القصص

- ‌سورة العنكبوت

- ‌سورة الروم

- ‌سورة لقمان

- ‌سورة السجدة

- ‌سورة الأحزاب

- ‌سورة الملائكة

- ‌سورة يس

- ‌سورة الصافات

- ‌سورة الزمر

- ‌آل حاميم

- ‌سورة المؤمن

- ‌سورة فصلت

- ‌سورة الشورى

- ‌أما سورة الجاثية

- ‌سورة محمدٍ عليه السلام

- ‌سورة الفتح

- ‌سورة الحجرات

- ‌ سورة النجم

- ‌سورة القمر

- ‌ سورة الحديد

- ‌سورة المجادلة

- ‌سورة الحشر

- ‌ سورة الصف

- ‌سورة الجمعة

- ‌سورة المنافقين

- ‌سورة التغابن

- ‌سورة الطلاق

- ‌ومن سورة الملك

- ‌سورة ن

- ‌سورة الحاقة

- ‌سورة سائل سائلٌ

- ‌سورة نوح

- ‌سورة الجن

- ‌أمّا سورة المدّثّر

- ‌سورة الإِنسان

- ‌ سورة التكوير

- ‌ثم إلى سورة المطفّفين

- ‌ثمّ إِلى سورة البروج

- ‌[سورة الشمس]

- ‌ثم إِلى سورة الضحى

- ‌ثم إلى سورة الفلق

- ‌{استدلال القدريّة مِن أي القرآن]

- ‌[الجواب على استدلال القدريّة مِن أي القرآن]

- ‌[حجّةٌ على إِثبات نبوّة محمدِ صلى الله عليه وسلم؛ وهي نكتةٌ أجنبيةٌ عن الباب]

- ‌[أحاديث القدَر]

- ‌[مآخذ مسألة القدر]

- ‌[خاتمة: في أنّ المعتزلة هل يكفرون بمقالتهم هذه، أم لا

الفصل: ‌[كلام على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار المعتزلى]

سبحانه مُريدٌ لجميع الكائنات. وهو أنّ قضاءَ اللهِ حُكمُه؛ والكفرَ ونحوه واقعٌ بحُكمِه وقضائِه؛ فهو مَقضيُّ، لا قضاءٌ. وإِنما يجب الرضا بقضاء الله، لا بمقضِيّه، مِن الكفر والمعاصي. والمقضيّ هو مُتَعَلَّق القضاءِ، ومحلُّ تأثيرِه. والله أعلم.

هذه أضعف ما للخصوم في المسألة من الشُّبه. وقد وَقَع الجوابُ عنها مبيَّنًا على أصوِلنا التي أحكمناها قبل بطلانِ التحسين والتقبيح، ووجوبِ رعاية المصالح، وجوازِ تكليف المحال.

[كلامٌ على طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبّار المعتزلىّ]

واعلم أنّ القاضي عبد الجبّار بن أحمد الهمذانيّ، رئيس المعتزلة في عصرِه، ذَكَرَ في طبقات المعتزلة، مِن الطبقة الأوُلى منهم مِن الصحابة، أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالب- كذلك، قدَّمه في الذِّكر- وأبا بكرٍ، وعمر، وابن عبّاسٍ، وابن عمر؛ قال:"ومَن يجرى مجراهم".

ثمّ ذكر، من الطبقة الثانية منهم، الحَسَنَ والحسين- قال:"وإِنما ذكرناهما في الثانية لنّزِّين بذكرهما هذه الطبقة"- ومحمّد بن عليِّ، يعني ابن الحنفيّة. قال:"ومن التابعين الكبار ممن حكينا عنه العدلَ: السعيد بن المسيِّب، وأصحاب علي عليه السلام وابنِ مسعودٍ".

"ومن الطبقة الثالثة، أبو هاشم عبد الله بن محمّد بن علىّ، وأخوه الحَسَن بن محمّدٍ، والحَسَن البصريّ، وابن سيرين، ومَن في طبقتهم ممن حَكَينا عنه العدلَ".

قال: "وأبو هاشمٍ هو أستاذ واصِل بن عطاء؛ فإِنّه يُحكَى أنّه كان معه في المكتب في دار أبيه، يأخذ عنه وعن أبيه هذه الأصول".

قلتُ: فعلى هذا، محمّد ابن الحنفيّة هو أستاذ واصلٍ في الاعتزال. والمعتزلة يُسمُّون

ص: 190

مقالتَهم في أنّ الله تعالى لم يخلق أفعالَ العبادِ "عدلًا"، ويُلقِّبون أنفسَهم "أهل العدل"، بناءً منهم على ما سبق، من أنّه تعالى لو خَلَق الأفعالَ، وعاقَب عليها، لكان جائزًا. وما ذكره عن الصحابة والتابعين، مِن أنهم أهل عدلٍ صحيحٌ، لكنّ الشأن في العدل ما هو؟ هل هو قوله بإِثبات الشركاء لله في الخلق؟ أو قولنا بتوحيد الله في ذاته وأفعاله؟ وذلك غير خارجٍ عن العدل، كما بيّنّا وسنبيِّن، إِن شاء اللهُ. فإِن أراد بالعدل الذي أضافه إِليهم الاعتزالَ الذي يَراه هو وأصحابه، فليس ذلك عنهم صحيحًا. كيف، وإِنّه لا خلاف بين الأمّة أنّ الصحابة لم يَترُكوا سنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم! حتى إِنّ ابن عمر كان يَضع قدمَه موضعَ قدمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالغة في الاتّياع؛ وكان يَبِيت بالمحَصَّب، مع أنّ النبيّ عليه السلام إِنما نزلَه اتّفاقًا والمحظوظ عن ابن مسعودٍ أنّه كان يقول:"دعوا التنطُّعَ في الدين؛ وعَدُّوا في المحدَثات؛ وعليكم بالعتيق"؛ يعني ما كان النبيّ عليه السلام وأصحابه عليه. وذلك مأخوذٌ من قوله عليه السلام، "شرُّ الأمورِ محدَثاتها؛ وكلّ محدَثةٍ يدعةٌ؛ وكل بدعةٍ ضلالةٌ؛ وكلّ ضلالةٍ في النار". وقال:"عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين بعدي؛ عضوًا عليها بالنواجذ؛ فإِنّه من يَعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا". فشَهد للخلفاء بعده بأنهم على سنّته المرضيّة. وقد بَلَغتنا سيرتهم ومذاهبم بالتواتر؛ فلم نَرَ فيها اعتزالًا، ولا نفيًا للقدر. بل المحظوظ عن عمر أنّه لما فَتَح بيتَ المقدس، خطب الناسَ، وتحت منبره عالمٌ من علماء النصارى. فقال عمر في خطبته:"من يهده اللهُ، فلا مُضِلّ له؛ ومن يُضلِل، فلا هادي له". فقال النصرانيّ: "ما تقول؟ " ففُسِّر له ما قال عمرُ. فَنَفَض يدَه، وقال:"إِنّ الله لا يُضِلّ أحدًا". فسأل عمرُ عمّا قاله النصرانيّ؛ فأُخبِر به. فقال عمر: "كَذَبتَ، أي عدوّ الله! إِنّ الله هو الهادي المضِلّ. والله هو أَضَلّك، وأوجَب لك النارَ. ولولا الأمان، لضَرَبتُ عنقَك". والمحظوظ عن عليِّ رضى الله عنه مناظراتٌ مفحِمةٌ لأهل القدر.

ومن المعلوم بالضرورة من حال التابعين أنهم لم يَعدلوا عن سنّة النبيّ وأصحابه؛ بل بالغ قومٌ منهم، حتى أخَذوا بظواهر الأحاديث؛ حتى استَنّ بهم مَن بعدَهم، فنُسِبوا إِلى

ص: 191

التشبيه. وكيث تصحّ نسبةُ الحَسَن البصريّ، وابن سيرين، ونحوهم، إِلى الاعتزال، مع أنّ أهل السنّة والحديث مِن أهل عصرهم كانوا أبغضَ الناسِ في المعتزلةِ ومَن قال بقولهم، وأحبَّ الناس في الحسن وابن سيرين، يَروُون عنهم التفسيرَ والحديث والتعبير والمواعظ والحكمة.

وإِنما دعوى عبد الجبّار لاعتزال الحَسَن وابن سيرين كدعوى اليهود والنصاري أنّ إِبراهيم ومحمّدًا كانا يهودّيين، أو نصرانييّن. وتلك دعوى لا تُسمَع. كيف، وقد حَكَى القيروانيّ في مفتاح خزانة التعبير أنّ أبا السيّار ذَكَر أنّ كامل بن طلحة قال:"قلتُ لحمّاد بن سلمة: "يا أبا سلمة. ما لك لا تَروي عن عمرو بن عبيدٍ، كما يَروى أصحابُك؟ "فقال:"إِني رأيتُ في المنام كأني دَخَلتُ المسجدَ، والناس كلّهم يُصلّون صفوفًا إِلى القبلة؛ وإِذا عمروٌ يُصلّي مستدبِرها. فتركتُ الروايةَ عنه".

قال القيرواني: "وقيل للحسن البصريّ: "لم هَجَرتَ عمرو بن عبيدٍ؟ " فقال: "يا قوم. أتعذلونني في رجلٍ، والله، لقد رأيته في المنام يَسجُد للشمس مِن دون الله! ".

قلتُ: عمرو بن عبيد بن بابٍ هو رئيس المعتزلة. كان حمو واصل بن عطاءٍ؛ وكان يُناظر في الاعتزال والقدر. ومناظرته لأبي عمرو بن العلاء في الوعيد مشهورةٌ؛ وقد سبقَت في مسألة الوعيد. وقد رآه الحَسنُ يِسجُد للشمس من دون الله؛ وهو إِشارةٌ من تلك الرؤيا إِلى أنّه مشابهٌ لبلقيس التي قال الله فيها، حكايةً عن الهدهد:{وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله} ، الآية. وكانت، فيما ذكر أهلُ السير، مجوسيّةً. وقد وردَت الأخبارُ بأنّ القدرية مجوس هذه الأمّة، الذين يقولون:"لا قدر"، كما سنورد الأحاديث في ذلك، إِن شار الله. فهذا معنى رؤيا الحَسَنِ. فكيف يصحّ أنّ الحَسَن معتزلي، مع أنّه وأصحابه من أهل الحديث هَجَروا عمرَو بن عبيدٍ لأجل الاعتزال، لا غير؛ لأنّ عمروًا كان مِن الزهد وترِك الدنيا وفعلِ العبادات أَوحدَ زمانِه؛

ص: 192

وإِنما كَبا به جوادُ الاعتقادِ الرَدي.

قلتُ: وذكر عبد الجبّار في الطبقات، قال:"فَصلٌ في مدحِ الاعتزال. وقد ذَكَرَ محمّد بن يزداد في كتاب المصابيح أنّ كلّ أرباب المذاهب نَفَوا عن أنفسهم الألقابَ، إِلاّ المعتزلة. فإِنهم تَبجَّحوا بها، وجَعَلوا ذلك عَلَمًا لمن تمسَّك بالتوحيد والعدل. واحتَجّ (يعني محمّد بن يزداد) في ذلك بأنّه تعالى ما ذكره إِلاّ في الاعتزال عن الشرِّ؛ كقول إِبراهيم: {واعتزلكم وما تدعون من دون الله}. وذَكَر أنّ المعتزلة هي المقتصِدة، اعتَزَلَت الإِفراطَ والتقصير، وسَلَكَت طريقَ الأدلّة. وذكر أنّ المعتزلة الأُولى هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يدًا واحدةً، يَتَولّى بعضُهم بعضًا، واتّفقوا على هذه الأصول. ورُوِي عن حُذيفة بن اليَمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله، أنّه قال: "مَن اعتَزَل من السوء، سَقَط من الخير".

قلتُ: هذا كلّه يحكيه عبد الجبار عن محمّد بن يزداد صاحب كتاب المصابيح. وهو كلامٌ فاسدٌ. أمّا قوله، "إِن المعتزلة تَبجَّحت بلقبِها"، فلا مَدحَ فيه؛ لأنّ أهل كلّ دينٍ وبدعةٍ يَعتقِدون صوابها؛ كاليهود والنصاري يَتبجَّحون بديِنهم واسمِه، ويَدعُون إِليه؛ كقوله تعالى، حكايةً عنهم:{وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا} .

وأمّا قوله: "كلّ أرباب المذاهب نَفوا عنهم الألقابَ إِلاّ المعتزلة"، فليس بصحيحٍ. لأنهم لَمَّا استَفاض قولُه عليه السلام، "القدريّة مجوس هذه الأمّة"، ونحوه من الأحاديث، فَرُّوا من هذا اللقب، ونَفوه، وأضافوه إِلى مثبِتي القدر، مكابَرةً؛ كما يقال في المثَل:"رَمَتنب بدائها وانسلَّت"، وقولهم، "حد اسمك سمّني". مع أنّ النبيّ عليه السلام فَسَّر "القدريّة" بأنهم الذين يقولون:"لا قدر". {فنادوا ولات حين

ص: 193

مناص}؛ {يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر} . فإِنّ هذه الصفة ليست إِلاّ فيهم.

وأمّا قوله، "لم يَذكُره في الاعتزال [عن الخير]، ولم يَذكُره اللهُ إِلاّ في الاعتزال عن الشرّ"، فليس بصحيحٍ. فإِنّه إِمّا غير حافظٍ للقرآن، أو غافلٌ عن تَدَبُّره. وما كان يَنبغي له هذا الحصرُ، إِلاّ بعد السبرِ؛ فإِنّ موسى لقال لقوم فرعون:{وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون} ؛ وقال سبحانه: {ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بنى اركب معنا} .

أَفَتَرى اعتزالَ قومِ فرعون موسى، واعتزالَ ابنِ نوحٍ نوحًا، كان اعتزالًا عن الشرّ، أو عن الخير والنبوّة والإِيمان؟ ومادّة الألفاظ كلّها واحدةٌ؛ وهي "عَزَل يَعزِل"، إِذا أَفرَد الشيء ونحّاه. و "العُزلَة": الانفراد. فمن انفَرَد عن خيرٍ أو شر، فقد اعتَزَله. وفي الحديث:"إِذا سجد ابنُ آدم، اعتزل الشيطانُ يبكي".

وأمّا قوله، "المعتزلة هي المقتصدة، اعتَزلت الإِفراطَ والتقصيرَ، وسَلَكَت طريقةَ الأدلّة"، فليس بجيّدٍ. وإِنما سُمُّوا "معتزلةً" لأنهم اعَتَزلوا مجلسَ الحسنِ البصريّ، وقولَ جمهورِ السلفِ في إِثبات القدر، واتَّخذوا حلقةً لهم يَقررون فيها أنّ الله لا يخلق أفعالَ العبادِ، ويجب عليه رعايةُ المصالح، ويجب عليه إِقابةُ الطائع، وعقوبةُ العاصي، وأنّه لا شفاعة للعُصاة، ونحو ذلك من أصولهم السابقة. فنَبَذهم الناسُ لذلك، واعتزلوهم أيضًا. فكان في اعتزالهم واعتزال الناس لهم ضربٌ من اعتزال الخوارج. وكيف تكون مقتصدةً، وهي تجعل كلَّ واحدٍ من عباد الله خالقًا معه في كلّ وقتٍ وكلّ زمانٍ! وأيّ إِفراطٍ بعد هذا؟ وأيّ تقصيرٍ لأقبح منه؟ والله سبحانه يقول:{أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار} ؛ وقال:

ص: 194

{أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تتذكرون} .

وأمّا طريقة الأدلّة التي سَلَكوها، فهي طريقة إِبليس، طريقة التحسين والتقبيح، حيث قال:{أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين} . ولما سلكها، آل أمُره إِلى ما قد عُرف.

وأما قوله، "إِن المعتزلة الأولى أصحابُ رسولِ الله". فإِن أراد "بالاعتزال" ما عليه المعتزلة، فهو كذبٌ على الصحابة؛ والتواتر عنهم بخلاف ذلك. وإِن أراد أنهم اعتزلوا الشركَ والشرَّ والبدع، فهو كذلك.

وأمّا كونهم يدًا واحدةً، يتولى بعضهم بعضًا، فليس ذلك من خواص الصحابةِ، ولا المعتزلة، بل هو حكم عام في دين الإِسلام. قال النبي صلى الله عليه وسلم:"المسلمون تتكافأ دماؤهم"، الحديث، إلى أن قال:"وهم يدٌ على من سواهم". وقال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد"، الحديث. والناس كذلك حتى الساعة.

غاية ما في الباب أنّ الصحابة كانوا أشدّ في ذلك. والمعتزلة أشدّ فيه لإِقامة بدعتِهم؛ إِذ هي خاملةٌ في العالم. فهو كتعاضد أهل الكتابَين، ن لضعفهم وخمولهم، واتّفاق الكتابِ والسنّة على ذمِّ رأيِهم، وغربتِهم بين أهل القلبة. وكلّ غريبٍ للغريب نسيبٌ.

وأمّا الحديث، "مَن اعتزل من الشر، سقط في الخير"، فهو إِن ثبت، مساوٍ لعكسه. إِذ الشر والخير نقيضان؛ من اعتزل أحدهما: سقط في الآخر.

ثمّ قال: "وروي عن سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابرٍ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "افتَرَقَت بنو إِسرائيل على اثنتين وسبعين فرقةً. وستفترق أمّتي على ثلاثٍ وسبعين فرقةً؛ أبرها وأتقاها الفئة المعتزلة". ثمّ قال سفيان لأصحابه: "تسموا بهذا الاسم؛ لأنكم قد اعتزلتم الظلم". فقيل له: "قد تسمى به عمرو بن عبيد وأصحابه". فكان (يعني

ص: 195

سفيانَ) بعد ذلك لا يَذكُر في الحديث هذا القول؛ بل يقول: "واحدةٌ منها ناجيةٌ".

ورُوي عن عثمان الطويل، قال: لقيتُ قتادة، فقال لي:"يا عثمان. ما حبسك عنا؟ لعل هذه المعتزلة حبستك عنا؟ " قلتُ: "نعم. حديثٌ سمعتُه يرونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سمعتك تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ستفترق أمتي على فرق؛ خيرها وأبرها المعتزلة". فأنا اليوم ممن لزمه هذا الاسم".

قلت: هذان الحديثان باطلان بالضرورة، لا أصل لهما بوجهٍ من الوجوه؛ أعني الزيادة التي مَدَح بها المعتزلةَ. أمّا الأوّل، فلأنّه غير معروفٍ من حديث سفيان، على كثرة أصحابه والرواة عنه، واختلافهم في ألفاظ روايته. حتى يقول أحدُهم مثلًا:"وما فاتكم، فأتمُّوا"، وبعضهم يزيد:"بالأرض" أو "فى اللحد"؛ ونحو ذلك كثيرٌ. وغرضنا ضرب المثال في تحريه وتحري أصحابه في ألفاظ السنة، فكيف يتواطؤون على كتمان هذه اللفظة، ويتركون الحق للباطل؛ كاليهود في تغييرهم صفة محمدٍ في التوراة! معاذ الله أن يُنسب هذا إلى صباين المحدثين، فضلًا عن أئمتهموأهل المناقب منهم.

ولو لم يكن الحديث ما يدل على بطلانه إِلاّ هذا، لكفى. كيف، وإنّه قد فسَّر "الفرقة الناجية" بقوله، "ما أنا عليه وأصحابى"! صح ذلك وثبت في السنة. فإن ادَّعوا أنهم على ما هو عليه وأصحابه، قلنا: ما الغرض ها هنا هذا. بل الغرض أنّ تفسير "الفرقة الناجية" وَرَدَ بغير لفظ "المعتزلة". أمّا كونكم أنتم الذين على ما هو عليه وأصحابه، أو غيركم، فذاك أمرٌ آخر. مع أنّ الظاهر الذي لا يخفى، والمعروف الذي لا يُنكَر، أن أهل الحديث هم الذين هم على ما كان عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه فَمن نازعهم في ذلك، فقد ادّعى ما ليس له.

ص: 196